النيوترينو.. ذلك الجسيم الشبح محمد محمود إبراهيم

النيوترينو.. ذلك الجسيم الشبح

لم يعد ممكنا لمن يريد أن يعيش في قلب عالمنا المعاصر, إلا أن ينتبه إلى ما تكتشفه الفيزياء الحديثة من دقائق وعجائب, فهي اكتشافات لا تمد أبصارنا إلى اتساع وإعجاز الكون من حولنا فقط, بل تنبهنا إلى قفزات العلم التي يقوم بها الآخرون, ويسعون إلى عظيم استثمارها.

حقا.. إنه لجسيم شبح, فكتلته تكاد تقترب من الصفر (إن كان له كتلة أصلا!!), ويتحرك بسرعة الضوء أو يكاد, وينطلق بأعداد هائلة لا يلوي على شيء, متجولا بحرية مطلقة في أرجاء الكون الفسيح, فليس ثمة حائل يستطيع أن يوقفه. وذلك بسبب قدرته الفريدة على الاختراق والنفاذ. فإذا ما حدث مثلا واخترق النيوترينو كرتنا الأرضية في بقعة ما, فإنه سرعان ما يخرج من البقعة المقابلة قبل أن يرتد إليك طرفك, مارا بمركز الأرض ليواصل رحلته في أجواز الفضاء, دون أن يعتريه أقل انحراف أو كلل. بل إن أرضنا بكل ما فيها من معادن و صخور صلبة أو منصهرة هي بالنسبة له مجرد كرة بالغة الشفافية والصفاء. وإذا ما تصادف وكنت في نزهة لهذه البقعة التي خرج منها توا هذا النيوترينو, فإنه سوف يخترق جسمك دون أن تشعر ودون أن يلحق بك أي ضرر. وأرجو ألاّ تصاب بالرعب إذا ما عرفت أن هذا النيوترينو لم يكن في تلك الزيارة بمفرده, فقد كان بصحبته حوالي 500 بليون من رفاقه!! ولكي تكتمل الصورة, لا بد من مصارحتك بأن جسمك نفسه يحتوي على أحد نظائر البوتاسيوم المشع والذي ينتج يوميا حوالي 340 مليون نيوترينو تنسل خلال جسمك في هدوء وبراءة إلى الخارج دون أن تدري. أي أن شيئا لن يفسد عليك التمتع بنزهتك.

يعد النيوترينو أكثر الجسيمات تحت الذرية إثارة بالنسبة لعلماء الفيزياء الذرية, ذلك لكونه أكثرها مراوغة وغموضا. إذ من الصعب العثور عليه أو تطويقه وهو عصي تماما على الإمساك به, وتعجز كل المواد عن امتصاصه أو صده. و مما يزيد الأمر صعوبة أنه بلا شحنة, أي متعادل كهربيا, فضلا عن أنه - مثل أي شبح ماكر!!- يستمتع بتبديل هيئته, ذلك أن له ثلاث هيئات يتنقل بينها ذهابا وإيابا, وهي الظاهرة المسماة بتذبذب النيوترينو).

شجرة العائلة تحت الذرية

الجسيمات تحت الذرية هي الجسيمات بالغة الصغر التي تتكون منها جميع ذرات الكون. وتتفرع شجرة تلك الجسيمات إلى فرعين رئيسيين وهما: الجسيمات التي تتكون منها المادة وتسمى جسيمات المادة, وتلك التي تنقل الطاقة وتسمى جسيمات الطاقة. وسوف نقتصر في بحثنا هذا على الفرع الخاص بجسيمات المادة.

وقبل أن نبدأ في التعرف على عائلة النيوترينو وموقعه في شجرتها, نود الإشارة إلى أن كل جسيم من الجسيمات التي تنتمي لتلك العائلة يوجد له جسيم مضاد (Anti-particle), فالبروتون مثلا يوجد له بروتونه المضاد والنيوترينو له نيوترينوه المضاد, وهكذا بالنسبة لبقية الجسيمات. وتمثل جميع الجسيمات المضادة ما يسمى بالمادة المضادة (Anti-matter) التي لها بالطبع شجرة عائلة مضادة. وجدير بالذكر أنه إذا ما تصادف والتقى جسيم بنظيره المضاد فإنهما يفنيان معا ويتحولان إلى طاقة صرفة!! و ليس ذلك من قبيل الخيال العلمي بل هو حقيقة مؤكدة أثبتتها التجارب.

تتفرع الجسيمات المادية إلى ثلاثة أفرع على الوجه التالي:

ــ الباريونات (Baryons) وهي جسيمات ثقيلة نسبيا مثل البروتونات(شحنتها موجبة) والنيوترونات (المتعادلة كهربيا) بالإضافة لمئات الجسيمات الأخرى. هذا وتتساوى تقريبا كتلتا البروتون والنيوترون ويشكلان معا المكونات الأساسية لنواة الذرة, ومن ثم فإنهما يمثلان المادة النووية في الكون والتي بدورها تمثل معظم مادة الكون.

ــ الميزونات (Mesons) وهي جسيمات ثقيلة ومسئولة عن لم شمل البروتونات والنيترونات داخل النواة. ولقد تم رصد أنواع كثيرة منها, لعل أهمها وأكثرها شيوعا جسيم البيون الذي تبلغ كتلته 1/7 كتلة البروتون, وقد يكون البيون موجب الشحنة أو سالبها أو متعادلا كهربيا. كما أن هناك ميزونات أخرى أثقل من البروتون بعدة مرات.

ــ اللبتونات (Leptons:) وهي مجموعة من الجسيمات الخفيفة تضم ستة أنواع:

1. الإلكترون: أخفها وزنا ويحمل شحنة سالبة.

2. الميون: أثقل 207 مرات من الإلكترون ويحمل شحنة سالبة.

3. التاو: أثقل 3500 مرة من الإلكترون ويحمل شحنة سالبة.

(أربك اكتشاف الميون والتاو العلماء, لعجزهم عن فهم دور كل منهما, وتم اعتبارهما الكترونات ثقيلة مشكوكا في فائدتهما للطبيعة, وعندما سمع عالم الفيزياء (ايزادور إسحاق) بنبأ اكتشاف الميون, غمغم غاضبا: ومن تراه أمر بذلك?!).

تأتي بعد ذلك جسيمات النيوترينو الثلاثة وهي لبتونات خفيفة جدا تكاد كتلتها تساوي الصفر وهي:

4. نيوترينو الإلكترون

5. نيوترينو الميون

6. نيوترينو التاو

حيث يصاحب كل منها أحد اللبتونات الثلاثة الأولى.

ملحوظة: تزايد عدد الباريونات والميزونات التي تم اكتشافها في خمسينيات وستينيات القرن الماضي حتى أصبحت بالمئات, وهو ما أزعج بشدة علماء الفيزياء الذرية, لاعتقادهم بأن الطبيعة لابد أن تكون أكثر بساطة من ذلك. الأمر الذي دعا العالم الفيزيائي (روبرت أوبنهايمر) لأن يقول متهكما: (إن جائزة نوبل لابد أن تمنح للعالم الذي يعلن عن عدم اكتشافه جسيما أوليا هذا العام!!). أما زميله (أنريكو فيرمي) الحائز على جائزة نوبل, فقد سخر قائلا: (لو نجحت في حفظ أسماء جميع تلك الجسيمات فلربما تحولت إلى عالم نبات!!).

غير أن العلماء قد تمكنوا في أوائل السبعينيات من إثبات أن الباريونات والميزونات ليست بالجسيمات الأولية, وأن هناك بنية أساسية مكونة من ستة جسيمات أولية فقط تدعى (كواركات), هي التي تتكون منها جميع الباريونات والميزونات. والكواركات الست هي: العلوي و السفلي والغريب والساحر والقاع والقمة.

فالبروتون مثلا يتكون من كوارك علوي وكواركين سفليين, والنيترون يتكون من كوارك سفلي وكواركيين علويين, أما البيون موجب الشحنة فيتكون من كوارك علوي و كوارك سفلي مضاد.

وقد تمكن العلماء بالفعل من اكتشاف جميع الكواركات في المختبرات فيما عدا كوارك القمة, فما زال البحث عنه جاريا!!.

أما بالنسبة لمسميات الكواركات فهي مجرد مسميات عفوية لا تحمل أي مغزى له علاقة بخصائص الكواركات. لكن العدد ستة هو الذي كان له مغزى مهم لدى العلماء لتطابقه مع عدد اللبتونات, الأمر الذي يعكس شدة ولعهم بتحقق التناظر والبساطة في الطبيعة.

وهكذا فإن مادة الكون تتكون من ستة كواركات بالإضافة إلى ستة لبتونات, ثلاثة منها نيوترينوات. وبذا نكون قد انتهينا من تحديد موقع النيوترينو من شجرة جسيمات الكون. يبقى فقط أن نتذكر دائما أن هناك أيضا اثني عشر جسيما مضادا تشكل المادة المضادة في الكون.

أما مادة الحياة العادية فتقتصر على ثلاثة أنواع من الجسيمات الأولية فحسب, وهي: الكواركات العلوية والكواركات السفلية, و منهما تتكون مادة الأنوية (البروتونات والنيوترونات), بالإضافة إلى الإلكترونات التي تدور حول الأنوية مكونة مختلف أنواع الذرات. أما بقية الجسيمات التسعة فلا يتم رصدها إلا في المختبرات. فإذا فرضنا أنه ذات يوم مشمس اختفت جميع الجسيمات الأولية ومضاداتها فيما عدا الكواركات العلوية والسفلية والإلكترونات, فإن أحدا لن يشعر بحدوث أي اختلاف سوى علماء الفيزياء التجريبية في مختبراتهم.

ميلاده.. ومطاردته

منذ حوالي 15 بليون سنة وقع الانفجار العظيم. ذلك الانفجار الذي حدث لنقطة مادية في حالة انضغاط شديد وحرارة عالية جدا تدعى: (المفردة) Singularity (ولا تسأل عن ماضي تلك (المفردة)... فالعلماء أنفسهم لا يعلمون). وتمثل بداية هذا الانفجار لحظة ميلاد الكون الذي أخذ بعدها في التمدد والاتساع, وما زال حتى الآن.

بعد مرور 100.1 من الثانية الأولى من بداية الانفجار العظيم, تمت ولادة الكثير من جسيمات النيوترينو, وأيضا الإلكترونات وقليل من البروتونات والنيوترونات, بالإضافة طبعا إلى جميع جسيماتها المضادة. ومع كل تلك الجسيمات, كان الكون كله يفيض بالضوء(أي بالفوتونات وهي جسيمات القوة الكهرومغناطيسية التي يعتبر الضوء أهم تجلياتها وأروعها).

بعد 14 ثانية من بداية الانفجار العظيم, أخذت الإلكترونات ومضاداتها (المسماة بالبوزيترونات) في التصادم وإبادة بعضها البعض. وعند نهاية الدقيقة الثالثة اختفت جميع البوزيترونات لأنها كانت أقل عددا من الإلكترونات, التي لم يتبق منها إلا القليل نسبيا. وبذا تكون مكونات الكون الأساسية قد تحددت بشكل نهائي واستمرت حتى الآن, على الوجه التالي: النيوترينو ومضاده بأعداد هائلة, مع القليل من البروتونات والنيترونات والإلكترونات.

وكثيرا ما شكلت كتلة النيوترينو مسألة محيرة بالنسبة للفيزيائيين, لذا فقد اكتفوا دائما بالقول بأن تلك الكتلة إما أن تساوي صفرا أو أنها بالغة الصغر إلى درجة تجعل قياسها مستحيلا. واستمر الأمر هكذا إلى أن جاء الفيزيائي (ستيفن واينبرج) ورجح, في كتابه المهم (الكون في الدقائق الثلاث الأولى- 1977), أن النيوترينو لا كتلة له.

وقد ساهم اكتشاف ظاهرة (تذبذب النيوترينو) في حسم مسألة كتلته على الوجه التالي: استنتج فريق العمل على الكشاف (سوبركاميوكاند), أن ظاهرة التذبذب ما كان لها أن تحدث أصلا لو أن النيوترينو بلا كتلة, وقد ثبت بالتجربة أثناء مراقبة سلوك نيوترينو قبل وبعد تحوله من نوع لآخر, استحالة أن تكون كتلة النوعين واحدة, وذلك يعني ضمنا أن واحدة منهما على الأقل ليست صفرا, مما يفضي في النهاية لحقيقة أن لكل نوع من أنواع النيوترينو الثلاثة كتلة مختلفة بالغة الصغر. ويعادل متوسط كتلة النيوترينو (آخذين في الاعتبار كتل الأنواع الثلاثة) بليون واحد من كتلة البروتون تقريبا.

بين الانفجار والانسحاق العظيمين

تخبرنا نظرية النسبية العامة لآينشتاين, أن الكون بعد الانفجار العظيم أخذ في التمدد ومازال حتى الآن. وأن من المحتمل أن يواصل الكون تمدده إلى الأبد, أو أن يتوقف عن التمدد تحت وطأة قوى الجاذبية بين مختلف أجزاء المادة الكونية, كي تواصل تلك القوى تأثيرها مجبرة الكون على التقلص حتى يعود- كما بدأ أول مرة- مندمجا بكل مادته في نقطة مادية مفردة, فيما يسمى بالانسحاق العظيم (Big Crunch). و تنبئنا النسبية العامة أيضا بأن العامل- الذي سوف يقرر أيا من هذين الاحتمالين سيتحقق - هو مقدار المادة التي يحتويها الكون. وبتعبير آخر فإن الكتلة الكلية لمادة الكون هي التي ستحدد مصيره.

وكان (ستيفن واينبرج) قد رجح الاحتمال الأول (التمدد الأبدي للكون) على أساس أن الكتلة الكلية لمادة الكون, وفقا للمعلومات المتوفرة حينئذ, غير كافية لإيقاف تمدده.

وهنا تكمن أهمية الكشف عن كتلة النيوترينو مهما بلغت ضآلتها(حوالي بليون واحد من كتلة البروتون).

ومبعث تلك الأهمية أن قوة هذا الجسيم الواهن تكمن في كثرته, ذلك لأنه في مقابل كل بروتون في الكون يوجد بليون نيوترينو, أي أن: الكتلة الكلية للنيوترينوات في الكون تعادل تقريبا الكتلة الكلية للبروتونات. مما يعني أن كتلة مادة الكون قد زادت - بين ليلة وضحاها!!- بمقدار يساوي الكتلة الكلية لبروتونات الكون (أي حوالي نصف المادة النووية في الكون) وذلك بمجرد اكتشاف كتلة النيوترينو, وهي كتلة كبيرة جدا بالنسبة للمادة الكونية. مما يطرح بقوة رجحان كفة الاحتمال الثاني, أي أن يكون مصير الكون هو الانسحاق العظيم. ويا لها من مفارقة.. أن يتحدد مصير الكون اللانهائي على يد أصغر جسيماته على الإطلاق.

ولو تساءلنا عمن يطلق علينا زخات النيوترينو لتبينا أن هناك خمسة مصادر للنيوترينوات هي:

1. الشمس وغيرها من النجوم, التي يتم فيها إنتاج النيوترينو بكميات هائلة, نتيجة الانصهار النووي الحراري داخلها. وتستطيع تلك النيوترينوات قطع مسافات ضخمة رغم طاقتها الضعيفة. وتتلقى الأرض من الشمس وحدها حوالي 40 بليون نيوترينو في الثانية لكل سم مربع, ناهيك ببقية النجوم.

2. كوكب الأرض الذي يحتوي على عدد ضخم من أنوية الذرات ذات النشاط الإشعاعي الطبيعي. وتنتج الأرض حوالي ستة ملايين نيوترينو في الثانية لكل سم مربع.

3. الإشعاعات الكونية المنبعثة من المجرات البعيدة, تقوم أثناء اختراقها للغلاف الجوي بالتفاعل مع أنوية ذراته, مما يؤدي إلى توليد وابل من الجسيمات المادية, من ضمنها النيوترينوات التي تنهمر على الأرض.

4. الخلفية الكونية التي صدرت عن الانفجار العظيم تحمل معها إلى الأرض أعدادا كبيرة من النيوترينوات وكذلك تفعل انفجارات النجوم فائقة الاستعار Supernova.

5. المنشآت النووية التي يصنعها الإنسان, مثل معجلات الجسيمات تحت الذرية التي تنتج نيوترينوات عالية الطاقة. وأيضا المفاعلات النووية التي تنتج نيوترينوات منخفضة الطاقة, يقدر عددها في المتوسط بحوالي خمسمائة مليون تريليون نيوترينو في الثانية, وذلك للمفاعل الواحد.

تطبيقات ومصانع!

منذ اكتشاف النيوترينو وعلماء الفيزياء يعملون فكرهم للاستفادة من الخصائص الفريدة لهذا الجسيم في تطبيقات ومشاريع يقترحونها لخدمة العلم والحياة. من تلك المشاريع الطموح, مشروع تشييد مرصد تعتمد نظرية عمله على شعاع النيوترينو بدلا من الشعاع الضوئي, حيث يطلق هذا الشعاع نحو باطن الأرض ليسبر غور طبقاتها بحثا عن النفط والثروات المعدنية, وربما أيضا لتقصي أسباب وقوع الزلازل وثورات البراكين. إلا أن هناك عقبة تحول دون ذلك, ما زال العلماء يعملون على تجاوزها, والمثير أن تلك العقبة هي نفسها التي ألهمتهم أصلا بفكرة المشروع, ألا وهي قدرة النيوترينو الخارقة على النفاذ لمسافات شاسعة في الصخور, إذ كيف يمكن بعد ذلك أن يتمكن لوح رقيق وحساس من إيقافه فضلا عن إمتصاصه.

وهناك أيضا مشروع القنبلة النيوترينوية, التي ستغمر الهدف عند تفجيرها بطوفان هادر من النيوترينوات, محدثة الرعب والفزع اللازمين, ثم تغادر بهدوء دون أن تنزل أي أضرار مادية بالبشر أو بالبيئة. ولعل تلك ستكون المرة الأولى التي سوف يرحب فيها دعاة السلام وحماية البيئة بإنتاج سلاح ما.

ولعل أكثر المشاريع طموحا وأقربها للتحقق مشروع بناء المرصد (أنتارس Antares) في قاع البحر الأبيض المتوسط بالقرب من الساحل الفرنسي, الذي يقوم ببنائه فريق يضم 150 عالما ومهندسا. ويأمل الفريق أن يقوم المرصد بتحديد أماكن النيوترينوات عالية الطاقة للاستعانة بها في الحصول على معلومات خاصة بما يدور في قلب مجرتنا الهائج (مجرة الطريق اللبني Milky wa), أو للكشف عن أسرار تلك المادة المعتمة (Dark Matter) التي تسود الكون (تمثل تلك المادة حوالي 90 % من مادة الكون).

ويعتبر هذا المرصد بحق إنجازا ثوريا سيقلب علم الفلك رأسا على عقب. حيث سيمكننا من اكتشاف المصادر المجهولة للأشعة الكونية, كما سيتيح لنا لأول مرة رؤية أجسام كونية بالغة الغرابة ظلت خافية عنا حتى الآن.

غير أن تحقيق ذلك كله يظل مرهونا بقدرة (أنتارس) على الإمساك بالنيوترينوات, وهو ما تم تحقيقه بالفعل باستخدام تقنيات متقدمة بالغة التعقيد.

ويخطط فريق (أنتارس) حاليا لأن تشق النيوترينوات طريقها خلال عشرة ملايين طن من المياه, مع الاستعانة بتسعمائة جهاز كشف ضوئي بالغ الحساسية لالتقاط الآثار الضوئية المتخلفة عن مرور النيوترينوات.

يبلغ عرض المرصد (أنتارس) 150 مترا وارتفاعه 300 متر. وسوف يجري تركيبه على عمق 2400 متر تحت سطح البحر. ولاشك أن فريق العمل سيواجه عدة مشاكل, لعل أهمها احتمال الخلط بين الضوء الذي قد يصدر عن أسماك قنديل البحر الهلامية وبين الآثار المتخلفة عن مرور النيوترينوات.

حتى عهد قريب والفيزيائيون يعتمدون غالبا على النيوترينوات التي تبثها المصادر الطبيعية, حيث أعاقتهم دائما مشكلتان: طاقتها الضعيفة و أعدادها المحدودة. فإذا أرادوا مثلا دراسة الاختلافات الغامضة الموجودة بين المادة و المادة المضادة, فإنهم سيكونون في أمس الحاجة إلى نيوترينوات عالية الطاقة. وبالرغم من أن النيوترينوات التي تأتي مع الإشعاعات الكونية تصلنا بكمية ضخمة من الطاقة, فإن كمياتها لا تفي باحتياجات الفيزيائيين, فضلا عن أنها تصل في صورة خليط من أنواع النيوترينو الثلاثة, مما يزيد من صعوبة التعامل معها. الأمر الذي دفع بالفيزيائيين إلى التفكير الجاد في كيفية إنتاج كميات ضخمة من النيوترينوات عالية الطاقة, مع الحرص في الوقت نفسه على معرفة أعداد كل نوع منها بدقة كافية. ومن هنا بدأ التخطيط لمشروع طموح يتم فيه بناء مصنع لإنتاج النيوترينوات بالمواصفات المطلوبة, وذلك بهدف المساهمة في فتح مغاليق أسرار الطبيعة الغامضة.

ويعد هذا المصنع في الحقيقة طرازا جديدا من معجلات الجسيمات تحت الذرية القادرة على إنتاج كميات هائلة من النيوترينوات عالية الطاقة, وذلك من خلال عدة مراحل, يتم في نهايتها توجيه النيوترينوات وتركيزها على هيئة شعاعين كثيفين من النيوترينوات ينطلقان ليخترقا الأرض صوب جهازي كشف في موقعين مختلفين على الجانب الآخر منها.

هذا ومازال المشروع في مرحلة مبكرة من مراحل التخطيط والتجهيز له, كما أن فريقا قويا, يضم ثلاثمائة عالم ومهندس, يعكف على تصميم ذلك المصنع العملاق. ومن المتوقع, إذا ما سارت الأمور وفق ما هو مخطط لها, أن يبدأ المصنع في إنتاج النيوترينوات في غضون عقد واحد.

 

محمد محمود إبراهيم

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




يتحسب العلماء للإرباك الذي يمكن أن تسببه الكائنات البحرية المضيئة لمجسات المختبر





مختبر (أنتارس) تحت سطح البحر يستخدم مئات من مجسات الضوء لاكتشاف ومضات النيوترينو