المجتمع وأثره في ثقافة الطفل يوسف الشاروني

المجتمع وأثره في ثقافة الطفل

ثقافة الطفل هي كل ما يتلقاه من بيئته, فهي تبدأ قبل ولادته لأنها وثيقة الصلة بثقافة الوالدين, وثقافة المكان والزمان اللذين يستقبلانه.

المعروف أن سلوك الإنسان يكون مدفوعا بحاجاته الأساسية: بيولوجياً مثل الطعام والشراب وتجنب الأذى والحاجة إلى التناسل, ونفسيا مثل حاجته إلى التقدير والقبول الاجتماعي بل والتفوق, وبذل المحبة وتلقّي المحبة مما يلبّي الحاجة إلى تحقيق الذات. وهو في سبيل ذلك يتفاعل مع جميع المعطيات الموجودة في بيئته سلباً أو إيجاباً.

ثم تأتي مرحلة تالية - لدى البعض وليس الكل - بعد إشباع الحاجات البيولوجية والسيكولوجية يكون التطلع فيها إلى تذوق الجمال بل وإبداعه. فلا يكفي أن أستخدم إناء قادراً على حفظ الطعام فقط, بل أن يكون أيضا إناء جميل الشكل. والرداء الذي أرتديه لا يسترني فقط بل يكون متناسق الألوان يعطيني شكلا مقبولا أمام الآخرين. من هنا تأتي الحاجة إلى الإبداع, بهذا تتكامل ثقافة الإنسان وإنسانيته, أي ما يتميز به عن الحيوان الذي تقتصر حياته على إشباع حاجاته البيولوجية وبعض الحاجات السيكولوجية في مجتمعات الحيوان الأرقى تطورا. وهكذا نشأت في تاريخ البشرية الأنشطة في مجالات العلوم والفنون والآداب والتنظيمات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية... وهذه بدورها أوجدت قيما ثقافية في كل من مجالاتها, وما لم تجد جمهوراً يتفاعل معها فلن يقدَّر لها أن تحيا. فكل هذه الأنشطة الثقافية لا بد لها من طرفين: مبدعين ومتلقين, ولا يزدهر الإبداع في أرض جدباء.

وهكذا يأتي الطفل إلى هذا العالم ليجد حشدا في انتظاره تتضافر مختلف عناصره على تشكيل ثقافته في مقدمتها: الأسرة, فالتلفزيون, فالمدرسة, فكتب الأطفال ومجلاتهم.

الخلية الأولى

الأسرة هي الخلية الأولى التي تشكل ثقافة الطفل, الأسرة بمعناها الضيق أي الوالدان وبمعناها الأوسع أي الإخوة والأخوات. إن وُجدوا. والأقارب والمترددين عليها, وهي غالبا ما تكون ثقافة مستمدة من خلاصة البيئة التي ينشأ فيها الطفل. وهي ليست ثقافة معلومات فقط,بل هي أيضا ثقافة أخلاقية تشكل وجدان الطفل وضميره, وثقافة سلوكية يشكلها تقليد الطفل لمن يعتبرهم قدوة له, وثقافة اجتماعية يستمدها من علاقاته بالأقارب والمترددين على الأسرة وعلاقاتهم به.

ومجموع هذه الثقافات - بالإضافة إلى ما يرثه من جينات والديه - تكون شخصيته بمختلف أبعادها. فالعلاقة بين التربية والثقافة وثيقة الصلة, بل تكاد تكون هنا واحدة, إذا أخذنا الثقافة بمعناها الشامل والتي تلتحم بشخصية الإنسان فتصبح جزءاً منه. وهذا واضح إذا فصلنا توأمين عن بعضهما البعض الآخر لينشأ كل منهما في بيئة تختلف ثقافتها عن الأخرى, فإننا سنحصل في النهاية على شخصين قد يقتربان في الملامح الجسمية وربما العصبية, لكنهما يختلفان بعد ذلك اختلافا بينا.

ويتعرض معظم أطفال العالم العربي للقهر الأبوي, ربما لأن هؤلاء الآباء كانوا قد تعرضوا بدورهم لقهر آبائهم, وهكذا يسلّم كل جيل للجيل الذي يليه ما ورثه من هذا القهر الذي يحبط الطاقات الإبداعية, ويلغي استقلال الشخصية. ولا يسلم إلا قلة في عالمنا العربي من هذا المصير.

فوجود الطفل في أسرة تتسامح مع الأخطاء وتشجع على الاختلاف, ولا تُكثر من النقد, وتأخذ موقفا تشجيعيا لأفكار أفرادها يساعد على تنمية الشخصية وقدراتها الإبداعية. بينما يقضي على الإبداع وجود الطفل وسط جماعة تسلطية تكثر من النقد ولا تتسامح إزاء الأخطاء, وتبتر من يخرج عن المألوف, وتسخر من الجديد, وتتسم بالصلابة وضيق حرية الحركة المسموح بها.كذلك يفسد الطفل أن ينشأ في وسط يضاعف من تدليله. بينما يعرض شخصيته للاهتزاز والتأرجح بين تطرف في القسوة يعقبه تطرف في الحنان تكفيراً عن هذه القسوة, أو تطرف في القسوة من أحد الوالدين وتطرف في الحنان من الطرف الآخر. هذا المناخ هو أحد عناصر ما أسميه (البنية التحتية لثقافة الطفل), لأن شخصيته لا تتأثر بها فحسب, بل تظل كامنة لتعود فترد الدّين للجيل التالي وبنفس ما عومل به الطفل في طفولته.

فثقافة الطفل تتطلب أولا ثقافة الوالدين. وكما أن بعض الدول تحتم الكشف على صحة الوالدين وملاءمة كل منهما للآخر حتى لا ينتج عن زواجهما نسل ضعيف, فلا بد أن يكون هناك نظام لا يتم زواج بمقتضاه إلا بعد أن يدرس المقبلون على الزواج برنامجا في رعاية الأبناء أسوة بما يحدث في معاهد التربية لإعداد المعلمين والمعلمات لاسيما معاهد رياض الأطفال, لتثقيف من لم يوهبوا موهبة الأبوة والأمومة, فالأبوة والأمومة موهبة - كأي موهبة أخرى - يمكن تدعيمها بالتوعية.

ترفيه أم تثقيف

الطفل لا يجلس سلبيا أمام جهاز التلفزيون, وإنما هو - كما شبّهه البعض - كقطعة الإسفنج التي تمتص كل ما تتعرض له. كما أكدت بعض الدراسات أن المعلومات التي يحصل عليها الطالب في المدرسة أقل بكثير بالنسبة للمعلومات التي يستقبلها من وسائل الإعلام لاسيما التلفزيون لأنه جهاز قادر على الترفيه والتثقيف في آن واحد مما يجعله يؤثر في عقلية الطفل ووجدانه معا.

كما أنه يصل إليه عن طريق حاستي السمع والبصر, والمعروف أن المعلومات التي تصل إلى الفرد عن طريق أكثر من حاسة تترك أثراً أعمق من تلك المعلومة التي تصل عن طريق حاسة واحدة.

ويرى البعض أن كثيراً من المواد التي يقدمها التلفزيون كالأفلام والمسلسلات مسئولة عن انتشار العنف والرعب والجنس جذباً للمشاهدين وللإعلان معا,.فضلا عن أن معظم هذه المواد مستوردة لا تعبِّر عن بيئتنا وتقاليدنا مما يتطلب دقة شديدة في اختيارها.

ورغم أن الانحراف ينجم عن مؤثرات متشابكة لها جذورها في البيت وجماعات الزملاء بالمدرسة والمجتمع, فممّا لا شك فيه أن التعرض المستمر لبعض برامج التلفزيون في بعض البلاد العربية يؤدي إلى أن العنف هو الحل الأمثل لمشكلات الحياة سواء أكان عنفا بدنيا أو شفويا أو بالتسلط على الآخرين.

وتُعتبر ألعاب الفيديو من توابع اختراع التلفزيون. وهذه الألعاب سلاح ذو حدين, يمكن أن يكون نافعا في اكتساب مهارات حركية وإدراكية إذا أُحسن اختيار مضمونها, ومع الأسف - كما يذكر د.عاطف عدلي العبد في كتابه (مدخل إلى الاتصال والرأي العام) (دار الفكر العربي, القاهرة, 1997) - لم يوجد بعد المضمون العربي في هذا المجال. إلا أن الخطورة تتمثل في أن أكثر هذه الألعاب انتشاراً تتطلب من الطفل أو اللاعب عامة القيام بأعمال تتسم بالعنف والخطورة, وهو عنف أكبر من الذي يعرضه التلفزيون لأنه في مشاهدة العنف المتلفز يكون المشاهد سلبيا, عكس لاعب الفيديو الذي يقوم بدور إيجابي, وعليه أن يركز ويستهلك قدراً كبيراً من النشاط العقلي والبدني, كما يخوض اللاعب معارك يشترك في تقرير مصيرها بالدبابات والصواريخ وما تتركه من تأثير على الجهاز العصبي والبصري. وتزداد الخطورة أنه بدأت تغزو البيوت في بعض الدول العربية موجة جديدة وخطيرة لتعليم الأطفال الجنس. ويكفي أن تعرف أبجديات اللغة الإنجليزية للتعامل مع برامج الكمبيوتر الجنسي.

فإذا تدرجنا من شاشة التلفزيون إلى ألعاب الفيديو والأتاري إلى البث المباشر عبر الأقمار الصناعية, فإن كثيراً من الخبراء يبدون تخوفهم من هذا البث باعتباره يشكل نوعاً من الغزو الفكري. بمعناه الشامل: الديني والقيمي والأخلاقي. فأطفالنا تجذبهم هذه القنوات الفضائية وتبهرهم بما تقدم لهم من برامج ذات درجة فنية عالية من جهة, وتخاطب غرائز المراهقين من جهة أخرى. ولذلك, سوف تبهر هذه القنوات شبابنا بالحياة الغربية وتصورها كأرض من الأحلام مما يرفع تطلعات الشباب, التي لا يمكن لبعض الدول العربية بسبب ظروفها الاقتصادية إشباعها فتتحول إلى ثورة إحباط وتذمر, فضلا عن دور هذه القنوات في نشر العنف والرعب والإباحية.

فالجانب الأكبر مما يتعلمه الطفل يأتي من مشاهدته البرامج عبر وسائل الاتصالات السابقة, ويعي في ذاكرته المعرفة التي يكتسبها دون أن يكون قصده سوى الترفيه. ومن المعروف أن إحدى طرق التعلم هي التقليد بأن نلاحظ شخصا ما يتصرف في موقف ما ثم نقلد هذا السلوك, وتكمن الخطورة حينما نتعلم العنف وأساليب ارتكاب الجرائم ونقلد ما نراه على الشاشة.

الصورة الذهنية للطفل

فبرامج التلفزيون تقوم بدور رئيسي في تكوين الصورة الذهنية للطفل (أو الشاب فيما بعد) والصورة الذهنية هي الناتج النهائي للانطباعات الذاتية التي تتكون عند الأفراد أو الجماعات إزاء شخص معين أو نظام معين أو شعب أو جنس بعينه أو منشأة أو مؤسسة أو منظمة محلية أو دولية أو مهنة معينة أو أي شيء آخر يكون له تأثير على حياة الإنسان. وتتكون هذه الانطباعات من خلال التجارب المباشرة وغير المباشرة, وترتبط هذه التجارب بعواطف الأفراد واتجاهاتهم بغض النظر عن صحة المعلومات التي تتضمنها خلاصة هذه التجارب. فهي تمثل بالنسبة لأصحابها واقعا صادقا ينظرون من خلاله إلى ما حولهم ويفهمونه أو يقدرونه أو يتصرفون على أساسها (علي عجوة, العلاقات العامة والصورة الذهنية, القاهرة, عالم الكتب, 1983, ص4).

ونضرب لذلك مثلا واحداً هو صورة المرأة في وسائل الإعلام, فأغلب الدراسات الأجنبية التي أجريت حول هذه الصورة تشير إلى وجود تحيز واضح ينطوي على تزييف للواقع يشكّل عائقا أمام مشاركة المرأة في عملية التنمية. فقلما تصوّر وسائل الإعلام النساء وهنّ يشاركن في جوانب ذات شأن في العمل, أو وهن يشغلن وظائف ذات مستقبل أو مناصب في الحياة العامة. وينتهي رأي هذه الدراسات الأجنبية إلى أن الأثر الشامل لصورة المرأة في وسائل الإعلام يبرر وجود أوجه التفاوت القائمة ويدعم استمرارها.

وتتضح خطورة هذا التحيز عند عرضه في وسائل الإعلام العربية لأنه يقدم الصورة النمطية المتحيزة نفسها ضد المرأة, ولا يتضمن الأدوار المتنوعة للنساء كما هي في المجتمع دون المساهمة في تغيير النظرة التقليدية إلى المرأة. من المعروف أن وسائل الإعلام العربي - وخاصة التلفزيون - تعتمد بدرجة كبيرة على المضمون الأجنبي, كما تبيَّن اعتماد كثير من الإعلانات على الأفلام الإعلانية المصوّرة في الخارج سواء قدمت بتعليقها الأصلي أو صاحبها تعليق محلي, على الرغم من أن هذه الصورة الأجنبية التي تُنقل للمشاهدين عن طريق الإعلانات لا تناسب المجتمعات العربية وتهدد الذاتية الثقافية لهذه المجتمعات, وقد تكون من العوامل التي تساعد على اهتزاز أنماط القيم السائدة في المجتمع. وتزداد الخطورة حينما يشاهدها الأطفال والشباب الذين ينظرون إلى ما يرونه على الشاشة باعتبارها واقعا. لذلك, فإن من بين أهداف النظام العربي الجديد للإعلام والاتصال مراعاة وضع المرأة وتحسين صورتها في المجتمع (مصطفى المصمودي, النظام الإعلامي الجديد, الكويت, المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب, 1985, ص287).

فأجهزة الإعلام في البلدان العربية مطالبة بالإشادة بالجهود التي تبذلها المرأة في المجتمع, وإبراز دورها في الحياة الثقافية والاقتصادية, والتعريف بأنشطة الحركات النسائية, وإصلاح الصورة التي شوهتها الإعلانات الأجنبية والبرامج التلفزيونية المستوردة (المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم, الإعلام العربي حاضراً ومستقبلاً: نحو نظام عربي جديد للإعلام والاتصال).

التلقين والحفظ

وقد نبه الكثيرون من الخبراء في عالمنا العربي إلى أن الأسلوب المستخدم حاليا في معظم دوله في تعليم الطفل - أسلوب التلقين والحفظ - أسلوب يجسد قيما ثقافية سلبية, كالحرص على الامتلاك والتخزين والتكديس, والسيطرة على الشخصية النامية, والتوجس من التجريب والاستكشاف, وعدم الاعتماد على الذات.أما أسلوب التعليم الذي يتيح الفرصة لأن يكتشف الطفل نفسه وعالمه, فهو الذي يعتمد الحوار أسلوبا للتعليم, ولا يكون هدفه حشو دماغ الطفل بالمعلومات بل يعطيه الفرصة لتنمية شخصيته كأن يساهم في إدارة المجتمع المدرسي, ويدربه على كيفية التفكير وكيفية التعامل مع الزملاء وتكوين العلاقات الإنسانية, واحترام الرأي الآخر, ويولي اهتمامه لحصص الهوايات مثل اهتمامه بالمواد العلمية, بهدف اكتشاف مواهبه في الأدب أو الفن أو الخطابة أو الصحافة أو من خلال المواد العلمية أو الألعاب الرياضية, ومثل هذه الهوايات غالباً ما تكون مؤشراً على شخصيته المستقبلية. كذلك فإن من أكثر مصادر ثقافة الطفل تأثيراً في شخصيته وذاكرته القيام برحلات للتعرف على تاريخ بلده أو البلاد الأخرى وجغرافيتها ومتاحفها, وهي في الوقت التي تثري معارفه تثري علاقاته الاجتماعية عن طريق زملاء الرحلة ومرشدها. وهكذا ينمو الطفل شخصية متكاملة, بدلا من أن يصبح شخصية مشوّهة لأن بعض خلاياه تضخّمت على حساب خلايا أخرى ضمرت. ومثل هذه الثقافة تُنمِّي قدرات الطفل وتدفعه إلى اكتشاف طاقاته الإبداعية وإلى الاعتماد على النفس.

ولما كان الطفل هو الخلية الأولى التي يتكوّن منها شعب دولة ما, فإن ثمرة مثل هذا الأسلوب التعليمي هي التخلي عن أسلوب التواكل الذي يطبع شعوبنا العربية, وشيوع أسلوب المبادرة الخلاّقة. ومن الممكن أن تتضافر وزارات أخرى مع وزارات التربية والتعليم في دولنا العربية, مثل وزارات الثقافة, في تلك المهمة التثقيفية للعقل والوجدان والجسم. فأسلوب التدريس لا يقل أهمية عن مادة التدريس. ومعروف أن الأسلوب الأمثل هو الذي يستثمر نشاط الطالب التلقائي وخبراته الشخصية ومجهوداته الذاتية.

ولما كان فاقد الشيء لا يعطيه, فلا بد من توافر مواصفات في القائمين على رعاية الطفولة, سواء في المدرسة أو أجهزتنا الإعلامية أو في الأسرة, هذه الشروط باختصار:

- الإلمام, بالحقائق العلمية السيكولوجية عن خصائص مراحل النمو والترقي منذ الولادة حتى بلوغ سن الرشد, والعقبات التي تعترضها وكيفية التغلب عليها, والحاجات البيولوجية والسيكولوجية التي يسعى الكائن البشري إلى إشباعها.

- تكوين فكرة واضحة عن معايير نضج الشخصية السوية.

- القدرة على ترجمة المعلومات إلى ممارسات. فمثلا يحتاج الطفل إلى الشعور بالحب وبذل المحبة للآخرين. فيجب أن يكون القائم برعايته قادراً على أن يصغي باهتمام إلى الطفل هو يروي قصة من قصصه ولو كانت خيالية - وهي كثيراً ما تكون خيالية في مرحلة عمرية معينة - وأن يجيب عن أسئلته في صدق وبساطة, وأن يصاحبه في نزهاته, ويتيح له أن يختار أصدقاءه الذين يدعوهم إلى حفلة عيد ميلاده, وأن يتيح له التعبير عن شخصيته في المشاركة في إحدى الخدمات الاجتماعية. وباختصار ألا يكون متسلطا يكبت طاقات الطفل وطموحاته, مما يترتب عليه تقمص الطفل لشخصية القائم على رعايته بحيث يصبح مستقبلا متسلطا على من يكون مسئولا عنه.

- كذلك ينبغي أن تكون شخصيات القائمين على رعاية طاقات الأطفال الابتكارية شخصيات تتمتع بدرجة معقولة من السوية Normality لأنهم سوف يعكسون شخصياتهم على الأطفال.

مثال ذلك الاحترام المعقول للتقاليد مع عدم الانسياق المطلق لها أو ما يُعرف بالتزمت, والمرونة في التصرفات وليس التسيّب واحترام كلمته وكرامته وكرامة الآخرين, والشغف في الاطلاع على عالم الأطفال وفهمه وإيمانه بقدرتهم على التقدم والابتكار, وأن يكون شخصية حازمة ومرحة معا, أي - كما سبق أن قلنا - ليس شخصية تسلطية ترعب الطفل, وتكبت طاقاته الابتكارية, وفي الوقت نفسه لا تتيح له التسيب والفوضى.

- لا يتحتم أن يكون القائمون على رعاية الطفل متخصصين في أحد فروع العلم أو الأدب أو الفن, وإن كان ذلك أمراً مفضلاً. إنما الأهم التفتح على التراث الثقافي والعالمي, وأن تكون لهم قابلية الاستزادة منه بوعي وانتظام, وأن يقدروا قيمة كل عمل مثمر في صالح المجتمع مهما كان صغيراً. وفي عبارة موجزة أن يكونوا مثقفين. (د.سمية أحمد فهمي, علم النفس وثقافة الطفل, مكتبة الأنجلو المصرية, القاهرة, 1971, صفحات 41 - 44).

الأدب وتثقيف الطفل

في دراسة صدرت في مصر عن مركز بحوث كتب الأطفال التابع للهيئة العامة للكتاب باسم (الأطفال يقرأون) تبرز حقيقة أن كثيرين ممن يكتبون للأطفال بالعربية لا يصدرون في معظم ما يكتبون عن وعي واضح بالأثر الذي تتركه كتاباتهم في الأطفال. مثال ذلك أن 45% من الحالات محل الدراسة تُرك أبطال قصصها دون عقاب. وترك السلوك العدواني دون جزاء يؤدي إلى إغراء الصغار بمثل هذا النمط السلوكي, كما دلّت الدراسة على أن القصص التي يشيع الإقبال بين الأطفال على مطالعتها تشجع على الخضوع لا على الاستقلال, فالأنماط السلوكية المستقلة لا تحظى بأي تقدير.

كما ثبت أن كثيراً من الكتب التي تدور موضوعاتها حول قضايا علمية أو قومية لا يُقبل عليها الأطفال لعدم تقديمها بطرق مناسبة. كذلك دلّت دراسات أخرى على أن أدب الطفل العربي يقلّل من شأن المرأة ويعطيها دوراً ثانوياً في مجال تحمّل مختلف المسئوليات.

وقد تنبه الكثيرون من المشتركين في المؤتمرات الدراسية إلى هذه الحقائق. وعلى سبيل المثال جاء في النداء الذي وجّهه المشتركون في الندوة التي عقدتها لجنة ثقافة الطفل بالمجلس الأعلى للآداب والفنون بالقاهرة (المضمون الفني والثقافي المقدّم للطفل العربي) أن المشتركين في الندوة يؤكدون الأهمية البالغة لما يقدَّم للأطفال في المجالين الثقافي والفني, وأثره العميق في تكوين أجيال الأمة العربية, التي ستحمل عبء تشكيل الحياة على أرض الوطن العربي في الغد القريب. كما يؤكدون ضرورة الحرص في كل ما يقدَّم للأطفال على التشبث بالقيم الأصلية, والقيم الإنسانية العامة, وعلى تنمية وتقوية الشعور بانتماء أطفالنا إلى وطن عربي واحد, وتنمية وتقوية إحساسهم بالمسئولية نحو المجتمعات التي يعيشون فيها وتنمية قدراتهم على استخدام عقولهم وأيديهم, وقدراتهم على البحث والاستقصاء, والإبداع والابتكار, وتنمية إرادتهم واستقلالهم وثقتهم بأنفسهم.. مع دعم روح التعاون بينهم, وتوسيع خيالهم, وصقل تذوقهم للفنون مع عدم التفرقة بين طفل وآخر بسبب لونه أو عقيدته أو جنسيته أو جنسه ذكراً كان أم أنثى.

كذلك, فقد أصبحت الحاجة ماسة إلى توجيه جهات البحث للتعرف على القاموس اللغوي للأطفال العرب في مختلف أعمارهم, وبيان كيفية التقريب بين القاموس اللغوي المتداول بين أطفال مختلف البلاد العربية. ففي مجال كتب ومجلات الأطفال يمكن تقديم الكثير عن طريق التعاون والتكامل بين البلاد العربية (يعقوب الشاروني, دراسات في القصة للأطفال, د. ت, صفحات 21 - 23).

المجلات وغرس القيم

يرجع رواج مجلات الأطفال إلى أن الطفل يجد فيها موضوعات كثيرة تعوّضه عن نقص خبرته بالحياة, أو عدم إجابة الوالدين عن أسئلته, فتقدم له قصصا في صور متتابعة أو مغامرات أبطال في البحار والغابات والجبال, وقصصا واقعية وأخرى مسلية أو فكاهية أو موضوعات رياضية.

لكن كثيرا من الناشرين وكتّاب قصص الأطفال في هذه المجلات يقدمون هذه الموضوعات بطريقة هدفها الأول جذب اهتمام قارئهم الصغير وزيادة أرقام التوزيع على حساب أي قيم أو حقائق يهمنا أن نغرسها في أطفالنا, حتى أن فرنسا أصدرت عام 1945 قانونا خاصا بمطبوعات الأطفال جاء في المادة الثانية منه: يجب ألا تحتوي المطبوعات المخصصة للأطفال أو المراهقين على قصص أو صور أو تقارير أو فقرات تتضمن الإشادة بأعمال اللصوصية أو الكذب أو السرقة أو الجبن أو الكراهية أو الفجور أو أي أعمال مكونة للجريمة أو المخالفات التي يُحتمل أن تفسد أخلاق الأطفال أو المراهقين.

كما انتهى مؤتمران عُقدا في مدينة ميلانو بإيطاليا لبحث موضوع الرقابة على صحف الأطفال إلى ضرورة أن يسلك أشخاص القصة من بدايتها إلى نهايتها سلوكا سويا لا شذوذ فيه, لأن الطفل يتابع في قراءاته سلوك الشخص المحترف ويتأثر به بغض النظر عن النتائج. كذلك ينبغي على الكاتب ألا يخترع قصصا دون سند عقلي أو أساس علمي مثل قصص سوبرمان والرجل الوطواط وأمثالهما من الشخصيات الخارقة للطبيعة, لأن هذه القصص تزيف الحياة عندما تجعل في متناول الطفل الثروة والسيارات والطائرات وكل وسائل الراحة دون إبراز أي جهد بذله للحصول على هذه الوسائل, حتى إنه يحطم كل يوم ما يساوي عشرات الآلاف من الجنيهات أو الدنانير بغير أسف أو ندم, ثم يجد غيرها بالبساطة نفسها, كذلك فإن البعض يرى أن الصور أصبحت تحتل مكان الكلام في جميع صحف الأطفال مما يضيّع على الأطفال فرصة تنمية ثروتهم اللغوية, ويصرفهم عن بذل أي جهد في تعلّم القراءة, ويجعل الكتب تبدو لهم ثقيلة ومملة.

ضد التعصب

ونتيجة التطور المتسارع في الاتصالات برزت قضية العولمة بإيجابياتها وسلبياتها على الفرد لاسيما في مرحلة الطفولة. فالعولمة أفادت حيث إنها جعلتنا جميعا سكان سواحل, وقضت على سكان الداخل. بمعنى أننا بفضلها أصبحنا ندرك أن هناك أقواما آخرين يخالفوننا لغة وزيّا وعادات ومناخا ولونا وعقائد وأطعمة, وأن علينا أن نعايشهم إذا أردنا أن يعايشونا, أي أن مساحة التسامح ازدادت ومن المفروض أن تنكمش قيم التعصب المبني على الجهل بالآخر.

لكن من داخل هذا الجانب الإيجابي للعولمة يبرز خطر يهدد هوية ما يسمى بدول العالم الثالث, وهو تهديد يبدأ من أطفال هذه الدول, وبالتالي مستقبل شعوب هذه الدول, حيث تحاول ثقافات الدول التي توصف بأنها دول العالم الأول أن تكتسح ثقافات الشعوب الأخرى طبقا لنظرية الأواني المستطرقة. فبدلا من حصان المولد وعروسته بالنسبة للطفل المصري يصدرون إلينا العروسة باربي وعريسها كِنْ (بكسر الكاف), وبدلا من أكلاتنا الشعبية التراثية بدأت تنتشر مطاعم البيتزا والهامبرجر ودجاج كنتاكي, كما أصبح لا غنى عن استخدام الحروف اللاتينية - لاسيما في لغة كالإنجليزية - إذا أردت إرسال أي رسالة عن طريق الكمبيوتر, مما نتج عنه تراجع تعليم وتعلّم اللغة العربية في مدارسنا وانتشار مدارس اللغات, وعدم القدرة على التعبير بالعربية السليمة بدءاً من معظم زعماء الدول العربية في خطبهم حتى مذيعينا ومذيعاتنا في الإذاعة والتلفزيون, فضلا عن المواطن العربي الذي أصبحت الفجوة تتسع بين وصفه بـ (العربي) ولغته التي يرجع إليها هذا الوصف, مما يترتب عليه أن ينمو أطفالنا غرباء في أوطانهم, ويدفع الكثيرين منهم إلى الهجرة والشعور بعدم الانتماء مما يهدد البنية التحتية لأي دولة.

وتلك هي القضية التي علينا أن نحلها, فنحن لا نستطيع أن ننعزل عن العالم, ولا نريد أن نذوب فيه. وإذا كنت قد حاولت أن أقدم اجتهادات في الإجابة على كثير من التساؤلات عن ثقافة أطفالنا في الأسرة ووسائل الإعلام, فإنني أختتم كلماتي بإثارة هذا التساؤل الذي لا يزال ينتظر إجابة.

 

يوسف الشاروني

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات