البـاب
البـاب
قصة وحيدا أراد خالد أن يأكل، وحيدا أراد أن يحتسي الشاي، وحيدا أراد أن يستمتع بصراعه مع الباب، وحيدا أراد أن يظهر له من الود ما قد يروض جموحه ويدفعه للهدنة. جلب عربة الشاي إلى "الصالة"، تركها ليجلب قطعة من الكعك، عاد ليجد عربة الشاي في غير مكانها، اكتشف أن علبة السكر غير موجودة، ذهب لإحضارها، وعاد ليجد عربة الشاي مقلوبة وقد تناثرت محتوياتها، كان يطمع في لحظات حوار هادئ ينهي خلاله هذا التوتر بينه وبين الباب، لكن هذه الرغبة باخت في نفسه، فلم تكن البداية مشجعة، ترك كل شيء على حاله، تعوذ من الشيطان، وتمدد على "كنبة" طويلة طالما ضمته وزوجته الحبيبة، الراحلة إلى مدينة الضجيج والزحام، أحس بها تتمدد إلى جانبه، تسربت رائحتها إليه، شعر بدفء جسدها وهو يلتصق بجسده، كما تعودا في غفوة الظهيرة، خيل إليه أنها تتوسد ساعده، فطوق عنقها وقبل الفراغ، أحس بحميا القبلة تسري في جوانحه، وتوقظ شهوة الالتصاق بها أكثر وأكثر، تناهى إليه صوت أغنية قادم من المجهول: "بعيدن عنه في ديارن بعيده ولا حدن جاب لي منه افاده تجيبه حلوم الليل عندي واحط الزند للغالي وساده" سافرت وبقي وحيدا يجتر الألم، سافرت وظل تائها في سراديب الحزن، سافرت وأصبح رفيقا للمعاناة، سافرت وبات مكتويا بحمأ مسنون من براكين الغضب التي فجرتها قبل الرحيل، سافرت وأمسى غريقا في بحار اليأس. أصبح المنزل موحشا وكئيبا، ترك كل الغرف، واستقر في "الصالة" حيث كانا يمارسان نزواتهما دون رقيب، يبتهجان فتبتهج معهما كل الأشياء، يكتئبان فتكتئب معهما كل الموجودات، ها هو الآن بمفرده وحيدا، حزينا، يائسا، تمعن في محتويات "الصالة" بدت غريبة وأنيقة في الوقت نفسه، ألوانها ليست كما هي في الأصل، هل هو خداع النظر؟ أو هو عمى الألوان؟ الجدران مطلية باللون القرمزي، النوافذ مغطاة بستائر حمراء مزركشة، الأبواب مدهونة باللون الأخضر، السقف متناهي البياض، تتدلى منه مصابيح بألوان قوس قزح، التنافر صارخ بين الألوان، و"الصالة" تصر على أناقتها، الأبواب، الجدران، النوافذ، السقف، من ينظر إليها جميعا فسيعرف تناقض ألوانها، لكنها في نظره بدت جميلة إلى حد الإحساس بإيحاءاتها المختلفة، الأبواب وسيلة طرد أو جذب لا مجال فيها لمعنى الاستقرار، تبدو همجية ترفض الانفتاح، ومتحضرة وهي تستسلم في أمان وطمأنينة، الجدران توحي بالاحتواء والسكينة، إنها مسالمة تحمي الناس من عيون المتطفلين، النوافذ حيادية إلى درجة مقيتة، والحياد يعني التوقف عن الفعل، إنه مصطلح لا وجود له في قاموس الممارسة، أما السقف فهو الكابوس الذي قد يهجم عليه بعنف كما يهجم الوحش على فريسته، يبدو دائم التوثب للهجوم كالطيور الجارحة وهي تنقض من الأعالي. باب واحد في هذه الصالة تميز بخصوصية معينة، ذكريات حميمة، أشياء خاصة، صفات نادرة، ومواقف لا تنسى، انتثرت حوله شجيرات الظل لتضفي عليه وقارا مميزا، ولحظة الدخول عبر ممره الضيق، يبدو مقطب الجبين، أحيانا ينفرج عن ابتسامة مغرية، ولا يلبث أن يعود إلى عبوسه الدائم، لاحظ أخيرا أن أوداجه بدأت تنتفخ، لم تعلق زوجته على هذه الملاحظة، مكتفية بابتسامة احتار في تفسيرها، ذكرته بابتسامة "الموناليزا". نظر خالد مجددا إلى الباب، لاحظ أنه مليء بالملصقات التي علقتها زوجته الغائبة الحاضرة، بعض البطاقات الصغيرة، بعض الآيات والأحاديث والأقوال المأثورة، عبارات الإعجاب التي يكتبها متغنيا بجمالها وروعتها ورقة مشاعرها "كم أحب هذا الباب الذي ولجت منه إلى حياة زوجية لا أزال أرسي قواعدها بإصرار وجلد". عندما حدث زوجته عن العداء الذي يضمره الباب له رغم محاولته كسب وده، اكتفت بأن قرأت آية الكرسي والمعوذات، بعد أن قالت له: ـ سلامة عقلك. "أينك الآن يا وردة الدنيا وزهرة البراري ولؤلؤة البحار، لتشهدي هذا الصراع بيني وبين الباب الذي أحببته فعافني، وتوددت إليه فرفضني، وحاولت الاقتراب منه فنأى موغلا في نأيه القريب البعيد؟ أينك الآن يا جميلة الجميلات وحلوة الحلوات ومليحة المليحات لتشهدي أفعال هذا الباب المشاكس الذي يأبى الانفراج والرضا والتسامح؟". ها هو الباب يتطاول حتى يتجاوز السقف، يتحرك من مكانه، كأنما يتأهب للهجوم، أراد خالد أن يترك "الكنبة" ويأخذ وضع الدفاع عن النفس، لكنه شعر بأنه مشدود إليها بقوة، قاوم دون جدوى، شعر بالعجز الكامل، هاجمه شلل عطل حركة جسمه، ظل عقله يقظا يتابع حركة الباب وهو يتقدم ببطء شديد، ضباب كثيف يكاد يخنقه، الباب يواصل التقدم، وئيداً، وئيداً، وقد انقلبت ملامحه وتحول بكامله إلى فم كبير يريد ابتلاعه، فتح الفم الكبير فكيه عن آخرهما اقترب أكثر وأكثر وأكثر، وهو لايزال مشدوداً إلى "الكنبة" لايستطيع حراكا، سمع صوت جرس كبير ينبعث منه، إنه الإنذار بالنهاية الوشيكة. أصغى خالد بانتباه شديد، لحظتها أدرك أنه يسمع صوت جرس الباب الخارجي للمنزل، ولحظتها أيضا عاد كل شيء إلى مكانه، وعادت ألوان "الصالة" كما كانت، شعر بالتحرر من قيوده، سارع إلى ترك مكانه وأراد الخروج إلى فناء المنزل ليرى من القادم، وعندما مر بالباب انتابته الرغبة أن يركله بعنف، لكنه بدلا من ذلك قبله بارتياح، وتنفس بعمق وهو يستقبل الهواء النقي، ويشتاق لزوجته.
![]() |
|