الغرب بعيون عربية.. احتفالية العربي الثقافية محمد المنسي قنديل عدسة: فهد الكوح / سليمان حيدر

الغرب بعيون عربية.. احتفالية العربي الثقافية

متى نتخلص من الرؤية المشوهة.. للذات وللآخر?

لقد رأينا الغرب كثيرًا دون أن نبصر به. تصارعنا معه طويلا وخضنا ضده عشرات المعارك ولم نحتك به حقيقة. اجتزنا البحر الجغرافي الذي يفصلنا عنه, ولم نجتز السهوب الموحشة التي تبعدنا عنه فكريا, باختصار لم نستطع أن نتعامل مع هذا الغرب القريب منا جغرافيا المناوئ لنا تاريخيا, ولم نتوصل إلى لغة التحاور الصحيحة معه. ربما كان علينا أولا أن نمتلك ذلك العقل البارد والمحايد, بحيث نضع هذه العلاقة على منضدة التشريح ونحللها إلى عناصرها الأولية بحيث ندرك السبب الذي جعلنا نتخلف بينما يواصل هو التقدم, وجعل الهزائم من نصيبنا بينما الانتصارات من نصيبه?

هذه عينة من الأسئلة التي طرحتها الندوة التي أقامتها مجلة العربي والتي حاولت الإجابة عنها من خلال عشرات الأبحاث والشهادات والتجارب والمداخلات الصاخبة على مدى أيام ثلاثة - كانت طويلة وحافلة - شارك فيها حشد من المفكرين والكتاب والأدباء من كل قطر عربي لم يكتفوا بطرح هذه القضايا الشائكة من خلال الأبحاث النظرية فقط, ولكنهم دعموها بعرض تجارب العديد من المثقفين العرب الذين اختاروا أو أرغموا على اختيار الإقامة في أوربا.

وفي استقباله للضيوف حدد الدكتور سليمان العسكري رئيس التحرير والمشرف العام على الندوة الظروف التي أحاطت بها والهدف منها عندما قال: لقد كان من المقرر أن تعقد هذه الندوة قبل ذلك بعدة شهور, ولكن طبول الحرب التي دوت في المنطقة في ذلك الوقت كانت أعلى من أي حوار. ورغم أن جوهر هذه الحرب كان يدور حول موضوع ندوتنا. أي علاقتنا المتردية بالغرب في تلك اللحظة التاريخية, فإن أدوات الحرب عادة ما تكون أكثر قسوة, فهي تصنع أقلامها من دانات المدافع, وتستمد حبرها من دماء القتلى, أما صناع الفكر والكلمة فإن مهمتهم محدودة وتأثيرهم بطيء, ولكن الكلمة تبقى بعد أن تغيّب القبور كل الضحايا الذين ماتوا عن حق أو عن باطل..)

ولعل التوقيت هو ما أعطى هذه الندوة أهميتها, ففي مواجهة هذه الصيحات التي ترتفع في الغرب متهمة العرب بالتخلف وباتباع تعاليم دين يحرض على الإرهاب, في الوقت الذي يعتبرون فيه كل الجرائم التي ترتكب ضدنا مبررة ومعقولة, أمام هذا الوضع المختل, كان يجب أن نتوصل إلى صيغة من الحوار العقلاني نحاول من خلاله رؤية هذه العلاقة التي تجمعنا بالغرب شدا وجذبا منذ مطلع الحروب الصليبية وحتى حرب العراق.

البحث عن لغة

أقيمت الندوة تحت رعاية سمو الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح رئيس مجلس الوزراء, وقام بافتتاحها وزير الإعلام محمد أبو الحسن. ورغم أن الكلمات الافتتاحية في أمثال هذه الندوة عادة ما تدور في إطار عام يتضمن الترحيب والتمنيات بالنجاح, فإن السخونة بدأت مبكرا. فقد شدد وزير الإعلام على أهمية هذه العلاقة. المتوترة بالآخر, والتي تعني هنا الغرب بمعناه الثقافي.

واستند الوزير إلى واقع خبرته الشخصية ليضيف بعدا آخر للقضية من خلال خبرته الطويلة في معرفة خفايا العمل السياسي من خلف الكواليس حين كان يعمل في الأمم المتحدة. حين قال: (ومن واقع خبرتي الشخصية الطويلة بدهاليز الأمم المتحدة. فإن ضعف القرارات العربية في المحافل الدولية وعدم قدرتها على استقطاب الدول الأخرى يعود بالدرجة الأولى إلى العرب أنفسهم, إلى ذلك التناقض المرعب بين السياسة المعلنة في الظاهر والسياسة الخفية في الباطن..) هذا التناقض العربي هو واحد من أكبر المعوقات التي تحول دون تفاهمنا مع الغرب, فنحن عاجزون عن إيجاد لغة للحوار معه لأننا عاجزون بالفعل عن إيجاد لغة للحوار مع أنفسنا.

وكما يقول الوزير أبو الحسن: (إننا مهددون بالدوران خارج عجلة التاريخ, خاصة وقد ارتفعت أصوات الكثيرين من الذين يديرون عالم اليوم. لتتهمنا بأننا أشد المناطق تخلفا في العالم. بل إننا المنطقة الوحيدة التي ترفض التغيير, هذه النظرة الظالمة يجب ألا تدفعنا للتباكي على حالنا, بقدر ما يجب أن تكون دافعا ملحًا لنغير أنفسنا, لأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).

واعتمد رئيس التحرير هو أيضا على خبرته باعتباره متخصصا في دراسة التاريخ وقد علمه أن المرء يمكن أن يتحمل المحن عندما تأتيه من الخارج, ولكن العذاب الحقيقي هو ما يصيب المرء من جراء أخطائه. لذلك فنحن كعرب قد أخطأنا كثيرا في حق أنفسنا. وفي طريقة فهمنا لما نطلق عليه الغرب الأوربي. ويؤكد قائلا: (إنني لا أريد أن أنساق وراء التفسيرات السهلة التي ترجع معظم الوقائع التاريخية إلى مادية الغرب وعدوانيته. في مقابل روحانية الشرق ووداعته. لأن في هذا التفسير تبريرًا للتخلف ومسوغًا للهزيمة. فالغرب المادي يمتلك التفوق العلمي بجانب الفلسفة والآداب والفنون وكلها أمور تخص النشاط الروحي, والشرق الذي كان مهدًا للأديان لم يعصمه ذلك من الفرقة والتناحر بين القبائل المختلفة والمذاهب المتعددة..).

وألقى الدكتور جابر عصفور كلمة الضيوف العرب مستندا إلى خبرته كأكاديمي قام بالتدريس في العديد من الجامعات الأوربية والأمريكية ليؤكد لنا: (أن التحديق في الغرب بعيون عربية انطوى على صدمة المعرفة بمدى تخلف الأنا القومية عن الآخر الذي يواجهنا, فالعلاقة بيننا لم تبن على مبدأ التساوي والتكافؤ بين طرفيها, لذلك لم نر الغرب بطريقة صحيحة, ولم نر أنفسنا بطريقة صحيحة أيضًا. وزاد من حدة الوضع التباس الوجه الاستعماري بالوجه الحضاري للغرب الذي لم تكف عن محاولات التشبه به في آلية ولع المغلوب بتقليد الغالب التي نعرفها منذ أيام ابن خلدون).

أما المفكر والباحث الكبير الدكتور عبدالهادي التازي الذي ناب بالكلام عن الذين قامت العربي بتكريمهم فقد استقى كلمته من وحي خبرته الطويلة في الغوص في أعماق التراث العربي خاصة تلك الرحلة الطويلة التي قام بها اقتفاء لرحلة ابن بطوطة فقد ركز على أن أدب الرحلات الذي كان ولا يزال المنارة الأولى لمعرفة الآخر. وقد كان ابن بطوطة هو أول رحالة عربي يؤرخ لخصائص الاختلافات في المجتمعات الأوربية والآسيوية. واستشهد د. التازي في نهاية كلماته بقول العالم البولندي بوتوتسكي حين قال: (ما قيمة أي منظر جميل في الدنيا إذا لم نجد بجانبنا من نقول له ياله من منظر جميل, وندوة العربي تمثل المنظر الجميل لمعرفة الآخر...).

جلسات صاخبة

وقائع جلسات الندوة كانت حافلة بالرأي والرأي الآخر, وأثبتت على صخبها أننا كعرب قادرون على الحوار دون تشنج أو انفعال كما يتهمنا الغرب دومًا. كما أن كمية الغضب الكامن في النفوس لم تكن موجهة بالدرجة الأولى إلى الآخر ولكن للذات العربية التي تقاعست طويلا, وتمسكت بأهداب التخلف والنظرة الأحادية, ولم تعرف شروط النهضة الواجب توافرها.

وحتى لا نتوه في تفاصيل هذه المناقشات, ونقدم صورة عامة عن وقائع الندوة دون الإخلال بتفاصيلها, فقد سارت محاور الندوة في ثلاثة اتجاهات: اعتمد المحور الأول على الأبحاث الفكرية لمحاولة رصد ملامح التخلف في النهضة العربية بحيث لم تستطع اللحاق بنظيرتها في الغرب, وكيف ازدادت هوة التخلف بيننا وبينهم, واعتمد الاتجاه الثاني على عرض نماذج من الرحلات التي قام بها بعض المفكرين العرب إلى أوربا وأمريكا, والمشاهدات والملاحظات التي نقلوها بصدق ودهشة ومع ذلك فقد فشلنا في الاستفادة منها. أما الاتجاه الثالث فقد شمل العديد من الشهادات المعاصرة للعديد من الأدباء والفنانين الذين أقاموا ومازالوا يقيمون في أوربا ومدى درجة تفاعلهم مع هذه المجتمعات التي يعيشون فيها.

الغائب الحاضر

ومن الواضح أن الشخصية الغائبة الحاضرة في الجلسات الأولى للندوة كان ذلك الشيخ الأزهري المعمم الذي ذهب مع بدايات عصر النهضة إلى باريس وقدم لنا واحدًا من أهم كتب الرحلات العربية. ونعني به الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي, فقبل أن يبدأ هذا الرجل رحلته كانت مدافع نابليون بونابرت قد أيقظت العالم العربي كله من سبات الليل العثماني الذي استطال. وأحرقت مع رايات القرون الوسطى وكل الأقنعة التي كان هذا العالم العربي يخبئ وجهه خلفها. وقبل أن يرحل هبط رفاعة إلى ماء النيل وأخذ يتجرّع منه حتى لا تنسيه الغربة طعم هذه المياه. ولكنه حين ذهب إلى باريس اكتشف أنها كانت مياه النسيان, وأن هناك عالما آخر يموج بالفعل والحركة. وكان اكتشافه الاكبر أن هناك حقوقًا للمواطن المستعبد, سياسية, واجتماعية, وأن الذي ينظم كل هذه الحقوق هو شيء اسمه الدستور. وكما يقول الدكتور وجيه كوثراني في بحثه إن الطهطاوي قد عاد من باريس وهو يحمل في ذهنه مشروعًا إصلاحيًا كاملا, ليس إصلاح مصر فقط ولكن إصلاح العالم الإسلامي كله. كان يبغي من وراء ذلك اقتباس أشكال التنظيمات الأوربية في مجال الحكم والإدارة والتعليم. وقد عقد الباحث مقارنة شائقة بين ذلك العالم الأزهري وشامبليون عالم اللغويات الفرنسي الشهير الذي اكتشف لغز الحروف الهيروغليفية. فالأول اكتشف - رغم وعيه الأزهري الذي كان مغلقًا - أن التاريخ الإسلامي هو جزء من التاريخ العالمي, ويجب أن يلحق به ويتواصل معه. واكتشف الثاني أن مركز العالم ليس في أوربا وأن مصر القديمة هي أم الحضارات.

ويرى باحث التراث العراقي د.جليل العطية أن مشروع الطهطاوي الطموح لم ينته بعد, ولكنه تأجّل, فقد كان أول مَن نادى بنشر الوعي الفكري والثقافي والأدبي وأول مَن طالب بفتح المدارس على مصاريعها أمام الجميع, وفتح باب الاجتهاد أمام الاكتشافات العلمية الحديثة, بل إنه أيضا أول من دعا للحوار مع الغرب وكلها قضايا مازالت مطروحة حتى اللحظة.

ويخلص الباحث المصري د. جابر عصفور إلى أن الطهطاوي قد رأى أنه لاسبيل إلى مجاوزة التخلف ومحو الشعور المؤرق بالهزيمة والانكسار إلا بمعرفة أسرار تقدم هذا الآخر مهما كان مخالفا في الملّة والعقيدة لأنه من ناحية أخرى هو صاحب الاختراعات التي نحن في أمسّ الحاجة إليها.

الانشطار الروحي

لقد كان الطهطاوي هو إمام أول بعثة يرسلها محمد علي باشا والي مصر إلى فرنسا, ولكن البعثات العلمية لم تنقطع بعد ذلك, كما لم تنقطع عملية الهجرة إلى الغرب هربًا من قسوة الحياة والحكام في الشرق العربي. يؤكد الباحث المصري عزت عامر أن البعثات العلمية هذه كانت مصدرًا أساسيًا لتأسيس النهضة فعن طريقها تم تجهيز الكوادر اللازمة لبناء اللبنة الأولى في التعليم والصناعة, وقد ساهمت هذه البعثات بحق في إقامة أول نهضة صناعية وعسكرية, لولا أن كل ذلك قد تعطل وأغلق على أثر الهزائم التي تلقاها محمد علي.

ويتحدث الباحث اللبناني د.لطيف زيتوني عن الهجرة التي عرفها العالم العربي في بداية القرن الماضي, وخاصة في بلاد الشام التي كانت تعاني من الضائقة الاقتصادية ومن العسف التركي في آن واحد. ويرى أن هؤلاء المهاجرين قد تعرّضوا لنوع من الانشطار الروحي بسبب الصدمة الثقافية التي واجهتهم بها مجتمعات الغربة, أشبه بعملية جراحية مؤلمة فيها بتر من الذات, ورغم ذلك فإن معظمهم لم يعودوا. فضّلوا البقاء والبحث عن العزاء خيرًا من العودة إلى ظروف لا ترحم. وقد انتهى بهم هذا الأمر بالنظر إلى البلد المضيف نظرة عادلة, الأمر الذي جعلهم يرون إيجابيات المجتمع الجديد. ولعل هذا يتوافق إلى حد ما مع ما أعلنه الشاعر السوري محيي الدين اللاذقاني في شهادته الصارخة أمام الندوة أنه لا يعاني برودة المنفى, وأن البرودة الموجودة في بلاده الأصلية هي الأشد والأكثر كآبة.

ولكن ما الذي أعاق تطور النهضة العربية وحوّلها عن طريقها. ما السبب في كل هذه الانتكاسات المتوالية?

لعل معظم أوراق الندوة قد جهدت طويلا في الإجابة عن هذا التساؤل, ويرى الباحث المصري د. حسن حنفي يرى أن النهضة العربية لم تستطع التخلص من الموروث القديم. كما أنها لم تنجح في الدفاع عن حقوق الإنسان ربما لأنه ظل غائبًا كبعد مستقل في تراثنا القديم. وظل الغطاء النظري التقليدي قائما, الله موجود والعالم مخلوق والنفس خالدة.

أما الأديب والناقد العراقي د.صلاح نيازي فيرى أن السبب في ذلك أننا أمة تتحكم فيها العقلية الشفاهية, بينما تتحكم في الغرب العقلية التدوينية. وهو الفرق بين أسلوب يعتمد على البلاغة الشفهية والإنشائية, وبين عقلية منطقية تعتمد على الحقائق والأرقام.

أما الباحث د.محسن الرملي فيوجه نقدا حادا إلى النظرة للعربية المتباكية للذين يتعاملون مع إسبانيا و لا يرون فيها إلا الأندلس الضائع. بل إنهم يحاولون العودة بكل مظاهر الحياة الإسبانية المعاصرة بشكل متعسّف إلى جذور عربية غير موجودة, يدعو إلى النظر بشكل موضوعي والانفتاح على ثقافتها المعاصرة بدلا من التباكي على الماضي العربي فيها.

ويوجه الباحث اللبناني د. مسعود ضاهرالانتقاد نفسه إلى العقل العربي في نظرته إلى اليابان. وهي نظرة مشوشة لاترى هذاالبلد الشرقي الذي استوعب الحضارة الغربية جيدا ولا تعرف شيئا عن تجربة التحديث فيه, وهو ينتقد أيضا تلك الصورة النفعية التي تتصور أن النفط العربي يمكن أن يكون مقابل التكنولوجيا اليابانية دون أن نتوصل إلى حوار ثقافي حقيقي من موقع الندية

هل كانت الرحلة خائبة?

إن الرحلة إلى الغرب كانت فاشلة دوما. هكذا يرى القاص التونسي حسونة المصباحي والذي يقيم في ألمانيا منذ سنوات طويلة. فالغرب قد ارتبط دوما في أذهان العرب القدامى بأنه يرمز إلى المكان الموحش الكثيف العتمة. وانعكس ذلك في ثقافتهم بدءًا من المتصوّفة القدامى الذين كانوا يتجهون شرقًا حيث النور والحكمة. والأدباء المعاصرون الذين لم يستطيعوا التآلف مع هذا المجتمع, وقعوا في تناقضاته بدلا من التآلف معه.

ولكن باريس كانت هي الاستثناء بين كل هذه المدن المعتمة, يشير إلى ذلك القاص المصري أبو المعاطي أبو النجا وهو يستعرض كتاب باريس الذي ساهم في تأليفه نخبة من الكتّاب في بداية القرن الماضي, كلهم عاشوا في تلك المدينة الساحرة فترة من الزمن. إنها مدينة الجن والملائكة على حد تعبير طه حسين. ومدينة التسامح والحرية والجد واللهو وكل مظاهر الحضارة والتقدم. وهي أيضا عاصمة الفن العالمية كما يرى الشاعر المصري أشرف أبو اليزيد في بحثه عن الرسّامين العرب الذين استوطنوا هذه المدينة. فهي لا تنتمي إلى فرنسا بقدر ما تنتمي إلى روح الفن الحقيقية وما تحتويه من تيارات ومعارض وأجواء تثير إلهام أي فنان. لقد وهبتهم أبرز قيمها وهي الحرية وملأت مخيلاتهم الإبداعية بالعمل والصخب بحيث لم تغادرها حتى بعد العودة.

ولكن هل يجب أن تنسينا هذه المدينة الباهرة الوجه الآخر من فرنسا? فرنسا الاستعمارية التي غزت العديد من بلدان العالم والتي كانت ترتكب العديد من المجازر في الجزائر والهند الصينية في وقت تأليف هذا الكتاب, وفي الوقت الذي عاش فيه هؤلاء الفنانون, وهل كانت الرحلة إلى الغرب فاشلة فعلا بكل المقاييس?

ربما كانت حصيلة الرحلات قليلة على كثرتها, فقلة من الرحالة كانت له البصيرة الكافية لكي يرى ما حوله ويدرك مغزاه, ولعل خير دليل على ذلك هو رحلة إلياس الموصلي إلى أمريكا في القرن السابع عشر, وقد قام باستعراض رحلته الباحث المصري د. قاسم عبده قاسم, فالرحالة كان قسيسا كاثوليكيا من أصل كلداني, وقد قام بهذه الرحلة بتكليف من بابا الفاتيكان, وذهب إلى أمريكا في ذروة انتشار الاستعمار الأسباني لهذه القارة. وبسبب تعصّبه الديني بارك كل عمليات الإبادة التي كان يقوم بها الإسبان ضد سكان القارة الأصليين, بل وأبدى إعجابه بمحاكم التفتيش التي كانت أكبر دليل على الإرهاب الديني.

على العكس من ذلك تأتي رحلة الوزير المغربي الغساني إلى إسبانيا التي استعرضها القاص المصري د. محمد المنسي قنديل, فقد كان هذا الوزير الذي أرسله سلطان الغرب ليفاوض الملك الإسباني للإفراج عن الأسرى المغاربة واسترداد المخطوطات التي استولت عليها السفن الإسبانية. كان أديبا وسياسيا من طراز كبير استطاع أن يرصد بدايات الدولة المعاصرة في إسبانيا, وأن يقدم تقريرًا وافيًا عن الأحوال الأوربية.

وتأتي رحلة ابن جبير إلى صقلية والتي قام باستعراضها الباحث الكويتي د.نواف الجحمة في إطار الرحلة المسحية التي قام فيها هذا الرحّالة باستعراض أحوال المسلمين بعد زوال الحكم العربي, وسيادة الحكم النورماندي وهي أوضاع لم تكن سارة كثيرا, فقد كان المسلمون في المدن يتمتعون ببعض من الحرية ضمن ممتلكاتهم الضئيلة التي لا يستطيعون توسيعها أما المسلمون في الريف فقد فقدوا أراضيهم وتحوّلوا إلى رقيق أو عبيد.

ويتتبع الباحث السوداني د.حسن أحمد إبراهيم رحلة واحدة من الدعاة السودانيين الذين رحلوا إلى أمريكا من أجل نشر الدعوة الإسلامية في أمريكا, وتعرض هناك للعديد من المآزق التي جعلته يعود دون أن يكمل مهمته.

ارتياد الآفاق

معظم الرحلات التي ناقشتها الندوة والتي كان بعضها جديدًا لم يكشف عنه من قبل, كانت نتاج مشروع رائد انطلق من أبوظبي منذ ثلاث سنوات وهدفه نشر الإنتاج الجغرافي العربي والذي رعاه الشاعر الإماراتي محمد السويدي.

إن تجربة ارتياد الآفاق الذي قام باستعراضها أمام الندوة المشرف عليها الشاعر السوري نوري الجراح تسعى للكشف عن نصوص جديدة في أدب الرحلة العربية ويساهم هذا المشروع الثقافي في إنصاف الوجه الحضاري للعرب والمسلمين بعد أن دارت عليهم الدوائر وهو واجب أخلاقي وضرورة معرفية. وقد بدأ هذا المشروع عمله منذ عام 2001 وتطور ليشمل العديد من المحاور, فلم يعد يسعى لنشر مائة رحلة قديمة فقط. ولكنه اهتم بالرحلات المعاصرة أيضا, وأصدر العديد من الكتب في سلسلة تحمل عنوان (سندباد الجديد) كما يستعد المشروع لإصدار موسوعتين كبيرتين إحداهما عن الرحيل إلى بيت المقدس والأخرى عن رحلات الحج.

كانت الندوة حافلة, وكان النقاش حارًا, والقضية المطروحة جديرة بأكثر من ندوة, وبقي أن ننمي هذا الأمر حتى نستطيع أن نمتلك الرؤية التي تؤهلنا لأن نكون طرفًا في حوار الحضارات الذي نطمح إليه.

هؤلاء كرّمتهم (العربي)

قامت مجلة العربي خلال افتتاح الندوة بتكريم عدد من الشخصيات والمؤسسات التي كان لها إسهام بارز في تواصل ثقافتنا العربية مع الثقافات الإنسانية الأخرى. وهم:

  • الأستاذ الدكتور عبدالهادي التازي, المفكر والمحقق والمؤرخ العربي الكبير وعضو الأكاديمية المغربية, تقديرا لدوره في خدمة الثقافة العربية وللجهد العلمي البارز الذي بذله في دراسة وتحقيق رحلة ابن بطوطة فأحيا فيها أدب الرحلات في الثقافة العربية الإسلامية.
  • الأستاذ الدكتور نقولا زيادة المؤرخ العربي الكبير عرفانا بدوره الرائد في خدمة الثقافة العربية والجهد الذي بذله لإحياء الحضارة العربية والإسلامية, وتركيز دراساته على الرحالة والرحلات العربية.
  • المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بدولة الكويت, لدوره في إنشاء وإصدار سلسلة كتب (عالم المعرفة) التي تحتفل هذا الشهر بمرور ربع قرن على صدور أول أعدادها, والتي أصدرت نصف أعدادها كتبًا مترجمة.
    وقد ساهمت السلسلة بإضافاتها الفكرية في الانفتاح على الثقافات الإنسانية الأخرى ونقل المعرفة الموسوعية.
  • المجلس الأعلى للثقافة بجمهورية مصر العربية للدور الرائد الذي قام به في إصدار سلسة كتب (المشروع القومي للترجمة) وما حققته من إضافات فكرية ساهمت في تواصل الثقافة العربية مع الثقافات الإنسانية الأخرى.
  • الأستاذ الشاعر محمد أحمد السويدي الذي أنشأ مشروع ارتياد الآفاق لإحياء التراث الجغرافي العربي والإسلامي وما قدمه المشروع من إسهامات فكرية للتعريف بالثقافات الإنسانية الأخرى والتواصل مع شعوب العالم.
  • مؤسسة جائزة عبدالعزيز سعود البابطين للإبداع الشعري للدور الذي قامت به من أجل نهضة الشعر العربي, ومد الجسور الثقافية للحوار بين الثقافة العربية والثقافات الإنسانية الأخرى.

(العربي) واكتشاف الآخر

كان لتجربة العربي في محاولة رؤية العالم بعيون عربية محورًا مهمًا في الندوة. فقد ألقى الباحث الدكتور رجب النجار الضوء على هذه التجربة الطويلة التي قام بها محررو ومصوّرو العربي, مؤكدًا أنها أهم مطبوعة دورية معنية بأدب الرحلات مما يجعل من ديوان رحلات العربي الأضخم كمّا والأطول حجما والأفضل نوعًا والأجود طباعة والأكثر انتشارًا وتوزيعا في أرجاء الوطن العربي كافة. كما أن رؤيتها قد اتسعت لتشمل اكتشاف الآخر - ليس الغرب فقط - الذي يوجد على امتداد قارات العالم وثقافته المتنوعة والمتباينة.

وكذلك قدم اثنان من أشهر الرحالة على صفحات المجلة شهادتيهما, وهما مصطفى نبيل رئيس تحرير مجلة الهلال في القاهرة وقد عمل من قبل مديرًا لتحرير مجلة العربي وقام خلالها برحلات كثيرة وهو يستعين بهذه الخبرة لكي يبلور تلك العلاقة التي تربطنا بالغرب والتي تشمل التأثير والتأثر, وهو يرى أن المشكلة الحقيقية هي أن تأثير الحضارة الغربية كان أكثر طغيانًا.

ولكن القاص د. محمد المخزنجي يرحل بعيدًا ليجد الإجابة عن ذلك التأثير الطاغي للغرب, إنه يرحل إلى الشرق حيث ترك الغرب خلفه الكثير من بصمات العدوانية والعنف والاعتداء على الحضارات التليدة وهو يطلب من الغرب الاعتذار والتعويض عن هذه الأفعال. ليس ابتزازا على الطريقة الإسرائيلية, ولكن لتعويض منصف ومخلص في التسهيلات الاقتصادية وفي حق المعرفة وفي الحفاظ على حقوق الإنسان.

 

محمد المنسي قنديل

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




نشرة يومية كانت تصدرها إدارة الندوة وتضمنت أهم وقائع المناقشات إضافة لمساهمات ضيوف الندوة





إحدى جلسات ندوة العربي يرأسها د.عبدالله غنيم ويشارك فيها الدكتور مسعود ضاهر من لبنان ود.نواف الجحمة من الكويت وعزت عامر من مصر





سمو رئيس الوزراء الشيخ صباح الأحمد لدى استقباله وفد المشاركين في الندوة ووزير الإعلام ورئيس تحرير (العربي) يقومان بإهدائه درعا تذكارية





وزير الإعلام يقوم بتكريم الشاعر عبدالعزيز سعود البابطين للدور الذي قامت به مؤسسته في انفتاح الثقافة العربية على الثقافات الأخرى





ويكرم الدكتور عبدالهادي التازي عضو الأكاديمية الملكية المغربية للجهد الذي قام به في تحقيق التراث العربي, خاصة رحلة ابن بطوطة





تحت ظلال هذا البوم الخليجي التقليدي كان لقاء ضيوف الندوة مع رئيس تحرير (العربي) وأسرة تحريرها





وزير الإعلام يفتتح معرض (الغرب في عيون العربي) الذي أقيم على هامش الندوة





الكتيب الذي أصدرته الندوة احتفاء بالمكرمين





د. محمد رجب النجار





د. محمد المخزنجي





مصطفى نبيل





صلاح عيسى - مصر





نوري الجراح - سوريا





يوسف المحيميد - السعودية