عبدالرحمن منيف (1933-2004).. رحيل الطائر العربي

عبدالرحمن منيف (1933-2004).. رحيل الطائر العربي

تزامن رحيل الكاتب العربي الكبير عبدالرحمن منيف مع مثول عدد مارس من (العربي) للطباعة, وإذ ننعي للقرّاء رحيل الطائر العربي نعد عشّاقه بملف يليق بمكانته الأدبية المرموقة.

تضاريس جسده كانت كالخريطة العربية. سمرة بلون أرض السواد حين تفيض الأنهر على ضفاف النيل والفرات. وقلب مثل الهضاب النابضة, تنتظر مطرا لا يجيء, وروح طليقة مثل الصحراء المفتوحة, لا تعترف بحدود إلا عندما يتوافر كلأ الروح ومياه الحياة, هكذا عاش عبدالرحمن منيف, غامضًا مثل كهوف النفس العربية, ساطعا وقاسيا أحيانا مثل شمسها, حينما ظهر في العام 1998 على المسرح الصغير لدار الأوبرا المصرية, وهو يتسلم جائزة الرواية العربية لم يصدق أكثر من شخص أنه حقيقي, وأنه طوال هذه الفترة كان يكتب هاربا من عدسات الضوء, ومن الانكشاف الفاضح للذات. كان موجوداً وماثلا أمام كل العيون التي لم تعد تصدق من كثرة ما خدعت. يقف بقامته الفارعة وأناقته البادية يتسلم جائزة متواضعة القيمة, ولكنها كبيرة المعنى, تعني أنه أكبر روائي عربي على قيد الحياة بعد أستاذنا نجيب محفوظ - أطال الله في عمره - وإذا كان محفوظ قد بقي أسيرًا للقاهرة وحواريها, فإن عبدالرحمن منيف قد جاب كل حواري العواصم العربية, واستمد من شوارع المدن العالمية زادًا جديدًا, وسعت من أفق الرؤية لديه, كما زادت من مساحة (القماشة) التي تجري عليها أحداث الرواية العربية.

كان هو المواطن العربي الأشمل - على حد تعبير الناقد المصري فاروق عبدالقادر - فهو مولود لأب سعودي, وأم عراقية, وتعلم في العراق والأردن, ثم أكمل تعليمه في القاهرة, وأقام في دمشق ثم بيروت ثم بغداد, وتزوج من زوجة سورية, وعاش أزمات البترول العربية دارسًا ومختصًا في مجال الاقتصاد, ثم عاش أزمة الإبداع العربي عندما كان يريد أن يقول كلمته, فيجد سيف المصادرة في انتظاره.

ولد عام 1933 في عمان, وأنهى دراسته الثانوية بها ثم انتقل منها إلى بغداد عام 1953, ولكنه لم يبق بها إلا عامين فقط, فقد أعلن احتجاجه هو وعدد من الطلاب العرب والعراقيين على توقيع قيام (حلف بغداد), وتم طردهم من العراق فما كان منه إلا أن أكمل دراسته في القاهرة.

في عام 1958, غادر الوطن العربي مؤقتا إلى يوغسلافيا, حيث حصل على درجة الدكتوراه في العلوم الاقتصادية وفي اختصاص اقتصاديات النفط ليعمل في مجال النفط في سوريا.

دخل منيف عالم الرواية مثل مفاجأة غير متوقعة, ففي الأربعين من عمره صدرت روايته (الأشجار واغتيال مرزوق) 1973, كي تقدم شهادة على الأدب الواقعي الملتزم بآفاقه المحددة ثم في ذلك الوقت, حسب الجميع أنها نزوة لرجل اقتصادي قد ملّ من لغة الأرقام, ولكن اغتيال الأشجار كانت بداية طريقه الطويل إلى اكتشاف كل أنواع الاغتيالات التي حدثت في الواقع العربي, كان رومانسيا وعاطفيا في (قصة حب مجوسية) 1974, وكان ناقما على السجون العربية وما يحدث فيها من انتهاكات في (شرق المتوسط) 1975, وكان عاشقًا محبّا للصحراء وسحرها الغامض المليء بالخوف في (النهايات) 1977, ودخل تجربة غريبة في الكتابة المشتركة مع جبرا إبراهيم جبرا في (عالم بلا خرائط) عام 1982 حين كان كل واحد منهما يكتب فصلا في الرواية. وقد كانت هذه التجربة إعادة حية للتجربة التي قام بها طه حسين وتوفيق الحكيم, حين كتبا معا (القصر المسحور) ولم تتكرر التجربة كثيرًا في عالم عربي يتحرك فيه المثقفون كأنهم جزر منعزلة, ثم كتب خماسيته المشهورة (مدن الملح) التي بدأها بكتاب (التيه) 1984 ثم (الأخدود) 85 ثم (تقاسيم الليل والنهار) 89 و(المنبت) 89. وأخيرا (بادية الظلمات) 1989. وقد صدرت ترجمة كاملة لهذه الرواية الضخمة في الألمانية عن دار ديدرتش في ميونيخ, وهو يقول في حوار بالألمانية عن سبب اختياره لتسمية (مدن الملح) أنها تعني المدن التي نشأت في برهة من الزمن بشكل غير طبيعي واستثنائي, وأصبحت مثل بالونات يمكن أن تنفجر, أن تنتهي, بمجرد أن يلمسها شيء حاد, الشيء ذاته ينطبق على الملح, فبالرغم من أنه ضروري للحياة والإنسان والطبيعة وكل المخلوقات, فإن أي زيادة في كميته, أي عندما تزداد الملوحة, تصبح الحياة غير قابلة للاستمرار.

ولم تتوقف أعمال عبدالرحمن منيف الملحمية عند (مدن الملح), ولكنه كتب ملحمة أخرى مكونة من ثلاثة أجزاء هي (أرض السواد) عن مرحلة الحكم العثماني للعراق. أما آخر كتبه والذي صدر قبل أيام قليلة من وفاته, فكان عن تاريخ العراق أيضا, ولم يكن رواية هذه المرة, ولعله رأى أن التخفي وراء أقنعة الفن الروائي لم يعد كافيا فأصدر (العراق...هوامش من التاريخ والمقاومة) وهو مجموعة من الوقائع في تاريخ العراق عندما استولت عليه القوات البريطانية عام 1917, وقال القائد البريطاني مود قولته الشهيرة (لقد جئتكم محررا لا فاتحًا) ولم ينخدع العراقيون بهذه الكلمات, فبعد ثلاث سنوات فقط, هبت الثورة العراقية الكبرى عام 1920 واضطرت القوات العراقية للانسحاب إلى حاميات دفاعية, وقامت حملات غاية في القسوة والعنف لقمع السكان.

وحصل منيف عام 1989 على جائزة سلطان العويس الثقافية للرواية.

يقول عنه الناقد السعودي عبدالله الغذامي - لقد جعل منيف من نصه الروائي شهادات عن مرحلة من التغيير الشديد سياسيًا واجتماعيًا, ولم يجد حرجًا في المزج بين السياسي والفني, وربما آثر السياسة في كثير من الأحيان مما جعل له خصومًا عديدين, ولكنه مع هذا ظل ضميرًا جمعيًا وأديبًا وفير العطاء), ويقول عنه الروائي المصري جمال الغيطاني: (حافظ منيف على نقاء المثقف العربي في زمن شهدنا فيه الأعاجيب, وحافظ على ثوابت أساسية وقناعات لم تتبدل, ليس من منطق الجمود, ولكن من منطلق تعبيرها عن موقف إنساني وقومي عميق). وأكّد الناقد السوري نبيل سليمان أن هدف المشروع الروائي عند منيف هو (أن تكون الكتابة شهادة على القتلة وزمنهم, ولكن بالطريقة المجنونة), وتقول عنه زوجته سعاد القوادري والتي تزوجها عام 1968, وعاشا معا 36 عاما كاملة: كان حبنا مختلفا, عشنا ورشة عمل منذ لقائنا حتى الآن, وأنا مرتاحة لأنه مارس كل الأشياء التي يحبها. وقد زاد من الفتنا أننا كنا متواضعين في شروط وطريقة حياتنا....).

رحل هذا الطائر الفينيقي العربي النبيل عن عالمنا في يوم السبت الرابع والعشرين من يناير عام 2004 بعد أن أتم عامه السبعين في منزله بدمشق بعد معاناة طويلة مع مرض قصور الكلى المزمن, وبعد أن أسهم في تأسيس وعي عربي وروائي جديد, وانفتح على التاريخ العربي دون أن يهمل مشكلات الواقع المعاصر. لقد كان مزيجًا من الثائر والراهب, بقدر ما كان غاضبًا وثائرًا على الأوضاع الجائرة في عالمنا العربي, بقدر ما كان راهبًا في محراب فنه وإبداعه.

رحم الله منيف...وأبقى كلماته

 



أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات