جبالٌ ووديان, سيلٌ يحمل الطمي والخصب, وشمس تجاهد السحبَ الداكناتِ,
هكذا تبدأ رحلتنا بُعيدَ (ورزازات) بعبور سد المنصور الذهبي. الصور نفسها تتناسخ
مرة بعد أخرى .. جبال ووديان, سيلٌ وشمس. نمر بمجموعات من البدو, فيقول دليل الرحلة
شارحًا: بعد أن ينتهي الشتاء يبدأ الرُّحَّل في الاحتفاءِ بالربيع, والخروج من
مكامن البرد, تتحرك قبلهم وبعدهم قطعان الغنم وقوافل الإبل.
كانت وجهتنا إلى قلب الصحراء, ونحن فيها. العَقدُ المكتوب الذي
وَقعناه ـ أنا وزميلي ـ مع الجَلالي مصطفى ـ الدليل الذي يفتخر لانتمائه إلى أولاد
جَلال (بتشديد اللام الأولى) ـ يرسم خط الرحلة كالتالي: سنغادر (ورزازات) إلى أولاد
إدريس, عبر وادي درعة, ومنطقة الواحة, مرورًا بزاكورة وخَزَانة تمْكروت (تمجروت
نطقا), والعرق اليهودي ـ وهو بحر الرمال الخادع, والاسم على مسمى!
نخرج من الطرق المستوية, فيبدأ الصعود إلى الجبال المحيطة والخوف من
السقوط المحيق. لحظات وتبدأ الانحدارات, والمنحنيات التي لا نبصر فيها نهاية الطريق
الصاعدة. تذكرت أنني اخترت هذه الطريق عوضا عن طريق (ورزازات ـ مراكش) الخطرة التي
حذرني منها أصدقاءٌ في الدار البيضاء. هذا التحذير جعلني أختار ما اعتقدت أنه أيسر,
ولو علمت الغيب لاخترت الواقع.
وهكذا ما إن نخرج من قلب الغيم, حتى تلقانا طرق منحرفة وأخرى منجرفة.
من بعيد وفوق الدنيا بأسرها يواجهنا شيخ عملاق أسود, كأنه مارد خارج من قمقم
الحكايات الصحراوية. هاهو جبل كيسان المتجهم بلونه الداكن (يُرحِّبُ) بنا. الجبل
يحرس أكداز متخفيا بعمامة رمادية من الغيم. وَجْهُه يشرف على واحة مزكيطا, و27 ألف
هكتار من الأرض التي ينمو بها 27 نوعا من التمور, أجودها في الجنوب. من أعلى جبال
الأطلس في تلك المنطقة التي تطل على الوادي, تبدو لنا قمم النخلات مثل وَرْدَاتٍ
أبدية على مائدة من الصخور الأزلية.
أدنى جبل كيسان وأخواته, وفي قلب واحة وادي درعة تنام متفرقات قرى
صغيرة. ستظنها غير مأهولة, حتى تلمح قرويا يسير هنا, أو قرويتين تتوقفان هناك. إنه
يوم في حياة الجنوب يمشي فيه الزمن متمهلا على عربة, أو دراجة, أو دابة, وتستوقفه
مصافحات وابتسامات وتحيات. البيوت حولها شرائط صغيرة مزروعة بالخضراوات, وفي الحقول
يزرعون التمر والحناء والقمح والشعير والموز والتين والعنب والسفرجل والتفاح, وكذلك
قصب السكر الذي ليس على قرار الأرض مثله طولا وعرضا وحلاوة وكثرة ماء. أعرف كيف
ساهمت هذه المنتجات في تشجيع ممارسة بعض الحرف المحلية, مثل النسيج الذي كانت له
أهمية كبيرة لوجود المواد الأولية كالصوف. ويحدثنا الإدريسي الرحالة في هذا الشأن
عن (الأكْسِية الرِّقاق والثياب الرفيعة) التي كانت تنتج بالمنطقة.
بعد الهبوط, سنمر في طرق طينية كثيرة, إنها طرق مختصرة ولكنها وعرة,
لن نضطر إليها في رحلة العودة. الحمد لله, لم تكن لتُرى في الليل. نمر بعربة نقل
التمر من القرى إلى حيث يتم توزيعه في الشمال, ويتحلق حولنا صبية صغار يودون بيع
بضع حبات من التمر في حافظة صغيرة من الخوص. على مسافة البصر والطريق قصبات أو آثار
لها, حيث يحمل كل برج منها قصة, فمُلاكُها كانوا حماة القوافل, ومنها قصبات أولاد
عثمان, وقصبة القائد العربي. وعلى مسافة البصر أيضا عبارات جدارية ضخمة مرسومة
بالحجر أو اللون على سبورة الجبال: الله. الوطن. الملك. الشعب بك يسمو ويفتخر.
البيوت هنا نموذج في تدوير الخامات البيئية للصناعة والحياة: الجدران
من الأحجار والطين, والأسقف من الخشب والسعف, وكلها خامات متوافرة كالماء والهواء.
أقرأ أسماء المدن والقرى والواحات والقصبات: ورزازات, أفلاندرا, مزكيطا, أكدز,
تامزموت, تتزولين, تمكروت, طزواطة, زاكورة, امحاميد الغزلان, لافتات موسيقية
الجَرْس حتى لو ضاقت بها الأذن, وعز تفسيرها على العقل, لكنك تشعر أنك مررت بها من
قبل. ليس في الأحلام, ولكن الصورة قريبة بدرجة تدهشك مما تتوقعه.
ما إن ولجنا (زاكورة) حتى هجمت علينا البيوت الخرسانية. بيوت تنتمي
إلى لا مكان,فلا تكاد تحفظ من خصال الجنوب الصحراوية المعمارية شيئا, يشق صفي بيوت
المكان شارع رئيسي, ربما تختلس النظر إلى الطرق الفرعية, فتعود إليك بقايا الملامح
المعمارية المميزة, أو لا تعود. ستتعرف إلى التاريخ من لافتات بعض المحلات, ليس
غريبًا أن تجد فندقا أو سوقا تحمل اسم تمبوكتو, فمن هنا بداية الطريق للجنوب. وحين
نصل إلى أولاد إدريس يكون وقت الغداء قد حان, يأتي الطاجن, الخضار واللحم, الوجبة
الوليمة, وبعدها الشاي الذي يميزه سكر القوالب الكثير, وهو لا يذوب بملعقة, بل يكفي
إعادة صبه مرات ومرات بين الكأس وغلاية الشاي. ولا بد أن يصب من بُعد حتى تتكون في
الكأس الزجاجية تلك الرغاوى, يقول المثل: الشاي بلا كشكوش, مثل الصحراوي بلا شاش
(أي أن كأس الشاي من دون هذه الطبقة من الزَّبَد, مثل الرجل الصحراوي بلا عمامة) ..
تصوروا!!
في كف المارد
لكنني خرجت بكم من (ورزازات) دون أن أعرفكم بالمدينة التي جئتها أبحث
عما تبقى من الثقافة الصحراوية. (ورزازات) تعني بالأمازيغية (من دون ضجيج). نعم
يميزها الهدوء, وأشياء أخرى, منها النخيل الذي يسورها, فيمنحها لون الحياة الأخضر,
والجبال التي تحوطها من طرف لآخر, فتبدو مثل حفنة من البيوت في كف مارد. النخلة هنا
سيختزلها الفن المعماري لتتحول إلى قوالب هندسية بعضها فوق البعض الآخر على شكل
مثلثات متداخلة, تمثل جذوع النخيل, أما الجبال فهي في معمار (ورزازات) ذلك التدرج
الذي يشبه هرما يعلو بسطة فوق أخرى.
لكن الأمر الأميز الذي دعانا إلى هذه الرحلة كان عمارة القصور التي
ابتدعها أبناء واحة (ورزازات) حصونا دفاعية. وأنا لا أخلط بين المدينة والواحة
والقرية سهوًا, لأن (ورزازات) جمعت ذلك كله, أو أنها هي كل ذلك! هذه القصور التي
أشرت إليها تنوعت حسب وظائفها بين قبلية تدخل في مُلك القبائل وتقوم على الإنتاج,
وقصور زوايا في حوزة المشيخات والطرق الصوفية وتنبني على الثقافة, وقصور مخزنية في
يد السلاطين والقادة والخلفاء وتهتم بالشئون السياسية.
ويمكن إيجاز المباني التاريخية والمواقع والمناطق المرتبة في عداد
الآثار بعمالة (ورزازات) في أنها: خوانق (دادس) ومرتفعات (بوغافر) وكل من واد
(مكون) وواد (تودرة), وأودية الواحات ( على حدودها), فضلا عن مواقع وقصبتي
(تاوْرِيرْت) و(تافولتوت), وقصبة القائد علي الجديدة بجماعة أكدز في إقليم زاكورة
وملحقاتها (وتنطقان باللهجة المحكية هناك أجداز وزاجورة على التوالي).
هل أصف لك القصبة القصر? إنها تشبه متاهة بديعة يسكنها الحمام
والهديل, أو هي بلونها الترابي مثل سجادة أحادية اللون. ربما تظن حين تراها من
الخارج أن ارتفاعها ثلاثة طوابق, لكنك في الداخل سترى كيف تولد طوابق أخرى, حتى
تبلغ سبعًا, تزيد في جهة وتنقص في أخرى. القصبات صناديق معمارية ذات نقوش غائرة
وحليات بارزة, ونوافذ وفتحات تهوية, مرة تفضي إلى الفضاء الرحب الذي يؤهلها لرؤيته
من موقعها المرتفع ـ دائما ـ ومرة تفضي إلى خلاء وهمي. وسواء أضاءتها الشمس من
الخارج, أو أسرجت أنوار القناديل من الداخل, لا تتبين العين ساكنيها المحروسين من
العيون الفضولية أو المتلصصة. مرة بفضل السور العالي, المصمت إلا من الأبواب
المقوسة والجدران الساكنة, ومرة لبُعد البناء عن الطريق.
يحتال التصميم المعماري للقصبات على صرامة الهندسة بليونة الفن. فغرفُ
القصبة يفضي بعضها إلى بعض, ولا تكاد غرفة تشبه الأخرى في الحجم أو التصميم أو موقع
النوافذ وقربها من الأسقف أو بعدها عن الأرضيات. وما يصل بين الغرف إلا درج مرتفع
الخطوات حينا, أو ممر يضيق أحيانا فتحسبه لم يخلق إلا للأطفال. الاختلاف ميزة
مشتركة بين الغرف التي لا يوحدها سوى السقف الخشبي, وعنده سيبدأ الاختلاف مرة أخرى,
بين سقف ينوء بزخرفة بديعة وآخر يقتصد فلا يسفر إلا عن تشكيلات جصية بيضاء
خرساء.
سأحدثك عن المزاليج المعدنية لأبواب غرف قصبة تاوريرت, فهي على الرغم
من حدتها تنتهي بمناقير طيور تلتقط الكلام من خلف الأبواب القصيرة. ستدفع هذه
الأبواب طوال القامة للانحناء عند الدخول. داخل القصبة سنعبر الدرج والممرات, وكلما
ارتفعنا زادت الزخارف في الأسقف والجدران, وهي زخارف بألوان طبيعية. وتسمى الأسقف
بالططاوي, وهي نسبة مكانية إلى إقليم ططا, وتصنع من أخشاب القصب والنخل والصفصاف,
بينما تصنع خزائن الجدران من خشب الأرز. أما النوافذ فأمرها غريب, فهي في الأدوار
الدنيا تقترب من السقف, فيما هي بالطوابق الأعلى تكاد تلامس الأرض. ربما يكون ذلك
التصميم حماية للتكوين الطيني للقصبات. وتتميز هذه النوافذ بأقواس كما لو كانت
نوافذ مسجد, أما وحدات زخرفتها فلا تكاد تتفق أبدا بين نافذتين. من إحداها سترى
باتجاه الصحراء وعلى قمة أحد الأبراج البعيدة عش طائر اللقلق, الذي يشبه عمامة
عملاقة من القش.
وهذه القصبة ـ كما تقول دراسة للباحث حسين أكيوح ـ تعد من القصور
المخزنية التي كانت تحت إمرة القائد الكلاوي (وينطق اسمه الجلاوي), في النصف الأخير
من القرن التاسع عشر), والنصف الأول من القرن العشرين. وقد حصل سيد الأطلس, وهذا
لقبه, على شرعية الحكم, ومعها أسلحة نارية مكنته من ترسيخ نظام صارم يشمل الحوز ـ
جمع حوزة ـ والأطلس ووادي وواحة درعة, حتى إذا جاءت الحماية الفرنسية اسْتخدم
الكلاوي ـ ضمن من استخدمتهم فرنسا ـ حتى لا تكون مملكته مرفأ اللاجئين الهاربين, أو
منزل الألمان المحتمل.
أساطير الكلاوي
حين وصلت الجيوش الفرنسية إلى تاوْريرت, حيث نقف بقصبة الكلاوي
الرئيسية في (ورزازات), سنة 1928, قامت بتشييد معسكر شمل المطار ودور الجنود ومحلات
أنشطة تضمن اندماج الأوربيين في وسط الأهالي, وطوقت القبائل المحيطة المقاومة,
ومنها قبائل آيت عطا (وتعني أولاد عطا بالأمازيغية), بمراكز مماثلة. حتى إذا خرج
الفرنسيون, والكلاوي, واليهود معهم, تركت (ورزازات) في صحبة فراغ بدأت تحاول ملأه
الإدارة التنموية الجديدة, فأقيم سد المنصور الذهبي لتشجيع الفلاحة, إلا أن هذا
السد نفسه قبَر مساحة مهمة من الواحة وهجَّر فلاحين كثرا انضموا إلى المناطق
المحيطة. وتحولت الواحة إلى محطة سياحية بتشجيع حكومي, وظهرت أنشطة تجارية وخدماتية
تمكنت من استقطاب سكان بلغوا 40 ألفا في تعداد 1992.
روايات كثيرة عن الكلاوي تجدد قوة الحكاية الشعبية عن ذلك الحاكم الذي
يستطيع كل شيء, بما فيها مراقبة كل قوافل التجارة في آن واحد من خلال قصباته
المنتشرة. البعض يروي أن له ألف قصبة وقصبة, شيدت على أعالي التلال مشرفة على دروب
القوافل فلا تمر حتى تدفع الواجب (وهي المرادفة لكلمة الرسوم). مفردة الواجب لا
تزال تستعمل حتى اليوم. ستسمعها من الحارس الجالس لجباية الواجب من الزوار القادمين
لمشاهدة القصبة.
اعتادت نساء الكلاوي, وهن أربع, أن يشهدن الاحتفالات المقامة في باحة
القصبة من وراء النوافذ التي تحجبهن عمن بالخارج. النساء, سواء الثلاث اللائى وضعن
في الطابق الثاني, أو تلك التي فضلها الكلاوي ـ لأنها أنجبت له الصبي ـ فاختار لها
طابقا علويا, كن يجتمعن في الحمام, حيث يسيل الماء الساخن من أنابيب علوية, فيخلطنه
بالماء البارد القادم من أدنى. تتصل غرفة الحمام بحجرة خلع الملابس, وللأولاد غرفة
أخرى. وقد خصصت إحدى غرف القصبة لتكون مسجدًا للنساء, فليس لهن حق الخروج. وهكذا
غرف وراء أخرى, عشرات الغرف, لم ترمم اليونسكو سوى بضع وثلاثين منها, تكفي لتضع
أيدينا على نسق الحياة في تلك القصبات قبل نحو قرنين من الزمان. للجنود هنا أكثر من
غرفة بها كوات تناسب الرؤية وإدخال فوهات ومواسير البنادق المدافعة عن القصبة.
دليلنا عبد الصاديق أونيل ـ الحاصل على إجازة الاقتصاد من جامعة مراكش
ـ يصحبنا بين الغرف دون كلل. ولديه مبرر منطقي يعلل كل ما نراه; فالنوافذ ثلاث ـ في
غرفة الحرملك لأن النساء بها كن ثلاثا ـ والأبواب منخفضة للحفاظ على حرارة الغرف
معتدلة, سواء في قيظ الصيف أو برد الشتاء, والنوافذ تقترب من الأرض في غرفة الطعام,
لأن الرجال اعتادوا الجلوس على الأرض لتناول الوجبات والمشاهدة الحية, ودرجات
السلالم عالية, لأن الكلاوي ورجاله كانوا طوال القامة, وقواعد النوافذ الحجرية
مثقوبة حتى أدنى البناء لتأتي بالهواء حين تغلق النوافذ الخشبية عندما تهب الرياح
الرملية على (ورزازات), وما كان أكثرها, فهي مكيفات هواء ابتكرتها عمارة القصبات,
وشرفة الكلاوي في مقدمة القصبة ليراقب القوافل وهي تمر, فلا يغيب عن إدراكه شيء,
حين يأمر بجبي الرسوم وتأمين القوافل. والنقوش الجصية تمثل آيات قرآنية وأدعية لأن
الإسلام حرم الرسوم, (وهي في قصبة تاوريرت موقعة باسم الخطاط محمد بن الجيلاني
المراكشي), وبئر الضوء يقع في وسط المبنى, لأنه يعد وسيطا مثاليا لنقل الرسائل, إنه
هاتف (ورزازات) الذي تنتقل عبره الرسائل الصوتية على ارتفاع البناء كله, وتتوزع
الكوات في أركان الغرف لتضيء حين تسرج القناديل فضاء المكان كله ... سيضاء فنرى
نتأمل كيف يترك بعض السياح أسماءهم على الجدران!
أدهشنا أن نجد رسوما في إحدى القاعات, وكانت تمثل ستة أسماك تلتقي
برءوسها في دائرة زخرفية, وتعجبنا كيف وصلت الأسماك إلى قلب الصحراء? يقول عبد
الصادق - مكتوب في شهادة تخرجه التي أصر على أن نراها, عبدالصاديق-: لقد أرادها
صناع فيلم (جوهرة النيل) الذي صورت بعض مشاهده في القصبة, فكان لهم ما تمنوا, حتى
التاريخ في خدمة السينما! بحثت عن سبب آخر بعد أن رأيت الأيقونة ذاتها تتكرر في
الأواني الخزفية التي تصنع وتباع في (ورزازات), فعلمت أن المياه التي تجتمع خلف سد
المنصور الذهبي على مشارف (ورزازات) ـ الذي شيد قبل ثلاثين عامًا ـ تأتي ببعض
الأسماك لتسبح في المياه المتجمعة من مسيل الوديان والأمطار. هذا العام ملأت
الأمطار الوادي, وأصبح محصول التمر في (ورزازات) أفضل من أي عام خلال عشر سنوات,
كما أتيح للصيادين ـ الذين يأتون قبيل الفجر إلى سد المنصور الذهبي ـ الحصول على
بعض الرزق.
نمر بباحة هي الأكبر في قلب القرية الصغيرة, يلهو الصبية أمام تسامح
إمام المسجد الذي أتى لفتح الباب للصلاة. للمسجد بوابة عملاقة ومقوسة, لا تزال
تحتفظ بالباب الخشبي العتيق, عكس بيوت كثيرة هنا استبدلت الأبواب المعدنية بأبوابها
الخشبية. الأبواب الحديدية صماء إلا من بضعة ألوان هنا, أو عدة نقوش هناك. لقد وجد
الأهالي في المعدن حماية أكبر, فيما وجدت الأبواب القديمة مكانا لها بين ما يباع
لدى باعة العاديات. في قلب القرية اشترى أحد رجال الأعمال منزلين عتيقين, جددهما,
وصنع بينهما جسرا علويا, وخصصهما فندقا ومطعما. يقول رفيقنا: إنه يجلب المجموعات
الإسبانية مباشرة, قبل أن تبدأ جولتهم في القرية والقصبات وما بعدها.
في سوق الأحد يأتي المغيلي إلى (ورزازات) زائرا لابنة شقيقته في
المستشفى, ولكنه يرى أن تكون الزيارة منفعة ومودة في الوقت نفسه, لذا يصطحب شقيقته
الكبرى إلى سوق الأحد لتبيع بعضا من بضاعتها أيضا. عملات مغربية قديمة, منها ما تم
سكه في إنجلترا. عملات قليلة وحلي كثيرة. كانت البدويات يصنعن هذه الحلي كرأسمال
اقتصادي واجتماعي وجمالي أيضا, وهن الآن قيمة مادية يتوارثنها, بل وتتاح في الأسواق
للبيع مقايضة بأسباب العيش. لكنها تكاد تخرج من حدود الاستخدام اليومي إلى
الاستفادة الفلكلورية المستعادة. تمر امرأة بجلبابها المغربي المسبوك والفضفاض
والمميز أيضا, تسأل عن مثيل لسوار فضي في معصمها, فلا تجد. تسأل عن سعر سوار آخر
متاح متعدد الحلقات, فيجيبها البائع: ثلاثة آلاف ريال. تغادرنا وأسأله وأنا أتناول
الشاي الأخضر: أسعار العاديات كلها بالريال, أين الدرهم (العملة المغربية الرسمية)
هنا? فيجيبني بابتسامة: كبيرات السن والعامة لا يعرفون حسبة الدراهم بسهولة,
فالريال أقدم, وهم يتداولون بالدرهم وحسب, لكنهم يعرفون أن الدرهم يوازي عشرين
ريالا.
الحلقات في أساور المعصم قد تكون شائعة في أكثر من ثقافة, لكن المثير
عند الأمازيغ هو خاتم الزواج الذي يتكون من ثلاث حلقات الأولى تشبه وتمثل كف يد
الرجل, والأخيرة تماثل وتشبه كف يد المرأة, والحلقة الوسطى تحمل صورة قلب. وحين
تنضم الحلقات الثلاث على الإصبع فهي خلاصة الحب ورمزه الذي يربط بين الزوجين. ولا
يختلف خاتم الرجل عن خاتم المرأة سوى في أنه أكبر حجمًا.
هنا تشهد بعض الحلي التقليدية عملية إعادة تدوير, ليس فقط باستخدام
العملات القديمة, وإنما بتحويل الخلاخيل والأساور إلى علب بعد إحكام غلق الدائرتين
العلوية والسفلية, بقاعدة وغطاء, لتتحول إلى علبة فضية أنيقة. أما العلب الفضية
المحكمة والتي تتفاوت في الحجم فقد لعبت دورًا مهما في الحفاظ على التراث المدون,
فقد استخدمت للحفاظ على نسخ القرآن الكريم المخطوطة, والكتب النادرة. ومعظم هذه
العلب المصنوعة من الفضة وسبائك النحاس والمحلاة بعظام الجمال, بديلا عن العاج في
أغلب الأحيان, تنتهي من الجانبين بحلقتين ليسهل حمل الكتاب المحفوظ على العنق بخيط
سميك من الصوف. كما يباع السجاد أيضا, وأشهر وأثمن أنواع سجاد (ورزازات) هو ما يأتي
بألوان الحناء, ولون الصحراء, يمكن للسجادة أن تستغرق ستة شهور حتى تنجزها
النسوة.
العاديات تباع في القرية, أو في (المارشي القديم) السوق القديمة التي
تتوسط المدينة, ولا تجد فيها شيئا مميزا عن الأسواق الشعبية, إيجار الرقعة فيها
دولار واحد يوميا, وتبيع كل ما يتطلبه العيش اليومي: ملابس, توابل, حتى أشرطة
الكاسيت. ما بقي للبيع من الخناجر القديمة لا يتجاوز عمره خمسين عامًا, والآن تشجع
التشاركيات أصحاب الحرف التقليدية, ومنهم صانعو الخناجر, على إنتاجها, وتسويقها.
حزام الشلوح موجود في دكان يبيع الملابس الشعبية, إنه الحزام الذي ترتديه الراقصات,
لكن الرجال أيضا يشترونه لترقص لهم زوجاتهم ضمن خصوصية. أعرف أن ذلك الصحراوي
الشديد خارج الخيام, يترك قسوته التي واجه بها الطقس عندما يلج بيته, فيتحول إلى
فؤاد مفعم بالرحمة, تجاه امرأته ـ التي ندر أن يتزوج عليها وهي تتمتع بقدر كبير من
الحرية تتقاسم فضاء المكان والحياة معه. وتجاه أولاده الذين سيرثون اسم القبيلة.
أسأل عن الأعراس, فيقولون لي إن كل الأعراس مؤجلة للصيف. فهذه الطقوس تحتاج مالا
وفيرا, لا يستطيع توفيره سوى القادمين في إجازات صيفية. حين يثقل وزن امرأة في
الصحراء, أتذكر عادة حكوا لي عنها يطلق عليها (التبلاح),وهو اصطلاح يعنى تسمين
الفتاة لتظهر بجسد لائق تكون به محل احترام! وقد اختلف بعض علماء الصحراء في جواز
ذلك وحرمته; ويذكر الشيخ محمد المامي إنه ضروري لإصلاح بدن الفتاة وتهيئتها
للزواج.
يتم عقد الزواج عند أهل الصحراء بقراءة الفاتحة, بحضور أهالي
العروسين, وتتراوح أيام العرس ما بين اليومين إلى السبعة أيام. ويأتي العريس في
موكب رسمي كل ليلة, بينما العروس تختبيء, ونادرا ما تجلس إلى جواره خلال هذه
الفترة. وقلد أهل الصحراء حضارات سبقتهم فمنهم من يخلف أخيه بعد وفاته عن زوجته,
ويتزوجها بعد الخروج من العدة, ما لم تكن حاملا. وهو نوع من أنواع زواج المشاركة
غير المذموم.
يحكي لي أحمد العمري كيف تعرف إلى امرأته في إحدى هذه الجولات, كانت
خارج إحدى هذه الخيام التي يمر بها ووالده ليجمعا ما تريد النساء بيعه من عاديات
وحلي. تعجبه الفتاة فيسأل والده أن يطلبها له. ولا يمر العام حتى يجمعهما بيت
العائلة خارج (ورزازات), التي يأتيه يوميا على دراجته. امرأة أحمد من الأمازيغيات,
ومعظم الزيجات المحلية ـ إذا صحت التسمية ـ تكاد تكون بين عربي وأمازيغية. هنا في
الزواج ستتسع مياه البركة الوراثية التي تجمع قطرات عربية وأمازيغية في إناء واحد.
أسأل صديقنا عن الأسماء المتواترة في الثقافة المحلية فإذا هي أسماء محمد وأحمد
وعبدالرحمن ومصطفى, أو أنها خديجة وفاطمة وصفية, إنها الأسماء العربية الخالصة
والشائعة, التي تحمل روح التراث العربي الإسلامي.
أقرأ عن التسمية لدى الأمازيغ, لا شك أن صديقنا أحمد سيجمع بين طقوسه
العربية وطقوس زوجته عندما تضع له مولودًا أول بعد شهور. التسمية عند قبيلتي آيت
إزدي وآيت مرغاد وآيت عطا بالجنوب الشرقي كانت تبدأ, ولا تزال, في اليوم السابع من
ولادة الصبي وهي المناسبة التي يمنح فيها اسمه. في هذه المناسبة يُخرج الصبي وقت
الضحى إلى خارج البيت, تمسكه الأم بين أيديها ووجهه متقابل مع الشمس. تثيره أشعة
الشمس وتساعده إحدى النساء المتحلقات حول الأم على فتح عينيه لينظر مباشرة للشمس.
بعد أن تتم العملية تزغرد الأم أو إحدى النساء ثلاث مرات متتاليات, لحظتها يكون
الأب أو أحد أفراد الأسرة قد أعد الأضحية للذبح; يكون عنقها باتجاه القبلة والشمس.
الآن تستحق هذه الشمس القربان بعد أن أيقظت الصبي بأشعتها من غفوته, تستحق القربان
بعد أن رأته ورآها... ويكون الذبح عادة وقت الضحى. وكم من محظوظة استحقت اسم (شمس
الضحى) لأنها ولدت وقت الضحى. لم تفتح عينيها فقط لترى الشمس وقت الضحى, وإنما بدأت
حياتها بكاملها والشمس في ضحاها.
صحراء وأمازيغ وفراعنة!
أعود لسطور رمال الصحراء حيث يصعد صوت المؤرخ عبد الوهاب بن منصور في
كتابه (حفريات صحراوية مغربية), فهذه الرمال (لم تكن حائلا بين المغرب وبقية
الأقطار الإفريقية, بل كانت أداة ربط وصلة وصل بينه وبينها. نعم كانت الصحراء
المغربية معبرا لطرق القوافل بين المراكز التجارية القديمة بالشمال بمثيلتها
بالجنوب: نول لمطة, تكداوست, أوليل, وكذا المراكز الحديثة ككلميم, السمارة, شنقيط.
كما أن للأسواق الكبيرة والمواسم المشهورة بوادي نون وسوس والصحراء الشرقية أهمية
كبيرة في خلق احتكاك بين القبائل الأمازيغية والحسانية تم فيه التواصل الثقافي عبر
المعاملات التجارية التي تفرض على التجار معرفة لغة الآخر لتسهيل التواصل فيما بين
العنصرين).
سيضاف لذلك رحلات مرشدي الزوايا والطرق الصوفية وفقهاء المذهب المالكي
إلى مواطن قبيلة كدالة بأعماق الصحراء,. وأغلب هؤلاء الفقهاء أمازيغيون, كما أن
الطلبة الصحراويين يفدون على المدارس العتيقة لحفظ القرآن والعلوم الشرعية بسوس.
وإلى جانب الفقهاء يقوم شيوخ الطرق الصوفية برحلات إلى الصحراء لنشر طرقهم وزيارة
المريدين وجمع الهدايا. ومن أبرز هذه الطرق الصوفية (الناصرية, القلالية,
التيجانية, الرحالية, الدرقاوية..)
ويميز بن منصور بين أكثر من طريق وصلت المغرب بإفريقيا; إحداها طريق
واحات فكيك ووادي الساورة, الذي سلكنا الجزء الشرقي له مرورا بأكداز, لكننا لم نصل
إلى نهايته, لأن آخره نهر النيجر! في الصحراء, وعند العرق اليهودي, قلب الموجات
الخادعة, بدأت حرب خفية بين الرمال والكاميرا. زميلي يريد أن يصطاد صورًا تبقي
ذاكرة المكان حية, بينما الرمال تجاهد للوصول إلى قلب الكاميرا. بعد لحظات وفي
السيارة سيتم تنظيف الكاميرا من الداخل. الآن عرفت قيمة العباءة التي تصل أحيانا
إلى ثلاثة أمتار طولا, وتحتاج إلى (كاتالوج) لربطها, فهي بلونها الأزرق السماوي
المميز وسط الرمال الذهبية لا تحمل قيمة جمالية فقط, بل وقيمة نفعية كبرى, حيث تحمي
الوجوه من لفحات الرمال. كما شكلت العباءة معينا للأمثال, وعنها يقال: اللي عملها
بديه, يفكها بسينيه (أي أن من ربطها بيديه, عليه أن يفكها ولو بأسنانه)!
عبر هذه الطرق الصحراوية يحكي التاريخ والشعر كيف كان ملوك المغرب
والسودان يتهادون التحف النادرة والطرف العجيبة والحيوانات الغريبة, كالزرافة التي
أهداها أحد ملوك السودان إلى الخليفة الموحدي يعقوب المنصوري, وقال عنها الشاعر
أحمد بن عبد الرحمن الوقشي الكناني المتوفى سنة 573 للهجرة:
حُشِرَتْ إليكَ غرائبُ الحيوانِ |
|
مجنوبَة من نازح البلدان |
وأجلها يدعونها بزرافةٍ |
|
صَدَقوا لقد جلت عن الوحدان |
لبست من الصفر الأنيق ملاءة |
|
مرقومة الجنبات بالعقيان |
وكأنما قد قسمت في خلقها |
|
فأتتكَ بين الخيل والبعران |
وكَأن قرنيها إذا مثلتْ لنا |
|
قلمان قُلِّم منهما الطرفان |
طالت قوائمها وطال تليلها |
|
حتى لقد أوفى على الجدران |
وتفاوتت في سُمكها فوراءها |
|
ثلث لها, وأمامَها
الثلثان.. |
وإذا كان المغرب كبلد يختصر القارة الإفريقية في جغرافيته التي تجمع
بين الغابات, والصحاري, والجبال, والأودية, والمياه التي تجري على شواطئ محيطها, أو
بأنهارها, فإن (ورزازات) تختصر لغة الصحراء وتاريخ الجنوب المغربي معًا. في هذه
الصحراء, تتجدد الذكرى مع الثقافة الأمازيغية. قرأتُ كيف يحاول بعض الباحثين الوصول
للأصول المشتركة بين الحضارة الأمازيغية في الصحراء المغربية والحضارة الفرعونية في
مصر, يسأل أهريشي محمد في مجلة إلكترونية: هل يكون أوزيريس الفرعوني هو آنزار
الأمازيغي?
فالأمر ـ كما يقول أهريشي ـ يتعدى مجرد التقارب (الصوتي) للاسمين
والذي قد يكون وليد الصدفة فقط, إلى التطابق شبه التام لمضمونيهما الميثولوجيين.
فأوزيريس في الميثولوجيا الفرعونية إله البعث والحياة الأخرى وإله الإنبات والخصوبة
وإله النيل, ويقدم في صورة رجل ملفوف في قماط جنائزي وعلى رأسه تاج محاط بريشتين
وحامل للحية الفرعونية التي ترمز للسلطة. وبشرته ذات لون أخضر ترمز إلى بعث الروح
في الأرض وإحيائها بعد موتها , أما آنزار فهو المطر, والمطر يحمل معاني الإنبات
والإحياء والخصب. إلا أن آنزار في حقيقته ليس هو المطر بالذات بل هو إله المطر. وهو
إله للخصب والإحياء كأوزيريس. ولعل هذا ما تؤكده المعطيات اللغوية والثقافية
الأمازيغية, فقد كانت النساء الأمازيغيات يخرجن في فترات الجفاف إلى مكان الماء
(نهر, نبع...) ويتجردن من ثيابهن ويغنين ويقمن بحركات مثيرة تجاه السماء طلبا لماء
السماء, أي طلبا للإحياء والإخصاب.
ونسجل هنا أن العروس الأمازيغية تأتي بألوان زينة وملابس زاهية تتمنى
ترك الأرض وصعودها إلى السماء للالتحاق بزوجها. وبالتالي هل هذا يعني أن آنزار كانت
تقدم له إحدى النساء قربانا كما كان الأمر بالنسبة لأوزيريس, حيث كانت تلقى في
النيل (فكرة عروس النيل)? الأمر يتأكد مع طقس آخر قديم كان يقام ولا يزال في
فترات الجفاف للاستسقاء, وهو عبارة عن دمية تصنع من قصب وثياب وتزين بلباس وحلي
العروس, وتوضع في كل يد من يديها مغرفة... ويطاف بها في موكب غنائي... يقف عند كل
منزل يرقص و يغني وترفع إلى السماء إلى أن يرشها أصحاب المنزل بالماء.. وبذلك تكون
هذه الدمية عند قدماء الأمازيغ استحضارا للإلهة إيزيس في عملية توسل وتوسط بها لدى
زوجها آنزار استجداء منه للماء والخصوبة, كما كان الفراعنة يتوسلون بإيزيس لتحيي
نهر النيل ولتنبت البذور الميتة بدموعها وسحرها.
الكل هنا شارك في فيلمين على الأقل, لذا لم تبدُ آلة التصوير في يد
زميلي غريبة, ولكن الغريب أن لديهم حساسية شديدة في الاستجابة لها, فهم يحسون
بالعدسة, وحينها يتوارون. ربما اعتادوا على السينما وحسب. ومن المفارقة أن السينما
الوحيدة في (ورزازات) معروضة للبيع, فهي لا تجد متفرجين, ربما لأن كل السكان
مشغولون بالتمثيل. يحصل الممثل الكومبارس على أجر يومي يبلغ 170 درهما (نحو 20
دولارا), تكون مائتين وخمسين في الأصل, إلا أنها بعد استقطاعات السماسرة تنخفض
كثيرًا. ويقوم هؤلاء الوكلاء باستقدام المجموعات واستبدالها في الأفلام التي تصور
في (ورزازات). العمل في الفيلم الواحد يتطلب المئات وربما الآلاف من الكومبارس,
يبدأ نهارهم مع شروق الشمس, ولا ينتهي إلا بعد الغروب.
نزور الأستوديو (الصور المصاحبة) الذي شهد نجوم العالم وأفلامهم تصور
هنا: جوهرة النيل (1985), شهرزاد (1989), سليمان وملكة سبأ (1994), موسى (1995),
كوندون (1996), جنة عدن (1997), كليوباترا (1998), جلادياتور (1999), أستريكس
وأوبليكس وكليوباترا (2000), و(الطاحونة الحمراء) الذي قامت ببطولته الممثلة
الأسترالية نيكول كيدمان عام 2001, كما يتم بناء مدينة القدس حاليا لتصوير فيلم
جديد عنها لم يعلن عنه بعد. وقد عرفت أن شخصية بكار التليفزيونية التي تقدم للأطفال
جاءت إلى (ورزازات) بفريق العمل لتقديم حلقات رمضانية عن تلك المدينة الواحة, بوابة
الصحراء والجنوب. أعتقد أيضا أن الأمر سيتغير عندما يعرف السينمائيون أنه على حدود
(ورزازات) على بعد 528 كيلومترا من العاصمة الرباط تم اكتشاف ديناصور عمره 180
مليون سنة فيها, وهو اقدم ديناصور يتم الكشف عنه حتى الآن. وحاليًا تتم دراسة إنشاء
محمية جيولوجية للحفاظ على التراث الجيولوجي واستثماره واتخاذ إجراءات تنظيمية
وقانونية لحمايته وذلك بدعم من المخطط الوطني للخرائط الجيولوجية بالمغرب. وقد
اكتشف (سورومود), وهو اسم ديناصور (ورزازات), علماء جيولوجيا مغاربة وفرنسيون
وسويسريون وأمريكيون, ويعد من آكلي النباتات ويعود تاريخه إلى ما قبل انفصال قارة
امريكا الشمالية عن قارة أفريقيا. وبلغ طول الديناصور تسعة أمتار وقد أتاحت عظام
الرأس تحديد عمره.
في (ورزازات) أيضا تم تصوير فيلم لورانس العرب (وقام ببطولته الممثل
الايرلندي الشهير بيتر اوتول). وللمخرج المغربي محمد الصافي فيلم تسجيلي أنتجه 2001
باسم (ورزازات موفي) يحكي معاناة مدينة (ورزازات) حيث يعاني الأهالي شظف العيش رغم
استمتاعهم بأنهم يلعبون أدوار الكومبارس.
إنه فيلم واقعي, فالموسم السينمائي كان راكدًا, ربما بسبب التفجيرات
التي داهمت الدار البيضاء, وربما بسبب كساد عالمي. علمنا أن منتجين سوريين أجلوا
تصوير جميع مسلسلاتهم بسبب الحرب في العراق, وأوقف المخرج باسل الخطيب تصوير مسلسل
(سيرة أبو زيد الهلالي) الذي كان من المقرر أيضا تصوير مشاهده بمدينة (ورزازات).
وجاء في مقدمة الأفلام السينمائية العالمية التي تم إلغاء تصويرها بالمغرب فيلم
(حرب طروادة) الذي كان يتوقع أن يزرع الدفء في جسد صناعة السينما المغربية بمدينة
(ورزازات) , والفيلم تتعدى ميزانية تصويره 100 مليون دولار . كما توقفت قليلا
أشغال الإعداد لتصوير الفيلم السينمائي الضخم (الإسكندر الأكبر), وغيرها من الأفلام
الأمريكية والإيطالية والإنجليزية.
شاعر ورزازات
إذا كان الشعراء في القبيلة التقليدية يتمتعون بمكانة مهمة بحكم حاجة
القبيلة إلى من يدافع عنها بكلمة من الوزن الثقيل مثل حاجتها إلى سواعد قوية تحمل
السلاح, فإن خطورة شعر هؤلاء ستظهر أثناء فترة الحماية, حيث سيمارس عليهم نوع من
الرقابة مادام شعرهم يستحضر قيما تقليدية مضادة للبنية الإدارية الاستعمارية
وللمستفيدين منها من الأعيان على حساب البنية الانقسامية السائدة في السابق
بثقافتها القائمة على القرابة. ففي ظل الحماية أصبح الشاعر محاصرا لأن القبيلة لم
تعد قادرة على حمايته مادامت خاضعة لسلطة خارجية; ومقاومته الشعرية تجعله في مواجهة
مباشرة للسلطة الخارجية والرموز المحلية المستفيدة منها.
ويظهر الحصار على الشعراء في احتفاظ الرواية الشفوية بمعلومة مفادها
أن سلطة الحماية في (بومالن دادس) بإقليم (ورزازات), فرضت على الشعراء ضرورة الحصول
على ترخيص للقيام بجولاتهم الشعرية. كما يتجلى الحد من حركية الشعراء في تعرضهم
للسجن فترة الحماية ـ وحينها لم يكن يدخل السجن إلا من رفع راية العصيان التي تصل
إلى درجة المقاومة الفردية, أو من رفض أداء الضرائب والقيام بالكلفة ولم يؤد التحية
للقبطان!
وللشعر في الصحراء مكانة خاصة, فأهل الصحراء شعراء بالفطرة والقوة,
يبدأ تعلقهم بالشعر بالحفظ, ليصل إلى التأليف. وإن أول ما يحفظ الفتى ـ بعد كتاب
الله ـ قِفا نبكِ.. أي المعلقات. ولم تكن قبيلة تختص بهذه الفضيلة الشعرية دون
أخرى. فهل كان انبساط البيئة, أم الانخراط في الحياة اليومية, أم الجهاد, أم كثرة
الأسفار? الواقع أن سببا منها يكفي, لكن الصحراء أعطت لأهلها كل هذه الأسباب.
سيأتينا شاعر من أبناء الحسّان, ونعرف أن قبيلته من القبائل العربية
التي نزحت إلى سوس. وبنو حسان الذين تنتسب إليهم القبائل الموجودة حاليا في الصحراء
(الحسانية) يعدون فرعا من قبائل بني معقل التي كانت في موكب بني هلال وبني سليم
القادمة من مصر إلى صحراء إفريقيا, ومنها إلى الصحراء المغربية. وقد ساعدها على
الاستقرار فيما بين الأطلس الصغير ووادي درعة العامل الموحدي المنشق عن سلطة
الموحدين علي بن بدر الذي استعان بالمعقليين واتخذهم جيشا له.
باللغة الحسانية, وهي اللهجة المحكية الجنوبية للشاعر محمد بن الحسان,
وتكاد تكون مفرداتها فصيحة, لولا بعض الضم على آخر الحروف, يكرس قصائده لمديح
الرسول صلى الله عليه وسلم, ولا ينسى ألوانا أخرى: الهجاء, والمنافسة الشعرية التي
يحتفظ بها وبغيرها مسجلة على الورق وشرائط الكاسيت. وحين ألححنا أن يقرأ علينا من
غزلياته تعلل بالشيب والعمر والعيب! ظللت معه حتى قال لنا غزليته اليتيمة:
عراض بان لي فاوكارو |
|
فاربيع كيف جاب اخضارو |
راوي بي مياه أمطارو |
|
فا بلد ابعيد للحي |
من وحد جاب أخبارو |
|
راوه أكبل عيني |
ظنيت ما يهاب الزادي |
|
جيتو معا لا يرامحادي |
فطمنيت جافا عراض |
|
حسوا جوار
حوبي |
بدأ يفسر, فيعتذر. ويذكر أن قصيدته القصيرة عن فتاة صغيرة. والعرَّاض
في القصيدة هو المتغزل بالحبيبة. وأنه رآها تقبل كالربيع حين يروي الأرض بأمطاره.
وهي قصة عن فتاة لم يروها له أحد بل رآها بعينيه. عين اليقين. وحين مرت أمامه أحست
به بجوارحها. وأصابته بعيونها الحادة. حتى بكى وبكت معه جيرانه حين عرفوا ما جرى به
وله. أقاطع الشاعر: أتذكر العيون لأنها كانت ملثمة? فيرد باسمًا: نعم ولم أر
سواهما! ويكمل أنه حين نام مرهقا زاره الطيف, وكان قد اقترب من حافة الاحتضار. لم
يكن يُريدُ سواها. ولم يكن يريد دية (فداء) لهذه الميتة, ولا مقابل للحياة التي
بذلها لفتاة (لم ير سوى عينيها). لقد أراد الشاعر أن يموت شهيد حب من شغف بها
القلب.
استمرت الأمسية مع محمد بن الحسّان, يختار أشعارًا فيتلوها, وحكايات
فيرددها. ولعله يستعيد الطقوس التي عاشها والتي كان من أشهرها منافسته لشاعر آخر,
أو تضمينه لتاريخ القصائد في بيوت الشعر ذاته, بحيلة نظمية معروفة.
الصحراء تفعل بك يا بن الحسّان ما تريد. وتلهم سواك بالمزيد. وعن
الصحراء ـ في موضع آخر ـ تأتي كلمات مؤرخ المملكة المغربية عبد الوهاب بن
منصور:
يا صحرائي
أيتها الفاتنة الحبيبة, الغالية العزيزة
يا حلم الطفولة, وأمل الصبا,
وفتنة الشباب
يا وردة تفتقت عن نضرتها الأكمام, ونفحة سارت
بعطرها
الأنسام
ربيت على هواك, وعشت على ذكراك, أفيريدون مني اليوم أن
أنساك?
أيتها الغادة الرعبوب, البضة الطروب
قسما بنون, والقلم وما
يسطرون
بليلك الغاسق, ونخلك الباسق
بحبات رمالك الذهبية, وعراجين تمارك
السكرية, بسحر جمالك, وعزة رجالك, لنعيدن يا صحرائي إلى أبيك, ونجمعن شملك بذويك,
ونسفعن بنواصي غاصبيك ومضهديك.
أيتها الصحراء الحبيبة
يا مهوى القلوب, وقرة
العيون, وثلج الصدور
أنا أهواك, وأذوب شوقا إلى رؤياك
أحبك كما أحب فاس,
وأعشقك كما أعشق مراكش, وأهيم بك كما أهيم بسبته وتطوان.
كذلك أرضعتني أمي
وعلمني أبي, ولقنني معلمي
قد ينزعون النور من بصري, والبسمة من شفتي, ولكنهم لن
يستطيعوا أن ينزعوا حبك من قلبي
يا حبيبتي يا صحرائي.
ومن الموضوعات الطريفة والجديدة أيضا في آن واحد ما كتبته الشاعرة
المغربية خديجة أبي بكر ماء العينين. فقد تحدثت عن الكنوز المكتوبة التي تحتفظ بها
الصحراء. فتقول منشدة على لسان مخطوطة تنتظر من يفتك أسرها:
نحُّوا الغبار تروا سَنى وَرَقي |
|
أنا لم أكن حبرًا على ورق |
للفكر لا للعث منتجعي |
|
إن تهملوه فغاية الخرق |
إني القِرَى للضيف أتحفُه |
|
ما حلَّ في بستاني العبق |
أنا روضة العشاق موعدهم |
|
يحلو لبث الشجو والحرق |
أنا واحة بالعشق نخلتها |
|
تسقى بروق رَيِّق
غدِق |
حتى تقول ...
ما كنت في رفي سوى طلل |
|
من طينة الأخشاب والخِرَق |
حتى تداركني مؤسسة |
|
تحيي التراث فَخَففتْ قلقي |
كم أثلجتْ صدْري وقد نشرت |
|
سرا يؤاخي مجمع
الطرق |
خزانة تمكروت
يقودني هذا الحديث عن المخطوطات إلى خزانة تمكروت (تمجروت), فندرك أن
صحراء المغرب, والصحراء بوجه عام, ليست تلك القفار الموحشة, والرمال الخادعة,
والأرض الجدبة. تلك هي الصورة الظاهرية, التي ترسمها الأقمار الصناعية. وأنت تحتاج
إلى مجسات أخرى لترى إلى ما وراء الوحشة والسراب والقفر. وقد تعرضنا إلى صيغ ثقافية
متوارثة, ولا آتي بجديد حين أقول لك أن في كل قبيلة موروثا ثقافيا متمايزا ومتقاطعا
بشكل نادر مع سواه. وإذا كان لا يصح أن يبلغ عدد حبات الرمال قصص الصحراء, فإنها لن
تقل عن عدد القوافل التي عبرت دروبها. وأتحدث عن تلك الزوايا العلمية, حيث كانت
القبائل جميعها تقدس العلم وتجل العلماء, ومن هنا كانت لهذه الزوايا المكانة
والمكان اللذين ساهما في اتساع رقعة العلم, وانتظام التواصل, والحفاظ على كنوز
مكتوبة, أعدوا لها خزانات خاصة قاومت الزمن وعوامل صحراوية عدة. ولعل من أثر تلك
الزوايا انتشار الطرق الصوفية.
نصل إلى تمكروت, حيث أشهر زاوية في جنوب المغرب لتعلم اللغة العربية
والقرآن الكريم والعلوم الفلكية والهندسية والشعر. وأسسها الشيخ العالم سيدي أحمد
ابن ناصر الناصري, الذي طاف بالأقطار العربية ليزود خزانة تمكروت بأمهات الكتب. وقد
جعل من الزاوية مأوى لاستقبال القوافل وتأمينها, ومشفى للشاكين من الأمراض العقلية.
ولكن لم يبق سوى الخزانة وبها جزء من الكتب (كانت أربعة آلاف كتاب كثيرها أخذ إلى
خزانة الرباط) ومدرسة داخلية لتعلم القرآن الكريم. ويقام كل سنة موسم إحيائي لذكرى
الشيخ يفد إليه من إفريقيا كثيرون, للتجارة والزيارة والتبرك.
يصحبنا أمين المكان الحاج خليفة. جسد دقيق ونظارة سوداء ونشاط جم.
يشير الدليل إلى أن ابنه يساعده على إدارة المكان. لم يبق في المكتبة سوى مئات
الكتب فقط. منها ما كتب على جلود الغزال. ومنها ما خط بماء الذهب. نسخ قرآنية من
مصر وسوريا وتركيا وإيران والأندلس ومالي وسواها. سحر وشعر, فلك وبلاغة... يقرأ لنا
الحاج عناوينها وهو لايكاد يراها. كم ألفا من المرات أخذ يعددها وهي في أماكنها
نائمة.. (أثر البلاغة) للزمخشري. (في إعراب القرآن) للقيرواني. (حديث البخاري).
(قاموس اللغة) للفيروزآبادي. مؤلفات ابن عبادة القرطبي. (آداب الشعر) للمقري. (حسن
المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة) لجلال الدين السيوطي. (عقد الجواهر الثمينة في مدح
عالم المدينة). (الشذور الذهبية الأحمدية لتعليم اللغة التركية والعربية). (روضة
الأزهار في علم وقت الليل والنهار) للجادري. كما أن بها نسخة (البدور اللوامع في
شرح جمع الجوامع في أصول الفقه) للحسن بن مسعود اليوسي, وهي عبارة عن مخطوط مستقل
بأوراق من الحجم الكبير. ما أحزنني هو أننا لم نستطع تصوير المكتبة, لأن تصويرها
دون تصريح ممنوع.
تدور خزانات الكتب الخشبية ذات الواجهات الزجاجية مع الجدران. تطالعنا
على الجدار الرئيسي لوحة كبيرة لجلالة الملك الراحل. وليست على الجدران الأخرى سوى
لوحة صغيرة. اقتربت وأنا أتعجب من ذلك الإطار العتيق, والصورة المرسومة. وحين
اقتربت عظمت دهشتي. ففي هذه الخزانة بقلب الصحراء, حيث اعتقدنا أننا أول من يأتي
من (العربي), وجدنا أن (العربي) سبقتنا إلى هناك! كانت اللوحة لابن سينا, وتقول
السطور المكتوبة أدناها: هدية مجلة (العربي). يناير 1967. يا الله. لحظتها أحسست أن
الرحلة اكتملت. لقد كانوا يعرفون (العربي) ويقرأونها ويحتفظون بهداياها, وعليَّ
اليوم أن أُعرف القراء بتلك البقعة من أرض الوطن العربي, ورسالتها النبيلة. وأن
أشكر (ورزازات) التي قادتني إليها.