هل أصبح "تثقيف التربية" ضرورة؟

هل أصبح "تثقيف التربية" ضرورة؟

تظل قضية التعليم والثقافة هاجساً مقيماً لدى المهتمين بالعملية التربوية والثقافية بعد أن أدى غياب التكامل بين المنظومتين في بلادنا العربية إلى تخلف شامل في قطاعي التربية والتعليم، انعكس فيما بعد على كل مناحي حياتنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

"العربي" طرقت هذه القضية شديدة الخطورة في افتتاحية رئيس التحرير د. سليمان إبراهيم العسكري في حديثه الشهري المنشور بالعدد "490" سبتمبر 1999 تحت عنوان "التعليم والثقافة.. العلاقة الغائبة"، فاتحة بذلك ملفاً مسكوتاً عنه منذ فترة طويلة، رغم ما تحصده مجتمعاتنا حالياً من آثار مدمّرة بسبب إبعاد الثقافة بكل فروعها عن المدرسة والمعـهد والجامعة، والذي يتجلى فيما تشهده من عدم انضباط واستخفاف بالقوانين وتفكك للعلاقات الاجتماعية، وهشاشة في بناء مؤسسات المجتمع المدني، إضافة إلى تنامي النزعات الفئوية والقبلية والطائفية والعرقية.

هنا كان لابد من دق ناقوس الخطر قبل أن يستفحل الأمر وتسود قيم الارتجال واللامبالاة والخفة على ما سواها، ويكون حصاد "إنتاج التخلف في العملية التربوية" باهظاً للغاية على الأمة وأبنائها وأمانيهم الطامحة إلى التقدم ومواكبة عصر جديد لا مكان فيه للواقفين عند حدود تعطيل العقل وتقليد الآخرين.

في هذا الملف ثلاثة ردود وصلتنا من المختصين والمهتمين بهذه القضية في محاولة للبحث عن مخرج من أزمتنا التربوية والثقافية المزمنة.

التعليم والثقافة.. علاقة فريدة في عالمنا العربي
بقلم: موسى الصبيحي

يظن البعض أن الحديث والبحث في القضايا التربوية والتعليمية يقتصر على رجال التربية والتعليم في بلادنا العربية باعتبارهم الأكثر خبرة ودراية وقدرة على تفكيك خيوط هذه العملية المعقدة التي تحتاج إلى نوع من المتابعة الحثيثة، والمواكبة الدائبة لكل تطور في هذا الحقل أنّى كان موطنه، ولكل تجربة في هذا الميدان قد تكون ذات نتائج نافعة ويمكن الاستفادة منها بصورة ما.والموضوع الأساس هنا مرتبط بتوأمة الثقافة والتعليم، بحيث تتحقق بأسلوب تكاملي التنمية المستدامة التي باتت تؤرق مجتمعاتنا العربية على وجه الخصوص بصورة لم يعد فيها الحديث وحده مجدياً ما لم ترافقه خطط واستراتيجيات واضحة ومفهومة تحدد أهداف العملية برمتها ومراحلها المختلفة، وقبل الدخول في الحديث عن ضرورة تلازمية الارتباط المطلوب بين التعليم والثقافة حتى يصبحا ثنائياً لا مجال لانفصال أحدهما عن الآخر، أرى أن الاهتمام يجب أن ينصرف في جزء كبير منه إلى بحث علاقة الفكر بالتنمية كواحد من العناصر الإنسانية الرئيسة ذات الصلة المباشرة بالدينامية والفعل اللذين تتحرك بهما ومن خلالهما المجتمعات البشرية، وإذا كان للفكر دور في صياغة الشخصية الإنسانية عبر تشكيلها في قالب معين، فإن له دوره من بعد أيضاً في بلورة أوصاف هذه الشخصية ودفعها إلى إنجاز مهام وواجبات عملية تصب في مصلحة الفكر ذاته، ويؤثر إتمامها على الصورة الكاملة للمجتمع إن سلباً أو إيجاباً، وهذه هي إحدى أخطر نتائج الفكر التي تكشف بجلاء عن أهمية العقل البشري ودوره في صناعة المستقبل أو تدميره..!!

وحتى نكون بمأمن عن مخاطر الفكر "والمخاطر هنا نسبية، تختلف باختلاف الزمان والمكان والأشخاص والآلية المعتمدة" لابد من الإشارة إلى ضرورة إبراز العنصر البشري في المجتمع بصورته الحقيقية التي تتماشى مع مكوناته العقلية والروحية، دون تحميله بضغوط، أو وضعه في حجز مهما كانت الدواعي أو المسوغات التي قد تتراءى للبعض على أنها كذلك أو يرونها ذرائع سهلة تبرر لهم فعلتهم، وعليه فإن إطلاق حرية الفكر هي واحدة من أهم القضايا العاجلة التي تستدعيها الحالة العربية الراهنة على اعتبار أن الفكر الحر هو الوعاء الأكثر رحابة ومرونة للعطاء الإنساني، وهو المنطلق الحقيقي للإبداع والابتكار، ناهيك عن الدور الكبير الذي يلعبه الفكر في تغيير حركة المجتمعات وتطوير حياتها المعيشية في إطار القاعدة الأخلاقية التي تؤلف بين أبنائها، وتحافظ على هويتها ووجودها.إنني على يقين أن مصير مستقبل أي أمة من الأمم مرهون بمدى ومقدار حرية الفكر التي يتمتع بها أبناء هذه الأمة أو تلك، ولا تستطيع أي أمة أن تحقق التقدم التكاملي المنشود في شئونها المختلفة مالم يكن أبناؤها قادرين على إعمال فكرهم وتركيزه لصناعة مستقبلهم، ولهذا كان "ملفتيوس" يردد عبارته المشهورة: "وليست العبقرية أكثر من تركيز الذهن.." في واحدة من إشاراته إلى أهمية الفكر وحصره وتركيزه بما يمثله من محضن للعبقرية والإبداع والخروج من دائرة التقليد والاتباع في أمور الحياة العملية والعلمية.

الاهتمام الخلاّق

المؤسسات التربوية والتعليمية والثقافية في العالم العربي كله ستظل عاجزة عن تحقيق أهدافها في تطوير الإنسان العربي وتنمية قدراته العملية والعلمية ما لم تسع بجدية إلى تجسير الهوّة الكبيرة القائمة بين الجماهير العربية ذاتها والأنظمة السياسية التي تحكمها، وبمعنى آخر، لابد من إعادة النظر في العلاقة القائمة بين هذه الأنظمة والجماهير وبنائها على أسس إنسانية مصلحية عامة، تقيم وزناً حقيقياً لعقل الإنسان وقدراته وميوله كأهم عنصر في المجتمع يمثل دوره أساساً من أساسات الكيان السياسي، وركناً ركيناً فيه، ومن هنا، فإننا نفهم جيداً مقولة خافيير بيريز دي كويلار التي استشهد بها الدكتور العسكري ووردت في تقرير مركز التطوير التكنولوجي الصادر عن وزارة التربية والتعليم في القاهرة: "فتقاس التنمية في إطارها بمجموعة واسعة من القدرات تتراوح بين الحرية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والفرص المتاحة للفرد في أن يكون سليماً معافى ومعلماً ومنتجاً ومبدعاً يحترم ذاته وينعم بحقوق الإنسان"، فهذه النظرة التكاملية التي يحتاج إليها الإنسان هي أولى درجات رقي سلم الإبداع والعبقرية، إذ لا يستطيع الإنسان حصر اهتمامه وتركيز فكره ما لم يكن مهيأ لذلك على الوجه المناسب، وهو لا يملك بمفرده أن يحقق هذه التهيئة ما لم تفسح أمامه الطرق لكي يفكر بحرية وتركيز واهتمام من أجل أن يبدع ويبتكر، وكما قال الفيلسوف فيليبس بروكسل: "إن حصر الاهتمام هو أول مقومات العبقرية" فكيف والأمر إذن على غير هذه الحالة، بل على النقيض منها تماماً..!!

فإذا كنّا نريد بالفعل أن نضع أصابعنا على مواطن الوجع الحقيقي الذي تعاني منه أمتنا، فإن البداية يجب أن تنبثق عن الفهم الدقيق لاحتياجات الإنسان العربي الذي ما فتئ يبحث عن نقطة اهتمام ويفتش في القاموس السياسي العربي عن حريته التي يتطلع أن تكون حقيقية تؤهله لإطلاق فكره وتركيز اهتمامه بعيداً عن أداة التهديد أو الخوف، فالخائف المتردد المرعوب لا يمكنه أن يبدع أو يعمل عبقريته إلا في حالة واحدة فقط هي حالة النفاذ والهروب من سوط الجلادين..!!

وظيفي لا إبداعي

تكمن معضلة التعليم في العالم العربي في أنه ارتبط ارتباطاً وثيقاً بالمكانتين الاقتصادية والاجتماعية اللتين يتطلع إليهما الأفراد والجماعات، وقد أثرت هذه النظرة على بنيان التعليم ذاته بمناهجه وأساليبه وعناصره المختلفة، وليس أدل على ذلك من جيوش "المتعلمين" العرب الذين تقذفهم مؤسسات التعليم العالي كل عام وتضخهم في شرايين المجتمعات العربية، وبدلاً من أن تساهم هذه الدماء الجديدة الطازجة في تحريك الجسم بصورة أكثر حيوية ونشاطاً، ودفعه إلى ممارسة دور أكثر ريادة ومنافسة بين مجتمعات الدنيا، نرى أنها- في الغالب- باتت تشكّل ضغوطاً جديدة على الجسم، فبدل تسريع دورته الدموية، وقفت عائقاً في طريق جريان الدم في شرايينه، وأدت في كثير من الأحيان إلى إحداث تجلطات واختناقات كادت تكون قاتلة.

ولعل السبب الحقيقي الكامن وراء هذه الحالة ، يعود إلى نظرة المجتمعات والأفراد إلى التعليم على أنه سبيل لتحقيق المكانة الاجتماعية المرموقة، والوضع الاقتصادي المريح، وليس على أنه طريق للتقدم المجتمعي بصورة عامة ورفع مكانة المجتمع والأمة بين غيرها من الأمم والمجتمعات من خلال الإبداع المطلوب، والقدرة على صناعة المستقبل المشرق عبر التوأمة الأكثر أهلية للاستمرار والنجاح وهي ثنائية العلم والإيمان، وهما الأحرص على الدعوة إلى التفكير وما يمكن أن ينتجه هذا التفكير من إبداع، وما قد تتفتق عنه العبقرية الناجمة عنه من ابتكار وسبق وريادة، فالمكانة الحقيقية التي يجب أن تتطلع إليها الأجيال هي مكانة العلم من أجل العلم ومنافعه مجتمعة لا من أجل ما يحققه من منافع اقتصادية واجتماعية فردية خاصة، فالعلم والإيمان هما الوجود ذاته، والأمة التي تستطيع أن توائم بين هذين الركنين الأساسيين في الحياة تمتلك كل أسباب القوة والقدرة على تحقيق المعجزات، إذا كان ثمة معجزات يمكن تحقيقها!!

يجب أن نكون قد أهّلنا أنفسنا لدخول القرن الواحد والعشرين بالمواءمة بين هذه الثنائية المهمة، وأن تكون أساساً تستند إليه مؤسساتنا التربوية والتعليمية، في إطار التعليم على ممارسة التفكير والتأمل لأن الحفاظ على ممارسة هذا الدور المنوط بالإنسان دون سائر المخلوقات الأخرى هو حفاظ على وجودنا وطبيعتنا الإنسانية، وقد نقل عن ديكارت قول: "أنا أفكر.. إذن أنا موجود.."، ولعله من غير الصحيح إطلاقا أن تظل مؤسساتنا التعليمية والتربوية تقذف بأفواج من الموظفين، ممن تعلموا فقط من أجل أن يحظوا بوظيفة كل ما تقدمه لهم من امتيازات لا يتجاوز كرسياً ومكتباً ومرتباً شهرياً ثابتاً، ونوعاً مما يتصوره الكثير من شبابنا "برستيجاً" يحقق لهم مكانة لائقة في المجتمع!

هل التنمية مرهونة بالثقافة حقّاً..?

في تصوري أن الكثير من الكتّاب العرب لم يقدموا في معرض تناولهم لمثل هذه القضية مسوّغاً حقيقياً واضحاً للربط بين التعليم والثقافة، فارتباط التعليم بالثقافة له أكثر من تفسير ومفهوم، ولعل ما دعا العديد من الكتّاب إلى الربط بين الاثنين على وجه التحديد في إطار أحاديثهم عن التنمية وربطها بتحقيق المواءمة المطلوبة بين التعليم والثقافة، هو إيمانهم بأن المنتوج الذي ستسفر عنه الحالة الثقافية للأجيال يرتبط بمدى إحساسهم أو معايشتهم أو ممارستهم لحرياتهم، على اعتبار أن المثقف هو أكثر شعوراً بأهمية الحرية وضرورتها بالنسبة له من غيره، وأن المكبّل أو مقيد الفكر لا يملك أن يبدع أو يطوّر عبقريته إذا كان يحتفظ في رأسه بنوع من العبقرية.

دور المدرسة مهم..
فماذا عن القدرات الذايتة
بقلم: خالد البقالي القاسمي

المهتمون بفعل القراءة وعالم الكتب هذه الأيام يدركون أن استهلاك الكتاب لم يعد يلقى الإقبال الكبير نفسه الذي كان عليه في السابق، وعلى الرغم مما يبدو لنا عندما نتحدث عن النشاط التعليمي والمدرسي من أن فعل القراءة هو عبارة عن نشاط محسومة ممارسته سلفاً، بمعنى أن طلابنا وتلاميذنا يقبلون على القراءة بكل تلقائية وعفوية، فإن العكس هو الصحيح، حيث نلاحظ الطلاب والتلاميذ يبدون نفوراً من الكتب والقراءة، ويحاولون جهد الإمكان الابتعاد عن هذا النشاط التثقيفي الأساسي والضروري الذي يؤهلهم للاندماج في خضم الحياة العامة.

هنا يجب أن نؤكد أن الثقافة ترتبط بصيغة حاسمة بنشاطي التعليم والتكوين، حيث لا يمكن تحصيل الثقافة بمختلف مكوناتها وأبعادها إلا بواسطتهما، ولذلك بات من الضروري على مدارسنا العربية أن تجمع في تكوينها لطلابنا وتلاميذنا بين عدة كفايات، تربوية، وتعليمية، وتكوينية، وثقافية، ومهنية، وبذلك تستطيع مؤسساتنا تأهيل متعلمينا للدخول في الرهانات الضرورية لتدعيم أسس التنمية العربية المستديمة.

إن القراءة التي نتحدث عنها هنا هي القراءة بمعناها العام والشامل، فهي لا تقتصر على ذلك النشاط المرتبط بالمقررات والمناهج الدراسية، بل تتعداه إلى استهلاك كل أنواع المقروء المفيد في تكوين وتثقيف طلابنا، والقراءة في الحقيقة هي عبارة عن ولع فعّال، ونشاط خاص، وموهبة سامية، وهي كذلك مهارة تجعل الفرد القارئ يعمل على إدراك محتوى نص مكتوب بناء على عمليتي التأويل والفهم، لأن القراءة تبدأ عادة بتحليل شبكة الرموز اللغوية التي يتشكل منها نص من النصوص المتنوعة، وبعبارة مبسّطة إن القراءة هي تحليل الكلام الذي يوجد بثنايا النص، و "أول ما نلاحظ أن كلاماً ما لا يصير نصّاً إلا داخل ثقافة معينة، فعملية تحديد النص ينبغي أن تحترم وجهة نظر المنتمين إلى ثقافة خاصة، لأن الكلام الذي تعتبره ثقافة ما نصّاً قد لا يعتبر نصّاً من طرف ثقافة أخرى"، إن هذه الملاحظة تعتبر حاسمة في طريقة التعامل مع النص المقروء، وخصوصاً ذلك النص الذي لا يتوافر على أي فائدة آنية أو مستقبلية في حياة تلاميذنا وطلابنا، وينسحب هذا المعنى بكل وضوح وجلاء على نوعية الكتب والنصوص التي ينبغي علينا أن نوجه إليها المتعلمين، حتى تكون قراءاتهم ناجعة وفعّالة في الربط بين رفع وتيرة تعلمهم وتكوينهم، وبين درجة حصولهم على عمق ثقافي معقول يؤهلهم للمشاركة في تدبير حياتهم، والمساهمة في صنع القرار مع مواطنيهم، خدمة لبلدانهم.

إن فعل القراءة عبارة عن نسيج بنائي تساهم فيه ذات القارئ الحقيقي بكل إصرار وفاعلية، وبكل انسجام كذلك، وغالباً ما يوصف فعل القراءة هذا بأنه ليس خطيّاً، بل هو دائم التعرّج والانكسار، ويتميز بمجموعة من التحوّلات والتغيّرات، لأنه لا يسير بصيغة مستقيمة، على اعتبار أنه يكون مساوقاً لمجموعة من الأنشطة التي تتطلب التأويل، والتركيز، والفحص، والاستمرار، وهكذا نلاحظ أن فعل القراءة يحتاج إلى طاقات قوية، وقدرات عقلية عليا معقدة ومتنوعة، ولذلك فإن "القليلين من الناس فضلاً عن طلبة اللغويات ومدرسي القراءة هم الذين يدركون الممارسات العقلية المعقدة التي تشتمل عليها عملية القراءة، فبعد وقت قصير من تعلم الشخص القراءة، يستوعب العملية تماماً إلى حد أن الكلمات في الكتب تبدو كأنها اكتسبت وجوداً يماثل تقريباً الأشياء أو الأفعال التي تمثلها"، ولذلك فنحن نجد أن المفكر والمربي السويسري "جان بياجيه" قد تحدث عن مرحلة في حياة الطفل تسمى "المرحلة الواقعية الاسمية" حيث يعتقد الطفل أنه يستطيع امتلاك الأشياء عندما يصل إلى تعلم الكلمات والعلامات الدالة عليها، ويظهر جليّاً أننا عندما نعوّد المتعلمين القراءة، فإننا في الحقيقة نكون قد جعلناهم يحققون معها ألفة حميمية تدفعهم إلى تصوّر امتلاك كل ما هم بصدد قراءته.

ويجب أن نؤكد أن الطالب عندما يتعوّد القراءة، فإنه سوف يكون مساعداً لنا ولنفسه على تيسير عملية تكوينه، لأن التكوين في عمقه هو مجموعة المعارف والمعلومات والإرشادات المكتسبة في المدرسة، أو بوسائل ذاتية، وهنا يتضح لنا أن عملية تكوين المتعلمين لا تقتصر على المدرسة فقط داخل الأقسام والفصول، بل إن التكوين يرتبط كذلك، وبالدرجة الأولى، بالإرادة الطموح التي يعبّر عنها المتعلم، فيعمد إلى تدعيم تكوينه المدرسي باستثمار البدائل الممكنة والمتاحة والتي تأتي القراءة في صدارتها، ولذلك يمكننا أن نقول إن التكوين يشمل بالصيغة التي ركّزنا عليها آنفاً الجانب المعرفي، والتثقيفي، والمهاري، إن هذه المعطيات ترتبط بالتأكيد ليس فقط بالمدرسة، بل وكذلك بالقدرات والإمكانات الذاتية والخاصة التي تميز المتعلمين فيما بينهم، وهنا نستطيع أن نتحدث بكل ثقة وتفاؤل عن تلك العلاقة المتينة والمنسجمة بين المدرسة والحياة، حيث يعي المتعلم كل الوعي أنه يتعلم من أجل المدرسة، والامتحانات، والثقافة، والحياة.

إننا نستطيع بناء على هذه الطموحات التي نروم بلوغها، ونحن نعلم طلابنا وتلاميذنا، أن نشير إلى أن القراءة الهادفة والمنظمة تشكّل أحد الممكنات التي تستطيع التأثير في التكوين داخل الوسط المدرسي، هذا الوسط الذي يعرف عادة "بأنه مجموع المعطيات الخاصة بنظام معين، يستمدها من المحيط العام، وبهذا يكون الوسط المدرسي عبارة عن نظام خاص يتوافر على مجموعة من المعطيات يستمدها أساساً من محيطه الطبيعي الذي يوجد به" أي المجتمع، فيكون الوسط المدرسي بهذا المعنى نموذجاً لنظام محدد يرتبط بعلاقة واضحة مع المجتمع حيث يمكننا أن نقوم بدراسته وتحليله انطلاقاً من ثلاث صيغ:

1 ـ يحصل الوسط المدرسي من محيطه العام الذي هو المجتمع على مختلف الإمكانات المادية التي يحتاج إليها لممارسة مختلف أنشطته التعليمية، والتربوية، والتكوينية، والتثقيفية، مثل الموارد البشرية، والتجهيزات.

2 ـ يعتمد كل من المجتمع والوسط المدرسي على الآخر ضمن علاقة تعاقدية في إقامة مختلف الأنشطة التربوية والثقافية، سواء بصيغة دورية، أو في المناسبات الخاصة والعامة.

3 ـ يعتمد النشاط العام الذي يسود المجتمع والذي يتمثل في نوع التدبير والتسيير لمختلف هيئاته ودواليبه على طبيعة المنتوج الذي تتيحه "المخرجات Out Put" الخاصة التي يقصدها النظام المدرسي والتي هي في الحقيقة من تحديد المجتمع، على أساس أن نوعية الموارد البشرية والشروط والخصائص التي يجب أن تتوافر في الخريجين يتم تحديدها من طرف الجهة المكلفة تسطير سياسة التعليم داخل كل بلد عربي.

في الحقيقة إن فعل القراءة يقع ضمن هذه الصيغ الثلاث، حيث يوجد على طول الخط في مختلف العلاقات القائمة والممكنة بين الوسط المدرسي ومحيطه العام، ولكنه يظهر بصورة واضحة أكثر من خلال نوعية العلاقات التبادلية والتعاقدية بين الوسط المدرسي والمجتمع، على أساس أن المجتمع يعتبر الوسط المدرسي امتداداً طبيعياً له، باعتباره نموذجاً مصغّراً للمجتمع، فهو نسق اجتماعي يتميز بمجموعة من العلاقات المرتبطة ببعضها البعض بصيغة نسقية، ويقوم فيه كل جزء بوظائف منسجمة ومكمّلة للوظائف التي تقوم بها كل الأجزاء الأخرى.

إن فعل القراءة هو عبارة عن متغير دائم ومستمر وهو يتخلل العملية التعليمية، بحيث إن التأثير الذي يمارسه على التكوين، ومن ثمة على الوسط المدرسي رهين بعدة معطيات دخيلة أو مشوّشة، ولذلك فإنه لا يمكن أن يكون للقراءة تأثير إيجابي وفعّال إلا إذا كانت واعية، والوعي هنا ينصرف مباشرة إلى الإدراك، بمعنى أن يكون المتعلم واعياً ومدركاً بتوجيه من مدرّسيه بأن فعل القراءة هو فعل يدعو بإلحاح إلى التغيير والتطوير، وبذلك فإن على المتعلم إقامة علاقة تفاعلية بينه وبين النص المقروء، لأن المتعلم القارئ عندما يقرأ فإنه يكون في الحقيقة مشاركاً في إنتاج النص وبنائه من جديد حسب تصوّراته ومكتسباته السابقة، وفي هذه الحالة يصبح المتعلم منتجا للنص المقروء من خلال تبني معطياته وأطروحاته، هنا تكمن أهمية التدخل في توجيه أنشطة القراءة التي يمارسها المتعلمون، حتى تكون النصوص المستهلكة منسجمة مع سن المتعلمين، ومداركهم، وقدراتهم العقلية، وطاقاتهم المعرفية، لأن تلقي نص من النصوص هو الذي يشكل في الحقيقة فعل القراءة، بينما يتحدد تأثير القراءة في التكوين والوسط المدرسي ضمن النتيجة التي تشكّلها تلك القراءة في فكر وسلوك المتعلم.

إن فعل التأثير نتيجة للقراءة يدعو بالتأكيد إلى البحث عن حالة ونية القارئ، وكذلك الدوافع والمسببات التي دفعت المتعلم للقراءة، حيث أشار البعض هنا إلى ما يسمى "الاكتراث بالقراءة"، بمعنى هل يقرأ المتعلم بدافع الفضول وحب الاستطلاع؟ أم بدافع حب القراءة وتأصّلها في سلوكه؟ أو يقرأ لأن المدرس طلب منه ذلك من أجل الامتحان أو تلخيص بعض النصوص؟ أو لأنه يعي جيداً أن القراءة تشكّل رهاناً ثقافياً تمليه روح العصر؟

هذه التساؤلات تعتبر حاسمة في معرفة نية المتعلم القارئ ودرجة اكتراثه بالقراءة، حتى نستطيع ضمان إنجاح مشروعنا التربوي، والتعليمي، والتثقيفي الذي ننطلق منه حفاظاً على الطاقات وخوفاً من إهدارها فيما لا طائل من ورائه، وتتطلب هذه الاحتياطات منا بالضرورة الاهتمام بما يمكن تسميته "سيكولوجيا القراءة"، أو سيكولوجيا الزمان والذاكرة، والمقصود بهما الوقت المناسب للقراءة، والنفسية المستعدة لتقبّل وتلقي النصوص القرائية التثقيفية والتكوينية، وهنا يجب الاحتياط ما أمكن من تداخل القراءة كفعل تثقيفي مع الزمن المحدد لتلقي المقررات الدراسية، إذ يبدو أن المقررات الدراسية غير كافية تماماً لتكوين المتعلمين، ولابد من دعمها بأنشطة أخرى متنوعة ومن بينها القراءة الهادفة والمفيدة، ولكن الفصل بين النشاطين والعملين أمر جوهري من أجل تعويد المتعلمين التنظيم والتنسيق في حياتهم المدرسية، تمهيداً لممارسة السلوك نفسه في حياتهم الخاصة والعملية، ولذلك تظل القراءة دائماً رهينة بأوضاع وأدوار محددة ومعينة.

إصلاح العملية التربوية.. بداية العلاج
بقلم: محمد الروبي عبد الوهاب

أطراف هذه القضية الشائكة أربعة: المجتمع والمتعلم ودار العلم والمعلم، فما دور كل طرف من هذه الأطراف؟، وما الاتجاه الذي يسير فيه الآن، والاتجاه الذي يجب أن يكون عليه، حتى نوفق بين هذه الأطراف كي نصل إلى الهدف الذي نسعى إلى تحقيقه؟

لذلك فإننا نسأل أولاً: هل المجتمع الذي نعيش فيه يريد للمتعلم أن يصل للدرجة الثقافية التي يأملها التربويون منه؟ أم أنه يريد شخصاً يملأ الفراغ ويسير على وتيرة السابقين ويطبّق قوانين ولوائح أكل عليها الزمن وشرب؟.

إذا أجبنا عن هذا التساؤل بكل صدق نكون قد بدأنا الخطوة الأولى للعلاج، فالمجتمع لا يريد إلا إنساناً يسعى طيلة الشهر كادحاً كادّاً لكي يحصل في نهايته على راتب يستطيع أن يعيش منه هو وأسرته، دون النظر لكونه مبتكراً أو عبقرياً، بل أحياناً قد تؤدي عوامل أخرى إلى دفن أصحاب المواهب والقدرات الخلاقة، وقد يؤدي نبوغ الفرد إلى فصله وتسريحه من العمل، وقد يتطور الأمر إلى اتهامه بالجنون وإيداعه في أقرب مصحة للأمراض العقلية، فالمجتمع الذي يرفض كل جديد ولا يتقبل الأفكار النابغة ويرى فيها مخالفة للسنن التي سار عليها الأقدمون سنوات طويلة، كيف يشجع الثقافة والمثقفين؟

إن البداية تكون بإصلاح نوعية معينة من أفراد المجتمع وإعدادهم لمستقبل التغييرات التي سوف تحدث حتى لا نصطدم بالرفض من جانبهم حين نصل إلى مرحلة التطبيق العلمي والعملي.

فمن الآن يجب أن تقوم أجهزة الإعلام المختلفة بالتوعية اليومية لأفراد المجتمع وحثّهم على تبني الأفكار الجديدة، وتشجيع المواهب والنابغين، وإعداد المؤسسات التعليمية الخاصة لتشجيع الأفراد وإفهامهم أن ما نُقْدم عليه هو الإصلاح بعينه، أي زرع الأفكار الجديدة محل الأفكار القديمة التي لا تناسب ما نصبو إليه، وهو ما يتطلب تضافر الجهود، وإضافة إلى ما سبق فإن هناك مجتمعات ليس لديها الاستعداد لتقبّل النصيحة أو حتى الإصغاء لفكر جديد، بل يتعدى الأمر إلى أبعد من ذلك، حيث يتطور إلى هجوم ضار ينجم عنه إجهاض الفكرة قبل ولادتها، ومن ثم النكوص من جديد.

أما عن المتعلم وهو الهدف الأساسي والرئيسي الذي قامت من أجله العملية التعليمية، فيجب علينا أن نعدّه الإعداد الجيد منذ نعومة أظفاره، ونبدأ بالمنزل وقبل دخوله المدرسة، ثم يتدرج إدخال المواد الثقافية مع باقي المواد على أن تعمل المؤسسات وكل من يهمه الأمر على تدعيم هذا الاتجاه، ويقوم فريق عمل بإعداد منظومات يومية وأسبوعية وشهرية وسنوية، وتوضع خطة قصيرة الأجل وخطة طويلة الأجل، وتقوم بإجراء المسابقات وترصد لها الجوائز، ويتم إضافة درجات وعلامات تمييز للنابغين وتكون لهم الأولوية في الأماكن الراقية لقيادة المجتمع ومنحهم مكافآت مادية لتشجيعهم على صقل مواهبهم.

وتقدم الجهات المعنية الدعم والعون الكافي للمتعلم، وبهذا نكون قد وصلنا إلى بداية الطريق إلى الحل الجذري.

وعن دور العلم على اختلافها واتجاهاتها، فيجب أن تكون معدة إعداداً جيداً يسمح بالابتكار والإبداع وتشجيع المثقف، وتخصص حصص ومحاضرات وندوات لحث الطلاب على السير في الاتجاه السليم، لذلك يجب أن تزوّد بكل ما تحتاج إليه من الوسائل العصرية التي تواكب الجديد في كل مجال، فليس من المعقول أن يدرس الطلاب في بلاد حولنا مبادئ الحاسب الآلي منذ بداية إدراكهم، في الوقت الذي يتم فيه تعليم أولادنا على أصابع اليد، ويجب توفير المكان الجيد المناسب والملائم، فمن غير المعقول أيضاً أن يجلس التلميذ مرتعداً من البرد بسبب عدم وجود زجاج للنافذة، ونطلب منه أن يركز ليبدع! فالمكان المناسب المعد والمجهز بجميع الأجهزة والأثاث هو أساس العملية الثقافية.

والعنصر الرابع وهو المعلم، فيجب إعداد جيل من المعلمين يكونون على اقتناع تام وإيمان كامل بالدور المنوط بهم فعله، لأن فاقد الشيء لا يعطيه. ويعطى كل الصلاحيات التي تساعده في عمله لإعداد ذلك الجيل الذي نريد منه أن يمتطي صهوة الجواد ليحلق ملتحقاً بركب الحضارة، ومن أجل ذلك نرى ضرورة:

- زيادة ميزانيات البحث العلمي وربط مراكز الأبحاث بالشركات والمصانع لتتولى الإنفاق والتمويل والمساهمة في دعم الأنشطة الثقافية والعلمية.

- تغيير محتوى الأنظمة التعليمية والمناهج بحيث تدعم الثقافة والابتكار بدلاً من الحفظ.

- عدم استيراد نماذج غربية غريبة عن المجتمع، لأن ما يصلح لمجتمع قد لا يصلح لمجتمع آخر، مع الوضع في الاعتبار حاجات وميول ورغبات وواقع المجتمع الذي نعيش فيه، وتطويع الظروف المحيطة بنا لتتوافق مع معطيات ذلك النظام.

- خلق جو تعيش فيه الثقافة، وذلك بعدم تكميم الأفواه، وسجن الأفكار الخلاقة وأصحابها وإتاحة الفرصة لكل مبدع لأن يدلي بدلوه دون عقاب أو محوه من الحياة ومجازاته بجزاء "سنمار".

- يجب ربط الجامعات والمجتمع بشكل وثيق.

 



أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات