جمال العربية

"أم وأمة"

من سمات اللغة العربية وميزاتها الفريدة أنها لغة اشتقاق أن مشتقاتها المتعددة تعود في أصولها الأولى إلى جذر لغوي واحد تتفرع عنه فروع عدة. وقد استطاع علماء اللغة الأوائل بفضل معرفتهم بهذه الجذور، أن يتتبعوا رحلة المعاني والدلالات الواسعة بين العديد من المفردات، وأن يجتهدوا فيما تسعفهم به المصادر أو المعجمات.

يقول ابن فارس: "وأما الهمزة والميم فأصل واحد، يتفرع منه أربعة أبواب، وهي: الأصل، والمرجع، والجماعة، والدين، وهذه الأربعة متقاربة، وبعد ذلك أصول ثلاثة وهي: القامة، والحين، والقصد. يقال: أمت المرأة تؤم أمومة: صارت أموما. وأمت ولدا: صارت له كالأنم تغذوه وتربيه.

يقول الشاعر:

تؤمهمو وتأبوهمو جميعا

كما قد السيور من الأديم

وأم القوم وبهم أما وإمامة: تقدمهم، يقول جرير:

خلائق بعضهم فيها كبعض

يؤم صغيرهم فيها الكبير

وأم الناس إمامة: صلى بهم إماما. وفي الحديث الشريف:

إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم، وأحقهم بالإمامة أقرؤهم.

وأم فلانا وإليه أما: قصده، يقول أبو تمام:

إذا أمه العافون ألفوا حياضه

ملاء، وألفوا روضه غير مجدب

والعافون: طلاب الرزق وأصحاب الحاجات.

ويقال: أئتم بفلان: اقتدى به.

وائتم به القوم: جعلوه إمامهم.

وتأمم بفلان: اقتدى به.

وتأمم بالتراب: تيمم.

وتأمم فلانا: قصده، ومنه كلام كعب بن مالك: "وانطلقت أتأمم رسول الله صلى الله عليه وسلم".

وقد أضيف إلى كل المعاني السابقة معنى محدث، يقال: أمم المرفق والشركة تأميما: جعلها ملكا للأمة.

ومن الجذر نفسه: "أمامة" وهي ثلاث مئة من الإبل، يقول الشاعر:

فمن وأعطاني الجزيل وزادني

أمامة يحدوها إلي حداتها

وفي المثل: ما أمامة من هند، يقصد هنيدة وهي المائة من الإبل، يضرب في البون- أي الفرق الشاسع - بين كل شيئين لا يقاس أحدهما بالآخر.

ومن الجذر نفسه جاءت "الأم" بمعنى الوالدة، وتطلق أيضا على الجدة. يقال: حواء أم البشر، وفيها أربع لغات: أم وإم وأمة وأمهة.

يقول قصي بن كلاب:

إني لدى الحرب رخي اللبب
معتزم الصولة عالي النسب

عند تناديهم بهال وهبي
أمهتي خندف واليأس أبي

وأم القرى: مكة.

وأم القرى: النار.

وأم الكتاب. فاتحته.

ومن الجذر نفسه: الأمم: القرب، والقريب المتداول، والشيء اليسير الهين، والعظيم، والوسط، والبين من الأمر.

والأمة: الجماعة، وفي القرآن الكريم: ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.

وهي أيضا: الجنس من كل حي، والجيل والقرن من الناس، يقال: قد مضت أمم. وفي القرآن الكريم كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم.

والأمة أيضا: الرجل الذي لا نظير له، والجامع للخير. وفي القرآن الكريم: إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا.

والأمة أيضا: الدين والملة. يقال: فلان لا أمة له. ويقول النابغة:

حلفت فلم أترك لنفسك ريبة

وهل يأثمن ذو أمة وهو طائع

والأمة: السنة والطريقة، والحين والزمان، والوالدة - لغة في الأم - ومعلم الحسن من الوجه، والملك، والطاعة، والنشاط، ومعظم الشيء.

والأمة - في القانون: جماعة من الناس تجمعهم عناصر مشتركة كوحدة الأصل واللغة والعقيدة والتراث الفكري، مما يجعلهم وحدة حضارية واحدة، ويخلق عندهم شعورا بالانتماء إلى تلك الوحدة وتعلقا بها. والأمة بهذا المعنى حقيقة اجتماعية وحضارية، خلافا للدولة التي تعتبر وحدة سياسية وقانونية. وقد تجمع الأمة الواحدة دولا عدة كما هو الشأن بالنسبة للأمة العربية.

ومن روائع اللغة العربية أنها جمعت بين الأم والأمة في جذر لغوي واحد، فالأمة أم لأبنائها، والأم أمة جامعة لخصال الخير والبر.

وفي المعجم الكبير مادة (أم م) فيض من العلم الغزير لمن أراد المزيد.

"قلعة بعلبك"
لشاعر القطرين: خليل مطران

يقول عنه شوقي:

"صديقي خليل مطران صاحب المنن على الأدب، والمؤلف بين أسلوب الإفرنج في نظم الشعر ونهج العرب".

ويقول عنه حافظ إبراهيم:

"خليل مطران شاعر لا يلتمس القافية، ولا يتكلف القول، قوافيه لا تطلب ومعانيه لا تغلب. هو في طليعة أولئك الذين خرجوا عن أفق التقليد، وصدعوا قيود التقييد، وأوسعوا صدر الشعر العربي للخيال الأعجمي".

ولد خليل مطران عام 1872 في بعلبك وتلقى تعليمه في زحلة وبيروت وأتقن اللغة العربية على يد الشيخ خليل اليازجي وأخيه الشيخ إبراهيم، والفرنسية على يد أستاذ فرنسي.

ويغادر بيروت إلى باريس ومنها إلى مصر حيث كان صديقه سليم تقلا مؤسس الأهرام، فيجذبه للعمل فيه، لكنه بعد سنوات يستقل بمشروعه الصحفي الخاص فيصدر مجلة أدبية هي "المجلة المصرية"، ثم جريدة يومية هي "الجوائب المصرية". وبعد أربع سنوات يودع مهنة الصحافة ويتفرغ للإنتاج الأدبي شعرا ونثرا.

عاش مطران معظم حياته في مصر منذ كان في العشرين من عمره حتى توفي في السابعة والسبعين عام 1949. واقترن اسمه بالشاعرين الكبيرين أحمد شوقي وحافظ إبراهيم، وذاع صيتهم في شتى الأقطار العربية، ولكل منهم لقبه: شوقي أمير الشعراء، وحافظ شاعر النيل، ومطران شاعر القطرين (مصر والشام).

من بين آثاره الشعرية الجميلة الناطقة بدغته الشعرية، وقدرته الفذة على التصوير، والممتلئة بحنينه الجارف إلى مواطن الطفولة والصبا الباكر في لبنان، قصيدته "قلعة بعلبك" التي جعل لها عنوانا ثانيا هو "تذكار صبي" في ديوانه الذي اهتمت لجنة خاصة بجمعه وإصداره في أربعة أجزاء عام 1949.

يقول مطران:

إيه آثار بعلبك سلام
ذكريني طفولتي وأعيدي
مستطاب الحالين صفوا وشجوا
يوم أمشي على الطلول السواجي
نزقا بينهن غرا لعوبا
مستقلا عظيمها مستخفا
يوم أخلو بهند نلهو ونزهو

نتبارى عدوا كأنا فراشا
نلتقي تارة ونشرد أخرى
فإذا البعد طال طرفة عين
وعداد اللحاظ نصفو ونشقى
ليس في الدهر محض سعد، ولكن
كلما نلتقي اعتنقنا كأنا
قبلات على عفافي تحاكي
واشتباك كضم غصن أخاه

قلبنا طاهر وليس خليا
كان ذاك الهوى سلاما وبردا
خرب حارت البرية فيها
معجزات من البناء كبار
ألبستها الشموس تفويف در
وتحلت من الليالي بشامات

وسقاها الندى رشاش دموع
زادها الشيب حرمة وجلالا

معبد للأسرار قام، ولكن
مثل القوم كل شيء عجيب
صنعوا من جماده ثمرا يجنى
وضروبا من كل زهر أنيق
وشموسا مضيئة وشعاعا
وطيورا، ذواهبا آيبات
في جنان معلقات زواه
وأسودا يخشى التحفز منها
عابسات الوجوه غير غضاب

نظرت "هند" حسنهن فغارت
كل هذي الدمى التي عبدوها

بعد طول النوى وبعد المزار
رسم عهد عن أعيني متواري

مستحب في النفع والإضرار
لا افترار فيهن إلا افتراري
لاهيا عن تبصر واعتبار
ما بها من مهابة ووقار

والهوى بيننا أليف مجارى
روضة ما لنا من استقرار
كل ترب في مخبأ متداري
حثنا الشوق مؤذنا بالبدار

بحوار، ففرقة، بحوار
تلد السعد محنة الأكدار

جد سفر عادوا من الأسفار
قبلات الأنداء والأسحار
بأياد غر من النوار
أطهر الحب في قلوب الصغار

فاغتدى حين شب جذوة نار
فتنة السامعين والنظار
لأناس ملء الزمان كبار
وعقيق على رداء نضار
كتنقيط عنبر في بهار
شربتها ظوامئ الأنوار
توجتها به يد الإعصار
صنعه كان أعظم الأسرار
فيه تمثيل حكمة واقتدار
ولكن بالعقل والأبصار

لم تفتها نضارة الأزهار
باهرات لكنها من حجار

خالدايا الغدو والإبكار
بصنوف النجوم والأنوار

ويروع السكوت كالتدآر
باديات الأنياب غير ضواري
أنت أبهى ياهند من أن تغاري
لك ياربة الجمالي جواري.