اللغة حياة: العام مرادف للسَّنة ولو تحفّظ المتحفّظون

اللغة حياة: العام مرادف للسَّنة ولو تحفّظ المتحفّظون

كنت أحاور قريبًا لي ممّن يتصيّدون المعارف الغريبة، وإذا هو يتلو عليّ الآية الكريمة: ولَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنينَ سورة الأعراف/ آية (130) ليؤكّد أنّ السّنة تكون للشرّ، والعامُ للخير، محاولًا تأييد رأيه بقول القرآن الكريم في إقامة نوح (عليه السلام) في قومه: فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إلاّ خَمْسينَ عامًا سورة العنكبوت/ آية (14) زاعمًا أنّ الخمسين عامًا المستثناة هي أعوام الخير. واستحضرت في تلك اللحظة الجدل الدائر حول هذا الموضوع، ولاسيّما على صفحات الإنترنت، وتذكّرت أنّ بعض الصحف اللبنانيّة، وربما غير اللبنانيّة، تمنع استعمال كلمة سَنة، وأنّ مِن كُتب الأخطاء الشائعة ما يحاول التفريق بين الكلمتين بمضمونهما الزمنيّ، ومنها ما يعوّل على بعدهما المجازيّ، وأكثرها يجتزئ المعطيات، أو يعتوره نقص في المعرفة.

لعلّ أوّل من عرض لهذا الموضوع عبد الرحمن بن عيسى الهَمَذانيّ (ت 320 هـ)، إذ أكّد أنّ العام مرادف للسَّنة، وأنّه يقال في المجاعة: أصاب القومَ سَنةٌ، إلخ. بمعنى أنّ معنى المجاعة في السَّنة معنى خاصّ ويقتصر على تركيب بعينه. وفرَّق أبو هِلال العَسْكَريّ (ت 395 هـ) بين العام والسَّنة بثلاثة أشياء: أنّ العام جمع شهور والسَّنة جمع أيام ،وأنّ العام وقت لشيء، نحو: عام الفيل، وليست السَّنة كذلك، فلا يقال: سَنة الفيل، وأنّ السَّنة تستعمل في التاريخ الدقيق، نحو سَنة خمسين، وليس العام كذلك، ويخلص إلى «أنّ العام هو السّنة (...) وإن اقتضى كلّ منهما ما لا يقتضيه الآخر ممّا ذكرنا».

وبصرف النظر عن بعض التفاصيل، فإنّ هذين الرأيين المتّزنين متكاملان، ويوحيان أنّ الترادف يحتمل وجود فروق عَرَضيّة بين المترادفَيْن، على أن يكون معناهما الجوهريّ واحدًا. وهذا صحيح، وقد راعاه المؤلّفون في الترادف في لغات مختلفة. والمشترك الجوهريّ بين السَّنة والعام هو المدّة الواحدة، لكنّ هذه المدّة قد تضاف إلى حدث مشهور فيستعمل لها لفظ العام، نحو عام الفيل، عام الفتح، وقد تكون تأريخًا عامًّا فيستعمل لها لفظ السَّنة.

ثم جاء المتأخّرون، منذ أواخر العصر العباسيّ حتّى العصور الحديثة، فسفسطوا، كما فعل ابن الجَوالِيقيّ (ت 540 هـ)، مثلًا، إذ فرّق بين العام والسَّنة، بأنّ العام هو ما يأتي على شَتْوة وصَيْفة - وهو قول الخليل -؛ يعني أنّه ما تجتمع فيه الفصول الأربعة ابتداء من الشتاء وانتهاء بالخريف، لأنّ العرب، وفق ابن منظور، جعلت الفصول نصفين: أوّل أحدهما الشتاء، وأوّل ثانيهما الصيف. أمّا السَّنة فهي، عند ابن الجَواليقيّ، المدّة من يوم بعينه إلى مثله، يعني أنّها مدّة اثني عشر شهرًا تامّا، بصرف النظر عن وقت بدئها وانتهائها؛ وهذا يعني أنّنا نقول مثلًا: أقامَ فلانٌ ثلاثَ سنواتٍ في المدينة، أيًّا كان وقت نزوله فيها، ونقول: بلغَ فلانٌ عشرين سَنة، أي اعتبارًا من يوم ولادته، ولا نقول: أقام ثلاثةَ أعوام، ولا بلغ عشرين عامًا. وهذا غير صحيح، فالقرآن الكريم حين تحدّث عن إقامة نوح في قومه، في الآية السابق ذكرها، حسَبَ الإقامة بالسنين والأعوام، ونقرأ في الحديث الشريف: «وَكَانَ عُمْرُ آدَمَ أَلْفَ عَامٍ».

وتوسّع السُّهَيْليّ (ت 581 هـ) في ذلك، فزعم أنّ السَّنة مأخوذة من معنى الدوران، فهي دورة شمسيّة، وأنّهم قالوا: أَكَلَتْهُم السَّنةُ، أي القحط، وعليه قول الآية ولَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنينَ الأعراف/ آية (130)، وأوحى في المقابل أنّ العام يقال للسَّنة القَمَريّة، وأنّ ورود كلمة سنين في الآية وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا الكهف/ آية (25) سببه أنّ أهل الكهف من أمّة أعجميّة فوافق لفظ القرآن ما يستخدمه الأعاجم في تأريخهم بالسنين الشمسيّة؛ وأنّ قوله: وَازْدادوا تِسْعًا الكهف/ آية (25) إنّما هو لموافقة حساب العرب؛ وكأنّ السُّهيليّ يريد القول إنّ التسع سنوات هي الفرق بين ثلاث مئة سَنة شمسيّة وثلاث مئة عام قمريّ. وبصرف النظر عن تفسير الآية، فقول السُّهيليّ يضادّ الحقيقة، لأنّ الثلاث مئة سَنة قمريّة لا تزيد على نظيراتها الشمسيّة بل تنقص عنها مقدار تسع سنوات، وتذكير تسع في الآية يدلّ على أنّ القرآن أراد القول: تسع سنين لا تسعة أعوام. ويعلّق السُّهيليّ نفسه على قول القرآن : حَتّى إذا بَلَغَ أَشُدّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً الأحقاف/ آية (15)، فيزعم أنّ السّنة أطول من العام، والإنسان يحتاج إلى أربعين سَنة طويلة حتّى يكتهل، وكأنّ قول أبي هُرَيْرة (رضي الله عنه): «صَحِبْتُ رَسُولَ الله (صلى الله عليه وسلم) ثَلاَثَ سِنِينَ» كان يراد به السنين الشمسيّة وطول المدّة. واستطرد السُّهيليّ من ذلك إلى الزعم «أنّ السنّ معتبرة بالسنين» الشمسيّة، وتكلّم على إقامة نوح في قومه فجعل للسَّنة معنى الشِّدة، وزعم أنّ نوحًا كان في التسع مئة سَنة الأولى من إقامته تلك في شدائد، وأنّ الفرج والغوث أتياه في الخمسين عامًا اللاحقة، موحيًا أنّ العام يكون للخير والنعمة. ولم يخطر له قول القرآن الكريم: أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ الشعراء/ آية (205) وقول أحد الصحابة: «أَصَابَنَا عَامُ مَخْمَصَةٍ»، أي مجاعة. إنّ تخليط السُّهيليّ واضح، فهو يفسّر الكلام تفسيرًا تعليليًّا ومتناقضًا أحيانًا، متكلِّفًا لكلّ حالة معنى، مسرفًا في التأويل.

يبقى أن نشير إلى أنّ العرب استعملوا السَّنة بمعنى الجدب حقّا، لكن ليس لأنّ هذين في أصل معناها، بل لأنّهما كناية عن الصفة؛ فالاستعمال يدلّ على أنّ الأصل هو عبارة: السَّنة المُجْدبة، ثم حُذفت الصفة وكَنَّتْ كلمة سَنة عنها؛ ولذلك أوضح ابن منظور أنّ السَّنة تعني القحط إذا كانت مطلقة، أي مجرّدة من التوابع والمضاف إليه؛ ونزيد نحن أنّ ذلك لا يكون إلاّ بقرينة تفيد معنى المصيبة أو العقاب كفعل أصاب أو أخذ أو اجتاح، أو إذا جاءت الكلمة صفة للأرض، كقولهم: أرضٌ سَنةٌ، أي مُجدبة، أو مضافة إلى كلمة عام، كقول الحديث الشريف: «وَإِنْ أَصَابَكَ عَامُ سَنَةٍ فَدَعَوْتَهُ أَنْبَتَهَا لَكَ»؛ أما في غير ذلك، ولاسيّما إذا كانت الكلمة ظرفيّة أو عدديّة أو مخبَرًا عنها بعدد فإنّها تدلّ على المدّة، وتكون مرادفة للعام، سواء أردنا ما يبدأ بالشتاء وينتهي بالخريف، أو ما يبدأ في أيّ فصل، حتّى إنّ الخليل عرّف السَّنة بـ«العام القحط»، وأشار الجوهريّ إلى قولهم: سِنون عُوَّم، موضحًا أنّ ذلك توكيد، وكاد الزمخشريّ، في أساس البلاغة، لا يدع صفة للسَّنة، سيّئة أو حسنة، إلاّ ونسبها إلى العام، علمًا أنّ السَّنة القمريّة لا تبدأ من فصل بعينه. هذا وأكثر العبارات الاستثنائيّة الخاصّة بأحد اللفظين قلّما تُستعمل في أيّامنا، ولذلك لا يبدو البحث فيها نافعًا إلاّ في فهم النصوص القديمة.
--------------------------
* أكاديمي من لبنان.

 

مصطفى عليّ الجوزو*