جمال العربية فاروق شوشة

جمال العربية

معزوفة لدرويش متجول

منذ صدور ديوانه الأول (أغاني إفريقيا) عام 1955, والشاعر السوداني - المصري - الليبي محمد الفيتوري, جمر مشتعل في حركة الشعر الحديث, وعطاء شعري عبر دواوينه المتتابعة الصدور حتى اليوم, له مذاقه الخاص وسَمْتُه الخاص, ولغة شعرية لا تختلط بغيرها, تتميز بمعجمها الشديد الخصوصية, ونبضها الحار المتدفق, وإيقاعها القوي الأَسْر والحدّة والتأثير.

كانت المرحلة الشعرية الأولى في عالم الفيتوري بمنزلة الغناء لإفريقيا من خلال دواوينه الثلاثة: (أغاني إفريقيا) و(اذكريني يا إفريقيا) و(عاشق من إفريقيا), وسرعان ما اغتنى عالمه الشعري بانفتاحه على حركة الوطن العربي كلّه في تحوّلاته وانكساراته, وفي صعوده وسقوطه, وهي المرحلة الشعرية التالية التي أبدع من خلالها دواوينه: (معزوفة لدرويش متجول), و(سقوط دبشليم) و(البطل والثورة والمشنقة), و(أقوال شاهد إثبات), ومسرحيتيه: (أحزان إفريقيا (سولارا)) و(ثورة عمر المختار), ثم تجيء المرحلة الثالثة, التي تمتد بظلالها وطقوسها حتى اليوم, بدءًا بديوانه: (ابتسمي حتى تمر الخيل) وبعده: (شرق الشمس غرب القمر), و(يأتي العاشقون إليك), و(فرس الليل فرس النهار), و(أغصان الليل عليك).عن تجربته الصوفية, التي تبلورت معالمها وتجلّت لغتها في ديوانه (معزوفة لدرويش متجول) يقول الفيتوري: (التجربة الصوفية بالنسبة لي جزء من كياني, لقد عانيتها قبل أن أولد, فقد كان والدي أحد كبار رجالاتها, وعانيتها طفلا وصبيا, وقبل أن أعرف الشعر, بل لعلّني عرفت الشعر من خلال معرفتي بها.

ولذلك, فإن لجوئي إليها ليس لجوءًا طارئا, أو جديدا, أو مفتعلا, ليس لجوءًا ثقافيا أو فلسفيا أو فنيا, لمجرد البحث عن أفق جديد.

والظاهرة الصوفية, كما عبرت عنها في مجموعتي الشعرية (معزوفة لدرويش متجول) هي في حقيقتها التفاتة أعمق إلى الداخل, وعودة أشد التصاقا بالجوهر.

ويبقى بعد ذلك أن أوضح حقيقة الاتجاه الصوفي في أشعاري الأخيرة, إن صوفية الشاعر, أو شاعرية الصوفي, الذي أتكلم عنه, موقف إنساني إيجابي, واعٍ ومدرك, وليس موقف الدرويش المنجذب إلى مجموعة من الأفكار المشوشة والأحاسيس التجريدية العمياء.

إنه الصوفي الثوري, وليس أبدًا ذلك الصوفي التقليدي المتهالك المهزوم).وهذا الكلام للفيتوري عن وعيه بصوفية الشاعر أو شعرية الصوفي فيه, يتسق مع الرأي القائل إن تاريخ أدبنا العربي لم يشهد هجاء للحكام الظالمين: الملوك والأمراء والقادة والولاة ونقدا لاذعا لفسادهم وطغيانهم وانحيازا للفقراء والمعدمين والبائسين, كالذي أبدعه المتصوفة من أمثال الحلاج والنفري والتوحيدي والشهرزوري والسهروردي وغيرهم من كتابات شعرية ونثرية تتوهج بالدعوة لنصرة المظلوم ونقد أحوال المجتمع الفاسد, الأمر الذي كان سببا في تنبه هؤلاء الحكام إلى ما في كتاباتهم من ثورية أدّت إلى الحكم بموتهم تحت ستار اتهامهم بالمروق والخروج على صحيح الدين - كما حدث بالنسبة للحلاج والسهروردي - حتى يضمن هؤلاء الحكام تعاطف العامة معهم باستنفار غيرتهم على الدين.الفيتوري إذن على وعي بهذه الصوفية الثورية, والخيوط الفاصلة بين السلبية والإيجابية في الموقف الصوفي, وهو الأمر الذي كان يحاول تجسيده بلغته الشعرية القادرة على التجسيد والتشخيص في قصيدته (معزوفة لدرويش متجول) التي حمل اسمها الديوان:

شحبت روحي, صارت شفقا
شعّت غيْمًا وسَنا
كالدرويش المتعلق في قدميْ مولاه,
أنا
أتمرّغ في شجني
أتوهج في بدني
غيري أَعْمَى, مهما أصغى,
لن يُبصرني
فأنا جسدٌ, حجرٌ
شيء عبر الشارع
جزرٌ غرقى في قاع البحر
حريق في الزمن الضائع
قنديل زيتي مبهوت
في أقصى بيت, في بيروت
أتألق حينا,
ثم أُرنّقُ
ثم أموت!

***

ويحي,
وأنا أتلعثم نحوك يا مولاتي
أُجسّدُ أحزاني
أتَجرّدُ فيك
هل أنت أنا?
يدك الممدودة أم يديَ الممدودة?
صوتُك أم صوتي?
تبكيني أم أبكيك?

***

في حضرة مَنْ أهوى
عَبَثَتْ بي الأشواقْ
حدّقتُ بلا وجهٍ
ورقصْتُ بلا ساقْ
وزحمتُ براياتي
وطُبولي الآفاق
عشقي يُفني عشقي
وفَنائي استغراقْ
مملوكُكَ, لكنّي
سلطانُ العشاق!

يستمر هذا النَّفَس الروحيّ في قصائد الديوان, والعاشق: الدرويش المتجوّل, الشاعر, يفْنى في محبوبه, ويستغرق في نشوته الأسمى, وهو يقول في قصيدة ثانية عنوانها: (يوميات حاج إلى بيت الله الحرام):

- 1 -

قوافلٌ يا سيدي قلوبُنا إليك
تحجُّ كلّ عام
هياكلٌ مُثقلةٌ بالوجد والهيام
تسجد عند عتباتِ البيت والمقام
تُقرئك السلام
يا سيدي
عليك أفضل السلام

- 2 -

على الرفات النبويّ كلّ ذرةٍ عمود من ضياء
منتصب من قبة الضريحِ
حتى قبةِ السماء
على المهابة التي
تخفضُ دون قدرك الجباه
راسمة على مدار الأفْق أُفْقا عاليا
من الأكفّ والشفاه
يموج باسْم الله:
- الحمد لك
والشكر لك
والمجد لك
والملك لك
يا واهب النعمة يا مليك كلّ من مَلكْ
لبّيك لا شريك لك
لبّيك لا شريك لك

- 3 -

يا سيدي عليك أفضلُ السلام
من أمةٍ مُضاعة
خاسرة البضاعة
تقذفها حضارة الخراب والظلام
إليكَ كلّ عام
لعلّها أن تجد الشفاعة
لشمسها العمياء في الزحام

- 4 -

يا سيدي
منذ رَدَمْنا البحر بالسدود
وانتصبت ما بيننا وبينك الحدود
متْنا
وداست فوقنا ماشيةُ اليهود!

- 5 -

يا سيدي
تعلم أَنْ كان لنا مجدٌ وضيّعْناه
بنيْته أنت, وهدّمناه
واليوم ها نحنُ,
أجل يا سيدي
نرفلُ في سقطتنا العظيمة
كأننا شواهدٌ قديمة
تعيش عُمرها لكيْ
تُؤرّخ الهزيمة!

- 6 -

لا جمر في عظامنا ولا رماد
لا ثلج لا سواد
لا الكفر كلّه ولا العبادة
الضعف والذلّةُ عادة
يا سيدي
علّمتنا الحب
فعلّمنا تمرّد الإرادة

- 7 -

ابْكِ لنا
وادْعُ لنا
فالعصرُ في داخلنا جدار
إن لم نُهدّمهُ
فلن يغسلنا النهار!

الخلاص الذي ينشده الفيتوري ويلهج بذكره ليس خلاص فرد, خلاصه هو, لكنه خلاص أمة, خلاص روحها من الأوشاب والأوحال والدّنس والسقوط والخوف والجبن والتراجع. والتطهير الذي يحدثه الشعر, والفن الجميل كلّه - هو كما قال أرسطو من قديم - غاية لهذا المسْعى الشعري الصوفي النبيل, المتشح بأقباس مستلهمة من أفق النبوة, ومعجم تندى كلماته بأرواح العشاق الكبار في ديوان الحب الإلهي, حائمة هائمة مرفرفة, تأخذنا من خلال شعر الفيتوري إلى ساحة ياقوت العرش, الفضاء الذي شهد طفولة الفيتوري الباكرة في الإسكندرية ووجدانه الغضّ يتشكل من خلال التراتيل والتسابيح والقراءات والأذكار التي يتناشدها المنشدون ويتمايلون على إيقاعاتها ودقات طبولها في نشوة الوصول.

وفي قصيدة (ياقوت العرش) تكتمل ثلاثية هذه الحال من أحوال العشاق, وتنغلق الدائرة على شعاعات من شمس هذا الأفق البعيد, نقاربه ولا نصل أبدًا إليه, ونغمس فيه الروح والأشواق, هكذا صنع الفيتوري في عالمه الشعري الشديد التكثيف والتركيز, الآسر الجمال والبهاء وهو يقول:

دنيا لا يملكها من يملكها
أغنى أهليها سادتها الفقراء
الخاسرُ من لم يأخذ منها
ما تُعطيه على استحياء
والغافلُ من ظن الأشياءَ
هي الأشياء!

***

تاج السلطان القاتم تفّاحة تتأرجح أعلى سارية السّاحة

تاج الصوفيّ يضيءُ
على سجّادة قشّ
صدقني يا ياقوت العرش
إن الموتى ليسوا هم
هاتيك الموتى
والراحة ليست
هاتيك الراحة!

***

عن أيّ بحار العالم تسألني يا محبوبي
عن حوتٍ
قدماهُ من صخرٍ
عيناهُ من ياقوت
عن سُحب من نيران
وجزائر من مرجان
عن ميْتٍ يحملُ جثّته
ويهرول حيث يموت
لا تعجب يا ياقوت
الأعظمُ من قدْر الإنسان هو الإنسان
القاضي يغزل شاربه لمغنّية الحانة
وحكيم القرية مشنوق
والقردة تلهو في السوق
يا محبوبي
ذهبُ المُضطرِّ نحاس
قاضيكم مشدود في مقعده المسروق
يقضي ما بين الناس
ويجرّ عباءته كِبْرًا في الجبّانة

***

لن تُبصرنا بمآقٍ غير مآقينا
لن تعرفنا
ما لم نجذبك فتعرفنا
وتُكاشفنا
أدنى ما فينا قد يعلونا يا ياقوت
فكن الأدنى
تكن الأعلى فينا

***

وتجفُّ مياهُ البحرِ
وتقطع هجرتها أسرابُ الطير
والغربال المثقوبُ على كتفيك
وحزنك في عينيْك
جبالٌ
ومقاديرُ
وأجيال
يا محبوبي لا تبكيني
يكفيك ويكفيني
فالحزنُ الأكبرُ ليس يُقال!

 

فاروق شوشة

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات