أرقام

تفاؤل حَذر

ثلاثون عاما من الأحداث ماذا صنعت بالبلاد العربية؟ ماذا صنعت لنا موجة الاستقلال وثورة النفط وتيار التحديث؟ وماذا فعلت بنا الحروب الإقليمية، والحروب الأهلية، والصراعات الداخلية والخارجية، وأزمات التصحر والجفاف والصهيونية وإسرائيل؟لقد شهدت البلدان العربية - ومعها دول الجوار - الكثير من الأحداث اعتبارا من الستينيات حتى التسعينيات. واختلفت وسائل القياس لنتائج هذه الأحداث، ولكن بقى هناك مقياس لا تخطئه العين، ولا يخضع للجدل لأنه مقياس رقمي واضح. فالحرب والسلم، الاقتصاد والسياسة، تصب كلها عند الأمة وعند الفرد. وعلى مستوى الفرد يصبح السؤال: هل تتحسن لديه وسائل الحياة، أم تتراجع؟ هل يحصل على حاجاته المعنوية والمادية بشكل أفضل، أم بشكل أسوأ؟ وفي الجانب المادي تقف المؤسسات الدولية عند قضايا أساسية مثل: الغذاء والتعليم والصحة. وكثيرا ما تكتفي بمتوسط دخل الفرد كتعبير عن مستوى المعيشة.إنه الرقم الأم الذي يقول الكثير.

التراجع المستمر

في آخر تقرير أصدره البنك الدولي عن التنمية فى العالم (1992) هناك دراسة مهمة لنمو دخل الفرد الحقيقي منذ عام 1960 وحتى عام (2000) نطاق الدراسة - والتي أتت نتائجها في جدول إحصائي وعدة صفحات للشرح هو: الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، أي: البلدان العربية ودول الجوار، وللعرب بطبيعة الحال الحيز الأكبر في هذا التصنيف السياسي، والذي ينتهى إلى أنه سيشهد نسبة نمو حقيقي لدخل الفرد تبلغ (1.6)% خلال حقبة التسعينيات، وهي أقل نسبة نمو في العالم باستثناء إفريقيا جنوب الصحراء.

ومع ذلك فإن هذه النسبة المتواضعة من النمو في دخل الفرد هي الأفضل بالقياس لسنوات سابقة كثيرة.

في الخلفية تقف نسبة الستينيات شامخة إذ سجلت (6%) سنويا، تأتي بعدها السبعينيات (3. 1%) ثم يبدأ التدهور في الثمانينيات، فيأتي نمو دخل الفرد بالسالب ويسجل (2.5)%، حتى إذا بلغ عام 1991 أصبحت نسبة التناقص (4.6%)، أي أن متوسط الدخل كان يتراجع بدلا من أن يزيد، ومستوى المعيشة كان يتقهقر بدلا من أن يتحسن.

هل هناك حيثيات تشرح ذلك التراجع، أو تشرح التوقعات التي تقول إن الموقف سيتحسن في التسعينيات؟

البنك الدولي لا يقدم هذا التحليل، ولكن قراءة الأحداث والأرقام يمكن أن تكون دليلا لنا.

لقد كانت الستينيات - كما قلنا - هي الأفضل على الإطلاق، فقد كانت الحقبة التي شهدت السنوات الأولى لاستقلال العديد من البلدان العربية، كما شهدت تحولات سياسية واقتصادية استهدفت النهوض بالتنمية، ولاقت بلدان كثيرة العون من الخارج خاصة الاتحاد السوفييتي الذي مثل في تلك الحقبة نقيض الاستعمار الغربي، وكانت إحدى وسائله في الصراع دفع التنمية في بلدان العالم الثالث.

وخلال ذلك تغيرت طبيعة الاقتصاد. في العديد من البلدان، وشهدت مصر - على سبيل المثال - أعلى نسبة نمو في العالم الثالث خلال النصف الأول من الستينيات. وتزايدت حصة النفط سواء في البلدان العربية، أو إيران التي تدخل فيما يعرف باسم الشرق الأوسط.

لقد حدثت تحولات كثيرة أفرزت هذه النسبة العالية من النمو، والتي بدأت من نقطة متدنية في مستويات الدخل. وذلك رغم أن المنطقة قد شهدت حربين خلال الحقبة: حرب اليمن وحرب 1967.

ثورة النفط ومعدل متواضع للنمو!

مفاجأة الأرقام ما جرى في السبعينيات، فالشائع أنه عندما سيطر المنتجون على ثروتهم النفطية وزادت الأسعار في نهاية 1973 وارتفعت في نهاية السبعينيات إلى ما يقارب الأربعين دولارا للبرميل، الشائع أن ذلك كله قد خلق واقعا اقتصاديا جديدا. والقول صحيح وغير صحيح. هو صحيح حيث خلقت عوائد النفط حركة تنموية واسعة امتدت آثارها من دول النفط إلى بقية الدول العربية، كما خلقت هذه العوائد امتدادات أكثر للاقتصاد العري في الأسواق العالمية التي أصبح أكثر ارتباطا بها. في نفس الوقت فإن نسبة النمو على مستوى الأفراد كانت في الحدود التي أشارت لها أرقام البنك الدولي: (1،3%) سنويا فقط.

وقد يأتي في التفسير ارتفاع نسبة التضخم التي التهمت الكثير من الدخول والعوائد، كذلك قد يلعب دورا شبيها ما تم توجيهه في ميزانيات الدفاع خلال هذه الحقبة والتي قارب فيها مخصص الجيش أكثر من ثلث الموازنة العامة في بعض البلدان.

إنها حقبة الرواج، ولكن آثارها عندما تصل إلى الفرد تصبح بنسب نمو متواضعة. وعلى النقيض تأتي الثمانينيات أكثر وضوحا، فقد تراجع نمو دخل الفرد الحقيقي وباطراد بنسبة (5،2%) سنويا. فهذه الحقبة هي التي شهدت تراجع أسعار النفط، وتراجع العوائد (لأقل من النصف)، كما شهدت الحرب العراقية الإيرانية التي استنزفت الكثير من الطاقة الاقتصادية لبلدان الخليج. يدخل أيضا: سباق التسلح في المنطقة، وتعثر التجارب التنموية، والوقوع في بئر الديون وأعبائها لعدد غير قليل من البلدان التي بدأت تتحول من اقتصاد موجه إلى اقتصاد حر. وتدخل في الاعتبار أيضا: حرب لبنان الأهلية، وحربها مع إسرائيل، وكوارث الطبيعة من جفاف وتصحر في بعض البلدان.

حرب الكويت: شيء آخر

عام 1991 كان شيئا آخر فقد تراجع دخل الفرد في المنطقة لمستوى قياسي لم يبلغه قبل ذلك.. إذ نقص الدخل بنسبة (4.6%)، أي ما يزيد على ضعف معدل التراجع في عام الغزو العراقي (90).

وبطبيعة الحال، فإن الأحداث قريبة ومحفوظة. لقد أصاب الشلل - وبسبب الغزو العراقي للكويت أيضا - اقتصاد دولتين: العراق والكويت. جفت الآبار، وتوقفت تروس كثيرة في عجلة الاقتصاد، واحتشدت المنطقة وراء هدف التحرير بما يلزمه من نفقات بلغت ذروتها في أسابيع الحرب وما تلاها، حيث أصبحت الحاجة واضحة لمزيد من مستلزمات الدفاع.

لقد خرج الاحتلال العراقي، ولكن بقيت آثاره، سواء بالنسبة لنفقات دول الخليج، أو معدل الأداء الاقتصادي، أو الانعكاس الذي تركه ذلك على بقية دول المنطقة المصدرة للعمالة والتي بات عليها أن تستقبل ملايين البشر بدلا من ملايين الدولارات. البنك الدولي يتوقع أن يكون الحصاد لعام (91) على هذا النحو، لكنه يتوقع تحسنا في السنوات المقبلة وحتى عام (2000).

قد يكون مربط الفرس في التحسن: توقعا باستقرار نسبي في الخليج وعلى نطاق الصراع العربي الصهيوني. إنه السلام الذي تصحبه آمال تنموية، يصحبها نمو أفضل في معيشة المواطن ومستوى دخله. فهل يحل السلام؟

التوقعات - أعلاه - محفوفة بالخطر سواء في جانبها السياسي (سلام الشرق الأوسط والخليج)، أو في جانبها الاقتصادى (تحسن موقف البترول وأسعاره في منتصف التسعينيات).

ويزيد الخطر قضية الاستقرار الداخلي وسط توترات تتزايد في الكثير من البلدان العربية.

نتفاءل، أم نتشاءم؟ الأحداث القريبة سوف تحدد الإجابة عن السؤال. هل نقول إذن: إنه التفاؤل الحذر ذلك الذي قدمته توقعات البنك الدولى؟ أظن ذلك.