أرقام محمود المراغي

أرقام

الإيدز.. قضية سياسية

لا تخجل إذا قال لك الطبيب: (أنت مريض بالإيدز), فربما يكون المرض قد تسرب لك عبر جرعة دم أو شفرة حلاقة أو حقنة ملوثة.

ولا تنزعج فالعلاج - وكما تقول منظمة الصحة العالمية - لا يتكلف, إن كان متاحا أكثر من خمسين سنتا في اليوم.

هذه هي الحقائق التي أذاعتها منظمة الصحة العالمية عندما أَحْيَتْ مع الأمم المتحدة (يوم الإيدز العالمي) في نهاية نوفمبر (2003).

ولكن..

وحتى هذا التاريخ فقد كان الاعتقاد السائد أن (الإيدز) أو (نقص المناعة) هو مرض الموت فالإفلات منه صعب, وتوفير نصف دولار لمريض الإيدز كان أمرا متعذرا في كثير من الأحيان.

ووفقا للأرقام التي أذيعت حينذاك والتي دفعت البعض للقول إنه مرض خارج السيطرة, أو إنه - وكما قال سكرتير عام الأمم المتحدة كوفي عنان - قد يتحول إلى سلاح دمار شامل.. وفقا لهذه الأرقام فإن العالم يضم (40) مليون مصاب, وهناك (14) ألف شخص جديد ينضمون لطابور المرضى كل يوم, أما الذين يموتون كل (24) ساعة فهم ثمانية آلاف وبمجموع سنوي قدره (3) ملايين شخص.

والكارثة تنتقل من قارة إلى قارة وبينما يتيح الخجل والكتمان انتشارها في الشرق الأوسط, فإن العادات والتقاليد تفتح الباب واسعا للمرض في إفريقيا جنوب الصحراء. أما في آسيا فتجارة (الجنس) وخطف الفتيات بغرض التصدير والعصابات المنظمة وراء انتشار المرض.

في منطقتنا العربية كنا نقول, والمقولة صحيحة إن الدين والعادات والتقاليد أسباب توافر الحماية للمجتمع العربي الذي تقل فيه الانحرافات الجنسية, ويحترم نظام الأسرة, ووفقا لتقرير التنمية البشرية الصادر عن البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة عام (1998) فإن نسبة الإصابة في عشر دول عربية لم تتخط (65) حالة في كل مليون من السكان.. وتنخفض أكثر من ذلك في تسع دول أخرى.

نحن إذن في منطقة نظيفة.

ولكن..

وطبقا لبيانات البرنامج الدولي لمكافحة الإيدز في نهاية (2003) فقد بلغ إجمالي الإصابات في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا (550) ألف حالة, فهل قفزت الأرقام بين عامي (98) و(2003)? هل كانت هناك مفاجأة?

الجواب بالنفي, والمشكلة في التعتيم ونقص البيانات والتي يبدو أنها قد أصبحت متاحة بدرجة أكبر, أو أن التقديرات قد جاءت لتحل مكان البيانات الرسمية للدوائر الصحية التي تعتمد على ما يتم الكشف أو الإبلاغ عنه.

الرقم الجديد (أكثر من نصف مليون) يلفت النظر, والخجل الذي أشرنا إليه في البداية جزء من المشكلة, أي أنه الجانب الاجتماعي, والذي يجعل المريض منطويًا على الذات, حريصا في علاقاته الاجتماعية.

ومع ذلك, فليست المنطقة العربية أو الشرق الأوسط هما الأخطر فيما نتحدث عنه.

ماذا يعني الزواج?

الكارثة إفريقية بالدرجة الأولى, والبداية اجتماعية أيضًا, فثلاثة أرباع الشباب الذين تم استقصاؤهم في ناميبيا ومن خلال دراسة علمية قامت بها منظمة عالمية لم يسمعوا بكلمة (العلاقات الأحادية) أو (الزواج). شيوع الجنس أمر معتاد, وغير ذلك استثناء.

وتمتد العادات والأوضاع الاجتماعية لمجال الخرافة أيضا, فالبعض في إفريقيا السوداء يعتقد أن السحر والشعوذة وراء الإصابة بالإيدز, وهناك اعتقاد في بتسوانا - والتي تشهد أكبر نسبة إصابة في العالم حيث أصيب (40) في المائة من السكان - أن الإيدز يأتي بسبب معاشرة أرملة أو أرمل أثناء فترة الحداد. وعندما لاحظت جهات البحث ارتفاع نسبة الاغتصاب للفتيات الصغيرات وللسيدات في العمر المتقدم أدركت هذه الجهات أن وراء الأمر اعتقادا سائدا أن سبب الإيدز: معاشرة امرأة حائض!

إنها الأفكار والعادات الاجتماعية والصحية المضادة أو الخاطئة التي تجعل الجميع في مرمى المرض: الرجال والنساء والأطفال. وطبقا للأرقام فإن إفريقيا السوداء تضم أكثر من ثلثي المصابين بالإيدز في العالم وبالتحديد - وطبقا لأقام 2003 - (27) مليون مصاب.. ثلثهم من النساء, وبينهم (2.3) مليون طفل انتقلت لهم العدوى من خلال الأم وأثناء الحمل..!

المرض يجتاح إفريقيا السوداء, لكن نسبته ترتفع لأكثر من ثلث السكان في بلدين هما: بتسوانا وسوازيلاند.. كما أن عدد المرضى يصل إلى (5.3) مليون مريض في بلد واحد هو جنوب إفريقيا!

الكارثة - كما قلت - إفريقية, لكنها تزحف شرقا حيث تعاني أكبر دولتين في العالم سكانيا وهما: الهند والصين, والسبب الرئيسي أيضا: جنس بلا وقاية, أو مخدرات يجري تعاطيها عن طريق الحقن, أو جرعة دماء ملوثة, وربما توجد في بعض المناطق ما عرفته إفريقيا السوداء والتي تجعل الشاب يسأل: (ماذا يعني الزواج?).. ذلك أن كل شيء مباح وإن لم يكن على الطريقة الإفريقية.

حكاية (3 × 5)

السؤال: هل حار الأطباء? وهل جاءت الأدوية المغشوشة التي يشير إليها برنامج الأمم المتحدة لمكافحة الإيدز بأنها أحد أسباب انتشار المرض وتفاقمه? هل جاءت هذ الأدوية نتيجة عجز وفقر في الاكتشافات التي تحاصر المرض في أي مرحلة من مراحله?

الجواب بالنفي, فقد توصل العالم إلى عقاقير ذات نتائج واضحة, ومن ثم باتت المشكلة اقتصادية, خاصة أن الدول الأكثر فقرًا هي التي تعاني بدرجة أكبر.

في حالة الهند, والتي فاق عدد سكانها المليار عام (2001), تم الاتفاق بين الحكومة وشركات الدواء المحلية على تصنيع دواء الإيدز مع خفض تكلفة الإنتاج لتكون الجرعة المناسبة للمريض في مقابل (38) سنتًا فقط, مع محاولة تخفيض التكلفة إلى عشرين سنتًا فقط.

أيضًا, قررت الحكومة الهندية توفير الدواء المجاني للأطفال ونسبة من المرضى وأعدت برنامجا للمكافحة حتى عام (2015).

وفي بتسوانا, أعلنت الحكومة أيضًا عن برنامج للعلاج المجاني, بينما قام مركز السيطرة على الأوبئة في واشنطن بتمويل (16) مركز فحص في بتسوانا التي تقود حملة تحت شعار: (اعرف وضعك), وبالرغم من أن الحملة قد بدأت بتشجيع من رئيس الجمهورية الذي ذهب بنفسه (ليعرف وضعه), فإن الذين تقدموا للفحص وخلال ثلاث سنوات لم تزد أعدادهم عن (65) ألف شخص ممّا حدا بالحكومة لوضع برنامج للفحص الإجباري.

أيضًا, وفي جنوب إفريقيا فقد وضعت منظمة الصحة العالمية خطة لتوفير الدواء والرعاية لـ (3) ملايين شخص حتى عام (2005) والرقم هنا يعادل عشرة أضعاف من يتم علاجهم الآن.

وعلى المستوى العالمي توافرت موارد لمكافحة الإيدز عام (2002) مقدارها (2) مليار دولار.. ثم زيدت في العام الماضي إلى (4.5) مليار دولار, بينما تقدر منظمة الصحة العالمية احتياجات المكافحة إلى (10) مليارات دولار.. ومن ثم فقد تقرر إنفاق (5.5) مليار دولار خلال العامين التاليين, وقد أطلقت منظمة الصحة العالمية اسم (حملة 3*5) على برنامجها الذي يستهدف علاج (3) ملايين مريض في خمس سنوات, وهو هدف محدود إذا قيس بعدد المصابين (40 مليونا), أي أن السباق بين الحياة والموت مازال مستمرا, تغذيه عادات اجتماعية ضارة وموروث ثقافي خاطئ وانحرافات أخلاقية وعصابات لخطف الفتيات من آسيا وإفريقيا, وتصديرهن للعمل في أوربا وغيرها! أما جهود التصدي فهي مازالت متواضعة وما طلبته منظمة الصحة العالمية من اعتمادات عاجلة (وهي 10 مليارات دولار) لا يعادل أكثر من (12) في المائة من الاعتمادات الإضافية لميزانية الدفاع الأمريكية عام (2003).

السؤال: هل تتحول القضية من قضية صحية وإنسانية إلى قضية سياسية? ردود فعل الساسة تشير إلى ذلك, فعندما احتفل العالم باليوم العالمي للإيدز في نوفمبر (2003) قال رئيس الوزراء البريطاني توني بلير (إن مكافحة الإيدز ليست واجبا أخلاقيا فقط, لأن مصلحة الدول الغنية عدم انتشار الفقر الذي يهز الاستقرار العالمي).

في الوقت نفسه, فقد وجهت وزيرة التنمية الدولية في بريطانيا نداء دوليا للعمل في هذا المجال, وأعلنت الخطوات التي تعتزم بريطانيا اتخاذها من خلال رئاستها للاتحاد الأوربي ومجموعة الدول الصناعية الثماني عام (2005).

والمقولة هنا صحيحة, هي قضية سياسية وتمس استقرار العالم, فالمرض - وفقا لإحصاءات سابقة - يحصد أحيانا معظم العاملين في مهنة كالتعليم أو مهن اقتصاد وإدارة, مما يؤثر في نسب النمو ويساعد على انتشار الفقر.

إنها قضية الجنوب بشكل عام, والذي ينظر له الشمال الآن كقنبلة متفجرة, فالفقر يصنع العنف, والعنف يصنع الإرهاب, والعكس صحيح حين تتحسن مستويات الدخل, فمع كل تحسن اقتصادي تتغير أحوال الثقافة والمجتمع, حتى العادات والتقاليد, والتي هي جزء من بناء اجتماعي تجد ضالتها في أوضاع اقتصادية أفضل, وفي درجة أعلى من التحضر, ومثال ذلك ما أثبتته التجارب من أنه كلما زاد تعليم الفتاة قل الإنجاب وانكمش حجم الأسرة وبما يساهم في حل المشكلة السكانية.

حكاية الإيدز: ثقافة وسياسة ومجتمع قبل أن تكون علما ورعاية طبية.

وحكاية الإيدز, مثل هموم عالمية أخرى كالبيئة وغيرها, أصبحت الآن همًا يشغل العالم, لكن الحديث في هذا المجال أكثر من الفعل.

وعلى النطاق العربي يصبح السؤال: ماذا فعلت الحكومات العربية وماذا فعلت الجامعة العربية ومجلس وزراء الصحة العرب?

الخجل والتقاليد يمنعان الكشف عن الحقيقة, حتى لو كانت في حدود أقل كثيرًا مما يجري في آسيا وإفريقيا.

لكن الخجل لن يحول دون امتلاك برامج صارمة تضمن لنا مجتمعا نظيفًا ووعيًا جديدًا تقوده الدوائر السياسية والطبية معا.

لا.. للإيدز في منطقتنا العربية فيكفينا ما لدينا من أمراض سياسية واجتماعية.

ورقم

داخل السجن.. وخارجه!

قبل سبتمبر وبعده, كانت الظاهرة ثابتة, وهي أن السجون الأمريكية غاصة بالزبائن, وأنها تسجل أرقامًا قياسية عامًا بعد عام.

وطبقا لدراسة إحصائية لوزارة العدل الأمريكية فإنه في عام (2001) كان هناك أمريكي من بين كل عشرين أمريكيا قد زار السجون ولو لمرة واحدة.

الأخطر هو ما تتوقعه الوزارة عن المستقبل, وما يمكن أن يتوقعه أي مراقب بناء على الإجراءات التي تمت بعد سبتمبر والتي جعلت كل الغرباء متهمين, خاصة إذا كانوا ذوي ملامح شرقية.

في سلسلة الإجراءات ما صدر من قوانين وتعليمات تبيح حق الاعتقال للغرباء, دون محاكمة ودون توجيه اتهام قانوني.

وفي سلسلة الإجراءات ما سمحت به الإدارة الأمريكية من حق أجهزة في اغتيال شخصيات توصف بأنها إرهابية.

وفي هذه السلسلة تأتي عمليات التنصت والتجسس, ومتابعة أجهزة الكمبيوتر ورسائل الهواتف المكتوبة, بل ومتابعة ما يقرأه الناس في المكتبات العامة, وما يستعيرونه من كتب.

المناخ بوليسي, لكنه - وللغرابة - لم يكن أفضل كثيرًا قبل سبتمبر.

الجريمة منتشرة, وهذه هي البداية.

والأسلحة الصغيرة منتشرة وهنا بداية أخرى.

والعنف قيمة أساسية في المجتمع.

ولكن وفي التحليل يمكننا أن نصادف عددًا من المحطات.

أولاها, ارتفاع نسبة من يدخلون السجون قياسًا بالدول الأخرى. لقد ظل السباق قائماً بين أكبر دولتين تستضيفان مواطنيها داخل السجون وهما: الصين والولايات المتحدة, لكن الأولى والتي تدخل المنافسة بأرقام متقاربة مع الثانية تملك تكتلا سكانيا بلغ تعداده عام (2001): (1.3) مليار نسمة.

أما الولايات المتحدة وفي العام نفسه فلم يزد عدد السكان فيها على (284) مليونا فقط, وهو ما يشير إلى أنها الأولى في عالم الجريمة.

أما المحطة الثانية فهي أمريكية خالصة, فإذا كانت إحصائية وزارة العدل تشير إلى واحد من بين كل عشرين أمريكيا قد دخلوا السجن عام (2001), فإن النسبة تقفز حين ننتقل إلى مجتمع السود حيث دخل السجن في ذلك العام واحد من كل ستة زنوج.

ثم.. تأتي المحطة الثالثة والتي كانت موضع تنبؤ متشائم من جانب الوزارة المختصة.

ووفقا لتوقعات وزارة العدل في هذه الدراسة نفسها فإنه يدخل إلى السجن (11.3) في المائة من الأطفال الذين ولدوا عام (2001).. أما إذا انحصرت التوقعات في مجتمع السود فسوف تكون النسبة: طفلا من بين كل ثلاثة.

والمحطة الأخيرة والتي تدخل في باب التوقعات تثير الاستغراب, فهي تتحدث عن طفل لم يتجاوز شهورا من عمره, أي إنها توقعات تتصل بالمستقبل البعيد, ولنقل عام (2020) حين يبلغ الواحد من هؤلاء الأطفال التاسعة عشرة من عمره!

ما الذي يجري في الولايات المتحدة? هل هو إسراف في العنف والجريمة, أم هو إسراف في إجراءات الأمن?!

في كل الأحوال فالإدارة الأمريكية تستعد بالمزيد من السجون, والأهم هو ما ينتهي له علماء الاجتماع: لماذا تتصاعد الأرقام على هذا النحو? وهل يكون ما جرى في (11) سبتمبر سببا لهزة نفسية تزيد من حدة هذه الظاهرة التي عاشت معها الولايات المتحدة سنين طويلة قبل ذلك أيضًا?!

الأسئلة كثيرة والرقم يسترعي النظر: طفل من كل ثلاثة.. مواطن من كل عشرين, فإن كان أسود فهو مواطن من كل ستة!

 

محمود المراغي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات