أوسترلتز.. صورة اليهود في رواية ألمانية سعد البازعي

أوسترلتز.. صورة اليهود في رواية ألمانية

تطرح هذه الرواية نمطًا جديدًا يمتزج فيه السرد الروائي بالتأملات الفلسفية. كما يزاوج بين الخيال والتاريخ الفعلي.

على رصيف أحد شوارع لندن, كانت المكتبة المجاورة تعلن عن الرواية بشكل يكاد يكون استفزازيًا. توقفت - على غير عادتي - وقد استفززت فعلاً وبدأت أقلّب النسخة المعروضة داخل المكتبة. على الغلاف الخلفي طالعتني معلومات تأخذ بالرواية بعيدًا عمّا يبحث عنه قرّاء الروايات عادة من متع سردية. وجدت في الرواية اتصالاً بهموم بحثية كانت - ولاتزال - تشغلني, فكان أن انكببت على القراءة لأكتشف منذ الصفحات الأولى أنني لا أشبع هموم البحث فحسب, وإنما أتلقى زخات من المتعة السردية ذاتها التي تجعل الرواية ذلك الشكل المتعالي - مبيعًا على الأقل - على غيره في الوقت الحاضر وفي تأزمات الحياة المدنية الحديثة. غير أنني فيما يلي من ملاحظات سأشغل وأشغل القارئ معي بالجانب الأول, أي ذلك المتصل بهموم البحث آملاً أن أوفق إلى ما يبرر ذلك.

في رواية أوسترلتز نقرأ لـ و.ج سيبالد, الكاتب الألماني الذي اكتشفه الكثيرون أخيرًا, أي بعد أن ودّع الحياة وترك منجزًا روائيًا قال عنه البعض إنه كان سيصل به إلى نوبل لا محالة. لقد صدرت الرواية متزامنة مع موت المؤلف (2001), الموت الحقيقي الناتج عن حادث سيارة في مدينة إنجليزية صغيرة كان يعيش فيها سيبالد منذ أعوام أستاذًا للأدب الألماني بعد أن أسس مركزًا مشهورًا للترجمة الأدبية. لكن موت سيبالد أدى إلى اشتعال الحياة في اسمه وأعماله التي انكبّ الكثيرون على قراءتها سواء في لغتها الألمانية الأصلية أو في ترجماتها الإنجليزية وغير الإنجليزية.

حين اشتريت الرواية كنت مدفوعًا بالإشارة الضمنية إلى هوية بطلها اليهودية, لكن الرواية ما لبثت أن تكشّفت عن الكثير مما تجاوز ذلك إلى قضايا يتصل بعضها بمسائل فلسفية وثقافية بالإضافة إلى العملية السردية نفسها التي اتضح أن سيبالد يمارسها على مستوى رفيع من الإتقان ومن الطرح الذي تلتحم فيه التقنية بالرؤية الفلسفية. فكما ورد في أحد التعليقات على الغلاف الخلفي للرواية, هنا نجد نمطًا جديدًا من الكتابة يمزج الحكاية بالمذكرات بأدب الرحلات بالفلسفة بأشياء أخرى مختلفة. إن مصطلح (رواية) بما يتضمنه من بعد سردي خيالي ليس المناسب هنا, فنحن بالفعل إزاء مزيج من الخيال والتاريخ الفعلي الموثق بالتواريخ والصور, فهناك صورة للبطل نفسه, بالإضافة إلى الحضور الفعلي للمؤلف - سيبالد - بوصفه راوية للأحداث وعلى صلة شخصية بجاك أوسترلتز.

التركيبة العامة للقصة ليست معقدة: جاك أوسترلتز رجل في العقد السادس من عمره متخصص في تاريخ الفن المعماري يشرع في تلك المرحلة من عمره باكتشاف أصله وهويته فيعود من حيث نشأ في بريطانيا إلى براغ عاصمة التشيك حيث ولد وانفصل عن والديه اليهوديين, وحيث أرسلته أمه على قطار يضم عددًا من الأطفال اليهود لتتبناهم عائلات أخرى بعضها في بريطانيا. وكان أوسترلتز من نصيب عائلة تتألف من قس عجوز وزوجته ينتميان إلى مقاطعة ويلز, حيث تبنيا الطفل ونشأ تنشئة مسيحية. ومع أن الرواية في أساسها هي قصة ذلك السعي لاستعادة الهوية والأصل, فإنها تتضمن في صفحاتها التي تربو على الأربعمائة ما يعدل بأهميته ذلك السعي من قضايا وتأملات وإشراقات أدبية ترتفع غير مرة إلى مستويات شعرية مميزة.

مسألة الهوية

حين انجذبت إلى الرواية كنت مشغولاً بدراسة ما أسميه المكون اليهودي في الثقافة المعاصرة, وكنت قد عدت - ضمن نصوص أخرى - إلى رواية غسان كنفاني (عائد إلى حيفا), وكان مما أدهشني التقاطع المدهش بين الروايتين. فلدى كنفاني نجد بحث أبوين فلسطينيين عن ابن انفصلا عنه عندما أرغما على الرحيل من حيفا بفعل الزحف الاستيطاني اليهودي الصهيوني, بينما في رواية سيبالد هناك البحث المقابل لابن عن أبويه اليهوديين. وأن أتوقف هنا عند ذلك التقابل العجيب لأنني كتبت حوله بحثًا قدمته في مؤتمر الرواية في القاهرة وهو في طريقه للنشر. هنا أشير إلى أنني في البداية ظننت سيبالد نفسه يهوديًا, وبدا لي أن الرواية تنتسب إلى المكون اليهودي الذي أبحث فيه, لكنني سرعان ما تبينت أن سيبالد كاثوليكي ألماني يكتب عن اليهود بتعاطف شديد مدفوعًا بظروف تختلف كثيرًا عن ظروفنا في هذه المنطقة وتجربتنا مع اليهود تحديدًا (وفي هذا ما يربط الرواية بالمكون اليهودي لكن من زاوية مغايرة).

في إحدى المراجعات الكثيرة التي استفزتها رواية سيبالد في الصحافة الغربية, كتب أحد النقاد الإنجليز - في صحيفة (الجارديان) - يقول ما يلي: (لقد كان التصوير غير المناسب الذي وجدته حياة اليهود لدى المؤرخين الألمان بشكل خاص, هو ما دفعه, كفعل تعويضي, للكتابة عن تلك الحياة على نحو مختلف). والنحو المختلف لا يشير إلى النواحي التقنية فحسب وإنما, وفي المقام الأول, إلى درجة التعاطف, بل التماهي, التي يلاحظها القارئ بين الراوي/سيبالد وشخصية أوسترلتز التي يتضح أيضًا, بفعل التوثيق المدهش, أنها شخصية ليست من محض الخيال, فمعاناة والدي أوسترلتز مع النازية هي ما تصوّره الرواية بتفصيل يألفه من قرأ عن المحرقة (الهولوكوست) أو شاهدها في بعض ذلك الكم الهائل من الكتب والأعمال السينمائية والتلفازية وفي المتاحف التي تعمر مدن الغرب وثقافته المعاصرة.

في صحيفة (الجارديان) البريطانية نجد كلامًا لسيبالد نفسه منشورًا في 22 سبتمبر 2001 يتحدث فيه عن المحرقة النازية على نحو يفسر الكثير من اهتمامه باليهود في الرواية: (لا أعتقد أن بإمكانك أن تركز على وجوه الرعب في الهولوكوست. إنه مثل رأس ميدوزا: تحمله معك في كيس, ولكن إن نظرت إليه فستتحجر. لقد حاولت أن أكتب عن حياة أناس نجوا منه - (المحظوظين منهم). ومعنى هذا أولاً: أن سيبالد شعر أن من واجبه الكتابة عن المحرقة ومعاناة اليهود مع النازية في بلاده, و, ثانيًا, أن الكتابة الروائية مثلت له أسلوبًا أمثل لتناول الموضوع من حيث هي توفر طريقة تختلف عن التأريخ المباشر الذي يشبه - حسب مثاله - النظر المباشر إلى ميدوزا في الأسطورة اليونانية, أي مواجهة الرعب الحقيقي. وبالفعل فإن قارئ (أوسترلتز) سيجد الصورة تلو الأخرى مما يحرّك عطفه وإعجابه تجاه اليهود, عطفه لما قاسوه, وإعجابه بما أنجزوه, وسيخرج في النهاية بانطباع راسخ أن سيبالد قد سدد دينًا رأى أنه مستحق على بلاده وشعبه. ففي الرواية لا نملك إلا أن نعجب بشخصية أوسترلتز, بعمق ثقافته وحساسيته الحضارية المتمثلة باهتماماته المعمارية التي تحيله إلى بان من بناة الحضارة. كما أننا لا نملك إلا أن نأسى ونحن نقرأ وصفه المفصل والموثق بالمراجع والصور, وصفه الحزين, لما فعله النازيون باليهود. وأكثر من ذلك فسنشعر - أو هو ما تفترضه الرواية - بتعاطف عميق مع أوسترلتز نفسه وهو يصارع الشتات الشخصي والضياع, ويدفعه اليأس والاكتئاب إلى التفكير بالانتحار, مرة, والتخلص من أعماله, مرة أخرى.

العزلة والاندماج

صورة أوسترلتز في الرواية جزء من الصورة الكلية لليهود فيها. فأوسترلتز نموذج لليهودي مثقفًا, اليهودي الرفيع الثقافة, المسهم بشكل فاعل في تطور الحضارة الغربية, مثلما هي تلك الشخصيات الكثيرة من مفكرين وعلماء نفس وفنانين وكتّاب (ماركس, فرويد, أدورنو, بوبر, شونبرغ, كافكا, ديريدا, وآخرين كثر). كما أنه مثل كثير منهم يعاني مشكلة الهوية والانتماء ويشعر بأنه مهما اندمج في محيطه الأوربي والأمريكي فإنه ينتمي إلى أقلية هي الأقلية اليهودية. فهو يتذكر أنه في ويلز كان يواجه إدراكًا مبكرًا (يتجدد كل يوم أنني لست في بيتي وإنما بعيد عنه, في شكل من أشكال الأسر). ثم يعود إلى ذلك ليوضح انتماءه الممزق: (بغض النظر عمّا كان يجري في الداخل في ذلك الوقت ]وقت صباه في ويلز[, كان مخيم بني إسرائيل في الصحراء أقرب إلي من الحياة في (بالا)...), وفي موضع متأخر من العملية السردية يفصح أوسترلتز عن عزلته بشكل أوضح حين كشفت له الأحداث مدى عزلته: (أدركت كم كنت معزولاً بين الويلزيين بشكل لا يقل عن عزلتي بين الإنجليز والفرنسيين. لم يخطر ببالي أن أتساءل عن أصلي الحقيقي, قال أوسترلتز, ولم أشعر بأنني أنتمي إلى طبقة اجتماعية معينة أو جماعة مهنية أو مذهب ديني. (وقد أدت هذه العزلة إلى أن يسعى إلى تعويض نفسه بما يحصل عليه من معرفة, ليشكّل الركام المعرفي, حسب تعبيره, (ذاكرة تعويضية بديلة).

جانب آخر من الصورة اليهودية يتضح من وصف الحياة التي كان يحياها أبوا أوسترلتز وشخصيتاهما, كما يعيد الابن بناءها من واقع السجلات التشيكية, التي ينكبّ على البحث فيها, من ناحية, ومن ذكريات المرأة العجوز التي ربته والتي يلتقيها في براغ عند عودته إليها, من ناحية أخرى. نعرف مثلاً أن أباه جاء من روسيا في أعقاب الثورة الشيوعية, وأن أمه كانت ممثلة مشهورة في براغ. ومثل كثير من اليهود كان الزوجان مثقفين يحبّان باريس ومولعين بالتنوير الفرنسي, مما انعكس على قيمهما المفرطة في ليبراليتها والتي كانت على ما يبدو وراء سلوكهما التحرري من القيم التقليدية. تقول السيدة العجوز للابن الباحث عن أبويه, وبشكل عرضي, إن الأبوين, أغاتا وماكسيميليان, (انتقلا إلى شقة في هذا البيت معًا, مع أنهما ظلا دائمًا غير متزوجين) (ماكسيميليان هو أيضًااسم والد سيبالد نفسه). ومن يقرأ في تاريخ اليهود في أوربا الحديثة فسيعرف أن الليبرالية المتطرفة كانت دائمًا سمة يهودية مميزة ابتداءً من فلسفة سبينوزا الحلولية وحتى آراء ماركس في التدين, وامتدادًا إلى تنظيرات فرويد حول التحرر الجنسي, ودعوة بوبر إلى المجتمع المفتوح, إلى غير ذلك مما يسمى المكون اليهودي في الثقافة المعاصرة.

إن الحديث عن رواية أوسترلتز دون الوقوف على الجوانب الفنية والإبداعية في الرواية يظل ناقصًا, لكن لذلك حديثا خاصا آثرت تأجيله لأشير إلى جانب من الرواية رأيته أكثر صلة بالظروف المحيطة بنا, وهو في نهاية المطاف الجانب الرئيس في ذلك العمل الجدير بالقراءة والترجمة إلى العربية.

 

سعد البازعي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات