ذكريات عصفور من الشرق جابر عصفور

ذكريات عصفور من الشرق

أوراق نقدية

الأدب لا يموت. هذا ما تؤكده تلك الأعمال التي مر عليها سنوات طويلة, ومع ذلك تترك في نفوسنا أثرًا لا يمحى.

هناك مشاهد تثبت في الذاكرة على نحو خاص, لا تفارقها رغم تعاقب السنوات وتغير الأحداث والوظائف والأمكنة التي يمر بها المرء. وقد تعلمنا من علماء النفس أن الذاكرة لا تستبقي إلا المشاهد التي لها أهمية عند صاحبها, سواء على مستوى الوعي أو اللاوعي. أعني الأهمية التي تحفر دلالة مشهد بعينه في الذاكرة, مرتبط بحلم حيوي أو رغبة عارمة أو أمل واعد أو إيمان عميق. ومن هذه المشاهد التي قد نراها في كتب قرأناها, أو روايات استمتعنا بها, أو أماكن زرناها وتعلقنا بها, أو أحداث عانيناها وظلت غائرة في اللاشعور من غير أن تفقد تأثيرها. وقد تتبدل هذه المشاهد حسب المراحل العمرية, أو المستويات التعليمية, أو التجارب الحياتية, لكنها تبقى حاسمة التأثير في مجالها, تتعلق بها الذاكرة كما تتعلق بشيء حميم, أو تقاومها الذاكرة على مستوى الوعي وحده, كما لو كانت تقاوم شيئا دميما أو مخيفا.

ويمكن لكل واحد منا أن يختبر نفسه من هذا الجانب, ويترك العنان لذاكرته في أحوال التوحد, أو في أحوال الاسترخاء التي تسمح للذاكرة بالتداعي الحر, فتنثال على صاحبها بما هو من جنسه شعوريا وعقليا, أو - على الأقل - من جنس الحالة التي تغلب على لحظة الاسترخاء, فتتداعى المشاهد التي يبرز منها مشهد أو أكثر, يسطع بالدلالات, ويمور بالمعاني, ويثير من المشاعر الكثير.

من هذه المشاهد التي ظلت تعاودني لفترة طويلة من عمري المشهد الاستهلالي في رواية توفيق الحكيم (عصفور من الشرق). وهو المشهد الذي نرى فيه محسن - بطل الرواية - يسير الهوينى, غير حافل بشيء من المطر الغزير الذي ألجأ الناس إلى مظلات المشارب والحوانيت, وإلى الحيطان وأفاريز البيوت ومداخل المترو, في ميدان (الكوميدي فرانسيز) في باريس. ولم تترك شدة المطر أحدا سوى آدمي واحد ثبت لهذا المطر, ومضى تحته غير عابئ بالمياه التي تتدفق من الميازيب والسيارات التي تخوض في شبه عباب, وتقذف بالمياه على هذا السائر الوحيد الذي لم يكن يشعر بالمطر المنهمر حوله, وظل مستغرقا في تأملاته الحالمة, وفمه ذو الشفاه العريضة يلوك البلح, ويده اليمنى - كالرسول الأمين - من جيبه إلى فمه تواتيه بالمدد, في غير انقطاع. وكان هذا الكائن الوحيد والمتوحد فتى نحيل الجسم, أسود الثياب, على رأسه قبعة سوداء عريضة الإطار, في قمتها فجوة غائرة امتلأت بالمطر.

وقد تابعت عيناي - في المشهد - الفتى المتوحد الوحيد محسن وهو يفرغ من تأمل نافورة المياه, ويمضي متمهلا بعدها إلى جانب آخر من الميدان يقوم فيه تمثال الشاعر (دي موسيه). وهو يستوحي عروس الشعر, فوقف الفتى ينظر إليه وقد نقش على قاعدته: (لا شيء يجعلنا عظماء غير ألم عظيم..!), ثم تطلع إلى وجه الشاعر, فألفى قطرات المطر تتساقط من عينيه كالعبرات, فتحرك قلمه, وسكت فمه, ثم همس مرددا كالمخاطب لنفسه: (لا شيء يجعلنا عظماء غير ألم عظيم. نعم). ومرت في رأس الفتى صور من ماضٍ بعيد, وهمس: (حتى هنا يعرفون هذا?!) وغرق في التفكير, وغرقت قبعته في الماء حتى غاص فسال على وجهه.

أطياف من البشر

لا صيحة أندريه العامل الفرنسي على صديقه محسن قد شغلتني, ولا تفاصيل الحوارات التي دارت بعد ذلك بقيت في ذاكرتي طويلا, وسرعان ما نسيت الكثير من تفاصيل (عصفور من الشرق) ولكن بقي هذا المشهد حيًا في ذاكرتي, منذ أن قرأت الرواية في سنوات المراهقة التي بدأت فيها تعلقي الحميم بالأدب, وانطويت على حلم أن أكون واحدا من هؤلاء الأدباء المرهفين, نحيلي الأجساد, سود الثياب, غائري العيون, المستغرقين دائما في التأمل, المترفعين عن شهوات الجسد ومنافع الأدب, ويتحركون كالأنبياء المجهولين المنبوذين من عشاق المادة وغلاظ المشاعر. وكانت أحلام يقظتي تكتمل بأن أكون في باريس, أمضي مثل محسن في ميدان (الكوميدي فرانسيز) غير عابئ بالمطر, أو البشر, أنتقل كالعصفور القادم من الشرق ما بين مقهى (الريجانس) القريب أو مقهى (الدوم) الذي يلتقي فيه أهل الفن وغيرهما من مقاهي باريس, لافتا الانتباه بقبعتي السوداء ومعطفي الأسود ورباط عنقي الأسود وحذائي الأسود, تماما مثل محسن, ولا أبقى في أي مقهى إلا لكي أرى المبدعين الذين رآهم محسن, فأعرفهم ويعرفونني, وقد ألقاهم مرارا وأنا أواصل رحلتي ما بين (سان جرمان), و(الأوبرا) ومسرح (الأوديون) والمكتبات والمتاحف التي تملأ باريس وتجعل منها فترينة الدنيا ومركز الحضارة في العالم كله. وبالتأكيد سوف أسكر من نشوة الإبداع - كما فعل محسن - عندما استمع إلى السيمفونية الخامسة لبيتهوفن في مسرح (شاتليه) يعزفها الأوركسترا بقيادة (جابرييل بيرنيه) بعصاه الصغيرة ولحيته البيضاء القصيرة, وأحلّق مع موسيقى بيتهوفن الذي يتكلم بلغته السماوية, قوية أول الأمر في ذلك الـ (أليجرو) الجليل, منتقلا إلى أصوات الملائكة الصافية في ذلك الـ (أندانت) الهادئ, غير محتمل السرور الداخلي الذي يتفجر مع الـ (سكرتزو) المشرق إلى أن ينتهي الفرح المتفجر مع أضواء أنغام الـ (برستو) الأخير, وأستعيد - مع محسن - ما قاله الفيلسوف نيتشه من أن (كل عواطف البشرية السامية في السيمفونية الخامسة).

باريس.. فترينة العالم

وأمضي في أحلام اليقظة أو أوهامها التي يفجرها مشهد البداية في (عصفور من الشرق), كم مرة فعلت ذلك? لا أذكر. كثيرا بالطبع. لكن كل مرة كان حلم الذهاب إلى باريس غامرا, عارما, عاصفا,يلوح كأنه الوعد البهيج بكل ما يكمل الحياة ويرقى بها. الغريب أنني نسيت ما فعلته الحبيبة (المدموازيل سوزي ديبون) بالفتى محسن, وكيف فجعته في حبه, ونسيت الحوارات الفلسفية ما بين محسن و(مسيو إيفانوفتش) حول الشرق والغرب, وهي الحوارات التي كان لها ما يماثلها في (عودة الروح) التي أصدرها الحكيم سنة 1933, وذلك قبل (عصفور من الشرق) التي صدرت سنة 1938, ولم يبق في ذاكرتي سوى هذا المشهد الذي لم يمحه كل ما قرأته للحكيم وغير الحكيم بعد ذلك, وكل ما قرأته عن باريس للكثيرين الذين تحدثوا عنها, وتعلقوا بها, ورأوا فيها ما رآه الحكيم: (باريس.. فترينة العالم.. الواجهة البلورية التي تعرض خلفها عبقرية الدنيا).

وعندما ذهبت إلى باريس للمرة الأولى, لم أهدأ إلا بعد أن رأيت ميدان (الكوميدي فرانسيز) ومضيت في الطرقات نفسها التي مضى إليها محسن, وزرت الأماكن التي وصفها, غير أني لم أكن ألوك في فمي بلحا, ولم أكن في فصل المطر, ولم أكن نحيلا هزيلا غارقا في الشحوب, متلفعا بثياب سوداء وقبعة سوداء. ولم أجد (المدموازيل سوزي ديبون) في شباك تذاكر مسرح الأوديون, ولا الببغاء الذي أهداه إليها محسن معلقا في شرفة إحدى غرف فندق (زهرة الأكاسيا) في أحد الشوارع القريبة من محطة (بورت دي ليلاس), ولا اشتريت زجاجة عطر (هوبيجان) صغيرة من أحد حوانيت شارع هوسمان, فقد تغيرت أسماء العطور, وانتقلت مناطق الجذب الباريسي, وظهر إلى جانب مقهى (الدوم) مقاه أخرى مثل (الفلور) و(الديماجو) في شارع سان جرمان الذي ندلف منه إلى منعطفات الحي اللاتيني ومقاهيه ومطاعمه ومكتباته التي لم يسمع عنها ولم يرها (عصفور الشرق) القديم: محسن توفيق الحكيم.

الخيال والواقعية

لم يعد الخيال هو ليل الحياة الجميل, حضنا وملاذا من قسوة النهار الطويل كما قال ايفاني - الروسي العجوز - لمحسن متأففا مثله من عالم الواقع الذي لا يكفي وحده لحياة البشر, والذي هو أضيق من أن يتسع لحياة إنسانية كاملة أصبح للخيال معنى آخر في زمن الإنترنت, تماما كما أصبح للقمر الذي تغنى به العاشقون وشبهوا به حبيباتهم معنى آخر بعد أن داس الإنسان بأقدامه على أرض القمر, مؤكدا أنه كوكب قحل خال من الحياة والجمال الذي تخيلناه طويلا. أصبح الخيال شيئا آخر, أكثر واقعية وتعقيدا من الخيال الرومانسي الذي تجسد في شخصية محسن, فبدا مرهفا رهافة عصفور من الشرق, عصفور كان يجد مراحه وبراحه في الأفق الرومانسي للوجود الذي يعانقه الإبداع, حيث الخيال حضور في الغياب, بل هو الحضور نفسه. ألم يقل الفيلسوف الألماني فخته إن الواقع كله هو ما يصنعه الخيال, جيل يصوغ الأساس الممكن لوعي الإنسان وحياته, وأكد كذلك أهمية الخيال من حيث هو أصل معرفتنا الإنسانية, وأقام شيلنج اتحادا بين الخيال والشعر اللاواعي للوجود.

لقد مضى توفيق الحكيم في إثر هؤلاء جميعا عندما صاغ شخصية محسن الذي كان قناعا, واختار استعارة (عصفور من الشرق) تأكيدا للمعنى الرومانسي الذي يتجسّد به الفنان طائرا محلقا, يحوّم بعيدا عن الواقع الخشن, والحياة المادية الغليظة, وينطلق فوق السها حيث تسمو الروح التي تعلو على المادة, والقلب الذي هو أسمى من العقل, والشرق الذي هو حضن البشرية الذي تلجأ إليه من كوارث الحضارة المادية للغرب الذي غرق في حسابات الربح والخسارة وكوارث الصراعات والحروب التي لا ترحم.

ولذلك صاغ الحكيم الروائي شخصية سوزي لكي تصدم أحلام الفتى الحالم محسن, وتنقلب عليه بمنطق حساب الربح والخسارة, خصوصا بعد أن وضعته في مقارنة مع (المسيو هنري) الذي كان يقترن بالحضور العملي للمادة والنفوذ, مقابل الحضور المثالي لمحسن الحالم الغارق في الخيال والنافر من الواقع. وكانت سوزي في تنكّرها لأحلام (عصفور الشرق) وتحطيمها جناحيه المظهر الرمزي للحضارة الغربية بقيمها المادية الطاغية. ولذلك, لم يكن في رواية الحكيم ما يقابل حضور سوزي الحبيبة التي حطمت جناحي العصفور سوى الفيلسوف الروسي إيفان المتمرد على الوحشية المادية للرأسمالية الغربية, العاشق لكتابات تولستوي أكثر من عشقه لكتابات كارل ماركس, والذي لم يقنع من الماركسية بحلها الطوباوي الذي يسعى إلى تحقيق العدل على الأرض, ونسي السماء, فكانت النتيجة أن أمسك الناس بعضهم برقاب بعض, ووقعت المجزرة بين الطبقات تهافتا على هذه الأرض.

أنبياء الشرق.. صنّاع السلام

ويتعلم محسن من تجربة إيفان أن أنبياء الشرق هم العباقرة الذين قدموا السلام للبشرية التي أضاعته يوم نسيت رسالته, كما ينصت إلى كلماته التي تشكك في قيمة التقدم المادي لعلم الغرب واستكشافاته واختراعاته وصناعاته, ويتمعّن في سؤاله عن قيمة تقدم الغرب إلى جانب الاستكشاف الأعظم الذي ظهر في الشرق?! إن الغرب يستكشف الأرض والشرق يستكشف السماء, وفي روحانية الشرق ينبثق السلام والأمن والسكينة والكرامة لبني الإنسان. ويستغرق محسن في هذه الكلمات التي تدفعه إلى استعادة ديانات الشرق, واسترجاع رموزها البارزة, الأمر الذي يؤدي به إلى الأولياء الصالحين الذين يقودون الضالين إلى الهداية, فينبثق في خاطره الحضور الباهر للسيدة زينب, ذلك الحضور الناعم الرقيق الذي اختفى تحت وطأة الشمس الحارقة للعقل الذي تزعمه فولتير ونيتشه. ولكنه أخذ يعود مع كلمات الروسي إيفان, فيدرك محسن أنه قد نسى حاميته التي في السماء, وأنه لو أحسّ يدها على كتفه لما تعثّر في خطاه أمام صورة سوزي, ولما التبست أمامه الطرق في علاقته بها. وتأتي الأحداث بما يؤكد ذلك, وتلقى به سوزي من أعلى غيمات الخيال إلى أقسى مواقع الأرض, وتهجر ببغاءه هجرا غير جميل, فيترك مسكنه في جوارها, ويسكن في النزل الذي يقطنه صديقه الروسي إيفانوفتش ليجد عنده العزاء. وبالفعل, يجد العزاء في أفكاره التي تعود به إلى الشرق, من المنظور الروحي الذي يجعل من أوربا فتاة جميلة رشيقة ذكية أنتجتها الحضارات الكاملة لآسيا وإفريقيا, ولكن هذه الفتاة الجميلة خفيفة أنانية لا يعنيها إلا نفسها واستعباد غيرها, كأنها سوزي الذي اكتشف محسن أخيرا, ومن خلال حواره مع إيفان, أنها أنانية لا تعرف غير حياة الواقع ولا يهمها شقاء الغير, ولا تحب الحياة إلا في الحياة. وينطلق إيفان من كلمات محسن عن حبيبته الغادرة, متصورًآ أنه يتحدث عن أوربا الفتاة الجميلة, قائلا إن هذه الفتاة ترى المجد كله في شيء واحد, أن تضع الأصفاد في أرجل البشر, وبدأت أول ما بدأت بأبويها: إفريقيا وآسيا...أنكرتهما, وحبستهما, وانطلقت في الحياة, لا يحدّها حد, ولا يقوم لها شيء إلى أن ينتهي بها المطاف في بيت من بيوت الليل, تديره, وتشاهد فيه شجار السكارى, يحطمون الكراسي والكهوف. ويمضي إيفان في توسيع استعارة أوربا الفتاة الغاوية مؤكدا أن أوربا موشكة على دفع الإنسانية إلى هوة, قد تثوب أحيانا إلى رشدها, وترى مصيرها, فتقع في أزمة من أزمات الغير, فتستيقظ فيها الروح, وتشك في نفسها, ولكنها سرعان ما تعود إلى غيّها, وتمضي سادرة نحو النهاية, نحو الكارثة.

ويقود الحوار إلى الموازنة بين الرجل الغربي الذي يعاني الاغتراب, ولا يشعر بإنسانية ما يصنعه بعد أن تشيأت المصنوعات, والرجل الشرقي الذي مازال يحس آدميته بالنسبة إلى الشيء الذي يصنعه, ويخلقه بيديه, ويضيف إلى ذلك ارتقاء الإحساس الجمالي عند الشرق المفعم بالروحانيات, مقابل غلظ هذا الإحساس عند الغربي الذي استغرق في المادة. والحل عند إيفان هو الرحيل إلى الشرق مادام أجمل ما بقي لأوربا هو ما أخذته عن الشرق. وتتصاعد دعوة إيفان للعودة إلى الشرق مع تزايد سوء حالته الصحية وتخرج هذه الدعوة كصرخة الاحتضار الأخيرة, فتصوغ رؤيا جنة الشرق, مقابل جحيم الغرب, ولا يقبل محسن هذه الدعوة على علاتها, ويتشكك فيها, لأنه يعلم أن أبطال الشرق قد ماتوا في قلوب الشرقيين, وأن الشرق لم يعد - اليوم - شرقا, وإنما غابة على أشجارها قردة, تلبس زي الغرب, على غير نظام ولا ترتيب ولا فهم.

حلم العدل

بالطبع, لم يجرؤ محسن أن يقول هذا الكلام لصاحبه الروسي, فقد أدرك أن هذا الرجل الذي لم يستطع شيء في الغرب أن يشفي نفسه القلقة الحائرة, قد وضع كل أمله في الشرق, وقد صنع للشرق في رأسه صورا عظيمة هي كل أمله الباقي, وإن كشف الحقيقة لعينيه في لحظات احتضاره أفظع طعنة يقتل بها المسكين. ولذلك تركه محسن في خيلائه, وظل يراقبه والنور ينطفئ في عينيه, ولكنه تحامل على نفسه, وقال لمحسن في صوت لا يكاد يسمع اذهب أنت يا صديقي...إلى هناك, إلى النبع, واحمل ذكراي وحدها معك, وداعا. وتنتهي رواية (عصفور من الشرق) بهذه الكلمات, فتبدو كما لو كانت تستبدل بالوجه الخادع لسوزي التي تمثلت في غوايتها حضارة الغرب المادية الوجه المشرق بوعي الحقيقة, حتى في لحظات الاحتضار, وجه إيفان الذي ينطق الكلمات التي تقود إلى الخلاص, وهو العودة إلى نبع الشرق حيث الخيال الخلاق, والروح التي ترفض قيود الجسد, والقيمة الإنسانية التي تتجلى في كل عمل, بعيدا عن معاني التشيؤ والاغتراب, وحلم العدل الذي يقترن بالأديان التي انبثقت في الشرق وحده, والحب الذي لا يعرف المنفعة, جنبا إلى جنب التجرد والسمو الذي هو لازم لإدراك الجمال, وأخيرا, التوحد الذي جعل محسن يشعر بالتقدير والحب لأولئك الذين لا تطيب لهم السكنى إلا داخل أنفسهم, ذلك أن قليلا من الناس من يملك نفسا رحبة غنية, يستطيع أن يعيش فيها, وأن يستغني بها عن العالم الخارجي. وظل محسن على اعتقاده أن الزاهدين والحقيقيين ليسوا إلا أناسا لهم نفوس كالفراديس, تشقها الأنهار, وتنيرها الشموس, وتتلألأ فيها الكنوز, فهي عالم من الفتنة والسحر, لا نهاية لبدائعه وأسراره.

وتنتهي رواية (عصفور من الشرق) كما ينتهي حلم (الشرق الفنان) الذي آمن به توفيق الحكيم وأقرانه من الجيل الليبرالي الذي انتسب إليه, وذلك في السياق الذي دفع زكي نجيب محمود إلى الكتابة عن (الشرق الفنان). ولكن مع ذلك ظل (الغرب) الذي انتهت الرواية بإدانته معنويا, ساحرا, فاتنا, رغم كل كوارثه, وظلت علاقة محسن به منطوية على نوع من التضاد العاطفي الذي لم نلمحه في البداية, التضاد الذي جعله لا يكف عن التعلق بقيم الفن في الغرب, في موازاة نفوره من المظاهر الخشنة للحياة المادية التي تغتال الروح في الإنسان. ولذلك تحتفي الرواية بكل ما هو متصل بالفنون الغربية وفلسفاتها المثالية, مؤكدة حضور الموسيقى التي هي أرقى تكثيف للتناغم الممكن في الإنسان وفي الطبيعة, وأسمى صور التناغم الممكن بين الإنسان والطبيعة.

الحضارة الجديدة

وفي الوقت نفسه, لا تغفل الرواية الإشارة إلى المظاهر المناقضة لهذه الفنون والفلسفات, ويبدأ ذلك بملاحظة محاولة أمركة باريس, ومن الصراع بين رموز حضارة أوربا - العالم القديم - وأمريكا العالم الحديث, ولذلك يأتي الهجوم على الأمريكان على لسان أندريه - الصديق الفرنسي - الذي يؤكد أن هؤلاء الأمريكان هم قوم خلقوا من الإسمنت المسلح: لا روح فيهم, ولا ذوق, ولا ماض, وإذا فتحت صدر الواحد منهم وجدت في موضع القلب دولارا, فهم يأتون إلى العالم القديم لأندريه, فرنسا, حاسبين أنهم بالذهب يستطيعون أن يشتروا لأنفسهم ذوقا ولبلادهم ماضيا, ويتصل بذلك إشارات الرواية إلى الأزمة الاقتصادية التي تصاعد فيها إحساس العمال بأنهم عبيد القرن العشرين الذين يسخرهم أفراد معدودون من السادة الرأسماليين, ويستمع محسن إلى أحاديث الاشتراكية التي (فشا أمرها في باريس, وأمست بدعة من البدع يتبعها الناس مقلدين) وكان ذلك بعد أن أصبحت الحياة الاقتصادية الفرنسية صعبة, وهوى سعر الفرنك إلى الحضيض, وأصبحت فرنسا - من وجهة نظر الأسرة التي يقيم بينها محسن قبل أن يقع في الحب - فريسة أصحاب المال الأمريكيين, أولئك الذين بلغ من عتوّهم واعتدادهم بتراثهم أن الواحد منهم لا يوقد (سيجارة) إلا بورقة مالية مشتعلة تحت أنظار الشعب الفرنسي الفقير, ولذلك تمنح الرواية صفحات كثيرة من فضائها السردي لشخصية إيفان الروسي صديق محسن الذي يبدو كأنه النقيض لأفكار أندريه الاشتراكية, والذي لا يكف عن نقد المظاهر غير الإنسانية التي يعانيها أندريه, ولكنه لا يؤمن بحلها عن طريق الاشتراكية, وإنما عن طريق العودة إلى روحانية الشرق وسماحة أديانها ودعوتها إلى إقامة العدل بين الناس.

حضور المكان

ولا أجزم بتأثر يوسف إدريس برواية الحكيم (عصفور من الشرق) في هذا الجانب على وجه التحديد, ولكن لفت انتباهي الإلحاح على رمزية السيدة زينب - الحي والمغزى - في رواية الحكيم (الذي سكن في صباه هذا الحي) ورواية يوسف إدريس القصيرة (السيدة فيينا).صحيح أن أحداث رواية يوسف إدريس لا تدور في باريس, وإنما في فيينا, بادئة من الأغنية الشهيرة التي كتبها أحمد رامي لأسمهان: ليالي الأنس في فيينا, ولكن بطل رواية يوسف إدريس يفشل في إقامة علاقة جسدية مع المرأة الأوربية التي جذبته بقدر ما انجذب إليها في فيينا. ولم يستطع أن يقيم معها علاقة جنس إلا بعد أن استعاد حضور حي السيدة زينب الذي يعيش فيه, وذكرياته مع زوجته في هذا الحي, وانتهت الليلة المشتهاة باكتشاف كل طرف أنه مشدود إلى أصله, لا يمكن أن ينفصل عنه, كما لا يمكن أن يكتمل أو يتحقق إلا في علاقته بهذا الأصل.

قد يكون في الأمر تأثر, فالتشابه دال في المغزى, وقد لا يكون في الأمر تأثر, فالأهم من ذلك أن هذا كله لم يرد على خاطري إلا بعد أن اضطررت إلى مراجعة رواية (عصفور من الشرق) في ثنايا مراجعتي للذين كتبوا عن باريس, ولم أقبل على هذه المراجعة إلا تحت حلمي القديم الذي لم يفارقني منذ أن قرأت الرواية للمرة الأولى في زمن الصبا, فظل المشهد الأول محفورًا في وجداني وذاكرتي, مجسّدًا زمنًا ورديًا من الأحلام الرومانسية التي التقت مع رومانسية الحكيم في الرواية, وأعادت صياغتها بعد ذلك في ذاكرة الخيال الحالم الذي لم يحتفظ من تفاصيل الرواية إلا بما جانسه, ولكن إلى حين, فشمس الوقائع سرعان ما تبدد غيمات الحلم.

 

جابر عصفور

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات