قراءة نقدية في ديوان: "سـريـر الغريبة"
قراءة نقدية في ديوان: "سـريـر الغريبة"
تاليف: محمود درويش بين غياب وغياب، يمنحنا محمود درويش بعض تفاصيله مع كل كتاب جديد من كتبه. كان درويش صدّاحاً منذ "أوراق الزيتون"، "عاشق من فلسطين"، "آخر الليل"، "حبيبتي تنهض من نومها"، "العصافير تموت في الجليل"، "أحبك أو لا أحبك"، "محاولة رقم 7"، "تلك صورتها وهذا انتحار العاشق"، "أعراس". ذهب صوته إلى قلوب وأحلام ودموع الجماهير العربية، ودلف إلى مخيلة أجيال من الشعراء، تسلل إلى قصائد بعضهم، ولم يخرج، وفي حضور الشعر الفلسطيني لم يستطـع فلسطيني آخر أن يصل إلى قامته، امتلك المدن وامتلكته في ظل منفاه وتحرّكه في ظلال منظمة الثورة الفلسطينية، وبعد يافا وحيفا، جاءت بيروت لتصبح أكثر المدن سطوة في شعـره حتى كان الخروج الفلسطيني و "مديح الظل العالي" التي كانت بمنزلة الخطاب السياسي للمجلس الفلسطيني، حيث انعقد في دمشق في بداية حقبة الثمانينيات، ثم جاءت تونس، وباريس ومعها كانت أعماله: "حصار لمدائح البحر"، "هي أغنية.. هي أغنية"، "ورد أقل"، "مأساة النرجس، ملهاة الفضة"، "أرى ما أريد". ومع انقلاب المنظمة إلى دولة وفتـح أوراق "السلام" الإسرائيلي- الفلسطيني جاءت كتبه الأخرى: "أحد عشـر كوكبا"، و "لماذا تركت الحصان وحيداً". بين فلسطين الجديدة، و "عمان"- الأردن، يعيش محمود درويش سنواته الجديدة، لم يعد المنفى كما قد كان، ولا الوطن كذلك، تغيّر حال العرب، ومعهم تغيرت الحالة الفلسطينية، زاد عدد الأطفال الذين يحملون الحجارة في وجه من مازال عدوّاً لهم، ومدت السلطة الفلسطينية أياديها لمصافحة وعناق السلطة الإسرائيلية، وصار هناك عسكر فلسطيني يطارد ثائراً فلسطينياً، لم يعد هناك، أيضاً، يسار أو يمين، بل مكتب للمخابرات الأمريكية ينسق مع الحكومات العربية بما فيها فلسطين للتعاون مع مخططات العولمة، والسلام، والحرب ضد ما يسمى بـ "الإرهاب"، صارت أبواب المهرجانات الثقافية العربية مفتوحة للجميع، وكذلك الفنادق ودرجات رجال الأعمال في الطيارات، أما الوجوه المنهكة والمسحوقة، والمغتالة من أطفال ونساء وعواجيز وشباب، فقد صارت في كل مكان فلسطين، لبنان، الجزائر، السودان، الصومال، أريتريا، ليبيا وغيرها من بقاع العالم الإسلامي والثالث، وتحوّل شعراء وأدباء فلسطين إلى موظفين في الإدارات الثقافية، سفارات فلسطين والأجهزة الحكومية، كما زادت شروط السلوك المدني المسالم في كل العواصم العربية، فالمطارد في بلده مطارد أيضاً في كل مكان آخر في العالم ولا ينقذه سوى صمته وفقدان الذاكرة، أو ولاؤه المعلن للجميع دون شروط. فما الذي يبقى لمحمود درويش ليقوله اليوم إذن، لقد جرّب درويش مقاهي بيروت، وحانات باريس، واحتفى به نيل القاهرة، وبحر الخليج، ونخل العراق، وضمّته شعاب المغرب ومنازل الأردن، أحبّه الشعراء، فخانوا قصائدهم مع صوته، وغناه مارسيل خليفة، فصار جزءاً من فضاء الموسيقى العربية، عاش الشاعر الفتى المدلل للصحافة، والمدن، والطلاب، والثورات، والأدباء، أثار معارك من نوع خاص في رد فعله على لبنان عند الخروج الفلسطيني عام 1982، وعندما هجاه رسّام الكاريكاتير ناجي العلي خر منحوراً مغتالاً في شوارع لندن، واتهمته باريس وإسرائيل بالعنصرية ضد اليهود والساميين في نصوصه "عابرون في كلام عابر". أسطورة إبداعية أنجز محمود درويش أسطورته الإبداعية كأحد أهم شعراء القرن العشرين العرب، وربما العالميين، أيضاً، كانت قصائده تفوح برائحة قهوة أمه، وبيارات يافا، العصافير، والسحاب، والمدى، أغصان الزيتون وأسماء المدن، موج البحر والفضاءات بضيقها واتساعها، كان هناك الحنين، والثورة، والمنافي، والوطن الحلم، والوطن المستحيل، كانت هناك الأرض، والمقاومة، و "ريتا"، وكان هناك أيضاً، ولاء أدبي سري للرومانتيكية، ومن بين كل الشعراء الذين سبقوا درويش كان نزار قباني هو الطاغي في تأثيره- كما ذكر محمود درويش- على روح وشعر البدايات لديه. والآن ماذا بعد وقد صارت فلسطين وطناً لا يشبه الحلم الذي كان يحمله محمود درويش، ولم يعد بالإمكان الحديث من جديد عن قهوة أمه، وبيارات يافا؟ ما الذي يمكن لمحمود درويش أن يكتبه، وأن يحلم به وقد تقزم الحلم القديم إلى ما هو أصغر هامة مما قد حمله فؤاد الشاعر في ترحاله ومنافيه وخصوماته؟ هل يحق له أن يتنازل عن درجة سفارته للقضية الفلسطينية ويتحول إلى شاعر، شاعر فقط؟ وهل يمكن له أن ينظر خلفه ليطمئن على متعلقات حياته الشخصية بعد طلاقين، وعدد من جراحات القلب والأمراض المفاجئة؟ هل يمكن له أن يقتعد كرسياً أمام التلفزيون كمشاهد، ويرعى شئون حديقته الخاصة، وينبش أحلامه الشخصية كرجل لم يستطع أن يصنع أسرته الخاصة؟ هل يمكن له أن يعيد النظر فيما تسرّب من بين كفّيه وهو يكتب قصائد الأمس كي يصنع قصائد اليوم والغد؟ هل يمكن له أن يعيد قراءة الأجيال الجديدة من الشعراء، وأن يصبح هو المتأثر لا المؤثر في القلق الإبداعي الجديد؟ محاكاة الأنثى "سرير الغريبة"، هو أحدث كتب محمود درويش، صدر في عام 1999 ليحمل بين دفتيه القصائد التي كتبها بين عامي 96 و 1997. على "سرير الغريبة" يغفو صوت محمود درويش نابشاً في هدأته عن ملامح امرأته. يلتقي درويش في كتابه الأخير مع همهمة بعيدة كان يسمعها في الماضي، في البدايات، هاهو نزار قباني يستيقظ في هدأة الغفوة، وهاهو درويش يستعير أسلوب محاكاة الأنثى من شاعره الأثير ليبحث عن صوتها بداخله، كان نزار يستعير صوت الأنثى بشراسة العارف بأحوالها، أما درويش، فإنه يستعير صوت الأنثى كطفل تائه متلعثم الخطوات كي يرتدي أردان امرأة لم يلج تماماً إلى عوالمها الخاصة في الماضي الذي أخذته فيه الخطوات إلى منابر الاحتجاج، والثورة، والمنفى، والحنين إلى قهوة أمه. "سرير الغريبة" يفتح مغاليق الوحدة، والعمر، والحسرة في صوت الشاعر محمود درويش، ويختار لصوته ذلك أصوات جيل الثمانينيات من الشعراء حيث المفردة الشعرية تلد متوالياتها في أسلوب لم يعد جزءاً من الصيغة الشعرية التي يكتب بها شعراء التسعينيات في العالم العربي، ليست الحيرة إذن في مادة القصيدة، بل في روحها كأنثى، وشكلها خارج مطولات محمود درويش وقصائده المنبرية، والإنشادية. يحشد محمود درويش المدن، الأساطير، الآلهة القديمة في "سرير الغريبة"، يبدأ من المفقود في افتتاحية مجموعته بعنوان "كان ينقصنا حاضر"، أي امرأة تلك التي يسعى درويش لرسم روحها، ملامحها، والنطق بصوتها؟ غريب يرى نفسه في مرايا غريبته، تتوافد رموز الحب التاريخي روميو وجولييت، وقيس وليلى، وجميل وبثينة، أهو نبشٌ في ماهية العشق أم بحث عن آلهة كما كانت "إنانا" أم هو تجوال في مراتب حب طوق الحمامة، أم هي دروس يبحث عنها تلميذ تاه في "الكاماسوطرا"؟ كل ذلك يحتشد في "سرير الغريبة"، كان ينقصنا حاضر قصيدة التذكار لسيدة حرة وشاعرها، ومن بعثرة الفراق تتدفق سوناتا محمود درويش حين يُعلن: = "وتحتاج أنشودتي للتنفس، لا الشعر شعر، ولا النثر نثر، حلمت بأنك آخر ما قاله لي الله حين رأيتكما في المنام، فكان الكلام". انشطار الذات ما الذي يحدث عندما لا يعود الشعر كافياً، ويصبح الماضي مشهداً طويلاً، طويلاً للتأمل، وتبدأ الذات في إعلان انشطاراتها وضناها ووحدتها الشاحبة. يسائل درويش طيف أنثاه المفقودة: - "أيّ الأغاني تحبين أيّ امرأة، أيّ حضن، أيّ حب، أفلته الشاعر في دنياه، ولم ينتبه، وهاهي لحظة المقاضاة بين ذات تاهت وذات تغرق في ماء فقدها. يقول درويش: كما في الكتابة، يأتي الضروري في هوّة الروح والخيبات لا فارس ولا سيف، لا حرب ولا ثورة، لا منقذ سوى البحث عن أول حضن، حضن الأنوثة، ولكنها ليست أمّاً تباعد بينه وبينها الحدود ليبحث عنها، هي أنثاه التي نسيها في خضم صنع أسطورته كشاعر، هي الأنثى التي لم يدركها فأدركه طيفها على حافة الغروب، كانت القصائد دماً وأسلاكاً وحدوداً وشجراً وقهوة وأماً وبندقية. لم تكن الأنثى في شعر درويش سابقاً سوى مرور عابر يربطها رمزياً بالأرض والوطن، واليوم عن أي أنثى تراه يبحث؟ ما شكلها؟ ما روحها؟ ما مواصفاتها؟ وما الذي تعنيه هي له؟ وما الذي يمكنه أن يفعله لتتحوّل من طيف مبهم إلى حال إنقاذ وجداني وشعري تملء به الفراغ المباغت للقصيدة والوطن. يقول درويش: - "لعلك، حين تُديرين ظلّك لي، تمنحين المجاز وقائع معنى لما سوف يحدث عمّا قليل..". عارياً في غربته وما بين طيف، وظل يحدق درويش في ليله الدامس باحثاً عن ملامح لا يعرف تماماً كيف يرسمها أو يتذكرها إلا بصيغة النقد والإيماء إلى أمل الأنثى في أعماقه، في قصيدته، "وقوع الغريب على نفسه في الغريب"، يقف درويش عارياً في غربة روحه ووحشتها، والطعم مرّ بين شفتيه. هاهو خارج المرأة والبرواز، خارج وهم نرجسيته القديمة، خارج دنياه التي عرفها الآخرون، واقفاً أمام ذات قد هُدّت حوائطها وسقط سقفها، لاشيء أمامه غير الروح بتجليات عذاباتها، ويقول: واحدٌ نحن في اثنين - "تشكّل من شكلنا: جسداً يختفي ثم يظهر في جسد يختفي في التباس الثنائي الأبدية"، واقفاً في العراء لا ينطق باسم المؤسسة، ولا السلطة، ولا نجومية المنبر، ولا النشيد الجماهيري، واقفاً وحده الشاعر والرجل ينظر في قمة الذات إلى غربته الحقيقية، كان غريباً عن نفسه، عن أنثاه، عن هنائه وحلمه الفردي كإنسان بصيغة المفرد، لا لم يعد كافياً كل ما قد مضى، ولا عاد كافياً أن يلحق بقوة ظله، بالتباس، وإنهاك يبحث الشاعر الآن عن ما كان قد غفل عنه من أحلام، أحلام الرجل الذي فاجأ نفسه بوحدته الموحشة، وبطيف الأنثى الذي لا يستطيع اللحاق به في "سرير الغريبة". يقول درويش في قصيدة "غيمة من سدوم" - "مَن يقول لي حلم الشاعر الثوري كان حلم درويش قد انطلق من شعر الالتزام الثوري، والقضية، وهاهو الآن يحاول أن يصل إلى شعر "اللاوعي الحر" بعد أن أنهك هذا التيار أكثر من جيلين من أجيال الشعر الذين كتبوا بعده. ولكن هل هذا هو كل ما تبقى له، وهل يسهل عليه القفز نحوه دون مقدمات، إن ذلك، حتماً سيشبه حالة مقيم في سوق كانت تمتلئ بالبضاعة واللافتات، والضجيج والزبائن والسماسرة، يقفز فجأة إلى صومعة أو محراب على قمة جبل منعزل في الهملايا، إن لقاء الذات أصعب بكثير من منبر الخطابة بين آلاف الذوات الأخرى، وهدهدة الروح أشد عناء من الإنشاد الصاخب لأرواح الآخرين، هذا عناء يحمله درويش في كتابه الجديد، عناء لا يمكن اختزاله أو الكشف عنه دفعة واحدة، يقول درويش: - "هل أنت حقّاً هنا؟ أم أنا لا السيف ولا القلم باتا كافيين، إذن فليكن الرحيل في الذاكرة، والعشق الذي أراق دون انتباه، وطيف الأنثى كما قد يتذكره الشاعر. يخترع محمود درويش امرأة تحلم به وينطق باسمها في قصيدته "لا أقل ولا أكثر"، يحاول أن يلبس صوتها الاعتراضي، يحاول أن يكونها غير أنه يفشل فلا يقدم من المرأة على صوته إلا طيفها، ويكرر المحاولة في "أغنية زفاف"، وفي "تدبير منزلي" ولكنه رغم التكرار لا يستطيع استحضار قدرة نزار قباني على ذلك، ويظل الصوت المستعار للمرأة واضحاً، وناقصاً، وغائباً في حنجرة محمود درويش الشعرية الأنثوية. - "أضمك، حتى أعود إلى عدمي المواساة الخافتة للذات، والإدراك الذي يحاول أن يواري ما غاب عنه من دنياه، رجل ووحشة وأنثى كأنه صار من المستحيل أن يجدها، فيحاول أن يلدها بعناء يائس من ذاته الشعرية، ذلك الوصول المتأخر إلى حقيقة العميق في الروح، ولكنه إدراك تحيط به قسوة التحقق من عدمه إذ يقول: - "هو الوقت يفعل ما تفعل الشمس كم من الحسرة بعد يا درويش وكأنها المرة الأولى لاكتشاف كنه الحياة، شرايينها، لونها وطعمها الذي ماعاد يشبه شيئاً سوى الذكريات. الشاعر وهواجسه قد يطرح آخرون رؤية أخرى لحالة محمود درويش في "سرير الغريبة"، وكما قد فعلوا في الماضي سيجعلون من أنثاه وطن الجغرافيا وقضايا الشعوب، فلا يمكن للمخيلة السائدة أن تقبل فكرة تحوّل شاعر القضية إلى شاعر يبحث في شئونه هو، هواجسه، مفقوداته الشخصية وأطياف كوابيسه ووحشته كرجل وإنسان. كان محمود درويش شجاعاً أكثر من أي وقت مضى حين أدرك حواس روحه واشتعالات الفقد الخاص، لم يستطع أن يكتب صوت الأنثى مثل نزار قباني، وخذلته محاولة التجريب والشكل الشعري في نموذج متأخر من نماذج التجريب الذي انتهى منه جيل شعراء الثمانينيات منذ زمن مبكر، غير أن درويش سمح لنا وللمرة الأولى، بأن نشاركه وحشته وحزنه وفقده وغربته الوجودية في نصوص "سرير الغريبة" والذي هو بداية ما لنهج جديد في التعامل مع ذاته الشعرية، ولكن مثلنا "جميعاً".
![]() |