واحة العربي

الحب

الحب نزعة عاطفية غامرة، تعلو عند شبوبها مختلطة بالغريزة - فوق أية نوازع أخرى، فتمتلئ المدارس بالعيال والشوارع بالأحداث والمحاكم بالقضايا والسينما بالروايات، وتسيل الكوارث المتألقة من بين أعقاب أبواب الهناء والسعادة، تداهم - هذه النزعة العاطفية الفؤارة - الأحياء في أي وقت ولو لم تقم لمداهمتها أسباب واضحة، ويزداد عملاء الحب انفعالا فينشدونه مخلوطا بأشياء أخرى لحساب الوطن أو النقابة أو القبيلة أو التنظيمات السرية، سواء أكان هذا اعتناقا وعقيدة، أو من باب الملل وإزجاء وقت الفراغ وبديلا لحل الكلمات المتقاطعة.

والمختصون في شئون الحب يقسمونه إلى مراتب تبدأ بالميل، ثم الحب، ثم الغرام، فالعشق، لكن الواقع فيه، أي الممارس، لا يقف كثير أمام هذا التقسيم، إنما يفعل المستحيل كي ينمو بشكل صارخ - وفاضح- حتى يصبح حبا ضخما شامخا، وفاشلا أيضا، ليستمتع فور فشله بالبكاء بين يدي الذكريات، ومرحلة وصول الحب الناضج إلى فشله العظيم هي التي اكتشف فيها الأدباء أنهم شعراء أو روائيون، فقد كانت كتابات الأدباء - وبالذات الأولى- تحقيقا لما فاتهم تحقيقه، وانتقاما ممن تعذر الانتقام منهم، وفي حالات كثيرة- نعرفها جيدا عن أصدقائنا- نجد أن هذا الحب، وممارسة هذا الانتقام، تتمان بعيدا وبمعزل عن الملهمة الساخنة، وزوجها، ووليدها أيضا، لأنهم- في أحيان كثيرة لم يعرفوا شيئا عما جاء في الرواية أو القصيدة، لعدم جدية الحكاية أصلا، أو لعدم حدوثها من الأساس، أو لعدم إجادتهم القراءة والكتابة في أغلب الأحيان.

وليس لدينا - في الأدب العربي - قصة حب ناجحة بالمفهوم العاطفي، فقد جرى معظمها لحساب شعراء يهتمون بالمقام الأول بهذا العذاب الكاسح الناجم عن الفشل، وكان نجاح تجربة الحب هو انتقاص يضر بنفوسهم ويحولهم من عشاق إلى أزواج، حتى عنتره ابن شداد العبسي تزوج من عبلة - حبيبته - بعد مواقع حربية وبطولات مستحيلة علينا، وكان يمكنه أن يتزوج - بصفته فارسا لا عاشقا - من أي واحدة من عبلات القبيلة، التي اختصرت في مفهومه الضيق إلى عبلة واحدة، في حين أن عشاق العرب جميعا - وقصصهم شاهدة في كتب المدارس - توقفوا عند البكاء في أثر الحبيبة التي ذهبت بعيدا، وقد يكون مفيدا هنا أن أقرر على مسئوليتي، أن قصائد عنترة بعد زواجه من عبلة لم تكن في مستوى قصائده قبل هذا الزواج، ولذا فقد شكك النقاد المعاصرون فيها واعتبروها منحولة أو موضوعة عليه، في حين أنني أعرف - من بعض الثقاة - أن عنترة قال هذه القصائد وهو جالس أمام الخيمة يداعب وليده مالك الصغير، حتى تنتهي عبلة من قلي البيض وتقمير العيش، كان يرتكز إلى سيفه الصدئ البارق المتثلم..!!

ويموج تاريخ العالم بالعشاق، ذوي التجارب الفاشلة جدا (نابليون - و- ديزريه) أو الناجحة جدا (كليوباترا وأنطونيو)، حتى أنها من قوة نجاحها مارساها عدة مرات، غير أن عشاقا آخرين وقعوا في مأزق تفسير انتحار كليوباترا بعد ذلك، والأمر بسيط، فكليوباترا كانت - في تكوينها - شاعرة معاصرة لا يشبعها إلا الفشل المتلوي في شكل ثعبان من نوع غير مأمون.

وقد نجحت وسائل التمثيل ووسائطه - من سينما وفيديو وتليفزيون - في امتصاص عمق مشاعر الحب، وحولتها إلى ألياف من المشاعر الصناعية تصلح للاستخدام عدة مرات دون أن تجرحك مرة واحدة، مثل مشاعر الأخوة والصداقة والأبوة أيضا.