"ظاهرة القصيبي".. منعطفات وابعاد

"ظاهرة القصيبي".. منعطفات وابعاد

تحية أخرى لشاعرنا الكبير غازي القصيبي من جزيرة اللؤلؤ، لم نستطيع أن ننشرها في عددنا الماضي، حان وقتها في هذا العدد.

أطل غازي القصيبي مطلع الستينيات على جمهرة القرّاء والنقاد العرب للوهلة الأولى في استحياء بثلاثة دواوين شعرية حملت العناوين التالية تباعاً: أشعار من جزائر اللؤلؤ وقطرات من ظمأ ومعركة بلا راية، وقد تضمنت هذه الدواوين أشعاراً غزلية وقومية، وكانت رومانسية الروح والأسلوب، لكنها حملت جزالة لغوية متماسكة ومتأتية عن تمرّس حميم بالشعر العربي القديم أبعدتها عن هشاشة الشعر الرومانسي الشائع، فكانت أقرب إلى ديباجة عمر أبي ريشة منها إلى نسيج علي محمود طه، وكان نزار قبّاني حاضراً بين نفحة وأخرى بكيميائه الشعرية الجديدة.

أما قبل ذلك، فقد نشر القصيبي- وعلى حذر- مقطوعات شعرية قصيرة تحت اسم مستعار في مجلة "المصوّر" المصرية في صفحة كان يشرف عليها الشاعر المرحوم صالح جودت.

كانت الساحة العربية تعج في تلك المرحلة بأصوات المعارك القومية وشعر الالتزام ودعوات اليسار والواقعية الاشتراكية.. الخ، ولكن شاعرنا الشاب نأى بنفسه في تلك المرحلة عن الارتباط بهذه التيارات والتعبير عن أفكارها لا عن زهد في اتخاذ ما يؤمن به من فكر، ولكن بسبب الظروف المحيطة حينئذ بالشعراء والكتّاب في المجتمعات المحافظة بمنطقة الخليج والجزيرة العربية، والتي أحاطت بالكثير من كتّاب جيله والأجيال السابقة.

وقد تبين- بالفعل- أن القصيبي لم يكن بعيداً عن التعرّف إلى تلك التيارات، ومتابعتها، ونقدها. وسيتضح من كتاباته اللاحقة أنه كان راصداً لها ومراقباً دقيقاً لمنحنياتها وتعرّجاتها، بنظرات جادّة أحياناً هازلة وساخرة أحياناً أخرى. وفي روايته "شقة الحرية" الصادرة عام 1994 ثم في كتابه الآخر "العصفورية" الذي أرى أنه من الصعب تصنيفه حسب أي نمط أدبي شائع، أثبت القصيبي أنه كان مؤرخاً فكرياً ونفسياً وفنياً خطيراً لمراحل من التاريخ العربي المعاصر، خيل لمن تابعه في حينه أنه كان بعيداً عنها و "بريئاً" من التفكّر فيها والانفعال بها.

قسوة أولية

وهذا ما أثار "غيظ" كاتب هذه السطور وحفيظته حيال أشعار القصيبي في مرحلته الأولى، عندما تعرّف إليها فوجدها حسب مزاجه الفكري الأيديولوجي ومذاقه الفني حينئذ شعراً جمالياً "متبرجزاً" بمعايير المرحلة الراديكالية ومنظور مدرسة الالتزام الذي كنت من أشدّ المتحمّسين لها في مرحلة بروز الحركة الأدبية الجديدة في البحرين وتأسيس "أسرة الأدباء والكتّاب" بها تحت شعار "الكلمة من أجل الإنسان" وذلك عام 1969. ولم أتردد في "منح" غازي القصيبي في تلك المرحلة لقب "الشاعر الجمالي البرجوازي"!!

ولابد من الاعتراف أني كنت قاسياً حيال القصيبي في بعض نقدي لأشعاره، فكنت أقف منها على طرف نقيض، وكأننا في اتجاه "معاكس". "ومثل هذه الاتجاهات المتعاكسة، لا تزدهر في الواقع إلا عندما تكون المجتمعات لم تجتز بعد مراهقتها الذهنية والسياسية، ولا نريد العودة بثقافتنا ومجتمعاتنا إلى مثل هذه المرحلة..".

وعندما أصدر القصيبي ديوانه "معركة بلاراية"، كان عنوان مقالتي النقدية بمناسبة صدوره "معركة بلا راية.. أم راية بلا معركة؟!" لإظهار احتجاجي على خلوّه- حسبما بدا لي- من شعر القضايا الالتزامية الكبرى! وكان القصيبي على رقّته وهدوئه "مشاكساً" فكرياً من الطراز الأول ولا يخلو أسلوبه من "لؤم" محبب يجتذب النفوس. وكان يرد على حماستي للشعر- وهو الشاعر- بمقالات فكرية تقلل من جدوى الشعر في عصرنا الحديث ولا ترى فيه إلا تغنيّاً ذاتياً عن النفس. "هل للشعر مكانة في القرن العشرين؟" كان عنوان إحدى محاضراته في نادي الطائف الأدبي. وكان ردي عليه: "أي شعر يستحق مكاناً في القرن العشرين؟" مؤكداً أن الالتزام ليس ضد جمال الأدب لكنه من أجل عظمته، ولم يكتف القصيبي بهذا الجدل الجاد، فكان أحياناً يفاجئني تحت اسم مستعار بشيء من الاستفزاز الساخر مما زاد من حدّة نقدي له.

ولكن رغم حدّة نقدي، فإن القصيبي كان واسع الصدر- وهذا ما أثبته مع الجميع فيما بعد- فلم تفسد حدّة النقد بيننا للودّ قضية.

وكانت نقطة التحوّل لديّ حيال القصيبي عندما وجدت هذا الشاعر الرومانسي الرقيق يتحوّل في بلاده إلى الرجل المسئول عن التنمية والصناعة، ومتى؟ في ذروة حركة التحوّل التنموي بها منتصف السبعينيات بعد الطفرة النفطية، عندما كانت تمر البلايين من الأموال تحت أيدي الوزراء ومسئولي التنمية، فكان هذا الرجل مثالاً للأمانة ونظافة اليد، والعمل الجاد من أجل تحقيق المنجزات المنشودة لصالح المجتمع، ثم جاء موقفه من الغزو العراقي لدولة الكويت ليكشف عن بعد آخر في شخصيته.

انعطاف في الوعي

كانت إدانته الحاسمة للغزو في ساعاته الأولى علامة انعطاف في الوعي الخليجي والعربي الذي كان لايزال تحت تأثير الصدمة، كان موقفاً لا تنقصه الشجاعة على الإطلاق.

وبعكس معظم المثقفين الذين يتناسون همومهم الثقافية الأولى عندما ينالون المنصب لم يبتعد القصيبي عن "حرفة الأدب" التي أدركته باكراً، على الرغم من حرفه ومناصبه المستجدة الكبيرة الأخرى، وفي هذه المرحلة برز باعتباره كاتب مقالة متميّز، بأسلوب سلس.. من "السهل الممتنع" الذي لا يجيده غير كبار الكتّاب.

وتبين لي منذ ذلك الوقت أن الرجل "رجل نهضة" متعدد المواهب والاهتمامات، وأنه كمبدع يجمع بين إجادة الشعر وإجادة النثر في توازن دقيق، وهي ظاهرة استثنائية لدى كبار الأدباء، لم يستطع الجمع بين عنصريها- معاً- كثيرون منهم، فكان نثر أمير الشعراء أحمد شوقي- مثلاً- أدنى بكثير من مستوى شعره، أما شعر عميد الأدب العربي طه حسين فكان من الركاكة بحيث لا يقارن بمستوى نثره الرائع.

ومازال القصيبي ينظم الشعر ويكتب النثر، في إجادة متقاربة، لا يضاهيه فيها في أيامنا هذه غير أدونيس ولكن بتقنية أخرى دمجت في كتابة واحدة بين الشعر والنثر.

أما تقديري الشخصي فإن القصيبي سيذكره الناس في تاريخ الأدب العربي بكتاباته الروائية والمقالية المثيرة والممتعة في نهاية المطاف رغم جودة أشعاره.

ففي هذه الكتابات النثرية الروائية بالذات استطعنا النفاذ إلى مكنونه النفسـي ومخزونه الفكري وسخريته اللاذعة، وفكاهته الرفيعة الكاشفة.

وعلى ما أظهره من براعة روائية- سرداً وحواراً- في "شقة الحرية"، فإنه استطاع في "العصفورية" أن يقدم نموذجاً فريداً لنمط من "الخطاب العربي" الذي تحدث النفس العربية به ذاتها في السر والعلن- فيما يشبه المونولوج الداخلي- وهي تخطو نحو الألفية الثالثة، بعد تجارب مريرة مرت بها في النصف الثاني من القرن العشرين.

وليس من المبالغة القول إن "العصفورية" كثّفت وصهرت في عمل إبداعي واحد أصواتاً ونصوصاً لا حصر لها من "الخطاب العربي" في الحقبة الراهنة، وبما عرّى التناقضات الداخلية والهلوسات النفسية لهذا "الخطاب".

أما "شقة الحرية" فقد فتحت المجال على نحو آخر لعدد من معاصري القصيبي، وخاصة من مثقفي الخليج والجزيرة، لكتابة سيرهم الذاتية- السرية والحقيقية- وتقديمها مغلفة في قالب روائي يتيح حرية الاعتراف والكشف، دون الوقوع فيما يقع فيه كتاب السير الذاتية الصريحة من إشكال وحرج وخصومات.

وكأن القصيبي، عندما اتخذ "شقة الحرية" وسيلة للكشف عن السيرة الذاتية لجيله، قد استشف مغزى مقولة الناقد آرثر هلبس Arther Helps "إن أردت فهم عصرك، فاقرأ الأعمال الروائية التي كتبت فيه، فالناس يتكلمون بحرية من وراء الأقنعة" أجل.. فالناس يتكلمون بحرية من وراء الأقنعة!

وهذا ما أدركه من قبل روائيون عرب بارزون مثل نجيب محفوظ والطيب صالح وسواهما.

حياة في السياسة

وبالطبع، فإن أي سيرة للقصيبي ستكون ناقصة إذا لم تتوقف لدى قصيدته الشهيرة التي أدت إلى خروجه من العمل الوزاري.

إلا أن القصيبي كان من الشفافية والبراعة التعبيرية- معاً- عندما استطاع مقاربة هذا الحدث في كتابه "حياة في الإدارة" الذي أرى أنه "حياة في السياسة" في الوقت ذاته.

في هذا الكتاب، لم يتخف القصيبي خلف أي قناع روائي، واستطاع ببراعة مذهلة أن يتناول أشخاصاً وأحداثاً من واقع بلاده المعاصر متحدّثاً بشفافية صادقة، ومكاشفة تجمع بين الصراحة والأدب الجمّ والولاء الحميم لقيادة بلاده، ومثل هذا التسجيل النادر للواقع المعاصر ما لم يقدم عليه رجال سبقوه في الخدمة العامة ولم يتمكنوا- بعد- من تسجيل تجاربهم في مراحل أسبق دخلت التاريخ، وأصبحت أبعد عن الحساسيات الراهنة للأحياء.

لابد من القول إن "حياة في الإدارة" عمل غير مسبوق في تاريخ الكتابة في منطقة الخليج والجزيرة، خاصة.. وذلك ما يضيف بعداً جديداً آخر إلى "ظاهرة القصيبي" التي لم تتكشف كل أبعادها.. بعد!

وكنا نودَّ لو أنه قيض لهذا الرجل أن يقود المنظمة الدولية للثقافة "اليونسكو" في السنـوات الأولى من الألفية الثالثة، قبل أن يتقاعد، ويعود إلى "أماكنه القديمة" لتكون تلك ملحمة أخرى من الملاحم "الواقعية" لهذا الشاعر "الرومانسي" العتيق! لكن يبقى أن تصدّيه لمثل هذا الدور، سيبقى في حد ذاته، تعبيراً عن طموح المثقف العربي في الخليج والجزيرة، إلى الاضطلاع من جديد بحمل الرسالة العالمية التي حملها أجداده من قبل.

وهذه المقالة المكثّفة والوجيزة عن "ظاهرة القصيبي" تمثل في الواقع تحية صدق لمبادرة وفاء، هي تحية صدق من البحرين "جزائر اللؤلؤ" لمبادرة الوفاء التي صدرت من مؤسسة الكويت للتقدم العلمي بمنح الدكتور غازي عبدالرحمن القصيبي "جائزة الكويت التقديرية".

لم يحدث أن جاءت جائزة في وقتها، معبّرة عن كل ما ترمز إليها كهذه الجائزة، في هذه اللحظة من عمر الثقافة العربية.

فتحيّة من جزائر اللؤلؤ لهما معاً: لغازي.. وللكويت.

 

محمد جابر الأنصاري

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




الشاعر غازي القصيبي