سوريا ومياهها المهددة

سوريا ومياهها المهددة

تصوير: فهد الكوح

لقد فرضت السنوات الأخيرة على سوريا اختبارات قاسية كأنها أيوب العربي الذي يدفع ثمن بلايا تهاوي النظام الذي نعيشه والفرقة التي تسود بيننا، إن مشكلة المياه السورية تفرض نفسها علينا جميعا.

تجهمت السماء وارتفعت من الأفق أضواء البرق مكونة أشكالا غامضة، ثم بدأت أولى قطرات المطر في التساقط، كنا عائدين ـ أنا وزميلي المصور ـ من رحلة طويلة عبر صحراء بادية الشام، ولساعات طويلة لم نشهد إلا مساحات شاسعة من الرمل الأصفر لا تقطعها إلا القرى الصغيرة الجافة والمدن المنسية، ولكن ما إن غادرنا حمص بمسافة قصيرة حتى بدأت سيول المطر في الانهمار، تلونت المياه بلون الصخر الأحمر وانسابت من أعلى التلال لتقطع الطريق الإسفلتي وترغم السيارات التي تملأ الطريق على التوقف، أحسست بالخوف عندما تحولت قطرات المطر إلى حبات كبيرة من البرد أخذت تصطك بزجاج السيارة بعنف وتتفتت عليها، غطت حبات البرد الأرض فبدا الجليد وكأنه مشرّب بالدم، ورغم كل مخاوفي من أن تحاصرنا السيول وتكسر الإسفلت فإن الابتسامة كانت تعلو وجوه الجميع، كانت هذه القطرات المخيفة هي البشارة بانتهاء واحد من أشد أعوام الجفاف، إذ اتخذت فيه أشد الإجراءات صرامة في القطر السوري كله، وشهدت كل المدن السورية وعلى رأسها دمشق انقطاعا يوميا في مياه الشرب يصل إلى ساعات طويلة في اليوم، جفت الينابيع من فرط قسوة الجفاف واغبرت التربة وخلت العديد من حقول القطن من الثمرات البيضاء المتوهجة، كان هذا امتحانا صعباً من الطبيعة لهذا الشعب الشقيق الذي فرضت عليه في السنوات الأخيرة اختبارات قاسية كأنه أيوب العربي يدفع ثمن بلايا تهاوي النظام العربي الذي نعيشه والفرقة المميتة التي تسود بيننا، لقد فرضت مشكلة المياه السورية نفسها علينا منذ الخطوات الأولى التي قمنا فيها بهذه الرحلة إلى خطواتنا الأخيرة.

دمشق.. مدينة عطشى

في وسط شوارع دمشق كان بردى نهر الشعر يحتضر، في العام الماضي وقفت على ضفافه وأنا عاجز عن تمالك شعوري، كانت هذه هي المرة الأولى التي أراه فيها، تجمعت فيه على صغره كل أشواقنا على البعد، وهبت منه نسائم عشق أموية، كانت صفحته متألقة تحت الشمس وعشرات النواعير تصعد منه وإليه، ولكن النهر غائب اليوم تحت طبقة كثيفة من الطحلب الأخضر، قناع كثيف يخفي ما عليه من وهن وضعف، وفي أجزاء كبيرة منه كان الماء الغائض يكشف عن القاع المليء بالصخور والمخلفات، صمتت طيور النهر ولم يعد يدوي غير أبواق السيارات في وسط المدينة القديمة المزدحم دوما، فالنهر الذي شهد ولادة التاريخ يدفع هو أيضا ثمن تقلبات الطبيعة.

هل يصبح الماء في سوريا بلد الخصب شيئا نادرا، يضيع جزء مهم منه بسبب المشروعات المستقبلية للجار الشمالي "تركيا" وجزء آخر يضيع بسبب الجار "الشرس" في الجنوب "إسرائيل". وجزء ثالث ضنت به الطبيعة التي تعودت أن تعطي أكثر من نصف الموارد ، هل يمكن أن نترك هذا الركن المهم من أركان عالمنا العربي تحت وطأة هذه الظروف؟ وماذا يبقى لنا بعد ذلك؟

يقول لي عبد العزيز المصري مدير إدارة المياه الدولية بوزارة الري : "إن الماء يقطع عن مدينة دمشق أكثر من 61 ساعة يوميا وتبقى المدينة طوال بقية اليوم معتمدة على المياه التي خزنتها، ويجعل هذا الجميع يستهلكون الماء في حذر، وهناك العديد من المدن السورية التي تقطع عنها المياه لعدة أيام، ولم يتجاوز معدل الأمطار في هذا العام 20 % من المعدل العادي، وعلى الأثر أعلنت الحكومة في اجتماع رسمي لها أن هذا العام هو عام جفاف أي أنها سوف تتخذ إجراءات استثنائية لمواجهة هذا الأمر ومنها استثمار المياه المخزنة في السدود بطريقة مقننة، ومنع حفر أي آبار جديدة من شأنها أن تستنزف المياه الجوفية لأنهم لو فعلوا ذلك لما بقيت مياه في جوف الأرض للعام القادم، كما تم أيضا منع المزروعات التي تستهلك كميات كبيرة من المياه، وقامت الحكومة أيضا بتشجيع استخدام طرق الري الحديثة، أي زراعة أكبر مساحة من الأرض بأقل ما يمكن من المياه، وقد تم تأجيل دفع ديون الفلاحين للمصرف الزراعي لمدة خمس سنوات قادمة، وكذلك تم إعفاء المزارعين الذين لم تصل المياه إليهم من كلفة تشغيل الري، وبفضل هذه الإجراءات الحاسمة واستجابة الناس لها، وبفضل المياه التي كانت متوفرة من العام الماضي خلف 160 سدا استطعنا أن نجتاز هذا الصيف القاسي بهدوء ونحن الآن نعيش في الخريف على أبواب شتاء نتمنى أن يكون ممطرا".

هكذا تتحمل سوريا قدر الجفاف، فكيف تتحمل الأقدار الأخرى؟

درة الفرات.. تنادي الفرات

كنت في طريقي شمالا إلى مدينة الرقة، اجتاز صحراء بادية الشام الممتدة على مدى البصر، اكتشف أننا جميعا كعرب نعيش في نفس التقسيم الجغرافي الحتمي والقاسي، واحات ضئيلة من الخضرة وسط قبضة صحراوية بالغة القسوة والإحكام، فالمناطق الشديدة الجفاف من عالمنا العربي تشكل أكثر من 67 % منه، ولا تشكل المناطق الرطبة والموجودة على سواحل البحار إلا 9 % فقط، أما بقية النسب فتتوزع بين أراض جافة وشبه جافة، ولا تتلقى هذه المناطق إلا أقل من 200 مم فقط من مياه الأنهار، واقع شديد الشظف، وكأن تغريبة بني هلال لم تكن لحظة بقدر ما كانت قدرا ودورة حياة وموت متواصلة في عمق الزمن. ولعل هذا هو السبب في تلك الهالة والقدسية التي تحيط بكل أنهار العالم العربي على قلتها، فالنيل ينبع من الجنة وليس من جبال القمر بإفريقيا، والفرات سوف يصبح نهر العسل ودجلة هو نهر الخمر في جنان الخلد أما نهر الأردن فهو النهر الذي عمدت مياهه الأنبياء ومازال يتعمد بالدم حتى اليوم، والمشكلة الحقيقية أن كل هذه الأنهار تنبع من خارج وطننا العربي وتصب عندنا بعد رحلة طويلة ومنهكة، وحتى نهر الأردن الذي كان عربيا خالصا أصبحت إسرائيل تتحكم في الجزء الأكبر والأهم فيه، كانت رحلتي تتواصل عبر الرمال حتى أصل إلى حضرة واحد من أهم هذه الأنهار هو "الفرات".

"الرقة هي شاهد التاريخ الحي في سوريا" هكذا يحدثنا الدكتور محمد أحمد نفاح محافظ الرقة في مساء اليوم الأول الذي وصلنا فيه إلى المدينة، "إنها درة الفرات كما يحب الجميع أن يطلقوا عليها، وكل معلم منها هو علامة على مرحلة من التاريخ، نبحر منها للأسفار الأولى في تاريخ البشرية للصوانيات الحجرية التي ابتكرها الإنسان، أدواته للحياة وللقرية الأولى التي انتقاها في "تل المرابيط" في العصور الحجرية فسبقت غيرها وإلى البوابة التي ولج منها أبو هريرة وتل أسود نحو البداوة والرعي والزراعة لنصل إلى "توتول" الشاهدة على نهضة العصور التاريخية القديمة بعماراتها واقتصادها وقوتها وشريكة ممالك إبيلا وماري وإيمار وإلى سورا الحصن الحيثي والأشوري والرصافة الأولى وطريق الحرير والصفحات الطويلة من الكر والفر بين ممالك العصور الوسطى التي طبعت حكاياتها على الألواح والرقم المكتشفة، ويصطفي الفرات من قصص الغابرين المآثر في العصور الإسلامية للرقة فتفتح وتحتضن صفين وشهداءها وترتكز عليها جيوش الفتح نحو أرمينيا وتقترن رصافتها باسم هشام ابن عبد الملك الذي يبعث فيها الحياة الزاهرة، ويرتقي بها العباسيون إلى ما هو مميز، فيهبها المنصور "الرافقة" حاضرة تتندر بطابعها المعماري".

في هذه الكلمات الموجزة يتكون تاريخ كامل، رقائق من الرمل واحدة فوق أخرى، ولعل تلك المدينة الفراتية قد اكتسبت اسمها وصفتها من تلك الرقائق التي يتركها ماء النهر عندما ينحسر عنها، لقد كانت تلك المدينة الحدودية ـ شأن كل المدن الحدودية ـ ملتقى ومنفى، ملتقى للقوافل العابرة والثقافات الوافدة وقبائل البدو التي تبحث عن مستقر من الأرض فيه زرع وماء، ومقرا للحاميات المرابطة وزادا للجيوش الخارجة للفتح، كما أنها كانت أيضا منفى لكل أصحاب الأصوات العالية الذين كانوا يجأرون بالرفض في وجه كل أنواع السلطات، ولاة أو عثمانيين أو فرنسيين، ولعل هذا هو ما ملأ تاريخها بكل تلك الحيوية وجعل الكثير من سطوره حافلة بالتفاصيل.

لم تفقد "الرقة" هذا الطابع وتلك الحيوية حتى الآن، أسير في شوارعها الضيقة بصحبة رشيد السيد أحمد مدير الإعلام بها وهو لا يكف عن الحديث عن مدينته في صخب، كان باحثا في التاريخ، مشغولا بإعادة كل شيء إلى جغرافيته الأصلية، لذا فقد كانت الأماكن والمباني تأخذ دائما بعدا داخل الزمن، يصحبني طوال مدة إقامتي في جولة طويلة من السدود المائية إلى جلسات مثقفي الرقة، الثقافة هنا لها مناخ مختلف، إنها عنصر تقليدي ومهم يتغلب به الناس على ليالي المدن الإقليمية الطويلة حيث لا توجد فيها أماكن للتسلية، وهم مهنيون مهرة في الأساس ارتقوا بعيدا عن الأفق الضيق للمهنة التي يمارسونها واتصلوا باللحمة العامة للثقافة، الدكتور عبدالسلام العجيلي مازال يمارس الطب والكتابة، وبرغم شهرته ومؤلفاته التي زادت على الخمسين كتابا، فإنه لم يغادر الرقة ومازال يعتبر أن عمله المهم حقا هو الدور الطبي الذي قام به في معالجة الناس، الأمر نفسه مع محمد الحاج صالح وشخصيته الآسرة، طبيب وقاص مشهور، لعل العديد من قراء العربي يعرفونه من خلال قصصه القصيرة التي تنشر له من حين لآخر، وكذلك بسام بليبل المحامي وشاعر الأطفال، أسماء قليلة للعديد من مثقفي الرقة الذين اخترقوا الحدود المحلية الضيقة رغم أنهم لم يغادروا مدينتهم ولا يودون ذلك، فريق الرقص الشعبي المكون من طلبة المدارس ومع ذلك يقدم عروضا تنافس المحترفين ويمثل سوريا في كل مكان، هذه النوعية من البشر تكون جزءا من سحر الرقة ومن حيويتها يضاف إلى هذا ذلك العبق التاريخي القديم الذي يتمثل في العناق الأبدي والمحتوم مع نهر الفرات.

معالم التاريخ قائمة في كل مكان، أبرزها ذلك السور الحجري الضخم الذي يذكرك بأنها كانت مدينة حدودية تتلقى دوما أول سهام الغزو، فقبل الإسلام كانت مسرحا للصراع بين فارس وروما، يحكمها من يفوز منهما، أما بعده فقد شهدت صراعا آخر كان بداية للفرقة التي نعيش آثارها حتى اليوم، عندما دارت على أرضها تلك الحرب المريرة بين جيوش علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرّم الله وجهه، ومعاوية ابن أبي سفيان، ويقال إن هذه الواقعة استمرت أكثر من مائة وعشرة أيام، دارت فيها رحى تسعين معركة، سقط فيها العديد من وجوه الأمة الإسلامية دون أن نعرف إن كانوا على ضلالة أم كانوا على حق، وانتهت بصلح وتحكيم أديا إلى هزيمة الإمام علي فيما بعد وبذلك انتهى عصر الفرسان في التاريخ العربي ليبدأ عصر السلاطين والملوك.

في ظل هؤلاء الملوك عاشت الرقة عصورا زاهرة أخرى، فقد نشأت فيها قصور وحاميات بني أمية وكانت معبرهم الدائم نحو التوسع شمالا من أجل القضاء على شوكة البيزنطيين، كما بنى العباسيون فيها مدينة "الرفقة" وجعلوا لها ذلك السور الذي يأخذ شكل نعل فرس، عاش أهلها دورة حياتية كاملة تعاقبت فيها سنوات الرخاء والجفاف، والتمرد والخنوع، عانوا من فيضان النهر الغاضب، وتعلموا العشق من رقائق رماله، تعاقبت عليهم الزلازل والأوبئة وغزوات الفرنجة والصليبيين والتركمان والمغول والانكشارية، ولكنهم بقوا، مدن من هذا النوع تبقى دوما، أناس من تلك النوعية يعمرون دوما، فخطر الإبادة الماثل يمنحهم مصل مقاومة خارقة تجعلهم يواصلون الغرس والبناء.

لقد حمل العصر الحديث لهذه المدينة القديمة بعثا جديدا، فهي لم تنم وتزدهر ويزداد عدد سكانها، ولكنها أيضا كانت موطن سد الفرات، أحد أهم الإنجازات السورية المعاصرة في الاستفادة من هذا النهر واستثمار كل قطرة من مياهه، وقد جلب بناء السد العديد من مشاريع الاستصلاح والاستثمار الزراعي العملاقة.

موعد مع السد

"يا بني، عندما يحين وقت الزرع لا تدع الماء يرتفع في أرضك عاليا، وحين يزول الماء حافظ على سواء أرضك فلا تدع فيها ثورا شاردا، ولا حشائش بارزة، واحرثها بخطوط مستقيمة ومائلة، ثم قدم صلاتك للإله "داجن" ليحفظ حقلك من الجرذان والطيور". هذه وصايا فلاح قديم، يقدم فيها لابنه أسلوبا كاملا في التعامل مع النهر في حالات فيضان الماء وانحساره، خبرة من الزراعة وطرق تطورت وانتقلت عبر الأجيال، وما ذلك السد العظيم الذي نتجه إليه الآن إلا جماع لهذه الخبرة البشرية.

سد الفرات يسكن مدينة "الطبقة" التي تبعد عن الرقة بحوالي ثلاثين كيلومترا، ولم يغير حياة هذه المدينة الصغيرة ويجعلها واحدة من أهم النقاط على الخريطة السورية، ولكنه غيّر اسمها أيضا فأصبحت الثورة، كان بناء السد حلما سوريا قديما منذ أن كان النهر يفيض ويجور على الأرض والعباد، ووضعت الحكومات المتعاقبة مخططاته على الورق دون أن تتمكن من تنفيذه حتى قامت ثورة حزب البعث وقررت أن تجعله عنوانا على إنجازاتها، وفي 22 "أبريل" عام 1966 تم توقيع عقد البدء في الإنشاء مع الاتحاد السوفييتي، وكانت خبرة بناء السد العالي التي تمت في مصر هي التي دفعت بهذا الحلم إلى مستوى التحقق، وقد حرص الرئيس السوري حافظ الأسد على زيارة موقع العمل أكثر من مرة كما كان أول إنسان يمشي على جسد السد بعد الإغلاق، استمر العمل ليلا ونهارا دون توقف، وفي احتفال مهيب تم تدشين سد الفرات العظيم في 8 مارس عام 1978 وتدفقت المياه في خزان السد التي أطلق عليها بحيرة الأسد التي أصبحت تعد بعد ذلك واحدة من كبريات البحيرات العذبة في العالم إذ يبلغ طولها 80 كيلو مترا وعرضها 8 كيلومترات، وتسمح بتخزين منسوب المياه حتى منسوب 304 أمتار ، ومخزونها 14 مليار متر مكعب وفيها محمية طبيعية هي جزيرة الثورة تحتوي على أنواع نادرة من النباتات والحيوانات البرية ومن المواقع الأثرية أيضا.

كانت المفاجأة الأولى أننا وجدنا أن جسم السد نفسه قد صمم بحيث يكون جزءا من الطريق العام الذي يصل "الطبقة" بغيرها من المدن، ويبلغ طوله 4، 5 كيلومتر، تمر عليه كل السيارات بعد مراقبة رمزية، بل إنه مفتوح أمام عشرات من الزوار العاديين الذين يتوافدون عليه، وقد رأينا بالفعل العديد من الأسر وهي تتجه تستعد للهبوط في أعماقه، كما أن العشاق يتخذون من منظر البحيرة الخلاب خلفية يبثون عليها لواعج قلوبهم.

كان في انتظارنا المدير العام لمؤسسة سد الفرات المهندس "شاكر بازوعة"، اصطحبنا في رحلة إلى أعماق السد حيث كانت التوربينات "أو العنفات كما هو التعريب السوري لها" المولدة للكهرباء تدور بعنف تحت قوة المياه المتدفقة، يشير إلى واحدة من هذه العنفات وقد تم إخراجها من جوف النهر للقيام بإجراء عملية الصيانة اللازمة لها وهو يقول: "هذه واحدة من ست مثلها تقوم بتوليد الطاقة من نهر الفرات، فقد ساهم السد في توليد طاقة كهربائية قدرها 880 ميجا وات/ساعة، وفي ري مساحة واسعة من الأراضي تبلغ 640 هيكتاراً، بالإضافة إلى تنظيم حركة نهر الفرات، وسوف ترون في جولتكم سدا آخر هو سد البعث الذي تم تنفيذه في عام 1981 وهو يشارك في تنظيم النهر أيضا بعد سد الفرات كما يساهم في توليد طاقة كهربائية أخرى قدرها 375 ميجا وات/ساعة، إضافة على الحفاظ على درجة ذبذبات النهر وعلى المزروعات الموجودة على ضفتيه".

نخرج من أعماق السد ونقف على حافة البحيرة الممتدة، أسأل المهندس "بازوعة" عن درجة انتظام ورود المياه من الشمال التركي خاصة في ظل تنظيم تركيا لمشروع جنوب شرق الأناضول الذي سيقوم ببناء سلسلة من السدود أهمها سد أتاتورك الذي تم تنفيذه بالفعل، يشير المهندس بازوعة إلى الأثر الذي تتركه المياه على جسد النهر وهو يقول : "انظر إلى الأثر الذي يتركه انخفاض مستوى الماء، في هذا اليوم فقط هناك على الأقل ثلاثة أمتار من الانخفاض، وهذا يعني عشرات الآلاف صمن الأمتار المفقودة، أضف إلى ذلك أن ورود الماء لا يأتي بشكل منظم، وسوف يحدث هذا تأثيرا على قدرة السد على توليد الكهرباء، لقد جربنا وضعا قاسيا في عام 1991 حين قطعت تركيا مياه الفرات حتى تملأ خزان سد أتاتورك، ونتمنى ألا تحدث هذه المأساة مرة أخرى حين تباشر ملء سدودها الجديدة أو حين تعطل النهر بأي حجة، لسنا نتحدث عن اليوم ولكن عن المخاوف التي يحملها لنا المستقبل، لقد كان المعدل السنوي لتدفق الفرات عبر الحدود التركية السورية حوالي 28 مليار متر مكعب، أما بعد اكتمال مشروع جنوب شرق الأناضول بالصورة التي خططت لها تركيا فسوف يؤدي هذا إلى إنقاص كمية المياه الواردة إلينا بنسبة 14 مليار متر مكعب، وإذا أضفنا الخسارة الناجمة عن التبخر فإن إجمالي النقص سيرتفع إلى 17 ملياراً مما يعني أن الجزء الباقي سوف يكون 11 مليارا فقط وهو وضع سيكون بالغ القسوة".

النهر سلطان

أعود سائرا مع نهر الفرات، العمود الفقري والمصدر الأساسي للمياه في سوريا، وهو ينبع من هضبة أرمينيا داخل الحدود التركية، ويدخل الأراضي السورية ليقطع فيها مسافة تصل إلى حوالي 600 كيلو متر قبل أن يعبرها إلى العراق عند منطقة القائم، موحش وغامض أحيانا، تحيط به الأحراش والأوابد الأثرية التي لم تكتشف بعد، عند الكوبري القديم الموصل للرقة أشاهد النسوة وهن واقفات يغسلن الصوف، واحد من أقدم الطقوس التي تقام على حافة النهر كلما استعد الشتاء للقدوم، الجسر نفسه قطعة من التاريخ، بناه الفرنسيون على عجل في أيام الحرب العالمية الثانية ليساعد قواتهم على الحركة عبر الفرات ولم يدروا أنهم بذلك قد فكوا عزلة أهل الرقة ووصلوا أهل الجزيرة ببقية الأرض السورية، فقد كان النهر العجاج ـ في ذلك الوقت ـ بقدر ما ينساب ويفيض بقدر ما يقطع هذه الحركة ويوقفها، ندخل قرى المغمورين أي الفلاحين الذين غمرت أراضيهم مياه خزان الفرات، وقد أنشأت الدولة لهم قرى أخرى بعيدا عن أنياب النهر، البيوت الحجرية الحديثة نسبيا تحورت لتأخذ الطابع الفلاحي، أحيطت بحظائر من الطين تسكنها الحيوانات، تخرج لنا امرأة "شاوية" فارعة الطول ووجهها منقوش بالوشم الجميل، تحدثنا عن الأرض ومتاعب السقاية والنهر الذي أصبح عاصيا، يهمس "رشيد" في أذني أن الرجل الشاوي هنا مدلل، فالمرأة هي التي تتحمل معظم جهد الزراعة والفلاحة إضافة إلى تربية الأولاد وشئون المنزل، عند الغروب يتحول النهر إلى نبع من الألوان المتداخلة، يخرج أهل الرقة للجلوس على شاطئه، تتحول همهمات النهر إلى موسيقى خفية تسري في نفوسهم إيقاعاً يحفظونه منذ آلاف السنين، فماذا يحدث إذا غاضت المياه وظهرت القيعان الجافة؟ يقول لي محافظ الرقة الدكتور محمد أحمد نفاح: "المسألة ليست مجرد أمتار ترتفع وتنخفض في معدل ورود النهر، إنها مسألة وجود، فنصف سكان سوريا في المنطقة الشمالية يشربون ويزرعون ويعيشون اعتمادا على ماء هذا النهر، وكذا الأمر بالنسبة لبقية سوريا، وهو اقتصاد زراعي في الأساس أو قائم على الصناعات التحويلية للمنتجات الزراعية، لقد حول سد الفرات هذه المنطقة من حياة بادية ورعي إلى حياة استقرار وتعمير، أي أنه خلق نمطا حياتيا جديدا، إن لنا علاقات طيبة كمحافظة حدودية مع الجانب التركي، بل إن القبائ ل متداخلة في هذه المنطقة والوالي التركي يأتي لزيارتنا، ونحن في سوريا حريصون على هذه العلاقة، وليس كما تعلن بعض الأصوات التركية التي تزعم أننا نؤيد الجماعات الإرهابية، نحن ليس لنا أي نوايا عدوانية تجاه تركيا ونتمنى أن يكون هم أيضا كذلك".

أذهب إلى بيت الدكتور عبد السلام العجيلي، بيت حجري صغير وسط بيوت الرقة القديمة، لم يغادره ولم يغيره حتى بعد أن جاءته الشهرة وشغل الوزارة أكثر من مرة، كان ممتلئا بالحيوية متقد الذاكرة رغم أعوامه الكثيرة، فرغ للتو من نشر روايته "أرض السياد" ويستعد لنشر قصة حياته وتجاربه، أسأله عن علاقته بنهر الفرات فيقول لي: "الفرات سلطان، عشت في طفولتي على ضفافه ورأيته كيف يفيض ويمنح ويأخذ دون راد لأمره، فهو دائما يغير فراشه، وبالتالي يغير مصائر الناس الذين يعيشون على ضفتيه، يقتطع أي قطعة يشاءها من الأرض ليحملها فوق مياهه ليضيفها إلى فلاح آخر، ولا يملك الجميع إلا القول بأن النهر سلطان، من وحي هذه الذكريات كتبت قصتي التي تحمل نفس العنوان، كتبتها بروح فرحة بمشروع سد الفرات الذي كان العمل جاريا فيه، وقد أوشكت أن تتحول إلى فيلم سينمائي يقوم بإخراجه صلاح أبوسيف رحمه الله لولا بعض المشاكل المادية التي حالت دون ذلك و تحولت القصة إلى مسلسل إذاعي، ثم كتبت رواية أخرى عن النهر بعنوان "المغمورون" وكنت أعني بهم هؤلاء الناس الذين فقدوا أراضيهم بسبب مياه السد بعد أن تلقوا وعدا بأرض غيرها بجوار النهر، وقد اضطروا للرحيل مرغمين ولكن بعضهم فوجئ بأن هذه القرى قد سكنها أناس آخرون، وان المطلوب منهم الذهاب إلى الحسكة أو أي مكان آخر، وهكذا ساءت أوضاعهم المادية والمعنوية، لقد رأيت الكثيرين منهم هنا وهذا ما دفعتي إلى كتابة هذه الرواية، لم أكن أنتقد سد الفرات لأنني أدرك أنه عمل حضاري عظيم وأحدث فائدة كبيرة للناس الذين أنتمي إليهم، ولكن البيروقراطية السياسية قد أساءت استغلاله، الرواية تتحدث عن الفلاحين في كل مكان عندما تظلمهم الطبيعة وتأتي الدولة لتنقذهم فترميهم بظلم أشد.

أترك بيت الدكتور العجيلي إلى بيت آخر في مواجهته تماما، أهبط بسلالم عدة إلى أغرب متحف يمكنك ان تجده في هذا المكان، متحف "طه طه" عاشق الفن والآثار، إنها تجربة مثيرة أن تقابل هذا المثقف الذي لا يشغل سوى وظيفة محدودة الدخل ومع ذلك اقتصد من قوت يومه كي يقيم هذا المتحف الذي يجمع ثلاث مجموعات رئيسية، أولها مجموعة من شذرات الآثار من الحضارات التي قامت على نهر الفرات، بعضها اكتشفها بنفسه وبعضها حصل عليها من البعثات الأثرية التي كثيرا ما تفد إلى المنطقة، أما المجموعة الثانية فهي تشكيلة ضخمة من اللوحات الفنية الأصلية بريشة فنانين سوريين وعرب وأجانب أيضا، وحصل عليها من خلال المعارض التي أقامها في الرقة تكريما لهؤلاء الفنانين، أو من الفنانين الذين عادة ما يصاحبون البعثات الأثرية وزاروا متحفه فأعجبهم هذا الجهد الدءوب، أما المجموعة الثالثة فهي أرشيف من الجرائد والمجلات تصل إلى حوالي مائتي سنة تقريبا، لقد فعل كل هذا وحده على حساب بيته وأولاده وبمعاونة زوجته التي تؤمن به وتتبع خطاه أينما حل، ولم يكتف بذلك ولكنه قرر أن يقوم برحلة نهرية على طول نهر الفرات وهي رحلة تستمد جذور فكرتها من مرحلة ما قبل التاريخ حين قام أمير "أوجاريت" برحلة من مدينة توتول وهو اسم الرقة القديم إلى مدينة حلب التي كان اسمها "ماري"، تخليدا لهذه الرحلة قام طه طه ومجموعة من الفنانين التشكيليين بواحدة من أهم الرحلات النهرية، وقد صنعوا طوف الرحلة على أيديهم وسجلوا كل وقائعها بالريشة والكاميرا، وأعدوا سجلا كاملا لكل ما شاهدوه على جانبي النهر من آثار وحياة برية وكل ما يعانيه من تلوث وكل ما يمارس على سطحه من صيد جائر، لقد قدموا شهادتهم على عشق الفرات بطريقتهم الخاصة، فهل يمكن أن يجف نهر مثل هذا يعيش بجانبه مثل هؤلاء البشر؟!

الماء قسمة بينهم

حملت أسئلتي ومخاوفي إلى المهندس عبد العزيز المصري مدير إدارة المياه الدولية، كان جالسا في مكتب صغير وبسيط بوزارة الري، وأكثر ما لفت نظري هو تلك الآية القرآنية المحفورة على لوحة من النحاس خلف مكتبه تقول :سورة القمر آية 28ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر صدق الله العظيم، قلت له : بمناسبة هذه الآية التي تؤكد على حق تقسيم الماء بين البشر، لقد كنت في تركيا قبل أن آتي إلى سوريا وشاهدت جانبا من مشروع تنمية جنوب شرق الأناضول "الجاب"، وقد سألتهم عما إذا كان هذا المشروع سوف يؤثر على حصة سوريا والعراق من المياه فقالوا لي أشياء ثلاثة أود أن أتلقى منكم ردا حولها، أولها أنهم أكدوا لي بأنهم ملتزمون بالاتفاق الأخير الذي يقضي بإرسال 500 متر مكعب من الماء كل ثانية، وثانيها أنهم لو أرسلوا المزيد فإنهم يعرفون أن الطاقة التخزينية لسوريا لا تسمح لها باستيعاب هذا الفائض من المياه وثالثها أن مشروع الجاب مهم لسوريا أيضا لأنه على الأقل قد حماها من الفيضان السنوي لنهر الفرات، ما هو رأيكم في ذلك ؟

بدأ المهندس المصري في استدعاء ذلك التاريخ الطويل من صراع المياه بين سوريا وتركيا من ذاكرته كأنه يقرا من كتاب مفتوح، قال : في الشق الأول من السؤال أقول لك إن ما عقد بيننا وبين تركيا في عام 1987 لم يكن اتفاقا، لقد كان بروتوكولاً مرحلياً يحدد حصة المياه بين البلدين خلال مرحلة بناء تركيا سد "أتاتورك" فقط، وكان المقصود منها إظهار حسن النوايا السورية ومنح تركيا الفرصة لملء خزان هذا السد، وتنص هذه الاتفاقية المؤقتة على أن تكون المياه المتدفقة أكثر من 500 متر مكعب في الثانية، أي أنها أبقت طرفها مفتوحا لأي زيادة في كمية المياه، فنحن لدينا سجل حافل في وزارة الري يؤكد أن حصة سوريا على مدى سبعين عاما لم تكن تقل عن ألف متر في الثانية. حتى الآن لا توجد اتفاقية نهائية تقسم نهري دجلة والفرات، لقد عينت لجنة فنية كانت مهمتها إعداد هذه الاتفاقية وحددت مدتها بثلاث سنوات فقط ومع ذلك فقد ظلت 19 عاما دون الوصول إلى أي اتفاق، ويهمني أن أشير هنا إلى ذلك الاجتماع الذي تم في دمشق عام 1993 بين رئيس وزراء تركيا ورئيس الحكومة السورية واتفق فيه على الوصول إلى اتفاق نهائي حول هذه المسألة قبل نهاية عام 1993 ولم يتم شيء حتى الآن، ليس هذا فقط، فمنذ اتفاقية أنقرة في عام 1920 واتفاقية لوزان في نفس العام وكل النصوص تفرض على تركيا الاعتراف بحق سوريا في المياه وضرورة التوصل إلى اتفاقية نهائية الأمر الذي لم يحدث حتى الآن.

أقول له: (ولكن خلال كل هذه المباحثات لم تعترف تركيا بأن دجلة والفرات هما نهران دوليان تسري عليهما قوانين الأنهار الدولية اعترفت فقط بقانون الحق المكتسب)، يلتقط المهندس عبد العزيز المصري أنفاسه قليلا ويرد قائلا :"هذا صحيح، ولكننا لدينا هنا مرجعية يجب أن نعود إليها، لو عدنا إلى اتفاقية "لوزان" نجد أن تركيا تأخذ منها جانبا بسيطا يتعلق بالحدود وتطلب منا أن نطبقها نحن أيضا، وتترك الشطر الذي يلزمها بالوصول إلى حد نهائي في مشكلة المياه، إن الأمم المتحدة من خلال اجتماع اللجان التي عقدتها في عامي 96 و97 تؤكد على دولية النهرين وتحدد العلاقة بين شركاء المجرى الأعلى والأوسط والأسفل بصورة نرى أنها عادلة وقد وقعت سوريا على هذه الاتفاقية ولن يفيد إنكار تركيا لهذه النصوص الدولية فحتى الاتفاقيات التي حدثت بين سوريا والعراق من جهة وتركيا من جهة أخرى هي في الواقع إقرار بدولية هذين النهرين".

ولكن ما هو تأثير مشروع "الجاب" على المياه السورية؟

يؤكد الخبير المائي : (نحن لا نعترض على أي مشروع يمكن أن يفيد أي دولة مجاورة، لذلك نحن لا نعترض على مشروع (الجاب) ولكننا نعترض على أسلوب تنفيذ هذا المشروع، إن تركيا تدعي أن هذا المشروع متكامل، وهو يتكون من 21 سدا من المقرر أن تروي في حوض الفرات حوالي مليون هكتار وفي حوض دجلة حوالي نصف مليون هكتار، ولكنه في رأينا مشروع ناقص، فلم يلحظ في المخطط العام لهذا المشروع وجود أي وجود لشبكة الصرف الزراعي، وهي تلك الشبكة التي ستصب فيها المياه المتخلفة عن ري الأراضي الزراعية بما فيها من بقايا ضارة وأسمدة كيماوية، أين ستصرف هذه المواد؟ في الأودية السورية بطبيعة الحال، إننا نعاني من هذا الأمر الآن، فمنذ نوفمبر عام 1995 بدأ أصدقاؤنا الأتراك في إرسال تلك المياه الملوثة عبر نهري البليخ والساجور، وكلا النهرين من روافد نهر الفرات ويصبان فيه في نهاية الأمر، هذا من الناحية النوعية، أما من الناحية الكمية فإن تركيا في إطار تنفيذ هذا المشروع تقوم بنقل المياه خارج الحوض وهذا ممنوع دوليا، فهي ستقوم بتصريف المياه من خلال نفقي (أورفا) ثم إلى قنوات (حران) بعد ذلك، علما بأن تصريف هذين النفقين يبلغ 326 متر مكعب/ثانية، أي ما يزيد على ثلث تصريف النهر الذي يصل إلى 1000متر مكعب/ثانية).

أما عن الادعاءات التركية بأنهم قد حمونا من الفيضان أو عدم قدرتنا على تخزين المياه فهذا غير صحيح، فكل السدود في العالم لها صفة درء الفيضان، أما عن الطاقة التخزينية في سوريا فهي تستطيع استيعاب أي موجة فيضانية لأن بحيرة سد الفرات تستطيع وحدها استيعاب 14.1 مليار متر مكعب من الماء، عدا بقية السدود الأخرى، على العكس من ذلك، نحن نرحب بأي فيضان يأتي إلينا حتى تمتلئ سدودنا ويرتفع مستوى النهر ويعم الخير على سوريا والعراق ولكن الذي يحدث عكس ذلك تماما، وسوف أضرب مثالاً على ذلك بالقياسات اليومية للنهر في شهر سبتمبر الماضي وسوف ترى إلى أي مدى تتذبذب هذه القياسات وكلها تميل للانخفاض عن الحد الذي اتفقنا عليه، بل إن الأمر أكثر من ذلك، في معظم العطلات الطويلة كالأعياد وغيرها تقوم تركيا بإغلاق مجرى النهر تماما، وما يأتينا في هذه الأيام فقط هو مجموعة الينابيع الصغيرة الموجودة أسفل سد أتاتورك، وهو انقطاع ليس له مبرر لا فنيا ولا سياسيا، إنني أذكر تماما عندما حاولت تركيا أن تقطع مياه النهر لمدة يومين في 23و24 من مارس عام 1993، وقد كان لي الشرف أن أمثل بلدي وأن أذهب إلى موقع سد أتاتورك وأن أتناقش مع الفنيين هناك، وقد ادعوا وقتها أن ذلك كان لمعرفة درجة الرشح في جسم السد، وقد وضعت معهم تصورا لمعدل جريان النهر في الحد المسموح به عالميا وفنيا، ولكنهم عندما قاموا بقطع النهر بعد ذلك كان أقل بكثير من المعدل المسموح به دوليا. لقد تحدث معنا الفنيون الأتراك بصوت خافت بحيث لا تسمع حكوماتهم أنه لا يوجد أي مبرر فني لقطع النهر، الذي استمر في جريانه على مدى آلاف السنين.

ولكن ماذا ستفعل سوريا أمام كل هذه الأخطار التي تهدد مصادر المياه الرئيسية بها ؟

يقول المهندس عبد العزيز المصري: "لقد قامت سوريا بالاعتراض على مجموعة الشركات التي تقوم بتنفيذ سدي "بيرجيك" و "قرقاميش"، كما أننا نتحرك على أكثر من صعيد، لقد أرسلنا أكثر من مذكرة للجانب التركي، وكذلك تحركنا على مستوى جامعة الدول العربية من أجل بحث إمكانية موقف عربي واحد حيال هذه القضية، وكنا نأمل وما زلنا أن تستخدم الدول العربية ثقلها الاقتصادي للتأثير على الموقف التركي من أجل إيجاد حل لهذه المسألة مع كل من سوريا والعراق، وعلى المستوى الدولي فقد قمنا بإرسال العديد من المذكرات إلى البنك الدولي والمنظمات الأخرى المعنية والتي على أثرها علق البنك دعمه لمشروع (الجاب)، إننا مازلنا نحافظ على لغة الحوار مع الجانب التركي، وإذا توقف ذلك فليس أمامنا إلا اللجوء إلى محكمة العدل الدولية حسب ما ترى الحكومة من إجراءات مناسبة".

وماذا عن بعض الأموال العربية التي دفعت لتمويل مشروع الجاب، هل هذا الأمر صحيح ؟

أنا أعلم جيدا ويقينا أن بعض الأموال العربية قد دفعت لتمويل بعض المشروعات في جنوب شرق الأناضول، وأعتقد أنه قد تم خداع الجانب العربي بأن هذه لا تعدو مجرد مشروعات للتنمية الاجتماعية ولا تؤثر على حقوق كل من سوريا والعراق في المياه، ونحن نؤكد أن تمويل أي جزء من مشروع (الجاب) سوف يؤثر على حقوقنا .

ولكن يقال إن أحد أسباب عدم الوصول إلى اتفاق نهائي هو أن هناك خلافاً آخر بين سوريا والعراق حول تقسيم مياه النهر؟

هناك اتفاق وليس خلافاً، هذا الاتفاق سطر في 1989 في مدينة بغداد، ونحن والعراقيون لدينا موقف مائي متكامل ونحرص على تبادل الرأي باستمرار على مستويات مختلفة، وما أخذه العراق في تلك السنوات الماضية يزيد على الحصة التي اتفقنا عليها وهي 58% من إيراد النهر، ونحن نتبادل كل هذه القياسات بمعدل شهري.

المياه الأسيرة

ولكن ملف المياه السورية مازال مفتوحا وداميا أيضا، ففي الجنوب هناك مأساة أخرى يواجهها نهر سوري مازال أسيراً؟

لم يكن أمامنا سوى حلين، أن نتضرع للسماء من أجل المطر أو ننشب أظفارنا ونأخذ الماء الذي نحتاج إليه، وقد فضلنا الحل الأخير).هكذا قال موشى ديان في أعقاب نشوة انتصاره الكبير في حرب يونيو عام 1967، وبعد أن حصلت إسرائيل على جائزتها الكبرى في الجولان وأصبح نهر اليرموك بأكمله في حوزتها، وكان كل الذي تتحكم فيه فقط هو 10 كيلو مترات منه وليتها كانت آمنة ولكنها دوما كانت تحت وطأة النيران السورية، من تلك اللحظة وقد فقد هذا النهر الذي ينبع من الأراضي السورية ويصب في نهر الأردن هويته وتعرض لعملية من النهب المائي من جانب إسرائيل، وذكر لي المسئولون في وزارة الري السورية أنه ليس النهر فقط الذي يتعرض للنهب ولكن كل الينابيع والجداول، بل إن إسرائيل قد قامت بهدم كل الخزانات الصغيرة التي كان أهالي الجولان يقومون ببنائها لمواجهة أيام الجفاف وللقيام بري .الزراعات البسيطة، وأصدرت أمرا ألا يتم بناء أي خزان إلا بتصريح من قوات الاحتلال وحتى الآن لم تصدر تصريحا واحدا.

الأطماع الإسرائيلية في الجولان كانت أبعد من نكسة يونيو، ومنذ أن سعت المنظمة الصهيونية لإقامة دولة إسرائيل وهي تضعها في قمة أهدافها وقالت في تقريرها:( جبل الشيخ هو أبو المياه الحقيقية لفلسطين، وإذا كنا نريد لإسرائيل أن تكون لها دولة مستقرة فيجب أن يكون هذا الجبل في قبضتنا) على هذا الأساس فقد رفض المؤسسون للدولة العبرية في مؤتمر السلام الذي عقد في باريس عام 1919 أي في أعقاب الحرب العالمية الأولى أي حدود لا تكون منطقة الجولان ضمنها، ولم تكن القوات البريطانية التي كانت تفرض سيطرتها على فلسطين في هذا الوقت قادرة إلى الاستجابة لمطالبهم لأن سوريا بحدودها التي تشمل الجولان كانت تحت الانتداب الفرنسي، لقد كان العرب غائبين عن الصورة وغائبين عن الوعي بينما يتم تقسيم بلادهم بواسطة القوى المنتصرة، وبعد قيام إسرائيل بدأت على الفور التحرش بسوريا من أجل وضع يدها على مصادر المياه، وحول هذا الأمر خطوط التماس بين سوريا وإسرائيل إلى خطوط حمراء دائمة السخونة، ثم حاولت سوريا في إطار خطة عربية تقضي بحماية المياه العربية أن تقوم ببناء (سد مخيية) على نهر اليرموك وذلك لتخزين المياه القادمة من سوريا ولبنان ولكن إسرائيل قامت على الفور بتدمير كل هذه المنشآت المائية في أبريل من عام 1967 لتقضي بذلك على الجهود العربية والسورية وما لبثت الحرب أن وقعت بعد أيام قليلة ليضيع النهر بأكمله.

لذا فليس من المستغرب أن تتحول هضبة الجولان إلى منطقة استيطان إسرائيلي بصورة مكثفة، وقد أقيمت فيها حوالي 24 مستوطنة يسكنها 3500 مستوطن، ولعل هذه الأعداد قد ازدادت عند كتابة هذا المقال، وقد ترتب على هذا التهويد السريع للمنطقة أن المياه المسروقة من الأهالي لم تعد كافية، ورغم أنها قد هدمت الخزانات كما ذكرت ومنعت حفر أي آبار جديدة إلا أن ذلك لم يعد كافيا مما اضطر إسرائيل لضخ المزيد من المياه من بحيرة "طبرية"، والتكلفة المالية هنا ليست بذات أهمية مادام الهدف هو تدعيم الاحتلال ومادامت المعونات الأمريكية تسدد كل الفواتير، فالخطة الإسرائيلية كانت ترمي لإعداد الأرض من أجل توطين 50 ألفاً وهي لن تستطيع القيام بذلك إلا بالحصول على حصة أكبر من نهر الأردن تحرم الأردن من حصة المياه المخصصة له، إنها محاولة لخلق الواقع على الأرض وتحدي كل الحقوق الشرعية والقانونية لسوريا. هذا هو الوضع في الشمال كما في الجنوب، بلد عربي بين شقي الرحى، بلد علمنا مفردات القومية وكل مشاعر الوطنية، شاهد حي على الخطر الذي نتعرض له جميعا، ومقاوم وحيد لكل صنوف الضغوط الذي تحاول إخضاعه، هل يمكن أن نتخلى عنه، عن ذلك الجزء المهم من تاريخنا وهويتنا وكرامتنا، هل يمكن أن نترك سوريا عطشى؟ اللعنة علينا إن فعلنا ذلك.

 

 

محمد المنسي قنديل

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




صورة الغلاف





سوريا ومياهها المهددة





نهر بردي نهر العشق والشعر تغطيه طبقة من الطحلب الكثيف





الفرات لقاء عذب بين الماء والإنسان والحيوان





الرقة... جمال وشموخ وتفاصيل من حضارة النهر والإنسان





د. محمد أحمد نفاخ محافظ الرقة





بدو وزرع وحياة مستمرة على ضفة نهر جلب المياه من الشمال وصنع الحضارة في الجنوب





بدو وزرع وحياة مستمرة على ضفة نهر جلب المياه من الشمال وصنع الحضارة في الجنوب





بدو وزرع وحياة مستمرة على ضفة نهر جلب المياه من الشمال وصنع الحضارة في الجنوب





بدو وزرع وحياة مستمرة على ضفة نهر جلب المياه من الشمال وصنع الحضارة في الجنوب





قصر البنات واحد من أهم الآثار الإسلامية وسط الرقة





فوق تل مرتفع وسط محمية الثورة يقع هذا النصب التاريخي الذي يقال إنه مكان موقعة حطين





رقائق من الحضارة في مدينة الرصافة. آثار إسلامية وكنائس مسيحية





قلعة جعبر إحدى القلاع التي ينبت لرد الروم على حافة نهر الفرات





سد الفرات إحدى المفاخر السورية التي أقيمت لتنظيم النهر وتوليد الكهرباء





شاكر بازوعة المدير العام لمؤسسة سد الفرات





سد الفرات من الداخل والتوربينات أو العنفات الست لا تكف عن الدوران





د. عبدالسلام العجيلي الروائي الشهير وعاشق الفرات





غسل الصوف في مياه الفرات. مشهد تقليدي يقوم به البدو في شهور تبدل الصوف





فتيان الرقة بملابسهن الشعبية. طائر الشباب الجميل





فرقة الرقة للفنون الشعبية المصري مدير إدارة المياه الدولية بوزارة الري





المهندس عبدالعزيز المصري مدير إدارة المياه الدولية بوزارة الري





منسوب المياه المنخفض في بحيرة الأسد





هذا الشعب الأبي الذي يواصل صنع الحياة هل نتركه وحيداً؟