(الثقافة الثالثة)... ولكن! سليمان إبراهيم العسكري

(الثقافة الثالثة)... ولكن!

  • الخوف من طغيان الثقافة العلمية خوف مشروع حتى لا تتحوّل إلى بديل شامل عن مجمل الثقافة الإنسانية.
  • نشر الثقافة العلمية كفيل بحماية المجتمع من الاستخدامات السيئة للعلم ومفرزاته في الاستهلاك اليومي أو المشاريع الاستراتيجية.

الندوة الموسعة التي أقامتها (العربي) تحت عنوان (الغرب بعيون عربية), لا تزال أصداؤها تتردد, ليس فقط على مستوى الإعلام والصحافة الثقافية, بل أيضًا في جوهر المواضيع التي تبرز كأولويات جديرة بالبحث في عالم اليوم إزاء الغرب, الذي لا يمكن تجاهل موقعه المؤثر على ظهر كوكبنا. ومن بين هذه المواضيع يطفو مصطلح (الثقافة الثالثة) الذي يعكس انشغال الغرب بتأثيرات التقدم العلمي والتقني, منذ ما يقارب الخمسين عاما, بينما الكثيرون منا لا يزالون يجترون ثقافة (ِمكَرِّ, ِمفَرِّ), بالرغم من تغير الزمان. (الثقافة الثالثة) مصطلح يكاد يكون مجهولاً في الساحة الثقافية العربية, بالرغم من خطورته وإلحاح دلالاته, وهو مما ينبغي عدم تركه, أو تمريره دون فحص ومراجعة.

حين تناولت في حديث الشهر لعدد أكتوبر الماضي موضوع (التعليم العلمي والتكنولوجي) كحلقة غائبة من حلقات التعليم العربي, الذي لا يماري أحد في تأزمه, واخترت لمعالجة الموضوع منطق المقارنة مع غيرنا, خاصة إسرائيل, وجعلت العنوان الثاني (إنهاض الذات بألم المقارنة), لم أكن أتصور أن تكون المقارنة موجعة إلى هذا الحد, فقد انتبه كثيرون من المثقفين الأصدقاء, والقراء الأعزاء, إلى هول وقائع وأرقام المقارنة التي تشير إلى تقصيرنا العلمي. وهو تقصير في حق أنفسنا, يضعنا في موقع الأضعف دون مبرر حقيقي, فمن نواجهه ليس متفوقًا عنا بالخلقة أو الجبلة, بل الأمر كله أخذ بالأسباب التي أهملناها طويلاً, وآمل ألا نهملها أبدًا. لهذا أجدني مدفوعا لمواصلة هذا الإيلام, حالمًا بأصغرمساهمة ممكنة, من أجل إيقاظ الذات بحقائق المقارنة مع الغير. والغير هذه المرّة ليس وقفًا على من نواجهه داخل منطقتنا العربية, بل من يطل علينا بتقدمه العلمي من شرفات الغرب ونوافذ الشمال, وننظر إليه في عجز مموّه, أو قعود استهلاكي, وهو مصدر هذا التخريج الثقافي الجديد الذي يدور حوله حديثنا في هذا الشهر.

لقد تحدثت عن (التعليم العلمي والتكنولوجي) من قبل, مؤكدا أهميته وخطورته لردم الهوة بيننا وبين غيرنا, وأود أن نتحدث اليوم عن (ثقافة العلم والتكنولوجيا) التي بات يُشار إليها بمصطلح (الثقافة الثالثة) للدلالة على تغيير خطير وواقعي في مفهوم الثقافة وتعريف المثقف, وهذا بالضرورة يقودنا إلى التساؤل عن كنه النخبة التي تقود عملية التعريف بهذه الثقافة الواقعة والضرورة, وهي نخبة يشار إليها بتعريف (مفكرو الثقافة الثالثة) (Third-Culture Thinkers).

والجديد في الأمر, من زاوية ما عرفناه من معتاد التاريخ الثقافي, أن هذه (الثقافة الثالثة) ومفكريها, لم تعد نوعا من ترف النخبة الثقافية التقليدية وسمر الصالونات وترفّع الأبراج العاجية, بل هي بالمعاينة والاختبار, صارت ضرورة وجود في عالم اليوم, وضرورة معاش بالشكل الذي يليق أو ينبغي أن يليق بالإنسان في مطلع الألفية الثالثة وبدايات القرن الواحد والعشرين. ومادام الأمر كذلك, فإنه لا مفر من ضرورة العودة إلى البدهيات في استقراء كُنه هذه (الثقافة الثالثة) ومفكريها, وما يعنيه وجودهم أو غيابهم أو تغييبهم في ساحتنا العربية. كما لا يفوتني أن أحذر من التمادي في اعتبار هذه (الثقافة الثالثة) بديلاً شاملاً عن مجمل الألوان الثقافية الإنسانية التي من دونها تغدو هذه الثقافة الثالثة نفسها مثل السحر الذي يرتد على الساحر, وهو أمر سأعود إليه, وإن كنت أفضل الرجوع إلى حكاية هذه (الثقافة الثالثة) نفسها, فلها معي صحبة خاصة, ودلالات عامة.

عود على بدء

منذ ما يقارب السنوات الثلاث لفت نظري عنوان كتاب مما تعرضه صفحات التعريف بالكتب المهمة في الدوريات الأجنبية وكان عنوانه الرئيسي The Third Culture, وبعد ذلك بعدة أشهر قدم لي صديق عزيز ممن ينظرون إلى الغرب بعيون عربية متحضرة, ويعودون من أسفارهم إلى هذا الغرب بكل جديد من زاد العقول العطشى إلى جديد المعرفة.. قدم لي الكتاب, وما إن راجعته حتى أدركت أهميته الشديدة لنا كعرب, من موقع أن الفجوة الحقيقية بيننا وبين غيرنا من أهل الشمال السياسي (ومن يمشي على خطاهم من أهل الجنوب والشرق), هي فجوة في التقدم العلمي وتطبيقاته المتجسدة في التكنولوجيا والمتجلية في المعرفة.

دفعت بالكتاب ليتم عرضه على صفحات (العربي), ونُشر هذا العرض في عدد نوفمبر الماضي (2003), أي بعد شهر من نشر افتتاحية عدد أكتوبر التي أشرت إليها. وهكذا خلال شهرين متواليين كان العلم والتقنية هما محور التنبيه إلى نقيصة من نقائص التعليم والثقافة لدينا. لكن ردود الفعل, الحماسية, التي لاحظتها, تجعلني أراجع مفهوم (الثقافة الثالثة) هذا بمنطق نقدي لا احتفائي, فأقول ما لهذا المفهوم من أهمية وانعكاسات, وأذكر ما أتصور أنه يرتبط به من محاذير وتحفظات.

من الإنكار إلى التعظيم

عام 1959 أخرجت دار نشر جامعة كمبريدج كتابا لـ (س.ب. سنو) تحت عنوان (ثقافتان حيال الثورة العلمية), وكان جوهر هذا الكتاب القول إن هناك ثقافتين ترتبط إحداهما بالعلم والأخرى بالإنسانيات, وواجه هذا الكتاب انتقادا واسعًا لاعتباره أن العلم رافد من روافد الثقافة. ولعل هذا مما حدا بسنو إلى إعادة نشر كتابه عام 1962, مضيفًا إليه مقالة جديدة لا تقول إن هناك ثقافتين - كما سلف - بل تتوقع ظهور ثقافة ثالثة قوامها التواصل بين المثقفين أدبيًا والعلماء. ولم تكد تمضي بضع سنوات حتى أخرجت دار نشر كمبريدج كتابًا لـ (ج. بروكمان) عنوانه الثقافة الثالثة (The Third Culture) وأعيد نشره بعد ذلك عدة مرات حتى وصل إلى الطبعة الأحدث والأشهر التي ذاع صيتها أخيرًا, وحملت عنوانًا ثانويا جديدا يشير إلى أن هذه (الثقافة الثالثة) هي ظهير ثورة العلم والتكنولوجيا. وكانت وجهة نظر المؤلف جديدة حقًا, وصادمة لمن أغلقوا باب الثقافة على الإنسانيات, ولم يسمحوا للعلم بأن يكون مجرد منتسب إلى مفهوم الثقافة. فقد قطع الطريق حتى على الحل الوسط الذي يمزج بين معطيات العلم وإعادة تقديم هذه المعطيات للجمهور من قبل مثقفي الإنسانيات من آداب وفنون وفلسفة وعلوم اجتماع وغيرها, وأعطى للعلماء أنفسهم حق تقديم هذه الثقافة الجديدة المرتبطة بالعلم للجمهور مباشرة. وكان لهذه القفزة مبررات منطقية هي أن العلم - خاصة في ذراه العالية الحديثة - لم يعد معبرًا عن إدراك بدهي بل صار مرتبطًا بأسلوب خاص في التفكير يناقض التفكير البدهي الذي تكثر احتمالات ارتكابه لأخطاء ضخمة عند تطبيقه على مشاكل تحتاج إلى نظام تفكير كمي صارم كما في مجال العلوم. وقد صادق على هذه الملاحظة بالرأي والفعل كثيرون ممن ينتمون إلى العلم والثقافة العلمية. فيقول (لويس وولبرت) في كتابه (طبيعة العلم غير الطبيعية) الذي ترجمه الدكتور سمير حنا صادق: (إن المجتمع العلمي أصبح الآن معتادًا على شرح مجالات عمله للجمهور, بعد أن تخلى العلماء عن فكرة الارتياب في عملية تبسيط العلوم) ولم يكن هذا الزعم بعيدًا عن الحقيقة الواقعة إذ شهدت السنوات الأخيرة بزوغًا ساطعًا لكتب الثقافة العلمية التي يتصدى لتقديمها علماء مرموقون, وصارت كتبهم تنافس الروايات الجماهيرية في الحصول على لقب أفضل الكتب مبيعًا في العالم مثل كتاب (تاريخ موجز للزمان) و(عالم جديد شجاع) و(كيف نموت) وغيرها من الكتب التي جعلت مؤلفيها نجومًا لهم جمهورهم الواسع من خلال وسائل النشر والإعلام المختلفة.

(الثقافة الثالثة) إذن, هي الثقافة العلمية, مقدمة من قبل علماء أو مشتغلين بالعلم, وبغض النظر عن التسمية التي ينبغي مراجعتها لما تتضمنه من معنى القطيعة مع ثقافة أولى وثانية تسبقها أو رابعة وخامسة تليها, إلى غير ذلك من إيحاءات الترقيم الذي لا يخلو من الخطورة, فإن تصدي العلماء والمشتغلين بالعلم لتقديم ثقافة المعرفة العلمية - وتطبيقاتها التقنية بداهة - هي خطوة مهمة وقيمة مضافة لرافد من روافد الثقافة لم يعد ممكنا للإنسان المعاصر الذي يعيش عصر تقنية المعلومات وثورة الاتصالات والمكتشفات المذهلة في أعماق الخلية الحية وآفاق الكون الفسيح.. لم يعد لهذا الإنسان أن يكون مثقفًا دون معرفة بها قدر من العمق الكافي لما يدور في حقول العلم وتطبيقاته التي وصلت إلى أبعد نقاط كوكبنا, وحيثما كان هناك بشر, حتى في البيئات الأكثر تخلفًا من العالم, وكما يقول (اسحاق آسيموف): (إن الجمهور الذي لا يفهم كيف يعمل العلم يمكن بسهولة أن يقع ضحية للجهلاء الذين يسخرون مما يجهلون, أو لأصحاب الشعارات الذين يزعمون أن العلماء اليوم هم جنود مرتزقة في خدمة العسكريين).

وما الفائدة.. أو العائد?

وأبعد مما قاله آسيموف فإن نشر الثقافة العلمية بدقة ووضوح من لدن عارفين بالعلم, لا يقف فقط عند حدود استكمال المنظومة المعرفية للمثقف المعاصر, بل يشكل مردودًا حقيقيًا على التنمية الإنسانية والتطور العصري في أي مجتمع ينتبه إلى ضرورة نشر هذه الثقافة العلمية بين مواطنيه.

إن نشر الثقافة العلمية - كما هو نشر الثقافة عموما - يشكل مساهمة في صقل وإرهاف الإنسان بفعل المعرفة. كما أن وعيه بالعالم الذي يعيشه زمانًا ومكانًا سيزيد من شدة بصره ودقة بصيرته, في الحركة نحو مواقع جديدة ورفيعة في الحياة المعيشة. ويضاف إلى هذا التأثير الفردي تأثيرات عامة يشير إليها (لويس وولبرت) بالقول: (إن الأمل المنشود في تفهم الجمهور للعلم هو أن يؤدي ذلك إلى مقدرة أصح على اتخاذ القرار في مسائل مثل البيئة والهندسة الوراثية وغيرها من المواضيع المهمة.

ولعل هذه الرؤية تستدعي إلى الذهن مباشرة صورة صانعي القرار العرب ومتخذيه, فبديهي أن تزودهم بالثقافة العلمية - خارج تخصصاتهم الوظيفية المتعلقة بالإدارة والسياسة - سيجعل هذه القرارات أصوب مستقبليا إذ تمنح الثقافة العلمية بصيرة مستقبلية, منطقية التتابع, ذات أسس ملموسة, للآثار السلبية والإيجابية لأي قرار ممتد النفاذ من الحاضر إلى المستقبل, فلا نفاجأ بمشاريع تتألق اليوم شكليًا وتتحول إلى وبال جوهري غدًا.. سواء على البيئة أو الإنسان أو الأنساق الاقتصادية أو الاجتماعية.

كما أن نشر الثقافة العلمية كفيل بحماية المجتمع من الاستخدامات السيئة للعلم ومفرزاته, خاصة في أبعادها الاستهلاكية.

أما عن استثمار الثقافة العلمية في التنمية الإنسانية, فهو عنصر تفوق عوائده أي استثمار آخر لأنها تنظر إلى المستقبل عبر براعم الحاضر مباشرة, فلا شك أن الطفل أو الصبي أو الشاب الصغير - المزود بالثقافة العلمية منذ نعومة أظفاره, سيكون قادرًا على اختيار مجال التخصص الذي يتلاءم مع مواهبه وقدراته الخاصة, فيحدد اتجاهه بشكل أصوب ويكون عطاؤه أنجح, ويصير المردود عليه أكثر اتساقًا وإبهاجًا, وعلى مجتمعه أوفر عطاءً وإنتاجًا, وأرفع قيمة.

كل هذا جيد, ولا مراء فيه, فهذه (الثقافة الثالثة) هي البعد المعرفي وراء المحرك المادي للحياة العصرية المعيشة, للعلم, لكن الحماس المفرط لهذه الثقافة يمكن أن يؤدي إلى تفريط يضر بمجمل المحتوى الثقافي اللازم للإنسان الفرد وللنسيج المجتمعي لهذا الإنسان.

تحسّبات ومحاذير

إن الخوف من طغيان العلم, وبالتالي طغيان الثقافة العلمية, أو (الثقافة الثالثة) هو خوف قديم, فها هو (د.هـ. لورانس) يعبر عنه قائلاً: (قتلت المعرفة الشمس, فجعلت منها كرة من نار مليئة بالنقاط السوداء.. عالم العقل والعلم: هذا هو العالم الجاف العقيم الذي يعيش فيه العقل التجريدي).

وعلى هذا النسق يقول فاسلاف هافيل: (إن العلم الحديث يلغي الأسس العميقة الأساسية لعالمنا ويعتبرها مجرد خيال.. أصبح العلم هو الوصي القانوني الوحيد والحكم المدعي لكل الحقائق. لقد ظن الإنسان أنه يمكنه تفسير الطبيعة والتحكم فيها. كانت النتيجة أنه حطمها وفقد حقه في إرثها).

بعض هذه المخاوف مشروعة, وبعضها الآخر مردود عليه, إذ يقول العالم (لوس وولبرت): (من الممكن أن يكون العلم مقلقًا على الأقل لبعض الناس, فهو يرفض السحر, ولا يعلمنا كيف يمكن أن نعيش, ولكن لا يوجد سبب وجيه لتصديق مقولة د. هـ. لورانس بأن الاكتشافات العلمية تخلق عالمًا (جافًا وعقيمًا) بإزالة الغموض عن الحياة, ولنذكر مقولة أينشتين: (إن أعظم لغز في العالم هو عدم الفهم الجزئي للعالم).

اللمحة الأخيرة لأينشتين, وبرغم بعدها عن لحظتنا الراهنة بعقود, هي لمحة ذكية وصائبة تمامًا كأنها ترى ما نراه نحن اليوم, من أعتى العلماء حتى الإنسان العادي الذي يشاهد بانبهار تلك الأفلام التسجيلية العلمية عبر شاشة التلفاز. فنحن جميعًا نزداد دهشة كلما كشف العلم الحديث عن صفحة جديدة كانت مطوية ومجهولة من قبل: نزداد دهشة مع هبوط أول مركبة من صنع البشر ترسل صورًا من المريخ, ونزداد دهشة عندما نرى نتائج الهندسة الوراثية في الاستنساخ, ونزداد دهشة ونحن نرى الزمن يتفتت أمام كاميرا أحمد زويل الليزرية فنصل إلى الفيمتوثانية التي تزداد تفتتا بدورها.

العلم الحديث مدهش ومليء بسحر يشبه سحر الفن, حتى أن هناك من يعتقد في أن الإبداع العلمي والإبداع الفني لهما طبيعة خلاقة واحدة, لأنهما ناتجان عن الخيال الإنساني فالعالم الألماني ماكس بلانك يقول: (العالم يجب أن يكون له خيال جامح فالأفكار الجديدة لا يولدها الاستنتاج بل الخيال الخلاق).

وهذا ما يردده أيضا جيكوب برونوفسكي في كتابه عن (بدهية العلم) إذ يقول: (إن اكتشافات العلم والأعمال الفنية هي استكشافات بل انفجارات لها تشابه داخلي, ويقدم المكتشف أو الفنان وجهين من الطبيعة ملتحمين ببعضهما البعض الآخر, وهذه هي عملية الإبداع في العلم والفن المبتكرين).

كل هذا جميل, وتكاد لا تختلف حوله العقول الممعنة, ولو قليلاً... لكن التحسب والتحذير هو من الاكتفاء بالثقافة العلمية مصدرًا واحدًا وشاملاً للثقافة, فهذا وإن أغنى العقل العلمي المعاصر قليلاً أو كثيرًا, يظل إغناءً مبتسرًا سرعان ما يرتد على نفسه بمظاهر الإفقار العقلي نتيجة للاختزال الثقافي.

الإنسانيات

إن المبالغة المفرطة في تقدير دور هذه (الثقافة الثالثة) عند من يستشعرون بؤس الموقع السياسي والاقتصادي في عالم اليوم, وكنتيجة للتخلف العلمي والتقني هي - أي المبالغة المفرطة - إهدار لحكمة التطور, بل التطور العلمي نفسه, فالتاريخ الثقافي,, وضمنه تاريخ العلم, يخبرنا أن ثقافة الأدب والفن والمعرفة الإنسانية بشتى ألوانها كانت ممهدة غالبا لظهور طفرات في مجال الاكتشافات العلمية وتطبيقاتها. وإنني لأستشهد هنا بما جاء في كتاب (قصة العلم) لـ(ج.ج جراوثر) تحت عنوان (ميلاد العلم الحديث وارتقاؤه)...يقول: (أقيمت أسس العلم الحديث بفضل مجتمع المدينة الذي نشأ إبّان عصر النهضة, وتطور بادئ ذي بدء في مدن إيطاليا, وقد خضعت الحياة في تلك المدن لهيمنة متفاقمة من الصيارفة والتجار ورجال الحرف, الذين أدخلوا التحسينات على مختلف تقنياتهم. وكان تزايد الثروة ذا آثار شتى, من ضمنها أثران لهما أهمية عظمى, ذلك أن أرباح التجارة والتصنيع جعلت الناس أكثر انكبابا على تحسين العمليات الفنية الأساسية لهم, والثروة المتنامية أتاحت مزيدًا من الفراغ للتأمل في سائر العمليات الطبيعية والاصطناعية. في البداية انصرف اهتمامهم إلى الآثار والآداب, فنقبوا عن الآثار الإغريقية والرومانية, وكشفوا عن تماثيل وأوان للزهور).

كانت هذه بداية عصر النهضة, عصر انتقال أوربا من العصور الوسطى إلى العصور الحديثة عبر التيارات الثقافية والفكرية التي ظهرت - بداية - في إيطاليا في القرن الرابع عشر, حتى بلغت أوج ازدهارها في القرنين الخامس عشر والسادس عشر فانتقلت هذه النهضة من إيطاليا إلى فرنسا وإسبانيا وألمانيا وإنجلترا. وفي هذه البدايات المبكرة لصعود أوربا كان أعظم شخصيات عصر النهضة فنانين أعلاما مثل (ليوناردو دافينشي), و(مايكل أنجلو).

إذن كانت الثقافة, برؤاها الجمالية في الفن والعمارة والموسيقى والإنسانيات, هي التمهيد الحقيقي للنهوض الشامل في أوربا والغرب عموما, وما النهوض العلمي الأخير وما يواكبه من ثقافة علمية, أو (ثقافة ثالثة), إلا آخر ملامح هذا النهوض.

فلتكن (الثقافة الثالثة) هدفا من أهداف النهوض العربي المأمول, لكنها ينبغي ألا تكون الشكل الوحيد من أشكال الثقافة التي ينبغي إعلاء شأنها. فالثقافة طيف واسع من الألوان, ينبغي أن يبدأ بالرقي والجمال, ويظل يطمح إلى الرقي والجمال, ومن ثم لا يهمل الإنسانيات, فهي ليست فقط شرطا من شروط حدوث النهضة العلمية وغير العلمية, بل هي صمام أمان ليظل لأي نهضة وجهها الإنساني, وبالتالي جدارة استمرار هذه النهضة في الحياة الفاعلة لمصلحة البشرية, ولأطول وأفضل وقت ممكن.

 

سليمان إبراهيم العسكري

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات