السينما العربية.. والبحث عن شكل مغاير

السينما العربية.. والبحث عن شكل مغاير

ملامح من قرن مضى

هل استطاعت السينما العربية أن تقدم ثقافة مخالفة للمفهوم الغربي.. أم أنها طوال هذا القرن ظلت أسيرة مولودها؟

على حد علمنا لم يحدث في بلد عربي واحد أن خرج المتفرجون عدواً من دار السينما عندما شاهدوا قطاراً يتحرك تجاههم على الشاشة، ولم ينتبهم الفزع مثلما حدث في هوليود عندما عرض المخرج الامريكي دافيد وورك جريفيث لقطة كبيرة "CLose up" لرأس ضخم يبتسم حسبه المتفرجون الذين لم يعتادوا رؤية لقطة كبيرة على الشاشة رأساً مقطوعاً. لقد بدت السينما أو معجزة القرن العشرين كما أطلق عليها وقتها والتي بدت أول عروضها يوم السبت 28 ديسمبر عام 1895 شيئاً عادياً ومألوفاً، وفي جانب منها أداة متطورة لفن "خيال الظل" المعروف سلفاً والواسع الانتشار في أرجاء العالم العربي، وعلى نحو مدهش بدأت على الفور محاولات تعريب السينما وإخضاعها لثقافة وفنون قومية تشكلت ملامحها منذ زمن بعيد، ثقافة أنتجت عبر تاريخ طويل أكبر خيال أو حلم داعب العالم كله وهو كتاب "ألف ليلة وليلة" الذي عرف في ترجماته الأساسية في معظم أنحاء المعمورة بعنوان لا يخلو من الدلالة وهو "ليال عربية"، فهل يبدو مستغرباً إذن أن أول محاولة تقنية لصناعة الخيال في قمة الثورة الصناعية الأوربية في الربع الأخير من القرن التاسع عشر تصبح أسرع وأكثر المنجزات الصناعية الأوربية وصولاً وتغلغلاً واستهلاكاً في البلدان العربية.

ومما يلفت النظر أنه وقبل نهاية عام 1896 كانت السينما قد انتشرت لا عبر أمريكا وأوربا فحسب وإنما أيضاً في معظم أنحاء العالم العربي، وكان انتشار السينما خلال توكيلات أصحاب القاعات الموسيقية والمغامرين من محترفي العروض بالمعارض الكبرى، ومن المؤكد أن العالم العربي كان محل إغراء لهؤلاء المغامرين وأصحاب التوكيلات بسبب وجود الاحتلال البريطاني والفرنسي والإيطالي للبلدان العربية ووجود جاليات أجنبية متعددة بها، ولكن ما يسترعي الانتباه حقاً ان السينما شكلت قاعدة عريضة لها خارج هذه الجاليات أساساً لتصبح الأكثر إغراء من بين جميع المخترعات الغربية لأن يتم احتواؤها واستخدامها كإحدى وسائل التعبير عن الثقافات القومية في العالم العربي. واذا كانت مصر قد شهدت أول عرض سينمائي في 5 نوفمبر عام 1896، أي قبل مرور عام على ظهور السينما، فإن المغرب قد عرف السينما كما يرى البعض قبل ظهور السينما نفسها في فيلم "الفارس البربري" الذي انجزه جول إيتان ماري عام 18858 بالطريقة "الكورنوفوتوغرافية" القائمة على تحليل الحركة تصويرياً، وهي تجربة معملية على أي حال تشي بالتطلع إلى اختراع السينما قبل ظهورها.

وفي أوقات غير متباعدة عن تواريخ بدايات العروض السينمائية في العالم العربي، لم تكن العروض قد انتشرت فحسب وإنما أيضاً التصوير السينمائي الأجنبي، وهو تصوير كان حافزه الأساسي الترويج للسينما التي اعتبرت في بداياتها كأحد ألعاب الحواة وهو أمر كان لا بد أن ينتهي سريعاً حينما تفقد اللعبة جدتها وبريقها، ولذا كان يجب أن تبحث عن مجالات جديدة لاستمرارها، وكان أبرز هذه المجالات وقتها أن يجلس المتفرج في أي مكان في العالم ليرى العالم عبر شاشة السينما، ومقابل نقود قليلة يستطيع مشاهدة "تتويج قيصر روسيا" و"الأهرام" و"راعي الماعز المغربي"... وبينما كان المشاهدون في جميع أنحاء العالم يرون بعضهم للمرة الأولى خلال شاشات السينما، كان يسيطر عليهم فرحة الاكتشاف لا بأن يروا الآخر فحسب، ولكن بأن يروا أنفسهم أيضاً.

وهكذا بدأ التصوير الاجنبي في البلدان العربية مبكراً للغاية، ففي مصر بدأ التصوير الأجنبي في مارس عام 1897 على يد "بروميو" مبعوث سينما توجراف لوميير، وفي تونس قدم السينمائي راؤول جريميوان ـ سمسون" ليصور أفلاماً من نوع "السينيراما" مستخدماً عشر كاميرات بطريقة متناسقة لتعرض بعشر آلات عرض في وقت واحد عام 1899، وفي السودان بدأ التصوير الأجنبي منذ عام 1908 وحتى عام 1935، وفي لبنان بدأ الايطالي جوروانو بيدوني التصوير مابين عامي 1914 و1915، وكانت جميع هذه الشرائط وثائقية، ولكن فكرة صنع الأفلام نفسها لم تبدأ إلا مع ظهور الأفلام الروائية الخيالية، وبدأت محاولة الاستحواذ على السينما أو على الأصح استحوذت السينما على خيال صناع السينما العربية الأوائل، وأصبحت السينما بالنسبة لنا لا مجرد اختراع أو أعجوبة وإنما تحد كامل لامتلاكها للتعبير عن الثقافات القومية للشعوب العربية خلال هذا الفن الوليد الوافد، والسعي لامتلاك السينما بعينها وصناعتها دون بقية المخترعات الغربية الأخرى وقتها.

بيومي... الرائد

ولعل محمد بيومي الرائد الأول للسينما المصرية الذي ولد في 3 يناير عام 1884، وتخرج في المدرسة الحربية عام 1915، وأحيل للاستيداع في نفس العام بسبب مواقفه الوطنية في صفوف الجيش المصري هو أول عربي يسعى لدراسة السينما في ألمانيا حيث عمل كمساعد مصور بعد فترة من عمله كممثل للأدوار الثانوية بشركة جلوريا في برلين ثم عاد عام 1923 ليؤسس استوديو سينمائياً باسم "آمون فيلم"، ولئن كان محمد بيومي قد بدأ بصنع شرائط وثائقية بدءاً من 18 سبتمبر عام 1923 عندما قام بتصوير عودة سعد زغلول قائد ثورة 1919 من المنفى واستقباله بالقاهرة، إلا انه وقبل مرور ثلاثة أشهر كان قد بدأ بإنجاز فيلمه الروائي القصير الأول "برسوم يبحث عن وظيفة" في ديسمبر من نفس العام.

واذا كان المهاجر الايطالي جوردانو بيدوني قد قام بأول تصوير وثائقي ما بين عامي 1914 و1915 في لبنان ثم قدم فيلماً روائياً طويلاً بعنوان "مغامرات إلياس مبروك" عام 0391، فإن أول لبناني يتجه للعمل في السينما وهو رشيد شعبان الشهير بأبو عيد الجرس نسبة الى الجرس الذي كان يقرعه بصورة متواصلة في ساحة الشهداء داعياً الناس إلى دخول صالة "الكوزموجراف" لمشاهدة الأفلام، قد اتفق كمنتج وممثل مع "بيدوني" على صنع فيلم روائي بعنوان "مغامرات أبو عيد" عام 1931.

وفي سوريا أيضاً كان أول سينمائي سوري أيوب البدري يقوم بصنع فيلم روائي بعنوان "المتهم البريء" عام 1928 ثم تلاه إسماعيل انزور بفيلم "تحت سماء دمشق"عام 1932.

وفي السودان فإن أول إنتاج وطني سوداني كان فيلماً روائياً بعنوان "الطفولة المشردة" عام 1951 من إخراج كمال محمد إبراهيم وتصوير جاد الله جباره.

وأول انتاج سينمائي عراقي كان أيضاً فيلماً روائياً بعنوان "ابن الشرق" من اخراج المصري نيازي مصطفى عام 1945 ثم فيلم "القاهرة ـ بغداد" للمخرج المصري أيضاً أحمد بدرخان عام 1946. أما الكويت وهي أسبق الدول العربية من ناحية اهتمام الدولة بالسينما حيث تم إنشاء قسم للسينما في وزارة المعارف عام 1950 ثم انتقل إلى وزارة الشئون الاجتماعية عام 1959، ثم الى وزارة الإعلام عام 1961 وهو نفس العام الذي شهد إنشاء قسم للسينما بالتلفزيون الكويتي، فلقد بدأ أول انتاج روائي بها خارج الدولة وعن طريق شركة إنتاج خاصة، حيث قام خالد الصديق بإنتاج وإخراج فيلـم "بس يا بحر" عام 1972.

وشهدت الأردن بدايات إنتاج جريدة سينمائية خلال الفترة ما بين عامي 1957 و1965 وفيلمين روائيين هما "صراع في جرش"عام 1958 و"وطني حبيبي" عام 1962.

وتعد تونس أول بلد عربي يقدم إنتاجاً سينمائياً حيث قام المخرج والناقد والمصور شمامه مشكلي بصنع فيلمه الروائي القصير الأول "الزهراء" عام 1921.

في موريتانيا بينما كانت الدولة تنشئ قسماً للسينما والتصوير يتبع إدارة الصحافة والعلاقات الخارجية ويقوم بإنتاج جريدة إخبارية مصورة عام 1968، كان ميد هوندو يقوم بإخراج فيلمين روائيين قصيرين في فرنسا هما "أغنية للجندول" و"جيراني" عام 1969 قبل أن يشرع في صنع فيلمه الروائي الطويل الأول "الشمس على شكل حرف O" في العام التالي.أما الجزائر التي بدأت سينماؤها في ساحات القتال عندما أسس السينمائي الفرنسي المناضل رينيه فوتيه مدرسة للسينما في معسكرات جبهة التحرير بالقرب من الحدود التونسية، وقامت بإنتاج أول فيلم جزائري بعنوان "الجزائر تلتهب" عام 1958، وهو فيلم وثائقي عن عمليات جبهة التحرير، فإن أول سينمائيين جزائريين وهما الأخضر حامينا وجمال شندرلي قاما بتصوير أفلام روائية جزائرية مثل "ياسمينا" و"جزائرنا" و"بنادق الحرية" عندما شكلت في تونس حكومة مؤقتة للثورة الجزائرية اشتملت على وزارة للإعلام بها قسم خاص بالسينما عام 1959.

وهكذا كانت السينما الروائية هي الشغل الشاغل للعالم العربي، صناعة الخيال وتجسيده، خاصية تتعلق بالحكي الشعبي وبالتراث وبالهوية القومية.

السينما الوثائقية

لقد استبعدت السينما الوثائقية تقريباً في المراحل الأولى من السينما العربية التي بدأت روائية خلافاً لما حدث في العالم كله تقريباً، ويكاد يكون من المستحيل أن نعثر على وثيقة سينمائية واحدة عن الاحتلال البريطاني أو الفرنسي أو الإيطالي من وجهة نظر البلدان العربية المحتلة، ومما يدعو للأسف أن معظم الوثائق السينمائية المتاحة عن العالم العربي، هي من وجهة نظر الأجانب والمحتلين من بينهم بالطبع، كيف يروننا وكيف يتعاملون معنا.

ولم تبدأ السينما الوثائقية العربية بصورة حقيقية إلا بعد استقلال بلدان العالم العربي، ولكنها كانت ومازالت تبدو كشيء غير معترف به ولا يتناسب حجم إنتاجها مع المعدلات الدولية الخاصة بها.

ولكن وعلى الجانب الآخر تحفل السينما الروائية العربية بإنجازات كبيرة على مستوى العالم ولعلها قد توجت باختيار فيلم "المومياء" لشادي عبدالسلام الذي أنجزه عام 1969 كواحد من أفضل مائة فيلم في المائة سنة الأولى من تاريخ السينما، وحصول يوسف شاهين على جائزة اليوبيل الذهبي لمهرجان كان عام 1997 عن فيلم "المصير" الذي أنجزه في نفس العام.

وتعد السينما الروائية العربية بمنزلة الإنجاز الثقافي العربي الأكثر تحققاً على مستوى العالم، فمنذ حصل الجزائري الأخضر حامينا على جائزة العمل الأول بمهرجان كان عام 1967 عن فيلمه "رياح الأوراس" ثم حصل عل السعفة الذهبية من نفس المهرجان عام 1975، وحصول الكويتي خالد الصديق على جائزة العمل الأول في مهرجان فينسياعام 1972 عن فيلمه "بس يا بحر"، تحقق السينما الروائية العربية حضورا مهماً على ساحة المهرجانات الدولية في مختلف انحاء العالم.

إن إنجازات السينمائيين المصريين بدءاً من صلاح أبوسيف ويوسف شاهين وتوفيق صالح وكمال الشيخ وبركات وحتى اسامة فوزي مروراً بعلي بدرخان وخيري بشارة ومحمد خان وداود عبدالسيد وعاطف الطيب ويسري نصرالله ورضوان الكاشف وسيد سعيد وغيرهم، والسوريين نبيل المالح ومحمد ملص وسمير ذكرى وأسامة محمد وعبداللطيف عبدالحميد ورياض شيا، والجزائريين أحمد راشدي وبوعماري ومرزاق علواس وغيرهم، والمغربيين سهيل بن بركة وجيلالي فرحاتي وفريدة باليزيدة، والتونسيين عبداللطيف بن عمار وفريد بوغدير والطيب الوحيشي ومفيدة تلاتلي، واللبنانيين جورج نصر ومارون بغدادي وبرهان علوية، والموريتانيين ميدهوندو وسيدني سوخونا والفلسطينيين ميشيل خليفي ورشيد مشهرواي... جميع هذه الاسماء وغيرها على سبيل المثال لا الحصر شغلت موقعاً مهماً لسنوات في الساحة الدولية وأثارت بأعمالها الكثير من النقاش وعبرت عن ثقافة مخالفة للعقل العربي وحاورته وصمدت أمامه وفي أحيان انتصرت عليه. فهل كان رهان اختيار الخيال في السينما العربية رهاناً رابحاً أم خاسراً؟ وهل كان أمامنا خيار آخر؟!... عندما جاءت السينما كان الإحساس بالخطر على الثقافات القومية العربية والخوف من ذوبان الهوية أو على الأقل طمسها هو ما استفز هؤلاء الرواد الشجعان للسينما العربية وحفزهم للدفاع عنها، وكان لا بد من مواجهة السينما الغربية التي تحاول التغلغل والسيطرة عن طريق الصورة بالترويج لنموذج ونمط من الأخلاق والعادات والقيم وفرضها من خلال الصورة السينمائية الروائية، ومن هنا فإن استنفار هذا الجانب بالتحديد هو محور عمل رواد السينما العربية، لقد اعتبروا وعن حق أن مهمة التوثيق تأتي في الدرجة الثانية بالنسبة لهم، وبالطبع فإن ندرة الوثائق السينمائية المتعلقة بتاريخنا ومن وجهة نظرنا تعد خسارة فادحة، ولكن أي خسارة كنا سنواجهها لو لم يبادر هؤلاء الرواد باختيار السينما الروائية كوسيلة لجذب الجمهور العربي إلى سينما ونماذج ثقافة قومية في مواجهة انقضاض ضخم للسينما الأميركية والغربية على العالم العربي؟ لقد كان انتصار الخيال في السينما العربية هو انتصاراً لهويتها وتحقيقاً لإنجاز كبير في حياة شعوبها.

 

محمد كامل القليوبي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




السينما العربية والبحث عن شكل مغاير





محمد بيومي مؤسس صناعة السينما في العالم العربي





فيلم الحرام من إخراج بركات إحدى روائع السينما العربية





لقطة من الفليم الجزائري شاب لرشيد بوشارب