(الرواية الجديدة) في فرنسا.. مغامرة في الشكل والمضمون جورج دورليان

(الرواية الجديدة) في فرنسا.. مغامرة في الشكل والمضمون

كانت هذه الرواية الجديدة لحظة انفلات وانعتاق من كل الأشكال التي تقيد الكتابة وتقيم الحواجز ضد الإبداع وانطلاق الخيال.

لم تكن (الرواية الجديدة) التي شغلت الأوساط الأدبية كافة في فرنسا والعالم زهاء ثلاثة عقود (من الخمسينيات وحتى السبعينيات) تيارًا أو مدرسة أو حركة بالمعنى التقليدي للكلمة. إذ لم تُخضع نفسها, على غرار ما درجت عليه المدارس الأدبية في السابق, لمبادئ أدبية أو فلسفية أو أخلاقية أو حتى أيديولوجية - سياسية معلنة سلفًا (الواقعية الاشتراكية مثلاً أو الأدب الملتزم). بل على العكس كانت (الرواية الجديدة) لحظة انفلات وانعتاق من الأشكال التي غالبًا ما كانت تنتهي إلى تقييد الكتابة في أصول ومبانٍ تقيم حدودًا وحواجز للكتابة وللخيال - رغم ادعائها أول الأمر التحرّر والتفلّت. فلم يكن يجمع الكتّاب المنضوين تحت هذا العنوان - والذين كانوا يتردّدون على دار مينوي للنشر ثم دار سوي كمن يتردد على محفل - قاسم مشترك سوى شاغل رفضهم الجذري لأعراف الرواية التقليدية والبلزاكية منها على وجه الخصوص. فكانت الأهداف والوسائل تختلف بالتالي من روائي إلى آخر بحيث صار كلّ واحد يشكّل بذاته نموذجًا لكتابة تميّزه وتبلور رفضه للأشكال البائدة, ما حدا برولان بارت إلى القول بكثير من الشفافية والدقة: (من الأجدر أن نسأل عن معنى أعمال روب - غريي أو بوتور بدل أن نتساءل عن معنى (الرواية الجديدة), فإن فسّرتَ (الرواية الجديدة), كما تطرح هي نفسها, تكون قد فسّرت جزءًا بسيطًا من مجتمعنا, أما إذا قمتً بتفسير روب - غريي أو بوتور كما يقدّمان هما أنفسهما إلينا, فقد يصبح بإمكانك, رغم الظلمة التاريخية التي تكتنفك, الوصول إلى ملامسة شيء ما من تاريخ زمانك العميق).

مع بداية السبعينيات عرفت (الرواية الجديدة) فوجًا من الكتاب الشباب (أمثال جان ريكاردو وفيليب سوليرز وجان لوي بودري وجان تيبودو.. الخ). تجمّعوا هذه المرة حول دارسوي ومجلات (تيل كيل) و(شانج) و(بروميس) وعبّروا عن تمايزهم وابتعادهم عن أولئك الذين سبقوهم. بالنسبة إلى هؤلاء الشباب, الذين أعلنوا انتسابهم إلى خط فاليري وريمون روسيل وموريس بلانشو وجورج باتاي, كانت (الرواية الجديدة) في تجربتها الأولى خاضعة إلى (أيديولوجية وضعية تتقلّب بين مخلفات نفسانية ونزعة وصفية ذات بنيوية زخرفية) (سولرز), فطالبوا بـ (إخراج السرد عن محاكاة شبه - واقعية أو مثالية وإيلاجها في عملية كشف لأعماق الآلية اللغوية) (ريكاردو). على العموم شكّلت تجربة مجموعة (تيل كيل) تجذيرًا لممارسة الرواية الجديدة وذلك بالتخلّي النهائي عن التصورات (الواقعية) و(النيو - واقعية) أو الفينو مينولوجية. يقول فيليب سولرز في معرض انتقاده لما آلت إليه (الرواية الجديدة) في نسختها الأولى, أي الفينومينولوجية, إنها لم تخرج من التصوّر الذي يعتبر أن (كل شيء يرجع إلى الواقع بدلاً من رجوعه إلى اللغة). ما يعني أن الرواية بنظر (الروائيين الجدد) الشباب لا يمكنها أن تكون محاكاة أو تعبيرًا عن شيء ما خارج عنها. عليها أن تبتعد عن (الوهم الطبيعاني) الذي يقول إن (الكتاب هو الحياة بعينها) (ريكاردو).

فبرزت خصوصية الجيل الجديد من هؤلاء الروائيين عبر مساهمتهم الإجمالية لما سمّي بعلم الأدب (Poہtique), وقد تزامن صعود هذا الجيل مع صعود البنيوية في العلوم الإنسانية وفي اللسانيات على وجه الخصوص.

أصول (الرواية الجديدة)

مما لا شك فيه أن (الرواية الجديدة) لم تنزل علينا من علٍ, ولا هي اكتشاف أتى من العدم - رغم قوة فعلها القطعي, كذلك لم يدّع روّاد (الرواية الجديدة) أنفسهم أن ما يقدّمونه لا أسلاف له ولا ملهمين. بل على العكس, راحوا ينبشون في ماضي التراث الفرنسي وغيره عن خط من الأسلاف ينسبون أنفسهم إليهم, من فلوبير, إلى بروست, وريمون روسيل (من الفرنسيين), وإدغار بو, ودوستويفسكي, وجويس, وفولكنر, وكافكا, وفيرجينيا وولف (من غير الفرنسيين). فاعتبروا أنفسهم مكمّلين لمسار هؤلاء الذين أتوا بتعديلات في أصول السرد الروائي وآليته, جاعلين حبكته أكثر غموضًا وتموّجًا وتراكيبه النصية أشبه بملصقات الرسوم التجريدية. كما تأثروا بأولئك الذين, على غرار جيمس جويس, جعلوا من الحوار الداخلي (monologue intہrieur) عصب الرواية وأغنوا بنيتها باعتماد المستويات السردية المتداخلة, أو بآخرين ممن ساهموا في تحوير موقع البؤرة السردية للراوي متخلّين عن تلك التي تجعل من الراوي إلها كلّي المعرفة, وذلك لمصلحة ذاتية نظرية متعددة ومتبدلة. وأخيرًا رأوا في الذين حرّروا الشخصية الروائية من (النمطية) الجامدة (أمثال فلوبير وبروست وكافكا) واستبدلوها بضمير يمتصّ آلاف الانطباعات والتأثيرات, فضلاً عن الذين شعروا مثل أندريه جيد بضرورة الدمج بين الرواية ونظريتها لتصبح الرواية نفسها بحثًا في إشكالية الرواية بحد ذاتها... كل هؤلاء شكّلوا أسلافا أناروا طريق روّاد (الرواية الجديدة).

تجديد السرد

بين (شيئية) ألان روب - غرييه, و(البعد النفسي) لمحاولات ناتالي ساروت, و(النزعة الإنسانية) التي طبعت المسار الإبداعي لأعمال ميشال بوتور, بدت (الرواية الجديدة) متنوّعة ومتشعبة للغاية. إلا أن هذه التجارب المختلفة أخذت تتوحد في نهج وسلوك جعلا من الأدب فعلاً كتابيًا مطلقًا, ومن البحث عن الأشكال موضوع هذا الفعل الروائي. وقد دفع هذا التوجه الجديد إلى الاعتقاد بأن الرواية بمعناها التقليدي (قصة, حبكة, شخصيات, زمان ومكان... الخ). قد ولّت إلى غيررجعة, حتى أن البعض ذهب إلى حد اعتبر فيه أن التمييز القديم بين شعر ورواية لم يعد ساريًا, إذ احتلّت الكتابة المساحة الأدبية كلّها لاغية الحدود بين الأنواع.

انطلقت (الرواية الجديدة) كتيار رافض للتصور البلزاكي للرواية, إن على صعيد الشكل أو على صعيد المضمون, فتحرّرت من الحبكة الدرامية والبنى التقليدية للسرد, ومن المنطق الذي حكم بناء الشخصية الروائية, ومن المضامين النفسية والأخلاقية والأيديولوجية.

وانعتق الراوي من يقينه في مواجهة العالم والإنسان, ومن موقع المعرفة الكلية والشاملة الذي كان يحتله. كما ورفضت (الرواية الجديدة) مبدأ الرواية الملتزمة التي ازدهرت خلال وبعد الحرب العالمية الثانية, إذ لم تعد وظيفة الرواية إظهار الحقيقة - أو حتى المساءلة - المعروفة مسبقًا, بل راحت تنثر تساؤلات تصعب الإجابة عنها. يقول كلود سيمون في هذا الإطار (لا أريد برهان أي شيء ولا إثبات أي شيء).

أخذت الكتابة الروائية منحى أقرب إلى البحث منه إلى (التعبير): بحثٌ لحلّ رموز الواقع, بحثٌ استكشافي لعالم الخيال, بحث في أغوار الشكل وتعاريج الكتابة. بهذا المعنى كانت (الرواية الجديدة), في مرحلتها الأولى, مشروعًا فينومينولوجيًا.

لا شك أن (رواية) كهذه كانت صعبة القراءة من قبل جمهور متوسط الثقافة وغير معتاد على التعاطي مع أشكال من البنى السردية مضطربة ومحيّرة وغير قابلة للتعليل والتفسير من خلال المعايير التقليدية التي نشأ عليها العقل والخيال.فمن تكرار المشاهد, إلى تشتّت عناصر القصة مقاطع يصعب إعادة تركيبها, إلى استعمال غريب للضمائر وخاصة تلك التي يتم من خلالها استجواب القارئ, إلى ترك النواحي الغامضة في القصة تتفشّى من دون توضيح أو تفسير... انتهت الرواية إلى أن تكون مجرّد قصة ماكرة يتطلّب فكّ ألغازها معرفة لشروط اللعبة وخباياها, وتستوجب المساهمة الفعالة من قبل قارئ غير قابع في موقع المتلقي السلبي.

تفكيك الحبكة

فحتى قبل الإعلان الرسمي لانطلاقة الرواية الجديدة مع أولى محاولات آلان روب - غرييه, كانت ناتالي ساروت منذ سنة 1939 في Tropismes, وفي محاولة لضبط ما يصعب تحديده وصياغته, قد جعلت كتابتها تتوالد خارج الحبكة, خارج القصة التي لم تعد تشكّل سوى الركيزة البيانية لعلاقات مركّبة, مجرّد ذريعة لإظهار الميول الباطنية والأحقاد والجنون والإذلال في تعابير أكثر عنفًا مما تسمح به أعراف اللغة المدجّنة. أما عند كلود سيمون, فتداخلت سير الناس مع القصّة الروائية, بحيث لم يعد سرد القصة يتمّ من وجهة نظر شخصية محدّدة, بل انطوى على ضمائر مختلفة تشابكت في مسار سردي تخطّى الحبكة حصرًا. هكذا نفهم ما أراده كلود سيمون عبر إدراج عبارة باسترناك في صدر روايته (العشب) (LصHerbe, 1958): (لا أحد يصنع القصة, لا نراها, كما لا نرى العشب وهو ينبت). في (طريق الفلاندر) (La route des Flandres, 1960) لكلود سيمون نفسه, تمتزج القصة تمامًا - بعد أن فقدت كل دعامة زمنية لها - مع الصور المنبثقة من ضمير الشخصية لتعمّق الغموض الجوهري الناتج عن الترجّح بين الـ (أنا) والـ (هو). فالتشابك بين ذكريات حقيقية تدفع بالقارئ إلى عالم جديد, مجهول المرجعية, ولا يحيل إلاّ إلى ذاته. لذا لم يعد التلفيق الروائي هنا بحاجة إلى إخفاء طابعه الكاذب أو المصطنع. وإذا كانت القصة في رواية ألان روب - غريبة (الممحاة) (Les Gommes, 1953) مفتعلة, وبالتالي أدبية تمامًا, لابتداء الكتاب وانتهائه في اللحظة نفسها حيث يظهر القدر كمسألة تحدّدها الكتابة وحدها, لا الماضي ولا المستقبل, فقصة (المتلصّص) (LE VOYEUR, 1955) للروائي نفسه تنطلق من وضعية معاكسة لتلك التي انطلقت منها (الممحاة), إذ لا يهدف بطل (المتلصّص), (ماتياس), على عكس زميله (والاس) في (الممحاة), إلى اكتشاف واقع, بل إلى توريته. فبمحو مشهد الاغتصاب والجريمة, تنهار الحبكة الموضوعية لتحلّ مكانها محاولات البطل الدءوبة لإعادة تلفيق مسار بريء مكوّن من نتف وحواشي القصة الأساسية. وإذا بالقصّة تستحيل, عند روب ـ غرييه, لغزِا يتطلّب فكّه مشاركة القارئ.

في مقابل الانحلال المطلق للحبكة عند روب - غريييه, برز عند ميشال بوتور مسعى معاكس نحو إعادة التأليف. فخلف مظاهر كلاسيكية, يؤسّس بوتور لنمط جديد من السرد مبني على إعادة تشكيل مسارات حياتية متعددة لشخصيات متناثرة. فاستعماله المفرط لضمير المخاطب لا يهدف فقط إلى إيلاج القارئ مباشرة في السرد, بل يهدف إلى وضع السرد بحدّ ذاته على مستوى نهوض الوعي وتشكّله. في هذا السياق يتبيّن لنا أن غرض الرواية بالنسبة إلى بوتور - في (التعديل) (La modification, 1957) أو في (درجات) (Degrہs, 1960) أو في (معبر ميلانو) (Passage de Milan, 1945) أو غيرها من الروايات - لم يكن تلفيق وتركيب (قصة) بقدر ما كان بحثًا عن واقع. هذا البحث, وإن استند إلى حبكة, فإن معناه العميق يكمن في آلية الوعي وإدراكه للعالم الخارجي وللعلاقات التي يقيمها بين مختلف عناصر هذا العالم.

رفض السببية والزمن الخارجي

فيما كانت بنية السرد في الرواية التقليدية بيانية ومنطقية, تعاقبية ودرامية, أخذت (الرواية الجديدة) منحى قرّبها من الشعر والموسيقى والرسم وفنون أخرى تعطي للمساحة مكانة أكبر في عمارتها. فابتعدت (الرواية الجديدة) عن القصة بمعناها الضيق, إذ صار على القارئ نفسه إعادة ترتيب عناصر النص وصولاً إلى (القصة) التي غالبًا ما تكون مقصيّة عن الرواية. ففي رواية بوتور (التعديل) (La Modification) تسبق القصة أو تلحق بالمادة التي تشكل موضوع الرواية, أي المدة الزمنية التي يمضيها مسافر في قطار باريس - روما. وكذلك في (المتلصّص) لألان روب - غرييه حيث يختفي مشهد الاغتصاب والجريمة الذي كان من المفترض فيه أن يشكل ذروة المسار السردي الدرامي. فهذا المشهد غائب بل ممحي (الصفحة 88 البيضاء) فيما تقدّم الرواية محاولات البطل ماتياس لإعادة تكوين مسار بريء. ما يعني أن (الروائي الجديد) لم يعد يحكي قصة ذات حبكة, بل صار يبني لغزًا يتطلّب حلّه مشاركة القارئ الفعالة. وذلك لأن البنية هذه مكانية أكثر منها زمانية. ففي العديد من روايات كلود سيمون, (معركة فرسلة) (La bataille de Pharsale) أو (الأجسام الناقلة) (Les corps conducteurs) أو (درس الأشياء) )Leïon de choses) لم يعد الإطار الزمني الخارجي عنصرًا مساعدًا في تجميع المقاطع المتناثرة. بانعتاقها من المسار الزماني تمكّنت الرواية من تفكيك البنى المعنوية المبنية على السبب والتعليل والتفسير, واستبدالها ببنى تعطي لأشكال الترداد والتجاور والتداعيات والمتبدلات دورًا أكبر في إنتاج المعنى وتلغي التنظيم الدرامي لمصلحة تنظيم لِعَبي (ludique) هو أقرب إلى مستوى الخطاب منه إلى مستوى القصة.

فمارغريت دورا تقوم في روايتها (نائب القنصل) (Le Vice Consul) بوضع قصتين, لا روابط سببية أو زمنية بين الواحدة والأخرى, في علاقة تجاور وتداخل تنتهي إلى إنتاج معنيً خارج السياق التعاقبي والمنطقي الذي اعتدنا. كما يحاول سولرز من ناحيته في رواية (دراما) (Drame) تبيان أن زمن الرواية هو زمن الكتابة, زمن الصفحة البيضاء, الزمن الداخلي الذي يلغي فكرة التعاقب الذي أسس في الماضي لمفهوم المعنى. وقد تمكّن هذا الإلغاء من حلحلة أسس الرواية التقليدية وتفكيك تماسكها المنطقي والسببي, وتماسك شخصياتها الخاضعة لقانون التطوّر النفسي التقليدي الضروري لروايات بنت مسوّغاتها على عرض (أقدار نفسية) أخذت وجهة النجاح أو الفشل الاجتماعي.

أتى هذا التماسك أو التجانس, في الرواية التقليدية, نتيجة للتقيّد الصارم بمبدأ الهوية الذاتية, واستمرارية الذات, وإلغاء التناقضات, والتمييز الواضح بين مستويات الواقع والخيال, بين الذاتي والموضوعي, بين الهدف والفعل, بين الحاضر والماضي, بين الأنا والآخر, إضافة إلى النزعة التفسيرية بامتياز سواءً على صعيد القصة (تقطيع معبّر للنص, تعليل الوقائع, اختيار للإشارات والعناصر المميّزة, تكريس لنظام مفهوم.. إلخ). أو على صعيد الخطاب الذي يتدخّل متوسّلاً توضيح غوامض القصة. كل هذا ساهم في خلق (المحتمل السردي) مع إرجاع ثابت إلى مستويات ذهنية مكرّسة وإلى جعل الأحداث الإنسانية مقروءة عبر سرد تعاقبي منطقي.

أما عن (الرواية الجديدة), فقد أدّى هذا التراجع عن البنى المنطقية والسببية والتخلّي عن النزعة التفسيرية والتعليلية إلى إنتاج أدب مقلق مبني بشكل أساسي على (الغموض والتفكك) وعلى التوالد السردي الحر وبالتالي على انعدام الترابط المنطقي بين الأحداث والهدف المنشود. فالفراغات والأحداث المشوّشة والحوارات المتفرقة وغير المكتملة.. إلخ. جعلت من السرد عملية تسير على أرض وعرة وغيرمحدّدة المعالم والأفق, فتوالدت من السرد قصص تكاثرت وتنامت في تكوين شبه بدائي مبني على التوسع والانفلاش غير المضبوطين بقوانين. لذلك, نلاحظ أن السرد عند كلود سيمون يتقدّم عبر جملة طويلة جدًا, تنفخها الاستطرادات والجمل الاعتراضية المتداخلة الواحدة في الأخرى, ناهيك بتقنيات التناص الذي يضع النص في علاقات متضاربة مع نصوص أخرى قريبة منه أو بعيدة. وإذا بنص يلقّح نفسه بنفسه فتتوالد المشاهد كلّما انتقلنا من صفحة إلى أخرى.

في مرحلة متقدّمة أخذت المواجهة مع (الواقعية) بعدًا جديدًا وأكثر جذرية. فجان ريكاردو, أحد ألمع وجوه المرحلة المتجدّدة من (الرواية الجديدة), طرح نظريته (الكتابية) (Scripturalisme) في مواجهة بقايا (الأيديولوجية الواقعية). فالجوهر في نظره موجود في اللغة, وما موضوع الكتاب سوى بنيته الخاصة, إذ لا يمكننا تخيّل موضوع مسبق له. (فالرواية ليست كتابة مغامرة بل مغامرة كتابة) (ريكاردو), وهي لا تدّعي إيصال معرفة مسبقة, بل تقدّم نفسها كمشروع لاستكشاف المساحة اللغوية وما تخبئه من أسرار. فمع الجيل الشاب من (الروائيين الجدد) أصبحت الكتابة (منتجة) للقصة, وللحبكة, وللمضمون الذي يأتي لاحقًا ليتلاءم مع الشكل وليس العكس. صار الكتاب, على حدّ تعبير سولرز, (نصًّا حرًّا لا يدّعي الإعلام, أو الإقناع, أو البيان, أو التمثيل, أو الحكاية).

اضمحلال الشخصية في الرواية

أصاب تفكّك الحبكة التقليدية تماسك الشخصية الروائية التقليدية أيضًا. فهذه الأخيرة انبنت أصلاً على مبدأ الهوية وتواصل الذات وتكامله. فالعلاقات الزمنية والسببي, التي كانت تربط حلقات القصة في حبكة متراصة, كانت بحاجة إلى شخصية تشدّها إلى الواقع عناصر اجتماعية ونفسية من اسم, وهوية, وعمر, وعائلة تنتمي إليها, ومهنة تمارسها, ومهارات تتميّز بها, وعادات وتقاليد موروثة, وشكل خارجي, وطباع, إلخ. إلاّ أن الرواية الجديدة التي ضربت بعرض الحائط مرتكزات المنطق الزمني والسيي, وتنكّرت لكل مفهوم يريد حصر الكتابة الروائية ضمن المنظور (المغامراتي) واقتصارها عليه, لم تعد بحاجة إلى الشخصية المنمّطة التي ساقتها إلينا الرواية التقليدية. فأخذت الشخصية تضمحلّ شيئًا فشيئًا لتستحيل كائنًا يفتقر إلى تحديدات وملامح. فهي غير مرئية, أو (أنا) مغفّل نادرًا ما يملك شكلاً ظاهرًا يعبّر عما في داخله, أو غائبة تمامًا كما في (الغيرة) (La Jalousie) لروب - غرييه, أو حتى متبدّلة, تارة أنثى وتارة ذكر, كما هو حال شخصيات كلود سيمون في (درس الأشياء).

يقول رولان بارت في هذا الصدد: (لم يعد كافيًا تفريغ البطل, بل صار استبعاده مطلوبًا). وبالفعل, غدا من الصعب تشخيص البطل أو أنسنته, عند روائيين أمثال سولرز (في رواية (دراما)) أو عند بودري (في رواية (شخصيات)), فلم يعد القارئ بالتالي قادرًا على التماثل بالشخصية بل بالكاتب - الراوي الذي يعيس مأساة الكتابة, إذ أصبح هو البطل الحقيقي للرواية.

فشخصيات روبير بينجي, المصابون معظمهم بداء النسيان أو المولعون بالكذب, يتكوّنون ويتحلّلون أمام أنظارنا. أما شخصيات ناتالي ساروت, فيفقدون تدريجيًا حدود مظهرهم ليذوبوا في مادة (الانحرافات) (Tropismes) اللزجة, بينما تصير شخصيات كلود سيمون - المجرّدون هم أيضًا من كل واقع خارجي - أسرى غرضٍ تمّ إدراكه بالوعي. إلا أن الالتباس لا يصل إلى حدوده القصوى إلا مع روب - غرييه, إذ تعيش شخصياته حالة معمّمة من فقدان الهوية: أفرادٌ مختلفون يحملون الاسم نفسه, أو يضعون أقنعة تسمح باستبدال وجه بآخر ولكن سرعان ما يتحلّل هذا الوجه لدى اقترابنا منه, أو يحمل الواحد أسماء مختلفة في ذاكرة الراوي, كما يتّضح ذلك في (المتلصّص) (Le voyeur), وفي (مشروع ثورة في نيويورك) (Projet pour une rہvolution صa New York, 1970). في هذا السياق, يصحّ قول ميشال بوتور بأن (لا وجود للشخصية إلاً في إطار علاقاتها مع ما يحيط بها من ناس وأشياء مادية وثقافية) (Rہpertoire II,1964).

تمكّن (الروائيون الجدد) من اللعب بالمظاهر الملتبسة للشخصية الروائية, من خلال اكتشاف القدرات الهائلة التي يملكها الراوي - بصفته مستوى من مستويات البنية السردية - خاصة إذا تخالطت بؤرته السردية ببؤرة الشخصية الرئسيية في شكل ضمير متكلّم. فهذا الضمير المتكلّم هو الذي سمح لروب - غرييه الدخول في متاهات هواجس الإنسان الغيور, وبناء روايته (الغيرة) (La jalousie, 1957) على إيقاع هذه الهواجس وتنقّلاتها وتخيّلاتها المتضاربة. وهو الذي سمح بانفلاش الحوار الداخلي (المونولوج) عند كلود سيمون, وتحوّله إلى مناجاة وهمية, هي أقرب إلى لغة التفكّر منه إلى لغة الكلام المنطوق. أما مارغريت دورا, فتجعل من انتقال الشخصيات من منطقة سردية إلى أخرى, بمنزلة تحوّل في وظيفتها: فالمتسوّلة, في روايتها (نائب القنصل) (Le vice-consul, 1966), تظهر في البداية كشخصية ألّفها بيترمورغان (شخصية من شخصيات الرواية) لرواية ينوي كتابتها, ولكن سرعان ما تتحوّل إلى شخصية حقيقية تتحرّك في محيط السفارة الفرنسية, يراها بيتر مورغان نفسه وقد انتقلت في غفلة منه من باتامبانغ حيث تركها إلى كلكوتا.

لم تعد شخصيات الرواية الجديدة تنتج في خيال القارئ (شخصًا) أو (إنسانًا) من لحم ودم كما كانت العادة في الروايات التقليدية. فهي في أحسن الأحوال ضمير أو عين ناظرة أو هاجس أو شعور تتقاذفها الأهواء والميول الكتابية. صارت الشخصية مستوى سرديا مجرّدا سواء أحكت القصة أو تحركت في حلقتها. فهي على كل حال لم تعد تحمل رسالة أو تختزن معنى (بل تحوّلت إلى أداة ترحيل لمعاني ومدلولات يستجمعها القارئ ليعيد ترتيبها في بنية تنتج هي المعنى المتجدّد دومًا.

انهيار الزمان والمكان

انعتقت (الرواية الجديدة) من الزمن الخارجي, زمن الساعات والتقويمات, لتخضع للزمن الداخلي, الزمن الذاتي, الزمن (الإنساني), وذلك عبر الاستعانة بالحوار الداخلي (المونولوج), وبما يسمّى (مجرى الوعي), الذي ظلّت ناتالي ساروت وفيّة له, في محاولاتها التقاط الرعشات الداخلية في اللحظات التي تسبق الحدث. أما كلود سيمون, فتحرّر كليّا من التطوّر الزمني, كما يظهر ذلك في روايته (طريق الفلاندر) حيث يستحيل إعادة تركيب تعاقب ما للأحداث. فالذكريات والاستيهامات تنتظم هنا خارج البعد الزمني, في مساحة تشكّل فيها مدة القراءة الإشارة الزمنية الوحيدة ربما لتوالي الصور في خيال القارئ.

يقول روب - غرييه في سياق كلامه عن السرد الحديث: (يبدو أن الزمن قد انفصم عن زمانيته. فهو لم يعد يفعل شيئًا).لذا نلاحظ في أعماله غلبة البنية الدائرية. فالساعة, التي توقفت في (الممحاة), تستعيد دورانها عندما يطلق (والاس) رصاصته, والدورة الزمنية تتطابق مع الدورة المكانية في (المتلصّص). غير أن هذا التطابق بين الزمان والمكان لا يبلغ دقته إلاّ في روايته (الغيرة), حيث يبرز, مقابل غياب الراوي, غياب الماضي. إذ هنا كلّ شيء يحصل (في حاضر متجدّد يحول دون اللجوء إلى الذاكرة). في هذا الزمن الحاضر باستمرار, لا وجود إلاّ لمضمون ذهني يتكوّن (هنا) في التواقت والتزامن المطلقين. تذوب الأمكنة, الواحد في الآخر, وما كنّا نعتقد أنه يدور في غرفة, إذا به يحدث بعد صفحات في مكان آخر غامض المعالم. المكان يدمّر الزمان, والزمان يهدم المكان, على غرار ما قام به ريمبو في قصيدة حملت عنوانًا غريبًا في ديوان شعري, (حكاية) حيث تتنافى الأمكنة وتمّحي الأزمنة. فالزمن الوحيد الذي يبقى هو الزمن الداخلي, أما المكان فهو دهاليز الذاكرة والخيال. عبثًا نبحث عن زمان ومكان موضوعيين أو واقعيين في الرواية الجديدة, إنهما زمان ومكان الكتابة لحظة انبثاقها من شق القلم.

وعلى الرغم من انعدام الزمان والمكان, وانحلال الشخصية المتماسكة, وتفكّك القصة المحبوكة والمتراصّة, فإن عالم (الرواية الجديدة) مليء بالأشياء و(موجّهة نحو الشيء), كما يقول رولان بارت. إلا أن الأشياء فقدت الوظيفة السردية التي كانت تضطلع بها في الرواية التقليدية, فهي الآن موجودة هنا لذاتها, أو لتقول ثقل حضورها الوجودي العديمة الدلالة. قد تحمل هذه الأشياء مدلولات رمزية, إلاّ أن رمزيّتها - استعارتها - ناتجة عن التقائها بنظرة الشخصية وربما بالسحر الذي تمارسه على الفرد الذي يخضع لسطوتها من دون بلوغ أسبابها. هذه الأشياء سلعٌ, على حدّ تعبير لوسيان غولدمان الذي رأى في وفرتها في (الرواية الجديدة) إسقاطاً, من جملة إسقاطات المجتمع الاستهلاكي حيث يغرق الفرد في غابة من السلع والبضائع تثير رغباته, فيتيه أبطال (الرواية الجديدة) فيها, كما تاه بودلير في غابة من العلامات - الرموز (قصيدة Correspondances) دون بلوغ الجوهر الذي تكتنزه. لذا نلاحظ الشرود والسير يطبعان الشخصيات, كتعبير عن انعدام التكيّف في المحيط الإنساني, عن انفصال جوهري يعانونه. فكل أبطال هذه الروايات يمشون, بحثًا عن معنى هارب دومًا في عالم عدائي حيث يلتزم الناس السلبية, أو ينسحبون, في أحسن الأحوال, إلى مواقع (التلصّص) لينظروا ببلادة - وبشبقية عاجزة - ما يدور حولهم.

في عالم لم تعد الأشياء فيه تعني, يصبح اللجوء إلى الكتابة هو الوسيلة الوحيدة للخروج من المأزق. إذ يغدو قول الشيء بمنزلة فعله.

ماذا بقي من (الرواية الجديدة)

في أواخر السبعينيات, بلغت (الرواية الجديدة) ذروة تجربتها, وذروة جنونها أيضا, حيث انفلشت الكتابة في مساحة اللامعنى, وبرز روائي, مثل أوجين سفيتسكايا, وصلت به الحال إلى حد كتابة رواية بعنوان (كذب) لا تؤدي قراءتها إلى أي يقين يسمح بضبط الحقيقة من أي جانب كان. فكانت ردّة الفعل, عند الجيل الصاعد من الروائيين, عودة إلى الحكاية والسرد بمعناهما التقليدي. فما كان من الكتّاب, من طراز رينالدي وتورنيي وتبّوكي وموديانو وغرينفيل وأوستر وتايلور وغيرهم, إلا الابتعاد عن الهمّ الشكلاني الذي شغل روائيي العقود السابقة, واعتماد التعبير المباشر عمّا يعانون في دواخلهم من هموم واستيهامات وقلق. مع العودة إلى السرد التقليدي, عادت الذاكرة والمشاعر والأحاسيس والعواطف الذاتية, لتحتلّ مكانتها من جديد, وعادت الرواية تكتسب شحنتها الإنسانية التي قمعتها لفترة شكلانية طاغية.

على كل حال, حصلت في الثمانينيات أمور كثيرة في فرنسا وأوربا عامة. فالتحوّل الذي عرفته الرواية, لم يكن معزولاً عن سياق من التحوّلات العامة دفعت بالذهنية والخيال والفكر عامة, نحو نوع من الروحانية والإنسانية. أما على صعيد اللسانيات, فبدأ استجواب (الضمير) المنتج للغة, (الضمير) الذي يقف خلف النص وفعله, أي (الناطق) أو (مستوى النطق). وعاد الإلهام - مع ما يحرّكه من مشاعر وأحاسيس وصور وخيال - يحلّ, في الأدب, محلّ الصنعة واللعبة الفنية, وعادت الرواية تحكي قصصًا, والقصص تنسج حبكتها, والحبكة ترسم خطّ سيرها الدرامي, والدراما تحرّكها شخصيات في أوج انفعالاتها, إنه بالفعل عود على بدء.

ولكن (الرواية الجديدة) تركت بصماتها على الرواية التي خلفتها. فاستفادت الرواية الحديثة والمعاصرة من تجربة (الرواية الجديدة) التي ركّزت انتباه الجميع على أهمية اللغة وتراكيبها, وأهمية البنية الشكلية للنص في عملية إنتاج المعنى ورسم مسار الدلالة فيه. كما أشارت إلى أن وهمًا كبيرًا يسكن داخل الشخصيات المتماسكة المصنوعة من أحرف وورق, وأن (لاشيء) موجود وراء المقاطع الوصفية سوى جملة جميلة كما يقول بروست في محاولته وصف أجراس الكنائس في كومبراي. فعلى الرغم من ابتعادهم عن (الرواية الجديدة), نلاحظ بصمات هذه الأخيرة عند العديد من الروائيين المحدثين والمعاصرين. قراءة رينالدي تعيدنا إلى بروست ولكن أيضًا إلى كلود سيمون, أما موديانو وتبّوكي فهما أقرب إلى أولئك (الروائيين الجدد) الذين كانوا يولون أهمية قصوى لتفاصيل الحبكة وألاعيب الخيال.

خلاصة

في المقدمة التي كتبها لمقتطفات من روايات عالمية معاصرة جمعت في مؤلّف صغير بعنوان (الرواية المعاصرة), يقول آلان روجيه إن (كل رواية كبيرة إنما هي رواية استباق), معلّلاً أن قيمة أي عمل لا تقاس بما يذكّر به, بل بما يستشرفه. لقد انتهت (الرواية الجديدة) اليوم, مثلما انتهت قبلها العديد من المدارس والتيارات والمذاهب التي عرفت مثلها لحظات صعود وهيمنة. وما لجوء معظم روّاد هذه المدرسة اليوم إلى تسطير مذكّرات أو سير ذاتية إلاّ دليل على انطفائها. غير أن (الرواية الجديدة) تركت وراءها معالم يصعب على أيّ كان محوها, ما يعني أنها استشرفت, من حيث تدري أو لا تدري, الرواية المعاصرة التي انطلقت من موقع رافض للعبة المتكلّفة التي فرضتها (الرواية الجديدة). إلاّ أن العودة إلى سرد القصص, وبناء الحبكة المتينة, ليست بمنزلة العودة إلى الرواية التقلدية, بل هي استمرار في نهج (الرواية الجديدة) نفسها. ففي روايته الأخيرة (غريبات) يعطي باتريك موديانو, أحد أبرز روائيي الجيل الجديد, الكلام لثلاث نساء لا اسم لهنّ, ولا عنوان, ولا قوام, ليتذكّرن شبابهن في ستينيات القرن الماضي, تتداخل الذكريات, من دون أن تلتقي الشخصيات, لتبني عملاً يقف في منتصف الطريق بين الرواية والقصة القصيرة والسيرة الذاتية. تتغيّر الأشكال, غير أن الغاية هي نفسها: البحث, من خلال اللعبة اللغوية, وابتداع الأشكال السردية عن معنى للإنسان الغربي عبر استحضار مستمر للتجربة الفردية.

انتهت الرواية الجديدة, ولكن الهموم التي انطلقت منها, والتي شغلتها طيلة عقود ثلاثة مازالت مستمرة فيما صار يسمّى اليوم (رواية ما بعد - الرواية الجديدة).

 

جورج دورليان

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات