ألحان من أيام زمان

ألحان من أيام زمان

ملامح من قرن مضى

إذا أراد المؤرخ أن يعود إلى جذور النهضة الموسيقية العربية الحديثة التي برز من أقطابها محمد عثمان وعبده الحامولي وسيد درويش ومحمد القصبجي وزكريا أحمد ومحمد عبدالوهاب ورياض السنباطي، لما استطاع بسهولة أن يرجع إلى ما قبل محمد عبدالرحيم الشهير بالمسلوب.

كان المسلوب شيخ طريقة صوفية في مصر، يقيم الأعياد الإسلامية الدينية، وينشد المدائح والتواشيح، وقد صار، عندما اشتهر فنّه، رئيساً لصنعة الغناء، فكان يختبر المغنين ويلبسهم الزنّار، إعراباً عن قبولهم، والسماح لهم بمزاولة المهنة.

ولم يكن المسلوب وحده ذا جذور دينية، بل إن غيّوم أندريه فيوتو، مؤرخ بعثة شامبليون الموسيقي، الذي كتب 3 أجزاء من موسوعة "وصف مصر" كتب في وصف سهرة دينية سنة 1801 في القاهرة يقول إن الجزء الأول كان قراءة سورة البقرة، قرأها 12 فقيهاً "بطريقة لا تختلف كثـيراً عن الغناء"، ولو أحسن ترتيب كلامه لقال: بطريقة لا يختلف الغناء عنها كثيراً، لأن الغناء العربي هو الذي نهج على نهج الترتيل والإنشاد الدينيين، لا العكس، وكان كل الغناء ذا جذور دينية.

وحين تطوّرت الصنعة على يد المسلوب ثم تلميذيه عبده الحامولي ومحمد عثمان، تحوّلت الوصلة إلى غناء دنيوي، لا تختلف بنيته كثيراً عن بنية السهرة الدينية، التي وصفـها فيوتو، حين قال إنهم بعد القراءة، كانوا يرتلون موشحات ثم قصائد، تليها الأدوار. وعندما برز في القرن العشرين سيد درويش، ثم محمد القصبجي وزكريا أحمد، فمحمد عبدالوهاب ورياض السنباطي، لم يكن صدفة أن جميع هؤلاء كانوا إما مقرئين في البداية، أو أبناء مقرئين.

فسيد درويش "الشيخ سيد درويش" خريج كُتّاب حسن حلاوة، ومحمد القصبجي هو ابن الشيخ علي إبراهيم القصبجي المقرئ والموسيقي، وزكريا أحمد "الشيخ زكريا" أزهري ابن أزهري، ومحمد عبدالوهاب هو ابن الشيخ عبدالوهاب محمد أبو عيسى، وأخو الشيخ حسن عبدالوهاب، ورياض السنباطي هو ابن الشيخ محمد السنباطي المقرئ، وأم كلثوم كانت منشدة السيرة النبوية في صباها، وكان والدها الشيخ إبراهيم البلتاجي شيخاً مقرئاً أيضاً.

كان هؤلاء جميعاً مغروسين عميقاً- إذن- في تربة تراثنا العربي والإسلامي، مشبّعين بلُبّ شخصيتنا الحضارية، مترعين بدفق شلال وجداننا العربي، فلماذا لم يتخلّفوا؟

إن في هذا الشاهد التاريخي دليلاً قاطعاً، لا على أن تراثنا قابل للتطوير والتطوّر وحسب، بل دليلاً حتى على أننا لن نستطيع أن نفعل فعلنا في حضارة البشر، وندلي بدلونا على قدم المساواة مع الأمم المتحضّرة، إلا إذا كانت الأصالة نقطة الانطلاق الأولى.

هاتوا لنا موسيقياً واحداً تفوّق على هؤلاء، وانطلق من تربة غير تربته الحضارية العربية الإسلامية هذه.

نهضة الموسيقى الريفية الشامية

وفي لبنان الذي نزح إليه جمع من الموسيقيين والإذاعيين الفلسطينيين سنة 1948، على رأسهم حليم الرومي وصبري الشريف، بدأ في الخمسينيات الالتفات إلى مخزون شعبي هائل من الموسيقى الريفية في بلاد الشام، ونزل من الأرياف فنانون نشأوا على تراث هذا المخزون، من عتابا وميجانا وأبو الزلف والمعنّى ودبكة الدلعونا وغيرها، على رأسهم زكي ناصيف ووديع الصافي وجانيت فغالي "المطربة صباح"، وكان الفريق الفلسطيني يحمل معه من إذاعة الشرق الأدنى "في يافا المحتلة" مشروع "تمدين موسيقى الأرياف" هذه، فصادفوا رغبة لدى لبنان ليُدرج موسيقاه وأغنياته الريفية على برنامج مهرجانات بعلبك، فالتقى هؤلاء مع فنانين مدنيين كانوا يتلمّسون شق طريق جديد في الموسيقى العربية، منهم الأخوان رحباني وفليمون وهبي وعفيف رضوان وتوفيق الباشا، وهكذا بدأت حركة نهضة الموسيقى العربية المعاصرة في لبنان، في كنف مهرجانات بعلبك ومهرجانات الأنوار.

وكانت أهم ملامح هذه النهضة أن القائمين عليها أسّسوها على تراث هذه الموسيقى الريفية الشامية، كان وديع الصافي مغروساً عميقاً في تربتها، وهو الذي نشأ على غناء جدّه "بو بشارة" وشعره الزجلي، وكذا شبّت صباح في كنف عمّها الزجّال اللبناني الكبير أسعد الخوري فغالي الملقب "شحرور الوادي"، وأما زكي ناصيف، فنزل إلى بيروت وفي وجدانه مخزون الحدا والغناء البدوي والريفي الذي سمعه من مضارب رعاة كانوا يرتادون جوار مشغرة في جنوب سهل البقاع.

واجتمعت هذه الجذور الأصيلة، مع الثقافة الموسيقية العربية المتطوّرة التي كانت تفد إلى بيروت في أفلام محمد عبدالوهاب وأم كلثوم الغنائية، على الخصوص، وفي دفق الأسطوانات والأغنيات الإذاعية من القاهرة، ومع العلوم الموسيقية التي تعلّمها ناصيف والباشا والأخوان رحباني، على قواعد العلوم الغربية. لم ينطلقوا من تربة هجينة، لكنهم لم ينغلقوا في حلقة مقفلة.

المآثر والتطوير

فماذا فعل هؤلاء بالموسيقى العربية وتاريخها؟

- في الشكل، أدرجوا في الموسيقى العربية المسرح الغنائي، ولم يكن له وجود من قبل، فدخل في الغناء العربي نوعان جديدان هما: المونولوج والمحاورة، فبدأ المونولوج بأغنية "على قد الليل ما يطوّل" "من مسرحية "العشرة الطيبة"- 11 مارس 1920"، وبلغ ذراه مع "رق الحبيب" "1941، لمحمد القصبجي" و "حلم" "1946"، لزكريا أحمد"، و "غُلبت أصالح في روحي" "1946، لرياض السنباطي"، و "عاشق الروح" "1949، لمحمد عبدالوهاب"، وبدأت المحاورة المغنّاة علـى ما نعلم بمحاورة "والله تستاهل يا قلبي" "من مسرحية "راحت عليك"، لسيد درويش، 3 يوليو 1920"، ولاشك في أنها ظهرت قبل ذلك بأشكال بدائية، ثم بلغت المحاورة ذروتها التاريخية في أوبريت "قيس وليلى" "فيلم "يوم سعيد"، 1939، لمحمد عبدالوهاب".

وكانت السينما الغنائية تتمة طبيعية للمسرح الغنائي، فأسس محمد عبدالوهاب ابتداء من "الوردة البيضاء" "1933" الأغنية السينمائية ذات الملامح المخصوصة.

وفي الشكل أيضاً بدّل محمد عبدالوهاب ومحمد القصبجي وزكريا أحمد ورياض السنباطي أشكال كل الأنواع الغنائية العربية الأصيلة، الدور والموشح والطقطوقة والقصيدة والموّال.

- في المضمون، بدأ الشيخ سيد درويش على الخصوص، وهو الذي لم يمس الأشكال لا من قريب ولا من بعيد، إدراج التعبير الموسيقي بأنواعه المختلفة "التعبير الدرامي والتمثيل وحتى التصوير" في الغناء العربي، وكان هذا التطوير في المضمون حركة تاريخية أكملها محمد عبدالوهاب ومحمد القصبجي ورياض السنباطي، في السينما الغنائية، فصوّر عبدالوهاب في "الكرنك" "1942" روح المعابد الفرعونية، ومثّل في "حكيم عيون" "من فيلم "رصاصة في القلب"، 1944"، فكرة التخويف أو محاولة المكر والتحايل، بالموسيقى، وأحدث محمد القصبجي في "منيّت شبابي" "من فيلم "نشيد الأمل"، 1937"، انقلاباً دراماتيكياً بكل عناصره، وكأنه مخرج سينمائي، لا ملحن موسيقي.

- في المقامات والآلات الموسيقية، أدرجوا استخدام الآلات الموسيقية الغربية غير المعدّلة "الكمان الجهير والكونترباص.." التي تنطق المقام العربي، من دون تحفّظ، واستخدموا الآلات المعدّلة "البيانو والبوق.." التي لا تستطيع أن تنطق غير المقامات الأوربية المعدّلة، ضمن حدود ملاءمتها للجملة الموسيقية العربية.

كذلك استخدموا الهرمونيا والبوليفونيا الغربيتين في حدود الحاجة التعبيرية المناسبة ""تحية العلم" لمحمد عبدالوهاب، في فيلم "دموع الحب"، 1935، و "يا مجد ياما اشتهيتك" لمحمد القصبجي من فيلم "نشيد الأمل"، 1937".

وكان استخدام كل من المقامات والآلات والهرمونيا والبوليفونيا الغربية، قائماً على مبدأ إغناء الموسيقى العربية لا إلغائها، أي أنهم استخدموها إضافة في محلها، ضمن نسيج موسيقي عام هويته عربية لا لبس فيها.

كذلك كان استخدامهم الإيقاعات الغربية إغناء لا إلغاء للإيقاعات العربية، فكان إيقاع الوحدة الكبيرة، وهو إيقاع قصائد الشيخ أبو العلا محمد، هو إيقاع مذهب آخر أغنية غناها محمد عبدالوهاب بصوته "من غير ليه" "1989"، حين يقول: "زي مارمشك".

- وفي لبنان، سلمت المقامات والإيقاعات وأشكال القرّادي والغناء الريفي الشامي في مهرجانات الأنوار، وليالي بعلبك اللبنانية، واستفاد فريق النهضة في لبنان من التوازن الذي أقامه الأساتذة في مصر معياراً للاستفادة من موسيقى الغرب وآلاتها وأساليبها، فسلمت روح الموسيقى، ولم يساورك شك في هويتها لحظة.

المسار الآخر

كانت لبعض الموسيقيين العرب وجهة نظر أخرى، فسلكوا مساراً آخر، يحدوهم تفسير للهزيمة يقول: لقد تخلّفنا في الموسيقى بسبب المقامات، أوبسبب الإيقاع العربي، أو بسبب ربع الصوت، أو بسبب عدم انتهاج التأليف السيمفوني، أو بسبب عدم اعتماد الأسلوب الأوبرالي في الغناء.

ولم يكن هؤلاء بحاجة إلى إلغاء المقامات العربية، أو ربع الصوت، أو العود والقانون، أو الدور الموشح، لأن هذه كلها أصلاً ملغاة عندهم، لا يعرفونها، لا من قريب ولا من بعيد، ومع ذلك، انتشرت مع "اللوثة" السيمفونية والأوبرالية دعوى أن إلغاء الموسيقى العربية بملامحها هذه، إنما هو أول الطريق إلى تطوير الموسيقى العربية، وصدّق كثيرون بعض الوقت، أن تطوير الشيء يمكن أن يبدأ بقتله، أو بإلغائه، وأن شخصاً يجهل الشيء يستطيع أن يطوّره.

ومع هذا، واظب هؤلاء جيلاً بعد جيل، منذ قرن، وأكاد أقول منذ قرنين، على المحاولة، وكلما كان يفشل أحدهم "وفشله حتم لا ريب فيه" كان يقوم بعده من يقول بمعاودة المحاولة، ويزعم مع هذا أنه أول من يقتحم هذا الباب.

وإنما هذه محاولات لتضييع الجهد، وتضليل المواهب في طرق لم تصل ولن تصل يوماً إلى واحة ظليلة، وإن هي إلا طرق إلى صحراء جدباء، يكابرون، فلا يعلنون جدبها.

وكان أبشع ما في هذا المسار أن كثيراً من القائمين على المعاهد الموسيقية في عدد كبير من البلاد العربية، تراءى لهم أن العلم غربي فقط، وأن القطيعة مع التربة العربية الموسيقية هي التي ستقود إلى النهوض، فأنشأوا اضطراراً قسماً للموسيقى العربية في معاهدهم، وأنشأوا توهّماً قسماً منفصلاً للموسيقى الغربية، ظنوا فيه وحده أسس النهضة الآتية، فخرّجوا في الأول موسيقيين وجدانهم قد يكون عربياً، لكنهم مجرّدون من أسلحة العلم التي حُجبت عن القسم العربي، فصرت تجد خريجي هذا القسم عاجزين عن خدمة موسيقاهم، ينظرون إلى التراث الموسيقي الأوربي العظيم، إما نظرة عقدة النقص، أو نظرة العداء غير المسوغة، وخرّجوا في الثاني موسيقيين قُمع ما بقي في وجدانهم من أثر للعروبة، فجالوا في آفاق التباهي بموسيقى الغرب، عاجزين في أفضل الأحوال عن خدمة موسيقاهم القومية، متعالين في أسوأ الحالات على هذه الموسيقى القومية، محتقرين لها.

ونسأل بعد، "لماذا تأخرنا الآن، ولماذا تقدم السابقون؟".

ألا يزال ثمة خيال وهم، أننا سنبدع في الفن السيمفوني أو الغناء الأوبرالي؟

وصايا عشر

إذا استعرضنا سلوك الموسيقيين العرب في القرن العشرين الميلادي، أولئك الذين أنشأوا النهضة الكبرى في مصر، والنهضة الصغرى في لبنان، أو أولئك الذين سلكوا السلوك الآخر، تتراءى بوضوح أمامنا وصايا عشر، مستمدة من دروس الماضي، لعل فيها ميثاق سلوك في القرن الجديد، إذا كنا بعد نطمح إلى نهوض موسيقي آخر.

1 ـ الموسيقى تكون عربية بمكوّناتها، الإيقاع والمقام والآلات والشكل والمضمون، ولا يكفي أن يحمل المؤلف الموسيقي هوية عربية لتكون موسيقاه عربية، إذا أصرّ على إلغاء هذه المكوّنات.

2 ـ تطوير الشيء يصير من داخله، لا من خارجه، فالتطوير، لغة، هو دفع الشيء من طور إلى طور، ولذا لابد من معرفة الشيء إذا كنّا نريد أن نطوّره.

3 ـ إلغاء الشيء ليس تطويراً له، فإذا قلنا إننا نريد أن نؤلف سيمفونيات أو نريد أن نغني أوبرا، فليكن، لكن هذا سيكون شيئاً هامشياً يصح أن يكون ملحقاً بحضارة أخرى من أساليبها الفن السيمفوني أو الأوبرالي، ولن يكون تطويراً للموسيقى العربية.

4 ـ لا يمكننا أن نبدع بوسائل غيرنا، فحتى أرقى الأمم "اليابان، والسويد، وغيرهما" لم تُفلح في مجاراة ألمانيا والنمسا في الفن السيمفوني، أو في الوصول بالفن الأوبرالي إلى ما يقرب من المرتبة التي أدركتها إىطاليا، فبأي منطق لانزال نحن نأمل النجاح فيما أخفق فيه من يفوقوننا حضارة؟

5 ـ موسيقانا العربية "الطقطوقة والموشح والقصيدة.." هي التي تحتاج إلى جهودنا التطويرية، وليس الغرب بحاجة إلى إسهامنا في فنونه لنطوّرها له، وإنما التحاقنا بموسيقاه لا يمكن أن يزيد على التحاق بحضارة أخرى، فلا نضيف شيئاً إلى حضارتنا نحن، والأرجح أننا لن نضيف شيئاً ذا قيمة إلى الحضارة الأخرى هذه أيضاً.

6 ـ الرياضيات والفيزياء والطب قابلة جميعها للنقل، لأن المعادلة والذرّة والخلية بلا هوية قومية، أما اللغة والفنون والموسيقى، ومسائل الوجدان والهوية، فلا يمكنها في الأكثر إلا الاستفادة من مآثر الآخرين، لكن لابد لها من تربة تعيش فيها، والتربة هي الهوية.

7 ـ كل استفادة ينبغي أن تكون استفادة "إغناء لا إلغاء".

8 ـ لابد من عودة الثقة بالنفس: الثقة بأنماطنا الحضارية، والثقة بمستقبل هذه الأنماط وقدرتها على التطوّر إذا تسنّى لها من يطوّرها، والثقة بأطفالنا، فلا نتلكأ منذ طفولتهم في مدّهم بعناصر هذه الهوية الأصيلة.

9 ـ ليس تجويد القرآن الكريم صفّاً لطلاب علوم الدين وحدهم، بل إنه ركن من خلاصة أركان حضارتنا، والإعراض عنه، أحد أهم أسباب أزمتنا.

10 ـ حين نكون راسخين في هويتنا الحضارية، تصبح رياح الخارج نسائم منعشة ومفيدة ومثمرة.

ألم يقل المهاتما غاندي: أفتح نافذتي لتهب النسائم المنعشة، لا لتعصف الريح بأثاث البيت، فتقتلعه.

 

فكتور سحاب

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات