تكنولوجيا الاتصال هل تدعم الغربة والانعزال? أحمد أبوزيد

تكنولوجيا الاتصال هل تدعم الغربة والانعزال?

رغم كل التقارب الذي تتيحه وسائل التقنية الحديثة فإنها تحمل في خصائصها كل ما يزيد من فردية الإنسان وتدفعه للانعزال.

رغم كل ما أحرزه الكمبيوتر والإنترنت من نجاح في مجال نشر المعرفة على المستوى العالمي وتيسير الحصول على المعلومات وتناقلها وتبادلها عبر كل الحدود الجغرافية والسياسية التي تفصل بين الشعوب والمجتمعات, ورغم أهمية الدور الذي يمكن أن يقوم به الإنترنت بالذات في تدعيم أسس التفاهم القائم على التقدير والاحترام لمختلف الثقافات المتباينة بل والمتعارضة فلا يزال هذا الدور عاجزا عن تحويل هذا الاتصال إلى علاقة حميمة كتلك التي تنشأ بين الأشخاص الذين يتم التواصل بينهم بطريق مباشر يقوم على الالتقاء وجها لوجه كما يحدث في الحياة اليومية العادية, أو حتى تلك التي تقوم بين الناس من خلال وسائل الاتصال والتواصل وتبادل المعلومات والأفكار الأخرى مثل الكتاب والصحيفة بل والراديو والتلفزيون. فالاتصال عن طريق الكمبيوتر والإنترنت هو اتصال بين أطراف مجردة تفتقر إلى الوجود أو الكيان المحسوس الملموس وينقصه الجانب (الإنساني) الذي يتوافر بدرجات مختلفة في الاعتماد على وسائل الاتصال والتواصل الأخرى.

فهو اتصال (لا شخصاني) إل يحد كبير حتى في الحالات التي يتم فيها تبادل الرسائل والأفكار والآراء بين أطراف مجهولين بعضهم لبعض. وثمة محاولات كثيرة يبذلها المتخصصون في مجالات الذكاء الصناعي وعلم النفس المعرفي لإضفاء ذلك الجانب أو الطابع (الشخصي) على الكمبيوتر والإنترنت حتى تبدو عمليات الاتصال المتبادل من خلالهما أكثر (إنسانية) مما هي عليه الآن ولكن الظاهر أن هذه المحاولات لم تحقق كل النجاح المنشود.

الخصائص الفردية في خطر

ويحظى هذا الموضوع - المشكلة باهتمام كبير من الكتّاب والمفكرين والعلماء المهمومين بمصير المجتمع الإنساني إزاء التقدم الهائل السريع في مجال تكنولوجيا الاتصال وتأثيره في العلاقات الإنسانية التي ترتكز أساسا على الروابط بين الأفراد ومدى قوة ترابطهم ببعضهم البعض. ومن أهم وآخر من تصدى لرصد الوضع الحالي وتبيين خطورة أبعاده والنتائج التي قد تترتب عليه في عالم الغد أستاذة علم الأعصاب بجامعة أكسفورد - الليدي سوزان جرينفيلد - وهي في الوقت ذاته مديرة المعهد البريطاني بلندن. ففي محاضرة ألقتها في مايو عام 2003 أثناء ما يعرف باسم Cheltenham Festival of Science عبرت عن مخاوفها من أن التقدم غير المحسوب في مجالات التكنولوجيا سوف يؤدي في آخر الأمر إلى ظهور أجيال من البشر (يتمتعون) بالعقلية نفسها ويتبعون طريقة التفكير نفسها ويتعاملون مع الكمبيوتر بطريقة أفضل وأيسر وأسهل من تعاملهم مع بعضهم البعض وأن العلم سوف يتمكن من التدخل في عمليات المخ البشري وإجراء تغييرات وتعديلات فيها لتحقيق أهداف معينة وأن النتيجة المحتومة من هذا كله هو اختفاء الفردية الخلاقة المبدعة. ثم عرضت لهذه الموضوعات ذاتها في كتابها الذي صدر بعد تلك المحاضرة ويحمل عنوان (أبناء الغد Tomorrowصs People) وفيه تصف أساليب تدخل تكنولوجيا القرن الواحد والعشرين في تشكيل أنماط التفكير والتحكم في العواطف والمشاعر والانفعالات الإنسانية وتوجيهها حسب خطط مرسومة مسبقا. وتلاحظ في هذا الصدد أن عقد الإنسان ظل خلال الخمسين ألف سنة الماضية من تاريخ الجنس البشري محتفظا بجوهره وطبيعته ومقوماته الأساسية وقدرته على التفكير والإبداع حتى جاءت التكنولوجيا الحديثة المعقدة والمتقدمة مثل تكنولوجيا الكمبيوتر والإنترنت وتكنولوجيا النانو (الأجهزة متناهية الصغر) والتعديل الجيني التي يمكن استغلالها وتسخيرها في تعديل وتغيير العواطف والوجدانات والأمزجة وتوحيد العمليات الذهنية وإزالة الفوارق والاختلافات الطبيعية بين الناس بكل ما يحمله ذلك من خطورة القضاء على خصائص الفردية التي تميز أعضاء المجتمع بعضهم عن بعض والتي يقوم عليها التنوع البشري الذي يعتبر في نظر الكثيرين العنصر الأساسي في إضفاء المعنى على الحياة الإنسانية.

معلومات بلا إطار

فالإنترنت - على سبيل المثال - يقدم المعلومات المطلوبة حول أي موضوع معين بطريقة آلية وفي شكل نمطي وبترتيب جامد ومحدد تولى صياغته في الأصل أشخاص أو هيئات لا يعرف الباحث شيئا عنهم أو عنها ولا يكاد ذلك الشكل أو الترتيب يتغير مهما تعدد واختلف الأشخاص الذين يزورون الموقع المعين للحصول منه على المعلومات المتعلقة بالموضوع, وفي ذلك تحديد لحرية التصرف وتقييد لإمكانات التنويع والتجديد. وهذه مشكلة تدركها الأجيال الحالية من مستخدمي الكمبيوتر والإنترنت, وسوف تزداد المشكلة حدة وتفاقما في المستقبل بازدياد الإقبال والاعتماد على الإنترنت والانصراف التدريجي عن الكتاب بحيث يمكن أن نطلق على أبناء الغد اسم (أولاد الشاشة) مثلما يطلق على الأجيال السابقة وإلى حد ما الأجيال الحالية اسم (أولاد الكتاب) والخطورة الحقيقية التي سوف تتعرض لها الأجيال التالية تنجم من أن سهولة الحصول على تلك المعلومات الغزيرة دون بذل عناء في البحث والتنقيب عنها من شأنها إضعاف القدرة على التفكير أو استخدام الخيال الإبداعي بطريقة إيجابية فعالة وذلك لأن تحصيل هذه المعلومات والحقائق سوف يتم في الأغلب دون إدراك أو معرفة أو فهم للسياقات والأطر النظرية العامة التي تعمل ضمنها تلك المعلومات. وكما تقول الليدي سوزان جرينفلد في ذلك إن هذه الأجيال سيكون لديها من الأجوبة الجاهزة أكثر من التساؤلات التي كان يمكن إثارتها والتي تدفعهم إلى طرحها بالفعل قراءة الكتاب ومناقشة ما قد يكون فيه من أفكار وآراء وفي هذا أيضا قضاء على الفردية الخلاقة المبدعة.

فالمشكلة التي سوف تواجه الأجيال التالية لن تكون هي العجز عن الحصول على المعلومات بقدر ما هي عدم العثور على الأطر العامة للتفكير الذي يوجه سلوكهم ويحدد قيمهم ويساعدهم في الوقت ذاته على الاحتفاظ بكيانهم كبشر يتمتع كل منهم بمميزاته الخاصة التي ينفرد بها عن غيره من أعضاء المجتمع الذين يعيشون كلهم فيه. ولقد أصبح الخوف من تراجع الفردية وتآكلها من جراء سهولة الحصول على المعلومات ووفرتها أمام الجميع هاجسا يشغل بال الكثيرين من المفكرين والكتّاب الذين يعتبرون هذا التراجع أو التآكل أشد خطورة على وجود واستمرار المجتمع الإنساني القائم على التنوع الخلاق من خطراحتمال تدمير العالم الفيزيقي وكوكب الأرض باستخدام أسلحة الدمار الشامل. فالتقدم الهائل في تكنولوجيا المعلومات وغزارة تدفق هذه المعلومات وإتاحتها للجميع وسهولة الحصول عليها تحمل بين طياتها إمكان وقوع المجتمع الإنساني تحت سطوة نمط واحد وموحد للتفكير والإحساس وبالتالي سيطرة (عقل جمعي) واحد تختفي أمامه تماما كل مظاهر الاختلاف والتنوع والتفكير الشخصي الإيجابي والمتمايز والإرادة الفردية المستقلة. وقد كان عالم الاجتماع الكندي مارشال ماكلوان يعتقد أن التلفزيون يقوم بهذه المهمة على خير وجه, أما الآن فإن المرشح لأداء هذه (الوظيفة) هو الكمبيوتر والإنترنت ولكن بدرجة أكبر من الكفاءة واتساع نطاق التأثير, إذ إن لهما قدرة هائلة على تفريغ الإنسان من محتواه الذهني والعاطفي وحرمانه من كثير من مقوماته وخصائصه الإنسانية المستمدة من علاقة الناس ببعضهم البعض بصورة مباشرة بدلا من علاقتهم بالآلة - وهي الكمبيوتر - في هذه الحالة الراهنة.

الفردية والاستنساخ

على الجانب الآخر يثير النجاح الملحوظ في عمليات الاستنساخ بعض التساؤلات التي قد تبدو فلسفية وذات طابع نظري عن معنى الفرد والفردية وبخاصة بعد اتجاه التفكير نحو إمكان امتداد هذه العمليات إلى استنساخ البشر وإغفال كل التحفظات الأخلاقية والدينية التي قد تقف دون ذلك. فالاستنساخ يعني في بعض أبعاده على الأقل أن (الفرد) لن يموت أبدا على أساس أن في الإمكان (إنتاجه) باستمرار وإلى ما لا نهاية من جزء صغير من تكوينه الفيزيقي, وهذا يستدعي ضرورة العثور على تحديد دقيق ومقنع لمعنى كلمتي (الفرد) و(الفردية). والظاهر أن تكنولوجيا التوالد والتناسل والإنجاب أفلحت في تحويل ما كان يعتبر حتى الآن مسألة طبيعية إلى عملية صناعية يقوم بها الإنسان حسب مواصفات ورغبات معينة كما أن الطبيعة ذاتها أصبحت مجرد عملية إنتاجية خاضعة للتدخل البشري وأن النموذج الإنجابي الذي يضم الوراثة والنمو والتغير والاستمرارية والعمليات الاجتماعية المصاحبة للتنشئة والتقدم بدأت هي أيضا تتقلص ويتم اختزالها في إنتاج (الفرد الجيني) الذي يتم تصنيعه باستخدام العلم. وهذا كله معناه في آخر الأمر أن مفهومي الفرد والفردية يحتاجان إلى مراجعة حتى يتلاءما مع هذه التغيرات الحديثة الناجمة عن التقدم الهائل في مختلف مجالات العلم والتكنولوجيا.

وفي أوائل العشرينيات من القرن الماضي نشر الكاتب الروسي إيفيجيني زمياتين روايته الشهيرة بعنوان (نحن) وفيها يتنبأ بما سوف نكون عليه - نحن البشر - في القرن السادس والعشرين. ويرى كثير من الكتاب والنقاد أن هذه الرواية كانت المصدر الحقيقي الذي استلهم منه أولدس هكسلي أفكاره التي وردت في روايته (عالم جديد جريء) كما أنها هي التي أوحت إلى جورج أورويل بموضوع روايته (1984). ويتصور زمياتين في هذه الرواية قيام ما يطلق عليه اسم (الدولة الواحدة), وأنها تعيش داخل قمة زجاجية ضخمة تضم بيوتا من الزجاج يكشف عن كل ما يدور بداخلها ما عدا العلاقات الجنسية التي تتم سرا في الخفاء. وفي هذا المجتمع سوف يحمل كل الناس أرقاما وليس أسماء يعرفون بها, وأن هذه (الأرقام سوف تسلك وتتصرف وتعمل حسب (جدول الساعات) آلي ينظم كل الأنشطة في هذه الآلة - الدولة بحيث تصحو هذه الأرقام كلها من النوم في ساعة محددة وتبدأ العمل معا وتتوقف كلها عن العمل في وقت واحد وهكذا. بل إن تناول الطعام يتم عن طريق الضخ في أجساد هذه الأرقام عن طريق ملايين الأيدي التي تؤلف جزءا من تلك الأجساد والتي ترفع ملايين الملاعق المليئة بالطعام إلى ملايين الأفواه في وقت واحد وبشكل رتيب لا يتغير وهكذا. ويذهب زمياتين إلى أن هذا التنظيم سيكون هو الصورة المثلى لمجتمع الغد الذي نعيش فيه (نحن - الأرقام) وأن السعادة نفسها وكثيرا من المشاعر والعواطف والوجدانات يمكن رصدها وقياسها حسب الحجم أو الكمية ويمكن ترجمتها إلى معادلات حسابية مما يعني آخر الأمر انعدام الشخصية الفردية القادرة على التصرف الحر وعلى التخيل والتفكير الإبداعي المستقل, بل إن الإبداع نفسه سوف يعتبر علامة على المروق الذي ينبغي القضاء عليه. ويطلق بعض النقاد على هذا المجتمع الذي تمثله هذ الرواية اسم (المجتمع الرياضي) أي المجتمع القائم على أسس ومبادئ وقواعد رياضية.

والخوف من أن تتحول الأجيال التالية إلى مجرد أرقام متشابهة عاجزة عن التفكير المستقل وعن التخيل الإبداعي وتقنع باستقبال المعلومات الغزيرة التي يوفرها لها الكمبيوتر والإنترنت يدفع كثيرا من الدول المتقدمة إلى إعادة النظر في سياستها التعليمية والبحث عن أساليب تكفل تطويع استخدام الكمبيوتر بحيث يساعد على تنمية القدرات الخاصة وإبراز الخبرات والقدرات والمنظورات الفردية وارتياد الواقع من هذه المنظورات حتى يحتفظ الأفراد بشخصياتهم المتميزة القادرة على الإبداع والابتكار. بل إن بعض الدول - مثل اليابان - تركز على الفرد في نظامها التعليمي بما يحقق التغلب على أضرار الإنترنت ومقاومة تأثيراته السلبية على القدرات الإبداعية الفردية, ووصلت في ذلك إلى حد أن سياستها التعليمية لم تعد تقنع برؤى المسئولين والمتخصصين في شئون التعليم من الرسميين, بل على تشجيع التلاميذ منذ البداية على ارتياد الواقع من منظورات جديدة بقصد تغييره إذا أمكن تمهيدا لمواجهة مشكلات المستقبل والتعامل معها بكفاءة واقتدار, أي أن النظام التعليمي ينبغي أن يعنى بإبراز الجوانب الإيجابية والإبداعية المتميزة التي تساعدهم على تحقيق شخصيتهم الفردية وتقوية الروابط مع المجتمع لمواجهة تأثير الإنترنت الذي يعمل على توحيد العمليات الفكرية والقضاء على التنوع وترسيخ السلبية بين الأفراد.

وتلقي آراء مارشال ماكلوان في كتابه (كوكبة جوتنبرج) مخترع الطباعة وكتابه الآخر عن - (الوسائل هي الرسائل) - بعض الأضواء على ما هو حادث الآن وما سوف تؤول إليه الأوضاع في المستقبل. وماكلوان هو صاحب التصور الشهير عن تحول العالم إلى قرية واحدة كبيرة يشير إليها باسم (القرية العالمية) أو (القرية الإلكترونية) التي سوف تتراجع فيها أهمية الكتاب لكي تحل محلها وسائل أخرى مثل التلفزيون والأهم منه في الوقت الحالي وفي المستقبل الكمبيوتر والإنترنت وما سوف يلحق بهما من مبتكرات تكنولوجية جديدة.

الرسالة والأداة

ودون الدخول في تفاصيل نظرية (ماكلوان) يكفي القول هنا إنه يذهب إلى أن طبيعة الأداة أو وسيلة الاتصال لها دخل كبير في تحديد نوع الرسالة التي يراد توصيلها والأثر الذي تتركه هذه الرسالة لدى (المستقبلين). وليس المهم هنا هو محتوى الرسالة أو مضمونها وإنما المهم هو طبيعة الأداة التي تتولى عملية النقل والتوصيل نظرا لأن هذه الأداة تتحكم في تحديد وتوجيه العلاقات الإنسانية, فاختراع الطباعة - مثلا - كان له تأثير سلبي على القدرات والملكات الطبيعية لدى الإنسان من حيث القدرة على الاحتفاظ بالمعلومات وتوصيلها بطريق مباشر من خلال الاتصال الشخصي وليس عن طريق النص المطبوع الذي هو في آخر الأمر (نص محايد). وقد أسهمت الطباعة في كسر العلاقة التقليدية القوية بين المتكلم والمستمع من ناحية, وبين ما يسميه ماكلوان (فعل) الكتابة الفيزيقية و(فعل) السمع الذي يعتمد على الأذن من الناحية الأخرى. فقد كانت القراءة قبل ظهور الطباعة والكتاب تتم بصوت مرتفع لجمهور من السامعين أي أن القراءة لم تكن حتى القرن السابع عشر قراءة (صامتة) كما يحدث الآن مع الكتاب أو النص المطبوع وإنما كان النص المكتوب باليد يقرأ عادة بصوت مرتفع مسموع وبذلك كان يتحقق ارتباط الفعلين - فعل الكتابة وفعل السمع - معا كما تتضافر أكثر من حاسة في قراءة النص وفهم الرسالة واستيعابها. ولقد كان الإنسان البدائي يعيش فيما يسميه ماكلوان (جنة عدن) وهي المجتمع البدائي الذي يتم فيه الاتصال بين الناس بطريق مباشر أي وجها لوجه, وكان الكلام هو أداة التواصل, وهي أداة تجمع بين النطق والسمع والرؤية المباشرة, بل وأحيانا اللمس والشم ولغة الجسد وتعبيرات الوجه وما إليها بفضل التقارب الجسدي في المكان بين طرفي العلاقة. ورغم كل ما يقال عن تخلف ذلك المجتمع البدائي, فإن الاحتكاك بين أعضائه كان يهيئ لهم الفرصة لإثبات ذاتيتهم الفردية المتميزة والمشاركة في أحداث المجتمع سواء بالمشاركة أو التنفيذ مما كان يؤدي إلى التفاعل والترابط. وكان ظهور الطباعة بداية لاختفاء هذه العلاقة المباشرة وتباعد الأفراد وانفراد كل منهم بالكتاب أو النص المطبوع الذي أصبح هو أداة الاتصال بين الكاتب (المرسل/الرسالة) والعالم الخارجي (الفرد أو الأفراد الذين يستقبلون الرسالة). والكتاب أداة صمّاء لا تحتاج إلى وجود أطراف العلاقة في نفس المكان والزمان لكي يتم التواصل الذي أصبح يعتمد على أي حال على حاسّة واحدة هي البصر. وقد حل ارتباط المعاني بالكلمات محل ارتباطها بالأشياء والأفعال الواقعية المحسوسة الملموسة وظهرت بذلك بوادر اغتراب الإنسان عن نفسه والانعزال عن المجتمع وعدم الاهتمام بشئونه أو الاتصال بمشكلاته ومناقشتها مع الآخرين ومناقشتهم في إيجاد حلول لهذه المشاكل. وسوف يتعمق هذا الشعور بالانفصال والتقوقع حول الذات بانتشار الكمبيوتر والإنترنت وهما أداتان تزيدان من انفصام ملكات الفرد إحداها عن الأخرى, وهذا فارق جوهري يفصل بين الإنسان القديم وإنسان المستقبل.

والمؤكد هو أن النزوع إلى الفردية كان يمثل دائما الرغبة الطبيعية لدى الإنسان إلى التمايز والخصوصية. ومع أن القرن الواحد والعشرين سوف يحتفظ بكثير من الملامح والعناصر القديمة التي انحدرت إليه من القرون السابقة باعتباره امتدادا لها فإنه سوف يتميز عليها بظهور أبعاد جديدة تميز علاقات الناس ببعضهم البعض نتيجة للتقدم التكنولوجي المرتقب وبخاصة في مجال علوم الاتصال وما سوف يهيؤه هذا التقدم من إمكانات الاستقلال والاكتفاء الذاتي والتفرد. والمفارقة هنا هي أن تكنولوجيات الاتصال و(التواصل) التي تحمل معنى التقارب والتفاهم والترابط هي التي سوف تدعم نزعات الانعزال والتباعد. وكما يقول سام فاكنين في مقال طريف عما يسميه Future Perfect إن الجنس البشري كان يتجه خلال كل مراحل تطوره التاريخي الطويل نحو ترسيخ العزلة أو الانعزال مما أدى في آخر الأمر إلى ظهور ما يعرف الآن باسم (الاتصال عن بعد) الذي أدى بدوره إلى القضاء على إمكان الاحتكاك المباشر بكل ما يحمله من مؤثرات حسيّة تزيد من عمق هذا الاحتكاك وتضفي عليه كثيرا من المعاني التي يفتقر إليها الاتصال من خلال الكمبيوتر والإنترنت اللذين جعلا عملية الاتصال والتواصل مجرد عملية تبادل للمعلومات المكتوبة والمطبوعة والمرئية والخالية من نبض الحياة. وعلى ذلك فإن ما يذهب إليه مارشال ماكلوان من أن العالم أصبح الآن (قرية) إلكترونية هو تشبيه مجازي بمعنى من المعاني لأن مفهوم (القرية) في عرف علماء الاجتماع والأنثربولوجيا يقتضي وجود علاقات حميمة تقوم على الروابط الشخصية المباشرة كما أنها تؤلف متجانسة اجتماعيا وثقافيا وتفرض على أعضائها المشاركة الإيجابية في كل شئون الحياة, وكلها أمور يعجز الكمبيوتر والإنترنت عن تحقيقها. فالانفتاح على العالم من خلال الإنترنت انفتاح فردي عبر أجهزة صمّاء, بل إن الرسائل الإلكترونية التي قد يتبادلها الأفراد تفتقر إلى معنى (الخصوصية) التي تحظى بها الرسائل الخطية التي قد يتبادلها هؤلاء الأفراد أنفسهم حيث يميلون في العادة إلى الاحتفاظ بها والعودة إليها من وقت لآخر لأن فيها (جزءا) من شخصية صاحبها الذي أرسلها مكتوبة بخط يده, وذلك بعكس الرسائل الإلكترونية التي كثيرا ما يكون نصيبها المحو والإلغاء بمجرد لمسة بسيطة على أحد مفاتيح الجهاز. وهذه كلها ظواهر تثير مخاوف المهمومين بمستقبل المجتمع والعلاقات الإنسانية حول ما يخفيه المستقبل من مفاجآت.

 

أحمد أبوزيد

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات