حوارات المنفيين برتولد بريخت عرض: إبراهيم حاج عبدي

حوارات المنفيين

إذا كانت مسرحيات (بريخت) مازالت قادرة على جذب الانتباه, فإن نثره يحمل سحرًا خاصًا ومتعة لا حدود لها.

الكتابة في المنفى - وعنه - تأخذ مسارا مختلفا عما هو معروف عن هذا الكاتب أو ذاك فكتابات المنفي - المبدع تتسم بمذاق خاص وتنطوي على الوجع والحنين, فهي كتابة وجدانية مغلفة بغلالة من الحزن الشفيف, والشجن تعبر عن هواجس المنفى ومعاناته, وتتقصى أسباب المنفى وأبعاده ودلالاته الرمزية والواقعية, وهي كذلك عفوية وصادقة دون تنميق أو مواربة ذلك أن توخي الصدق والبحث عن الحقيقة هما اللذان دفعا بالمبدع إلى المنفى, سواء كان هذا المنفى طوعا أو قسرا, حتى يتاح له قول الحقيقة عارية (فمن الضروري التحلي بشجاعة كتابة الحقيقة حيثما قمعت) على حد تعبير الكاتب المسرحي الألماني برتولد بريخت في كتابه (حوارات المنفيين) الذي صدرت ترجمته في دمشق (دار كنعان 2002).

والكتاب رغم أهميته الأدبية الآن فإن هذه الأهمية تزداد حين نضعه في سياق الظروف التاريخية التي أنتجته, وكذلك حين ننظر إليه عبر السيرة الذاتية لكاتبه برولد بريخت الذي قضى شطرا من حياته منفيا عن وطنه, ففي عام 1933, وبعد أشهر قليلة من تولي هتلر الحكم في ألمانيا أُحرق عدد كبير من الكتب لأدباء ألمان في برلين عاصمة الرايخ, آنذاك, فقد اعتبرت النازية هذه الكتب (ضارة) بالشعب الألماني وشنت حملة هوجاء على كل من يُشكك في ولائه للحكم الجديد, الأمر الذي دفع أحد مؤرخي الأدب الألماني ليكتب بعد سنوات: (مائتان وخمسون كاتبا من جيل واحد جنحوا إلى الصمت, أو تركوا وطنهم وهو أمر لم يشهده التاريخ من قبل, أن يقاوم كل النتاج الأدبي تقريبا, من اغتصب البلاد. مائتان وخمسون كاتبا من بينهم من له ثقل كبير ومن يتمتع بشهرة عالمية) مثلما هي الحال مع بريخت الذي يعد من العلامات المضيئة - لا في تاريخ الأدب الألماني وحسب - بل العالمي أيضا, لكن هذه المكانة لم تشفع له, بل زادت النازيين إصرارًا لملاحقته وتضييق الخناق عليه, وقد استشعر بريخت بحدسه الأدبي الخطر الداهم, فاختار المنفى الذي لم يشكل له حالة سلبية أو انتكاسة على صعيد الإبداع, بل على العكس كان المنفى, الذي امتد من عام 1933 إلى عام 1948, حافزا ومحرضا على الكتابة إذ استطاع خلال هذه السنوات أن يكتب أهم وأجمل أعماله المسرحية التي جعلت منه كاتبا يشار له بالبنان.

بين المنافي

وُلد بريخت في (أوجسبورج) بألمانيا, درس الطب في ميونيخ وعمل هناك في مسرح (كارل فالنتين) وفي عام 1922 حصل على جائزة (كلايست) عن أول أعماله المسرحية, وفي عام 1924 ذهب إلى برلين حيث عمل مخرجًا مسرحيًا إلى أن ترك ألمانيا عام 1933 إثر صعود النازية إلى الحكم, فعاش متنقلا بين المنافي الأوربية كالدانمارك وتشيكوسلوفاكيا والنمسا وسويسرا والسويد وفنلندا, وكان خلال ذلك يعرض أعماله المسرحية في عواصم هذه الدول, حيث لاقت نجاحًا باهرًا, وفي عام 1941 هرب من القوات الألمانية التي كانت تتوغل في أوربا إلى روسيا, ومنها إلى كاليفورنيا في الولايات المتحدة حيث حوكم فيها عام 1947 بتهمة (قيامه بتصرّفات معادية لأمريكا), وبعد ذلك عاد إلى وطنه ولم يسمح له - رغم الشهرة الواسعة - بالدخول إلى ألمانيا الغربية, فذهب إلى برلين الشرقية حيث تولى هناك إدارةالمسرح الألماني وحصل في عام 1954 على جائزة ستالين للسلام, وأسهم في تطوير المسرح الألماني حيث أسس في عام 1949 مسرح (بولينر انسامبل) الذي عمل فيه بريخت حتى مماته في برلين عام 1956.

كتب القصة القصيرة والشعر والنقد, لكنه تميّز وأبدع في كتابة النصوص المسرحية ومنها على سبيل المثال: (طبول في الليل), (في أدغال المدن), (أوبرا القروش الثلاثة), (الخوف والبؤس في الرايخ الثالث), (حياة جاليليو), (الإنسان الطيب في ستشوان) , و(دائرة الطباشير القوقازية) وغيرها....

أفكار وتأملات

أما كتابه (حوارات المنفيين) الذي نحن بصدده فهو ليس نصًا مسرحيًا, ولا قصصيًا, ولا مقالة نقدية وإنما يمكن اعتباره مزيجا من كل هذه الفنون, فهو نص نثري مفتوح أمام ذاكرة بريخت الخصبة يقدم تجربة رجل خَبر المنفى طويلا فنراه يقارب في هذا الكتاب مسائل وقضايا كثيرة تفصح عن مفهومه العميق للمنفى الذي اختاره طوعا, لكنه من جهة أخرى هو خيار قسري, فكيف لكاتب مثل بريخت أن يلوذ بالصمت ثمنًا للبقاء في بلاده إذ لم يكن لديه خيار آخر سوى المنفى ليكون في مقدوره كشف حقيقة النازية وشرورها, فما إن منعت مسرحية (رءوس مستديرة, رءوس مدببة) حتى اختار الكاتب المنفى كاحتجاج على الأوضاع السائدة في ظل النازية.

كان بريخت واعيا لدوره ككاتب في مجمل أعماله الإبداعية فعمل على توظيف كتاباته على نحو فيه الكثير من النقد اللاذع لأعداء الإنسانية مثلما انتصر فيه للقيم السامية والنبيلة, فرغم ظروف المنفى القاسية كان السؤال الذي يتكرر في داخله يمثل في كيفية القضاء على النازية وإلحاق الهزيمة بها, وهذه المهمة ليست سهلة بالطبع الأمر الذي جعله يعيش في حال من القلق تدفعه للكتابة التي تميّزت بالسخرية والتهكم والفكاهة على الرغم من قسوة المنفى.

إن كتاب (حوارات المنفيين) وإن كان مختلفا على صعيد الشكل, لكنه من ناحية المضامين لا يخرج عن إطار تلك السمة التي تسم أعمال بريخت, فهو نص متميز يمثل الكثير من أفكار وتأملات وآراء الكاتب من خلال لغة سلسة طيعة وعميقة في أن تحاول السخرية من النازية وفضح ممارساتها وتعريتها من خلال حوار افتراضي يقيمه بريخت على لسان شخصين غربيين لاجئين من ألمانيا النازية يلتقيان صدفة في مطعم بمحطة قطار في هلسنكي (عاصمة فنلندا). إحدهما حسب وصف بريخت (طويل بدين, أبيض اليدين أنه تسيفل عالم الفيزياء) أما الثاني فهو (نحيف, صغير الحجم, وله يدا عامل تعدين إنه كالا).

يخوض تسيفل وكالا حوارا طويلا, وبشكل متقطع, يمتد على مدى أيام عدة, فمهوم الغربة ومشاعر الحنين تفتحان الشهية للحديث الذي يطول مختلف القضايا والمسائل السياسية والاجتماعية والأخلاقية والجنسية والفلسفية والفنية وتفاصيل الحياة اليومية وكذلك الهواجس والأحلام والخيبات والآمال, فكما أن شهرزاد نجت بنفسها من موت محتم من طريق القص والكلام , فإن هذين الشخصين أيضا يحاولان التغلب على آلام الغربة ومآسيها بالكلام, ومادام هذا هو الهدف من الحديث - أو على الأقل هذا ما يستنتجه القارئ - فإن مستوى المواضيع المطروحة للنقاش متفاوت ومتباين, فنراهما تارة يتحدثان عن البيرة والسيجار وتارة أخرى يتحدثان عن هيجل أو يتحدثان عن عاهرة وبعدها عن مفهوم الوطنية وهكذا...على أن هذا التفاوت لا يفسد المستوى الرفيع للمناقشة التي لا تبتعد عن الأسلوب البريختي, إذا جاز التعبير, هذا الأسلوب الذي أتاح التعبير بكلمات مبسطة وعادية عن أعمق المواضيع والأفكار مثلما مكّن صاحبه من تحليل ومناقشة أبسط المواضيع وأكثرها هامشية بتلك اللغة الرصينة والجادة. وعلى الرغم من أن الأول تسيفل أستاذ الفيزياء هو الذي يمثل بريخت وينطق بلسانه, كما يبدو, من خلال بعض التفصيلات الذاتية التي يأتي على ذكرها, هنا وهناك, خلال الحوارات المتبادلة فإن الثاني كالا لا يقل معرفة ودراية عن سابقه, فالاثنان وبهذا المعنى ينطقان بلسان واحد وينطلقان من وجهة النظر ذاتها, فهما مكمّلان لبعضهما البعض ويصوغان معا, وبالأساس أفكار بريخ وتأملاته وتحليلاته وإن اختلفا قليلا لا يتخاصمان, بل سرعان ما يقنع أحدهما الآخر فيتفقان, الأمر الذي يحيل إلى الصراعات التي تغلي في ذهن الكاتب نفسه, فلا ريب أن الغربة تفتح أمام المرء أبواب الصدام والتضاد والاختيار بين إيثار الصمت والعودة إلى الوطن والاستسلام للأمر الواقع من جهة, وبين مواصلة التحدي والدفاع عن الحق في ظروف قاسية من جهة ثانية وبريخت - بالطبع - اختار الطريق الثاني وقدم نموذجا حيّا لكاتب آلف بين القول والممارسة دون مساومة.

سخرية طازجة

إن الظروف التي أحاطت بإنجاز هذا الكتاب, والتي أشرنا إلى بعضها آنفا, تستدعي التقريرية والمباشرة والانفعال الذي كان سيشوّه الكثير من جمالية الكتاب وفنيته, لكن بريخت لم يقع في هذا الشرك, وإنما قارب مختلف المواضيع بهدوء وأناة ورسم لنا ملامح شخصيتين عاشتا خراب النازية وحروبها المريرة التي حصدت أرواح الملايين عن طريق البوح الدفين الذي يعبّر عن نفسه بسخرية لا في المفردات المختارة فحسب, وإنما أيضا من خلال التراكيب اللغوية. يقول المترجم يحيى علوان في مقدمته: (إن التهكم والسخرية لا يكمنان في الفكرة أو فيما يسوقه الكاتب من طرائف, إنما أيضا في طريقة التعبير عنها وذلك باختيار وإقامة تراكيب وعلاقات بين المفردات أو أجزاء منها أحيانا تعطي مدلولات مختلفة, فتأتي السخرية طازجة لاذعة) وهذه السمة لا يدركها إلا مَن قرأ الكتاب بالألمانية.

ورغم أن الشهرة التي حازها بريخت أتت بالدرجة الأولى من نصوصه المسرحية, فإن هذا الكتاب لا يقل أهمية عن تلك النصوص, ولعل هذا ما دفع فريدريك آوين, أحد أشهر نقاد الأدب الألماني, للقول: (نادرة هي الكتب التي تجلى فيها ذكاء بريخت وحيوية ذهنه بشكل أكثر إشعاعا, وأكثر إمتاعا مما تجليا في كتابه (حوارات المنفيين) الذي كتبه عام 1941 في فنلندا ونشر بعد وفاته. إن الكتاب يكشف لنا عن أصالة بريخت أكثر من أي كتاب آخر أنه يسحرنا, خاصة بسبب المتعة التي يستشعرها إزاء التأمل التجريبي).

 

برتولد بريخت

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات