التعليم العربي: في مهب أعاصير السياسة

التعليم العربي: في مهب أعاصير السياسة

ملامح من قرن مضى

هل كانت الطموحات في مسيرة التعليم العربي تتجاوز مسيرة قصور الواقع؟

قبل أن أبدأ مقالي لابد أن أسجل الملاحظات التالية:

الملاحظة الأولى: أن الكتابة عن التعليم "العربي" كله، وفي مدى "قرن" كامل ومذهل هو القرن العشرون، وفي هذا "الحيز" الضيق غاية الضيق عمل غاية في الصعوبة، بل والاستحالة. وكان لا مفر من التغلب على هذا بوسيلتين، أولاهما، الاعتماد فقط على بعض الأمثلة ذات الدلالة الكبيرة، والتي تشكل منعطفات مهمة على طريق التاريخ التعليمي، والثانية: الاعتماد أكثر على تلك الجهود التي حاولت أن تعطينا صورة كلية عن المسيرة العربية العامة في التعليم.

الملاحظة الثانية، ولم أنتبه لها إلا وأنا أجهز لكتابة المقال، أنه لا يوجد مرجع واحد يؤرخ للتعليم العربي في مجمله، وأن الصورة الوحيدة التي توافرت هي الحوليات الثقافية التي كان "ساطع الحصري" يدونها وربما كانت الحولية الأولى الصادرة عام 1949 هي المصدر الوحيد الذي يستطيع القارئ ان يبصر فيه ضوءا تاريخيا عن التعليم العربي في مجمله من خلال الصفحات من 2 ـ 20 التي خصصها المؤلف لإلقاء ما أسماه "نظرة تاريخية". ولم تستمر الحولية، مثلها مثل أي جهد عربي يسير على طريق التوحيد، وتوارت عن الأنظار ولم يحاول أحد أن يكرر التجربة مرة أخرى. والجهد الآخر هو سفر كبير بعنوان "التربية في الشرق الأوسط العربي"، أعده مجلس التعليم الأمريكي بواشنطن، عن حالة التعليم في كل من مصر والعراق وفلسطين وشرق الأردن وسوريا ولبنان عام 1949، وكتبه د. ردرك ماثيوز أستاذ التربية بجامعة بنسلفانيا بالولايات المتحدة، ود. متى عقراوي الذي كان مديرا للتعليم العالي بالعراق، وترجمه إلى العربية، د. أمير بقطر، الذي كان أستاذا للتربية بالجامعة الأمريكية بالقاهرة.

لكن، وبطبيعة الحال، لكل بلد عربي ـ على وجه التقريب ـ جهود أرخت للتعليم فيه، كل على حدة.

الملاحظة الثالثة: أن التعليم، شأنه شأن كل نظام اجتماعي، هو جزء من كل، هو الجسم المجتمعي الكبير، يصح بصحته ويعتل بمرضه، وخاصة في البلدان المتخلفة، ومنها العربية بطبيعة الحال.

المشهد في بداية القرن العشرين

من خلال المقولة الأخيرة بصفة خاصة يمكن أن نفهم جملة الوضع العربي في التعليم، عندما جاء أول يناير من عام 1901 مؤذنا ببداية قرن جديد هو القرن العشرون، فقد كان مشرق العالم العربي يرزح تحت نير استبداد الدولة العثمانية بكل ما كانت عليه في ذلك الوقت من ضعف، وتخلف وقهر، إذا استثنينا الجزيرة العربية، فقد كان الجناح الغربي بدءا من مصر إلى المحيط الأطلنطي يرزح تحت نير الاستعمارين الإنجليزي والفرنسي بصفة أساسية، ولم تكن دول الخليج قد تخلقت كياناتها السياسية كدول حديثة، فماذا يمكن أن يكون عليه حال التعليم في دول هذا شأنها؟

كان التعليم في مجمله تعليما دينيا بحتا، تتمثل معاهده في ذلك الشكل البسيط للغاية والذي سمي في بعض البلدان بالكتاتيب في أغلب الأحوال، وسمي في بلدان أخرى قليلة بأسماء أخرى، كان المنهج الأساسي هو تحفيظ القرآن الكريم، وربما يضاف إليه بعض المعلومات الحسابية، وبطبيعة الحال، القراءة والكتابة، ومعلم الكتاب هو "الفقيه" والذي كل مؤهلاته أنه يحفظ القرآن، وتقوم طريقة تعليمه على الحفظ والاستظهار، واشتهر بقسوة واضحة في معاقبة التلاميذ، ومجمل هذا المستوى، كان بعيدا عن سيطرة الدولة، لا يكلف طلابه إلا القليل.

بجوار هذا الشكل البسيط، كانت هناك المساجد الكبرى التي كانت تقدم مستوى متقدما من التعليم يكاد يوازي ما نسميه الآن مرحلة التعليم الثانوي والعالي معا، كما رأينا في الأزهر في مصر، والمسجد الحرام والمسجد النبوي في الحجاز، كما كانت تعرف بهذا الاسم، والمسجد الأموي في دمشق، والنجف الأشرف في العراق، والزيتونة في تونس والقيروان في المغرب. وجميع هذه المساجد الكبرى وما شابهها كانت تعلم طلابها العلوم الشرعية، وأيضا بعض علوم العربية، ونادرا ما كانت تعلم بعض العلوم الإنسانية مثل الأدب والفلسفة والتاريخ والمنطق.

لكننا يمكن أن نستثني مصر بصفة خاصة ولبنان إلى حد ما، فقد عرفت مصر، منذ أول القرن التاسع عشر، وعلى يد محمد علي الطريق إلى النظام الغربي الحديث في التعليم، فأنشئت بها العديد من المدارس العالية والمتوسطة والدنيا تقدم لطلابها العلوم الغربية الحديثة وخاصة تلك الدراسات ذات الطابع التطبيقي، مثل الهندسة والطب، فضلا عن العلوم العسكرية، وكان أساس هذه النهضة بعثات أرسلت إلى الدول الأوربية، واستقدام عدد من الخبراء والأساتذة والعلماء الأوربيين للمشاركة في بناء الدولة الحديثة عن طريق التعليم. ولا نستطيع أن ننسى قيام أول جامعة مدنية على النمط الغربي الحديث في القاهرة عام 1908، ذات إدارة وتمويل أهليين.

وعندما حدث الاحتكاك بين الدول العربية والحضارة الغربية، كان من الطبيعي أن يلتفت كبار رجال الفكر والمصلحين، إلى أن حالة التعليم القائم، ذي الصبغة الدينية، وبالشكل الذي كانت عليه، لا يمكن أن تعين المجتمع على مواجهة حاضر الحياة ومستقبلها، فكان أن وجدوا أمامهم سبيلين:

ـ إصلاح معاهد التعليم القائمة، وتحديث مناهجها بحيث يدرس طلابها علوما غربية حديثة.

ـ ترك هذه المعاهد على حالها، وإنشاء معاهد أخرى بديلة لإحساسهم بأن البديل الأول يستغرق وقتا طويلا، ويلقى مقاومة شديدة.

الموروث والوافد

وكان محمد علي هو القدوة في هذا. وعلى الرغم مما قام عليه اختيار البديل الثاني من "حجج"، فإنه على المدى الطويل بذر في الثقافة العربية بذور شرخ ثقافي كان يتسع بمرور السنين، حتى أصبح أخدودا قل من استطاع عبوره بنجاح، فقد استمرت المعاهد الدينية تخرج طلابا لديهم الكثير من الزاد الثقافي الموروث، لكنهم خالو الوفاض من ثقافة حديثة، بل ونظروا إلى هذه الثقافة الحديثة وقد ارتبطت في أذهانهم بالاستعمار وبالصليبية، ومن ناحية أخرى، أخذت المعاهد التعليمية الحديثة تخرج طلابا لديهم زاد ثقافي كبير من الثقافة الغربية المعاصرة، لكنهم لا يكادون يملكون إلا القليل من الموروث الثقافي، بل ونظروا إلى هذا الموروث باعتباره لا مظهرا للتخلف فحسب، بل سبب له أىضا، وبالتالي نشبت تلك العداوة المؤسفة بين الموروث والوافد، وخسر كلاهما، وبالتالي خسرت الثقافة العربية الكثير.

ووفقا لما نشره الحصري في حوليته الأولى، نقلا عن الإحصاءات الرسمية التي نشرتها وزارة المعارف العمومية العثمانية سنة 1915 نقف على عدد المدارس الابتدائية في عدد من الولايات العربية المشرقية قبيل الحرب العالمية الأولى، وهي: 185 في ولاية الموصل، 32 في ولاية البصرة، أما المدارس الثانوية فكانت 12 مدرسة، خمس منها في درجة السلطانيات "وذلك في مدن بيروت ودمشق وحلب وبغداد وكركوك" واثنتان في درجة إعداديات أولية "القدس وطرابلس الشام" والبقية في درجة إعداديات الولايات، وكان يوجد دار للمعلمين ومدرسة للصناعة في مراكز جميع الولايات العربية "باستثناء مكة المكرمة". وكانت توجد مدرسة زراعية واحدة في السليمية التابعة لمتصرفية حماة، وثلاث مدارس عليا في مراكز ثلاث من الولايات العربية: في بغداد مدرسة الحقوق، وفي دمشق مدرسة الطب، وفي بيروت مدرسة الحقوق، عدا بعض المدارس العسكرية.

غير أنه كان في البلاد العثمانية بوجه عام وفي الولايات العربية بصفة خاصة صنفان آخران من المعاهد التعليمية: المدارس الطائفية والمدارس الأجنبية، وكثيرا ما كانت تستلهم خططها ومناهجها من المدارس الأجنبية القائمة داخل الدولة العثمانية، أو من البلدان الأجنبية نفسها. وقد لعبت المدارس الأجنبية دورا خطيرا في البلدان العربية، فقد تأسست هذه المدارس ـ في بادئ الأمر ـ على أيدي الإرساليات الدينية، وكانت كل واحدة من هذه الإرساليات تعتمد على حماية دولة من الدول الأجنبية، وتصبح واسطة نشر ثقافتها وعلى رأسها لغتها.

ولأن مصر، وخاصة منذ الاحتلال البريطاني قد خرجت عن سيطرة الدولة العثمانية، فقد كان الوضع فيها مختلفا، وإن أصيبت هي الأخرى بالمدارس الأجنبية من حيث فلسفتها وأهدافها الخفية والمعلنة، وتأثيراتها الثقافية، وأبعادها الطبقية، ويكفي فقط الإشارة إلى الدور الذي لعبته "كلية فيكتوريا" الإنجليزية، بالإسكندرية من حيث كانت رحما خرج منه عدد غير قليل من الحكام العرب في مستويات قيادية مختلفة. وكان نظام التعليم في مصر يتسم بالتعددية، فهناك تعليم ديني "أزهري"، وتعليم مدني، والتعليم المدني، منه تعليم وطني، وتعليم أجنبي، والتعليم الوطني منه تعليم حكومي وتعليم أهلي، فضلا عن تعددية في تعليم المرحلة الأولى، وتعليم لإعداد المعلمين، ومدارس عليا مختلفة، والجامعة الأهلية التي أنشئت عام 1908.

وفي منتصف القرن

ويوقفنا د. ناثر سارة في دراسته عن التربية العربية منذ 1950 الصادر عن منتدى الفكر العربي بعمان على الصورة الكمية للتعليم في عدد من البلدان العربية عام 44/1945، ففي مصر وصل عدد مدارس تعليم المرحلة الأولى إلى 5338 مدرسة أولية وابتدائية وروضة أطفال، منها 1137 مدرسة أهلية، ووصل عدد المدارس الثانوية الى 127 مدرسة منها 74 مدرسة أهلية، وكذلك ازداد عدد المدارس المهنية ودور المعلمين فبلغ 158 مدرسة "منها 136 حكومية"، ولم يذكر المؤلف عدد الطلاب.

وفي لبنان وصل عدد المدارس الابتدائية والمتوسطة والثانوية إلى 1569 مدرسة يرتادها أكثر من 144 ألف طالب وطالبة ، وكان الازدياد والنمو ظاهرا أكثر في المدارس الأهلية والأجنبية. أما في سوريا فقد وصل عدد المدارس إلى 1165 مدرسة منها 694 مدرسة حكومية، وبلغ عدد الطلاب في المدارس الحكومية 93717، وفي المدارس الخاصة والأجنبية 96101.

أما في فلسطين العربية فقد بلغ عدد المدارس الحكومية 478 يرتادها 71662 طالبا وطالبة. وفي الأردن بلغ عدد المدارس عام 54/1964 إلى 73 كان بها 9874 طالبا وطالبة.

وفي العراق، وصل عدد المدارس الابتدائية إلى 878 يرتادها 97636 طالبا وطالبة، و17 مدرسة متوسطة وثانوية يرتادها 11309، والثانويات المهنية 7 بها 948 من الطلاب، ومعاهد المعلمين الابتدائية 7 يرتادها 1344، والمعاهد العليا 5 بها 1790 طالبا وطالبة.

أما بلدان المغرب العربي، فلم يتجاوز عدد الأطفال المسجلين في المدارس الابتدائية بالمغرب 41490، وفي الثانوية 1000 سنة 1945. وفي الجزائر بلغ عدد طلاب الابتدائي بالجزائر 117 الف طالب عام 1940، ولم يكن عدد طلاب الثانوي يتجاوز 450 طالبا عام 1920، وإن كان جملة الطلاب في كل المراحل قد بلغ 1.17 مليون عام 1960. وفي تونس بلغ عدد طلاب المرحلة الابتدائية 95 الفا سنة 1949.

وإذا كانت بلدان المغرب "تونس والجزائر والمغرب" قد طبعت في تعليمها بالطابع الفرنسي استهدافا لفرنسة شعوبها، فإن ليبيا عانت غداة الحرب العالمية الثانية من وضع تجزيئي شاذ.

في فزان: طبق الفرنسيون النظام التعليمي الذي كانوا أوجدوه في إفريقيا الشمالية، ولاسيما في الجزائر، أما في برقة، فقد طبق الإنجليز المناهج والنظم المصرية بكل خصائصها، وصار التلاميذ يتعلمون اللغة الإنجليزية، اعتبارا من السنة الخامسة الابتدائية، أما في طرابلس فقد تكون نظام خاص، وإن كان متأثرا إلى حد كبير بالنظم والمناهج المصرية، وجعل اللغة الإيطالية اللغة الأوربية الثانية في مناهج المدارس الثانوية.

وفي أواخر القرن

وفي مرحلة الاستقلال، حرصت البلدان العربية، بدافع من حرارة استقلالها وإحساسها بضرورة تعويض ما فاتها، ورغبتها الملحة في تحديث نفسها، وإيمانها بأهمية العلم وحق كل مواطن في التعليم، على أن تتوسع في نظمها التعليمية أملا في أن تستوعب في المرحلة الأولى جميع أطفالها في سن هذه المرحلة، وفي أن تقدم أكبر ما تستطيع من فرص تعليمية لهؤلاء الأطفال في المراحل التالية. وإذا أخذنا عقد الستينيات مقياسا لهذا الحرص والاهتمام، وجدنا أن مجموع المسجلين بمراحل التعليم المختلفة قد ارتفع من 8.5 مليون سنة 1960 إلى 12.7 مليون سنة 1965، ثم إلى 16.3 مليون سنة 1970، أي بنسبة قدرها 90% خلال العقد كله، وهذا الارتفاع يعني أن البلدان العربية في جملتها، قد ضاعفت جهدها تقريبا من أجل توسيع فرص التعليم استجابة للعوامل المجتمعية المتغيرة/ محليا وإقليميا وعالميا "د. الغنام، مجلة التربية الجديدة، العدد الثاني 1974".

هدر الإمكانات

لكن الدراسات التي أجريت على عدد من البلدان العربية بشأن الكفاءة التعليمية خلال الستينيات تشير إلى أن التعليم في هذه البلدان عانى هدرا كبيرا، فبدلا من ست سنوات كان التلميذ يقضيها في المرحلة الابتدائية، وثلاث في كل من الإعدادية والثانوية، بلغ متوسط عدد السنوات التي قضاها بالفعل في هذه البلدان 13.5 و5 و5.2 على التوالي. كذلك فإن نسبة المدخلات "ممثلة في عدد التلاميذ" إلى المخرجات "ممثلة في عدد المتخرجين" في المرحلة الأولى قد ارتفعت في بعض الحالات إلى 2.25، وفي المرحلتين الإعدادية والثانوية إلى 1.76 و1.37 على التوالي "بدلا من 1". كما هبط عدد من يتخرجون في المرحلة الابتدائية من كل 1000 دخلوها قبل المدة المقررة "6 سنوات" إلى 39 طالبا وطالبة، وفي المرحلة الإعدادية والثانوية "بعد 3 سنوات من الدراسة" 140 و397 طالبا وطالبة.

وفي المرحلتين الإعدادية والثانوية "بعد 3 سنوات من الدراسة" 140 و297 طالبا وطالبة فقط. وكل هذا يعني أن أكثر من نصف ما كان ينفق على التعليم في جملة البلدان العربية كان يدخل في باب الخسارة المالية. فضلا عن الهدر في الإمكانات البشرية وما يسمى كلفة الفرص الضائعة "المرجع السابق".

وقد أدى العجز عن تعميم التعليم الابتدائي إلى زيادة حجم الأمية في البلاد العربية، وضاعف من حجم هذه الظاهرة أن نمو المرحلة التعليمية لا يسير بنفس السرعة التي يتكاثر بها السكان، فلقد زاد عدد الأميين مثلا من حوالي 34 مليونا في عام 1960 إلى حوالي 50 مليونا في عام 1970، ثم إلى 55 مليونا في عام 1976. ولكن ينبغي أن نشير إلى أن نسبة الأمية انخفضت من 81.8% في عام 1960 إلى 73% عام 1970 ثم وصلت إلى 68% عام 1976، حتى وصلت إلى 1985، وهذا معناه أن الطريق للقضاء على الأمية يظل طويلا وشاقا في ظل هذه النسبة للنمو، وفقا لإحصاءات المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم.

ووفقا للتقرير الدولي حول التنمية البشرية الصادر عن برنامج الأمم المتحدة 1998، تفيد الأرقام العامة التي تشمل المنطقة العربية بأن عدد الأميين العرب انتقل من 59.8 مليون نسمة في عام 1985 إلى 5،56 مليون في عام 1995، وهو مرشح للتصاعد إلى 69.4 مليون نسمة في عام 2005 لأسباب عديدة ليس هنا مجال للإشارة إليها. ويلفت النظر أن الأمية تطول المرأة أكثر من الرجل، فنسبة الأميات العربيات كانت 62% عام 1985، وارتفعت إلى 62.9% بحلول عام 1995.

العمل العربي التربوي المشترك

وفي الشهور الأولى لعمل الجامعة العربية كان العمل التربوي المشترك يحتل المرتبة الأولى على الأجندة العربية، والقارئ لنصوص أول معاهدة ثقافية صدرت في 27/11/1945 سيذهله مقدار ما تحويه هذه النصوص من خطوات مقترحة، لو كانت قد عرفت الطريق إلى التنفيذ لربما كان حال العالم العربي غير الحال، فلسنا نحتاج إلى التنبيه إلى أن التوحيد في مناهج التعليم ونظمه وفلسفته كان من شأنه أن يقرب وجهات النظر ومعايير التقييم، ويعزز من الروابط المشتركة، ويكفي أن نلقي نظرة على بعض هذه النصوص:

مادة 2: توافق الجامعة العربية على تبادل المدرسين والأساتذة بين معاهدها العلمية بالشروط العامة والفردية التي تتفق عليها.

مادة 3: توافق دول الجامعة العربية على تبادل الطلبة والتلاميذ بين معاهدها وقبولهم في الفصول المناسبة على قدر ما يتوافر لدى كل منها من أمكنة الدراسة.

مادة 12: تتفق دول الجامعة العربية على أن تدخل في مناهجها التعليمية من تاريخ البلاد العربية وجغرافيتها وأدبها ما يكفي لتكون فكرة واضحة عن حياة هذه البلاد وحضارتها، وتعمل على إنشاء مكتبة عربية للتلميذ.

مادة 13: تعمل دول الجامعةالعربية على تعريف أبنائها بالأحوال الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية في سائر البلاد العربية بواسطة الإذاعة والتمثيل والصحافة أو بغيرها من الوسائل.

وفي التاسع والعشرين من فبراير 1964 توافق دول الجامعة على "ميثاق الوحدة الثقافية العربية"، والذي نص في المادة الرابعة منه على: "تعمل الدول الأعضاء على بلوغ مستويات تعليمية متماثلة عن طريق تنسيق أنظمة التعليم فيها، وبخاصة توحيد السلم التعليمي، وتوحيد أسس المناهج وخطط الدراسة، والكتب المدرسية، ومستوى الامتحانات وقواعد القبول، وتعادل الشهادات، وأساليب إعداد المعلمين، وإدارة المؤسسات التعليمية". إن القارئ العربي لمثل هذه النصوص، وهو في أواخر عام 1999، إذا لم يعرف سلفا أنها نصوص قد سبق اعتمادها فعلا منذ عشرات السنين فلربما خيل إليه أن أحدا من الحالمين بما نريد أن تكون عليه الأحوال في القرن القادم، قد اقترحها!!

استراتيجية محو الأمية

وشهدت الساحة التربوية العربية ظهور تنظيمات قومية كان لها جهود ضخمة من حيث عقد المؤتمرات التي يلتقي فيها الخبراء التربويون، ويتبادلون الرأي في الهم التربوي العربي العام، ومن حيث إجراء الدراسات والأبحاث وإصدار الكتب العلمية المتخصصة والعامة التي تتناول قضـايا عربية تربوية، ومن حيث تبادل العـون بين الدول الأعضاء، ويقف على رأس هذه التنظيمات، المنظـمة العربية للتربية والثقافة والعلوم والتي ظهرت في 25/7/1970 بالقاهرة، وقد خلفت الإدارة الثقافية التي كانت تباشر العمل التربوي منذ إنشائها عام 1945.

وكذلك خرج إلى الوجود اتحاد المعلمين العرب في عام 1961، واتحاد الجامعات العربية الذي مارس نشاطاته بدءا من عام 1965، فضلا عن الجهاز العربي لمحو الأمية وتعليم الكبار.

ومن أبرز ما تم إنجازه على المستوى الفكري التربوي، عملان على أعلى مستوى يمكن أن نأمله في ظل المعطيات العربية القائمة، أولهما استراتيجية محو الأمية، التي صدرت عام 1976، ثم استراتيجية تطوير التربية العربية عام 1978.

ولعل أبرز ما يمكن ملاحظته على هذه المسيرة، وخاصة من البعد العربي المشترك أن الحماس والعاطفة والطموحات المتجاوزة لأرض الواقع العربي جعل من كثير من الأعمال العربية المشتركة مجرد أماني وأحلام، ونتصور أننا ما دمنا قد سجلناها على الأوراق، ومهرناها بالتوقيعات والأختام، فإن جهدنا قد بلغ سدرة المنتهى، دون أن نتنبه إلى أن النصوص، كي تعرف طريقها إلى التنفيذ، لابد وأن تتواضع في طموحاتها، وتنهج نهج التدرج والتخطيط المرحلي، وأن من الضروري أن تصاغ صياغات إجرائية ترسم سبل التنفيذ، وتطرح البدائل المختلفة القادرة على مواجهة ما يطرأ من تغيرات.

ومن ناحية أخرى، فدائما ما أتذكر بكل الأسى وبكل الأسف تلك العبارة الشهيرة التي أثرت عن الشيخ محمد عبده، عندما قال: لعن الله السياسة، بل وعمم طلب اللعن حتى على فعل "ساس" ومشتقاته!

فإذا كنا نرى الواقع التربوي العربي المشترك قد تراجع عما كان عليه من عشرات السنين، فما كان ذلك إلا بفعل الأعاصير السياسية، فقد يوقع اتفاق أو معاهدة للعمل التربوي المشترك بين دولتين أو عدة دول عربية، ثم يحدث لأمر ما أن تهب عاصفة خلاف سياسي حاد، فإذا بكل النصوص تذروها الرياح، وإذا بما يكون قد عرف طريقه إلى التنفيذ في خبر كان وتعود الأمور إلى نقطة الصفر. بل ربما تتخذ خطوات أخرى عكسية، وكأن ذلك من باب الانتقام! لقد كان من أبرز الفئات التي تحملت أوزار العواصف السياسية العربية، المعلمون، فلظروف التطور الثقافي، توافر لمصر ـ مثلا ـ أعداد غفيرة من المعلمين الذين كانت تستعين بهم دول عربية، تأخرت بها ظروفها التاريخية من حيث التطور التربوي، فإذا ما تعكرت أجواء السياسة بين مصر وهذه الدولة أو تلك، كان على المعلمين المصريين أن يحملوا عصيهم وأمتعتهم على أكتافهم ويسارعوا بالاستجابة لأوامر الترحيل والعودة إلى بلدهم.

إن أكثر ما نتمناه حقا هو أن ننظر إلى "روح" و"أساليب" العمل في التنظيمات الدولية المختلفة، والتي تشترك فيها الدول العربية نفسها، فجهود اليونسكو "مثلا"، غالبا ما تنشأ وتستمر بين الدول الأعضاء بغض النظر عما يكون بينها من تباينات واختلافات حادة أو بسيطة، ذلك لأن هذه هي فلسفة العمل الثقافي والجهد التربوي، أن يقفز على حواجز الاختلافات التي تمليها المصالح المتضاربة، أو التي بذرتها أخطاء سابقة، والعمل على إيجاد جسور من التفاهم المشترك.

 

سعيد إسماعيل علي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات