صعود وهبوط الكينيزية العربية

صعود وهبوط الكينيزية العربية

ملامح من قرن مضى

كان القرن العشرون بالنسبة لاقتصادات الوطن العربي قرناً حافلاً بالتغيرات والتطورات، والنكسات أيضاً.

في مطلع هذا القرن كانت معظم البلاد العربية مستعمرات أو شبه مستعمرات أو بلاداً تابعة، بعد أن تم تقسيم المنطقة بين الدول الاستعمارية "بريطانيا وفرنسا" في أعقاب الحرب العالمية الأولى وما تلاها من تغيير في موازين القوى النسبية الفاعلة في العالم. وفي مطلع هذا القرن، اتسمت الاقتصادات العربية بالخصائص النمطية للاقتصاد المتخلف والتابع، حيث تمكنت الدول الاستعمارية من تغيير هذه الاقتصادات وتكييفها لخدمة مصالحها، فتحوّلت الهياكل الإنتاجية العربية إلى إنتاج المواد الخام الأولية- زراعية كانت أم منجمية- في ضوء نمط جائر لتقسيم العمل الدولي الذي فُرض عليها آنئذ وظلت تعاني منه، بهذا القدر أو ذاك، حتى كتابة هذه السطور. وكانت حصيلة صادرات المواد الخام تستخدم في تمويل الواردات المختلفة التي تحتاج إليها البلاد العربية "سلع استهلاكية ووسطية وقليل من السلع الإنتاجية"، وبهذا الشكل استطاع المستعمر أن يحوّل بلادنا العربية إلى بلاد تنتج مالا تستهلك وتستهلك مالا تنتج، كما تحولت الاقتصادات العربية إلى منافذ مهمة لتصريف البضائع الأجنبية وإلى مجالات استثمارية مربحة لرءوس الأموال الأجنبية التي كانت تحقق في ذلك الحين معدلات عالية للربح تفوق تلك المعدلات في بلادها الأم، وقد تمكن المستعمر آنذاك من تطويع الاقتصادات العربية وإدارتها بشكل مباشر لخدمة أطماعه ومصالحه، فلجأ إلى عقد العقود والامتيازات الجائرة مع حكومات تلك الآونة لاستغلال الثروات العربية، كما تدخل لصياغة القوانين والأطر المؤسسية التي تمكنه من السيطرة على مقدرات البلاد العربية، وتحكم في النظام المصرفي والنقدي، وفي قطاع التجارة الخارجية، بل وفي طرق التصرف في حصيلة النقد الأجنبي التي يحققها قطاع الصادرات، كما تولى الأجانب الإدارة والإشراف على مختلف مرافق الدولة، وحينما قامت الحرب العالمية الأولى "1914- 1918" والحرب العالمية الثانية "1939- 1944" تمكن المستعمر من إجبار الاقتصادات العربية في تمويل جزء من كلفة هاتين الحربين، رغم أنه لم يكن للبلاد العربية فيها ناقة أو جمل كما يقولون. وفي ضوء ذلك، كان من الطبيعي أن تتخلف الاقتصادات العربية بعد أن نهبت ثرواتها واستغلت مواردها لخدمة أهداف التراكم والنمو للبلاد الاستعمارية.

وحينما تحررت البلاد العربية، وحصلت على استقلالها السياسي بعد الحرب العالمية الثانية في ضوء تعاظم حركة التحرر الوطني العربية، وتولت أنظمة الحكم الجديد مقاليد الأمور فيها، سرعان ما اتضحت ضخامة حجم الكارثة التي خلّفها الاستعمار للاقتصادات العربية، وهو ماتجسّد، ببساطة شديدة، في الفقر والمرض والجهل، فضلاً عن الركود الاقتصادي والتخلف الشديد لقوى الإنتاج والتبعية الاقتصادية الجائرة للخارج.

وكان من الطبيعي، والحال هذه، أن تتجاوب أنظمة الحكم الجديدة مع الأماني والتطلعات الوطنية للجماهير العربية نحو رفع مستوى معيشتها من خلال العمل على زيادة الدخل الفردي وتوفير فرص العمل المنتج وتقديم الخدمات الاجتماعية الضرورية "التعليم، الصحة، الثقافة، الإسكان، المرافق العامة"، وسرعان ما اتضح، أن ذلك لن يتأتى إلا عبر حشد وتعبئة الموارد والممكنات الوطنية وترشيد استخدامها وتوزيعها وفق نظام جديد للأولويات يعكس التفضيلات الاجتماعية الجديدة لمرحلة ما بعد الحصول على الاستقلال السياسي، وقد أعطت الجماهير العربية تأييدها لتلك الأنظمة الجديدة، وأسبغت عليها الشرعية على أرضية الآمال التي علقتها عليها للارتفاع بمستوى معيشتها عبر تحقيق التنمية والعدل الاجتماعي.

وقد شهدت حقبة الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين زخماً كبيراً في الاجتهادات الفكرية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بشأن كيفية تجاوز مرحلة التخلف وبناء التنمية والارتفاع بمستوى معيشة المواطنين، وكان أبرز الاتجاهات التي ظهرت في تلك الآونة تتمثل فيما يلي:

1 ـ ضرورة السيطرة الوطنية على الثروات والموارد العربية التي كانت واقعة تحت سيطرة المستعمر، وهو ما تحقق من خلال تأميم النفط وقناة السويس، وتأميم البنوك وشركات التأمين الأجنبية في كثير من البلاد العربية، وتحقيق السيطرة الوطنية على النظام النقدي والمصرفي عبر إنشاء البنوك المركزية الوطنية ومنحها سلطة وضع ومراقبة السياسة النقدية والائتمانية، وتأسيس وتطوير مختلف وزارات وأجهزة الدولة للتمكّن من تشغيل وتسيير أمور الاقتصاد الوطني.

2 ـ الاتجاه نحو وضع برامج وخطط للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، مع إعطاء دور رائد للدولة في وضع تلك البرامج والخطط والاضطلاع بتنفيذ جانب كبير منها من خلال الحكومة والقطاع العام بعد ما اتضح الضعف الشديد الذي كان عليه القطاع الخاص آنذاك، وعدم قدرته بالتالي على القيام بمهام التنمية.

اقتصادات السوق الحرة

ويهمني أن أتوقف قليلاً عند النقطة الثانية، فحينما طرحت قضية تجاوز التخلف وبناء التنمية، ساد في تلك الفترة في غالبية البلاد العربية، سواء في البلاد التي رفعت رايات الاشتراكية العربية أو في البلاد التي التزمت باقتصادات السوق وبالحرية الاقتصادية، ساد ما يمكن أن نسميه بالفكر الكينزي العربي، وهو الفكر الذي كان يعطي للحكومة دوراً مهماً، بل ورائداً، في توجيه دفة النشاط الاقتصادي، وظل سائداً لمدة تقرب من ثلاثة عقود "1945- 1975"، والحقيقة أن ذيوع الفكر الكينزي وانتشاره في البلاد العربية لم يكن مصادفة تاريخية عابرة، أو مجرد مجاراة لموضة فكرية، بل كان تجاوباً مع روح عصر كامل، يمكن أن نطلق عليه "العصر الكينزي".

فقد ارتبطت السياسات الاقتصادية التي طبّقت في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية بالبلدان الصناعية بالفلسفة الاقتصادية التي دعا لها عالم الاقتصاد البريطاني الشهير جون مانيرد كينز J.M.Keyens، وهي الفلسفة التي تجسّدت في كتابه المعروف: "النظرية العامة للتوظف والفائدة والنقود" الذي صدر في عام 1936. وفي هذا الكتاب، الذي يعد ظهوره بمنزلة ثورة في علم الاقتصاد في القرن العشرين في رأي الكثيرين، استطاع كينز أن يقلب المفاهيم والنظريات الاقتصادية التي كانت محل قبول عام ومطلق لدى الاقتصاديين وصنّاع السياسة الاقتصادية.

ففي هذه النظرية، أثبت كينز بأدواته التحليلية، وعلى خلاف ما كان يؤمن به الفكر الكلاسيكي والنيوكلاسيكي، أن النظام القائم على حرية السوق والمبادرات الفردية يمكن أن يتعرض لأزمات اقتصادية كبرى على غرار ما حدث في أزمة الكساد الكبير "1929- 1933" بسبب التقلبات التي تحدث في الطلب الكلي "الطلب على الاستهلاك والطلب على الاستثمار"، ومن هنا دعا لضرورة تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية باعتبارها الجهاز التعويضي الوحيد الذي يمكن له أن يعوّض فشل السوق ويواجه هذه التقلبات، ولهذا أوصى كينز بضرورة إعطاء الحكومات دوراً فاعلاً في النشاط الاقتصادي، وإلا فإن الكوارث الاقتصادية ستحدّق بالنظام الرأسمالي وربما تهدد بزواله. وبذلك أعطى كينز "صك غفران" لخطيئة تدخل الدولة، وهي الخطيئة التي لم تكن تغتفر لدى الاقتصاديين الكلاسيك والنيوكلاسيك ولدى الليبراليين عموماً.

ودون الدخول في تفاصيل كثيرة، فإن كينز قد توصل إلى نتيجة مهمة، وهي أن الاقتصاد الرأسمالي حينما يدخل في مرحلة الكساد الدوري يعجز أن يولد من ذاته، وبطريقة آلية سبل انعاشه، وللخروج من هذه المرحلة، اقترح كينز مجموعة من السياسات التي تنفذها الحكومة والتي من شأنها العمل على حقن الاقتصاد الوطني بجرعات منشّطة من الإنفاق لزيادة حجم الطلب الكلي الفعّال، فدعا إلى تخفيض سعر الفائدة لزيادة الحافز على الاستثمار، وزيادة حجم الإنفاق العام في مجال الخدمات والأشغال العامة وتوظيف العمالة العاطلة، وتخفيض الضرائب حتى يزيد حجم الدخل المتاح للإنفاق للأفراد، كما دعا إلى تطبيق سياسة إعادة توزيع الدخل لصالح ذوي الدخل المحدود الذي يرتفع ميلهم للاستهلاك، ومن ثم سيسهمون في زيادة الطلب الكلي، أما حينما يدخل الاقتصاد الوطني مرحلة التوظف الكامل Full Employment وتلوح في الأفق مخاطر التضخم Inflationُ فإنه دعا إلى تطبيق عكس السياسات السابقة.

وعقب ظهور النظرية العامة لكينز، حدث جدل فكري ضخم حولها، انتهى بانتصارها على المستوى الأكاديمي "بزيادة عدد أنصار كينز في الجامعات ومراكز البحوث العلمية" وعلى المستوى التطبيقي، حيث تبنّت غالبية البلدان الصناعية هذه السياسات التي أوصى بها كينز، وكان من نتيجة ذلك ظهور ما عرف بدولة الرفاه في الولايات المتحدة الأمريكية وظهور نظم الاشتراكية الديمقراطية في كثير من دول غرب أوربا، وقد قام أنصار كينز بإحداث تطور كبير في الفكر الاقتصادي في عالم ما بعد الحرب استناداً إلى ما جاء في النظرية العامة من أفكار ونتائج، وبذلك كسب علم الاقتصاد كثيراً من هذا التطور.

وتجدر الإشارة هنا، إلى أن البلاد النامية لم تكن بعيدة عن التأثير الكينزي، حقاً، إن النظرية العامة لكينز لم توضع أصلاً للبلاد النامية، وإنما وُضعت أساساً لتفسير وعلاج الأزمات الدورية التي تجتاح النظام الرأسمالي المتقدم، ومن هنا فإن الخلفية الأساسية في التحليل الكينزي هي افتراض وجود اقتصاد رأسمالي متقدم، مشكلته الأساسية، كما يراها كينز، تتمثل في التقلبات التي تحدث في مستوى الطلب الكلي الفعّال في مواجهة الطاقات الإنتاجية القائمة، ولهذا نراه يعطي ثقلاً كبيراً في تحليله لمكوّنات هذا الطلب، ويوصي بكيفية زيادة هذا الطلب في فترات الانكماش، وبكيفية خفض هذا الطلب في فترات التضخم، أما البلاد النامية، فإن مشكلتها الأساسية تتمثل في قصور حجم طاقاتها الإنتاجية، أي قصور الحجم الحقيقي لعرض السلع والخدمات، وبالتالي ما أبعد جوهر النظرية العامة لكينز عن أحوال البلاد النامية.

قوة التأثير الكينزي

هذا صحيح، ولاخلاف عليه. ومع ذلك، فإن قوة التأثير الكينزي على البلاد النامية، ومنها البلاد العربية، قد تحقق عبر عاملين أساسيين، هما:

العامل الأول، عبر جيل الأساتذة الذين تعلموا في الجامعات الغربية في حقبة الأربعينيات والخمسينيات والستينيات، وهي الحقبة التي كان الفكر الكينزي يسجل فيها قمة انتصاراته وذيوعه، وحينما عاد هؤلاء الأساتذة لبلادهم كانوا متأثرين بهذا القدر أو ذاك، بالنظرية العامة لكينز، وهو الأمر الذي انعكس في بحوثهم ومؤلفاتهم الجامعية، والحقيقة، ان كاتب هذه السطور ينتمي إلى جيل الستينيات "تخرجت في الجامعة عام 1936" وما زال يتذكر الكثير من المحاضرات في عدد كبير من المقررات التدريسية التي كانت تتناول الفكر الكينزي بالشرح والتحليل. وبصفة عامة، انه كان من النادر أن تخلو الدراسة في كليات التجارة والاقتصاد والعلوم السياسية والحقوق من مقرر تدريسي عن النظرية العامة لكينز، أو على الاقل عرض لوجهة نظر كينز في الكثير من القضايا والموضوعات المطروحة للدراسة. بل إنني أتذكر أن المرحوم أ.د. جمال سعيد كان يدرس النظرية العامة لكينز على مدار عشرين سنة كمقرر تدريسي مستقل في كلية التجارة بجامعة عين شمس. وكان من أشد المتحمسين والمفسرين للكينزية وإلى الحد الذي يجعلني أن أطلق عليه "كينز المصري" تشبهاً بالتسمية التي أطلقت على الاقتصادي الامريكي الفن هانس A. Hansen الذي كان متحمساً لكينز فأطلق عليه زملاؤه اسم : كينز الأمريكي.

أما العامل الثاني، أو القناة التي انساب منها التأثرالكينزي على البلاد النامية والعربية فقد تمثلت في تأثير كينز على الفكر الاجتماعي والسياسي والتخطيطي، حيث نهل هذا الفكر، بهذا القدر أو ذاك، من النظرية العامة لكينز، في أعقاب تحرر هذه البلاد وحصولها على استقلالها السياسي.

فعلى مستوى الفكر الاجتماعي والسياسي، كان من المقبول في هذه البلاد الأخذ بنظام الاقتصاد المختلط Mixed Economy الذي يوجد فيه القطاع الخاص مع القطاع العام وتلعب فيه الدولة دوراً مهماً، على نحو ما أوصت به النظرية العامة لكينز. كذلك كان من المقبول أن تتبنى أنظمة الحكم الجديد أهداف تحقيق التوظف الكامل ومكافحة البطالة وتحقيق الاستقرار الاقتصادي وإعطاء الدولة والاستثمارالعام والانفاق الحكومي أدواراً مهمة في تحقيق النمو الاقتصادي ومواجهة فشل السوق في ضمان دفع عجلات التنمية والارتقاء بمستوى المعيشة. وهنا قدمت النظرية العامة لكينز مختلف الحجج والأسانيد للدفاع عن تلك الأهداف وسياسات تحقيقها. وعلى مستوى الفكر التخطيطي فإن تأثير كينز كان واضحاً أيضاً في هذه البلاد. فالأخذ باسلوب التخطيط الاقتصادي كأداة للاسراع بتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وهو ما كان شائعاً في هذه البلاد، كان يعني، في التحليل الأخير، حصر الامكانات الوطنية، ورسم الاهداف المجتمعية، واختيار المشروعات التي تحقق تلك الاهداف وتحديد السياسات الكلية التي تمكن من الوصول إلى تلك الأهداف. وفي ذلك كله، كانت النظرية العامة لكينز تمد المخطط بالعديد من أدوات التحليل والسياسات المناسبة، وذلك بغض النظرعن طبيعة النظام الاقتصادي السائد. كما كان تأثير كينز واضحاً في مناهج إعداد وتصميم خطط وبرامج التنمية التي أعدتها البلاد العربية في تلك الآونة. حيث اعتمدت تلك المناهج على نماذج النمو ونماذج التوازن العام الكينزية "مثل نموذج هارود ودومار". كما أن نظرية الطلب الكلي الفعال عند كينز بتركيزها على الارتباط الحاصل بين الاستهلاك والاستثمار على المستوى الاقتصادي الكلي قد أمدت نظرية التخطيط والمحاسبة القومية بأداة قوية لتحليل علاقات التشابك الفني والقطاعي، وهي من الأمور التي استفاد منها المخطط في البلاد النامية والعربية.

ومهما يكن من أمر...

فإن العصر الكينزي الذي امتد فيما بين 1945- 1975 "تقريباً" تميز بأنه كان العصر الذهبي لمختلف المجموعات الاقتصادية في العالم آنذاك، تستوى في ذلك مجموعة البلدان الصناعية الرأسمالية، ومجموعة الدول التي كانت اشتراكية، ومجموعة البلاد النامية. فخلال تلك الفترة، ارتفعت معدلات النمو الاقتصادي، وانخفضت معدلات البطالة والتضخم، واتجهت مستويات المعيشة- عموماً- نحو الارتفاع في هذه المجموعات الثلاثة من الدول. والحقيقة، أن تطبيق السياسات الكينزية، وبخاصة في البلدان الصناعية والبلدان النامية، كان مسئولاً، ضمن عوامل أخرى، عن هذا النمو المزدهرالذي تحقق في تلك الفترة.

وتمضي الأيام والسنون...

ويدخل العالم ابتداءً من النصف الأول من السبعينات في أزمة طاحنة. فقد سادت الفوضى وقوى الاضطراب في الاقتصاد العالمي بعد انهيار نظام النقد العالمي وارتفاع أسعار النفط وتزايد نزعة الحماية، ونمو المديونية الخارجية للبلاد النامية. وظهرت في مجموعة البلدان الصناعية الرأسمالية أزمة الركود التضخمي StagFlation أي ظهور التضخم والركود في آن واحد. وكان ظهور هذه الأزمة مقترناً أيضاً بتزايد عجز الموازنة العامة وتردي معدلات نمو الإنتاجية، وظهور الطاقات العاطلة.

تدخل الدولة

وآنذاك كان تفسير هذه الأزمة في ضوء الأدوات التحليلية التي قدمتها النظرية العامة لكينز محيراً. حيث لم تستطع هذه الأدوات أن تفسر حدوث تلك الأزمة. كما عجز أنصار كينز عن تقديم سياسات فاعلة لمواجهة هذه الأزمة. وهنا دخلت الكينزية، ولأول مرة، في محـنة شديدة. وتعـرضت لنقد لا هوادة فيه من جانب عدد بارز من الاقتصاديين "فريدريش فون هايك، وميلتون فريد مان ومدرسة شيكاغو.. وغير ذلك" الذين رأوا أن سبب الكوارث التي تعرض لها النظام الرأسمالي المعاصر "البطالة، التضخم، الركود،.. وغير ذلك" تعود الى تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي، وهو التدخل الذي كان كينز قد برره ودعا إليه بقوة. وانهال النقد بعنف شديد على كينز وأنصاره. وهنا تنوعت الأسلحة التي أشهرت في وجه الكينزية. ونكتفي هنا بالإشارة إلى بعضها.

فهناك من رأى ان كينز كان يستهدف تقويض النظام الرأسمالي، وأنه كان اشتراكياً، مستندين في ذلك إلى مقترحاته الخاصة بضرورة تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي وأهمية سياسات إعادة توزيع الدخل للخروج من أزمة الكساد الدوري للنظام الرأسمالي.والحق، أنه ما أبعد هذا النقد عن الحقيقة. فقد كان الرجل صريحاً تماماً في دعواه، وأنه يمقت الاشتراكية. وهدفه الأساسي هو إنقاذ الرأسمالية من تدميرنفسها. كما أن مقترحاته لم تتطلب لا ملكية عامة لأدوات الإنتاج، ولا تجريد الرأسماليين من ملكيتهم، ولا خطة مركزية تفصيلية تطبق على الاقتصاد الوطني بكامله. كما أن بعض مقترحاته التي أوصى بها لزيادة حجم الطلب الكلي الفعال، وكانت تصب في زيادة دخول الفقراء ومحدودي الدخل لم يكن الهدف هو تحقيق العدالة الاجتماعية أو تخفيف المعاناة عن كاهل هؤلاء، أو لتحسين صورة توزيع الدخل القومي، وهي من الأمور العزيزة لدى الاشتراكيين، بل كان دافعه من ورائها هو الحرص على بقاء النظام الرأسمالي واستمرار حيويته. فسياسة إعادة توزيع الدخل التي أوصى بها كعلاج جزئي للخروج من أزمة الكساد، والتي تعني الأخذ من الأغنياء لتعطي للفقراء، قد بررها على أساس اقتصادي بحت. ذلك أنه أثبت أنه لدى الفقراء ميل أكثر لأن ينفقوا، وميل أقل لأن يدخروا، بالمقارنة مع الأغنياء. ولهذا فالدينارحين يؤخذ من جيوب الأغنياء ليعطى للفقراء فإنه سيوضع في دورة الانفاق مما يرفع من حجم الطلب الكلي الفعال، في حين أنه يتراكم لدى الأغنياء تحت حجة تفضيل السيولة Lequidity Preference وبعبارة أخرى، اراد كينز من ذلك أن يقول لنا، إنه كلما قلت درجة عدم المساواة في توزيع الدخل، قل ميل المجتمع للادخاروبالتالي عظمت قدرته على تجنب الأزمات.

وعلى أية حال، فقد نشب صراع فكري ضار بين الكينزيين والليبراليين الجدد في السبعينيات وانتهى بهزيمة الكينزية وانتصار الليبرالية الجديدة التي جرى تطبيقها بشكل كاسح في البلدان الصناعية الرأسمالية. وقد انطوت الليبرالية الجديدة على توجهات مغايرة تماماً للكينزية، سواء في جهازها النظري التفسيري أو في سياساتها الاقتصادية التي اقترحها للخروج من أزمة الركود التضخمي. ومن أهم معالم هذه السياسة : الدعوة لتحريرالأسواق وتقزيم حجم الحكومة والتخلي عن أهداف التوظف الكامل ودولة الرفاه، وخصخصة مشروعات القطاع العام وتخفيض الضرائب على الأغنياء وزيادتها على الفقراء، والانطلاق نحو العولمة أو الكوكبية Globalization اي تكسير كل العوائق التي تحول دون اقتحام البضائع ورءوس الأموال للأسواق الخارجية. وسرعان ما تبنت المنظمات الاقتصادية الدولية الليبرالية الجديدة "صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ثم منظمة التجارة العالمية WTO ".

وبرغم أن هزيمة الكينزية وبروز الليبرالية الجديدة كان، في الحقيقة، شأناً خاصاً بالبلدان الصناعية الرأسمالية وانعكاسات لمشكلات هذه البلدان وللمصالح المتصارعة للقوى الاجتماعية فيها، فإنه- ويا للدهشة- سرعان ما هزمت الكينزية في البلاد العربية أيضاً وبرزت فيها الليبرالية الجديدة، وكأننا إزاء حالة فريدة للصوت والصدى. وكان ذلك فيما أتصور، راجعاً الى تأثير عاملين أساسيين هما :

أولا: اختفاء جيل الكينزيين العرب، إما بحكم كبر السن أو التقاعد أو الوفاة، أو الابعاد عن مراكز التأثير الفكري والسياسي، في الوقت الذي برز فيه جيل جديد من الاقتصاديين الليبراليين العرب الشباب، الذين كانوا قد تلقوا تعليمهم في البلدان الصناعية الرأسمالية في حقبة السبعينيات والثمانينيات. وهو جيل تأثر، أثناء دراسته بالخارج، بتعاليم الثورة المضادة للكينزية وبالاتجاهات الليبرالية الجديدة "مثل مدرسة التوقعات الرشيدة، اقتصادات جانب العرض، المدرسة النقودية Moneytarism ومبادئ مدرسة شيكاغو.. وغير ذلك". وقد باشر هذا الجيل تأثيره في الجامعات ومراكز البحث العلمي، وقام بتعليم الأجيال الجديدة المبادئ التي تعادي فكرة التدخل الحكومي ودولة الرفاه ويدعو لنوع من الليبرالية أشد تطرفاً مما هو موجود بالبلاد العربية.

ثانياً: استفحال الازمة الاقتصادية في المنطقة العربية تحت تأثير تردي أسعار النفط والمواد الخام التي تصدرها البلاد العربية، وتحت تأثير فشل أنماط التنمية وتفاقم مشكلة المديونية الخارجية. وقد عبرت هذه الأزمة عن نفسها في انخفاض معدلات الادخار والاستثمار والنمو الاقتصادي، وتزايد العجز في الموازنة العامة للدولة، وارتفاع معدلات التضخم والبطالة.

وتزايد العجز في موازين المدفوعات، وتدهور الاحتياطيات الدولية وسعر الصرف.. إلى آخره. وانتهى الأمر بأن تذهب البلاد العربية المدينة إلى نادي باريس طلباً لإعادة جدولة ديونها الخارجية. وكان ثمن ذلك، هو الانصياع لتطبيق برامج التثبيت الاقتصادي والتكيف الهيكلي، وهي البرامج التي ترتكز أساساً على معاداة الكينزية والتحيز بقوة لليبرالية الجديدة. أما في البلاد العربية النفطية فقد جرت فيها أيضاً محاولات لتحجيم دور الدولة في النشاط الاقتصادي وتبني كثير من السياسات الليبرالية.

وتجدر الإشارة هنا، إلى أنه قد برزت في البلاد العربية في العقدين الماضيين بعض الشرائح الاجتماعية التي استفادت من تحجيـم دور الدولة في النشاط الاقتصادي وإطلاق العنان للسيـاسات الليبرالية الجديدة وعولمة الاقتصاد الوطني. وهذه الشرائح هي التي تنتقد بشدة تدخل الحكومة في الحياة الاقتصادية ودورها الاجتماعي وتصور "الدولة" على أنها العدو رقم واحد للتقدم الاقتصادي والاجتماعي، وهو تصور فوضوي وعبثي.

هزيمة الكينزية

ومهما يكن من أمر... فإنه بالرغم من مضي ما يقرب من ربع قرن على هزيمة الكينزية وتجريب السياسات الليبرالية الجديدة، فإن أحداً لا يستطيع أن يزعم نجاح تلك السياسات. فالبلدان الصناعية الرأسمالية ما زالت تعاني من ارتفاع معدلات البطالة ووجود الطاقات العاطلة وبطء النمو الاقتصادي والتفاوت الصارخ في توزيع الدخل والثروة وتهميش الطبقة العاملة والطبقة الوسطى. وفي الدول التي كانت اشتراكية والتي هرولت نحو تطبيق السياسة الليبرالية بعد التحول العاصف الذي حدث فيها، تردت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية إلى الحضيض. أما على صعيد البلاد النامية، فقد زادت الأمور فيها سوءاً، وارتهنت مواردها ومستقبل تنميتها لصالح دفع الديون الخارجية. كما زاد تهميشها في الاقتصاد العالمي وزادت الفجوة بينها وبين البلدان المتقدمة. وعلى صعيد الاقتصاد العالمي أفرزت الليبرالية الجديدة وسياسات العولمة فوضى شديدة في نظام النقد الدولي، وتزايد خطر المضاربات المدمرة في الأسواق النقدية، وزادت الأزمات المالية والنقدية في مختلف أنحاء المعمورة، وتفاقمت أزمة المديونية العالمية.

ويبقى في النهاية أن نشير إلى أن العالم وهو يودع القرن العشرين سيدخل القرن القادم وهو محمل بالآثار السلبية التي نجمت عن هزيمة الكينزية وانتصار الليبرالية، وأن ترك تلك الآثار لكي تنمو وتتطور في المستقبل، سيحمل في طياته كوارث هائلة للبشرية. ولا شك في أن الإحساس بخطورة هذه الكوارث والسعي لتجنبها، أو التخفيف منها، سيجعل هناك محاولات لإعادة تأسيس كينزية جديدة تحاول إحداث نوع من التوازن بين اعتبارات "الكفاءة الاقتصادية" واعتبارات "الرفاه الاجتماعي" في القرن القادم. وربما تكون الدعوة الحالية لما يسمى "بالطريق الثالث" هي الارهاصات الأولى لهذه الكينزية الجديدة. بيد أنه لما كانت كينزية القرن العشرين لم تفلح في حل التناقض الرئيسي للرأسمالية، وهو التناقض بين قدرتها اللانهائية "تقريباً" على تطوير قوى الإنتاج من ناحية، وقدرتها المحدودة على تصريفات منتجات هذه القوى من ناحية أخرى، وإنما قدمت مجرد مسكنات أو مثبطات لهذا التناقض لأفق زمني محدود، فإن كينزية القرن الحادي والعشرين ستحمل أيضاً السمات الجوهرية للفكر الكينزي التوفيفي. ولكن لما كان من المتوقع تماماً استفحال هذا التناقض في القرن الحادي والعشرين بسبب التطور الهائل الذي يحدث الآن في قوى الإنتاج تحت تأثير الثورة العلمية والتكنولوجية المعاصرة من ناحية، وتحت تأثير التوزيع السيئ الذي يحدث للدخل القومي بفعل السياسة الليبرالية الجديدة من ناحية أخرى، فإن ورطة الفكر الكينزي في القرن القادم ستكون أشد من ورطته في القرن الذي مضى.

 

رمزي زكي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




د. رمزي زكي