ملف إدوارد سعيد: في الذكرى التاسعة لرحيل نجم الشرق إدوارد سعيد.. مسيرة فريدة في عالم النضال الثقافي

عندما أشرقت شمس الربيع العربي تذكرنا المفكر العربي الكبير إدوارد سعيد وكتاباته ومواقفه المتعلقة بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وقضية الشعب الفلسطيني.. وفي الوقت ذاته تذكّرنا أيضًا ما قاله بعد احتلال العراق عام 2003 في حوار مع صحيفة عربية: «إنهم يريدون تغيير الشرق برمته والعالم العربي.. ربما يتم تقسيم بعض الدول وتدمير ما يسمى بمجموعات الإرهاب وتنصيب أنظمة صديقة للولايات المتحدة».

وبعد مرور 9 أعوام على رحيله نقول إن الكتابة عن سيرة إدوارد سعيد الذاتية ومسيرته المهنية والنضالية مهمة صعبة جدًا، لأن نشأة واهتمامات المفكر الفلسطيني ودراساته وكتاباته متشعبة ومتشابكة من حيث الزمان والمكان، كما يصعب اختصار مسيرته في صفحات قليلة.

 

وُلد إدوارد سعيد في الأول من نوفمبر من العام 1935 لوالد مقدسي وأم ناصرية (الناصرة)، بدأ دراسته في القدس ثم القاهرة وبعدها في الولايات المتحدة، حيث درس ودرّس في الجامعات الأمريكية.

انطلق إدوارد في مشواره التعليمي في الولايات المتحدة من مدرسة داخلية في ماساتشوستس حيث عاش حياة تعيسة بسبب إحساسه بالمنفى الحقيقي، لكنه استطاع بالرغم من معاناته الذاتية وصراعه مع الغربة أن يتفوق ويتابع دراساته بجامعة برنستون فحاز شهادة الماجستير، ثم نال درجة الدكتوراه في اللغة الإنجليزية والأدب المقارن من جامعة هارفارد.

بعد حصوله على شهادة الدكتوراه، انضم إدوارد سعيد إلى هيئة التدريس في جامعة كولومبيا في قسم اللغة الإنجليزية والأدب المقارن، كما عمل برتبة أستاذ زائر في الأدب المقارن بجامعة هارفارد عام 1974، وظل يمارس التدريس الجامعي إلى أن حاز لقب أستاذ جامعي متميز في جامعة كولومبيا، وهذا المنصب يعتبر أعلى درجة أكاديمية في تلك الجامعة.

بالرغم من نجاحاته الأكاديمية والتنوع في التخصصات الجامعية، لم تقف حياته الجديدة وشهرته الواسعة في أمريكا عائقًا لإبعاده عن القضية الفلسطينية فظل الصوت الناشط والفعال في أمريكا من أجل قضية فلسطين وحق الشعب الفلسطيني بالعودة وإقامة دولته المستقلة.

وقد عبّر عن أفكاره تجاه قضيته في كل المناسبات من ندوات ولقاءات ومقالات في الصحف الأمريكية والعربية. وعندما أصدر إدوارد سعيد كتابه «الاستشراق» أحدث جدلاً واسعًا ونقاشًا ساخنًا في الأوساط الفكرية والثقافية الغربية. فهذا الكتاب الذي كتبه ونشره خلال عمله في جامعة ستانفورد في منتصف السبعينيات وجه نقدًا قاسيًا لحركة الاستشراق، فهو يرى الاستشراق بصورة أبعد من البحث الأكاديمي الموجّه خصوصًا عندما يكون الاستشراق وسيلة لخدمة الأهداف الاستعمارية للدول الأوربية والولايات المتحدة من أجل الهيمنة على الدول العربية والإسلامية.

كما اعتبر المفكر المقدسي إدوارد سعيد أن الدراسات الغربية للحضارة العربية الإسلامية والصور الرومانسية التقليدية تجاه الشرق مغرضة، لأنها تبرر الهيمنة السياسية على الشرق.

ويرى الدكتور سعيد الخبير الموسيقي أيضًا أن الغرب لديه رؤية نمطية للشرق في الفن والأدب، وأن نصوص الدارسين والمستشرقين حول هذا الموضوع كانت متحيزة للغرب بشكل انتقائي واستعلائي. وقد حاول الغرب - برأي سعيد - إظهار الشرقيين كضعفاء وغير عقلانيين.

كتاب «الاستشراق» أثار جدلاً منذ صدوره حتى اليوم، أي بعد رحيل الدكتور سعيد، حيث واجه المفكر الفلسطيني موجة واسعة من الجدل الحاد والرد العنيف من قبل أكاديميين ومستشرقين غربيين وسياسيين متجددين انتقدوا منهجية المفكر الكبير في الفكر الاستشراقي واتهموه بالتركيز على المبالغات العنصرية والعداء تجاه المستشرقين، متجاهلاً منجزات الاستشراق الإنسانية الكثيرة.

ومن بين الذين قادوا الحملة ضد إدوارد سعيد كنعان مكية وإعجاز أحمد وبرنارد لويس وتلميذه توماس فريدمان وريتشارد بيرل ودانيال باريس وغيرهم من المروّجين للاستشراق المشبوه، وقد اتهمه بعضهم بأن خلفيته الثقافية والعرقية قد أثرت في دراسته للاستشراق.

وبالرغم من كل ذلك فقد صمد سعيد في وجه الحملة المكثفة التي شنها أنصار الصهيونية - خصوصًا برنارد لويس - غير أن الغالبية العظمى من المفكرين والنقاد صمدوا مع إدوارد سعيد وبيّنوا للعالم أجمع تأثير المفكر العربي في حركات التحرير وفي العلوم الإنسانية حيث اعتبروه من أكثر المفكرين شعبية في أمريكا.

لقد نجح الدكتور إدوارد سعيد في ربط دراسات الاستشراق منذ بداية انطلاقتها بظهور الحركة الصهيونية وولادة مشروع تهجير اليهود إلى فلسطين مع انتشار الثقافة الإمبريالية في أوربا.

كما كشف في كتابه حول القضية الفلسطينية الحقائق التاريخية للشعب الفلسطيني، ردا على المزاعم اليهودية والاستعمارية المروّجة لأكذوبة

لا شعب في أرض فلسطين. فقدم عرضًا شاملاً بالوثائق للخصائص التاريخية والجغرافية والاجتماعية لفلسطين وشعبها حيث يعيش مجتمع متمدن.

لقد كرّس المفكر الفلسطيني العربي إدوارد سعيد حياته من أجل المسألة الفلسطينية ومن أجل حق شعبه في أرضه، فإلى جانب كتاباته وكتبه حول القضية الفلسطينية، كان سعيد عضوًا مستقلاً في المجلس الوطني الفلسطيني لعقود طويلة إلى أن استقال في عام 1991 منذ مؤتمر مدريد، كما أنه احتجّ بشدة على اتفاق أوسلو بين منظمة التحرير والحكومة الإسرائيلية، مؤكدًا أن هذا الاتفاق لن يقود إلى إقامة الدولة الفلسطينية المنشودة. وهذا الموقف كان بسبب توتر العلاقة بينه وبين السلطة الفلسطينية. وقد أصدر سعيد في عام 1995 كتابين حول اتفاق أوسلو بعنوان «غزة أريحا: سلام أمريكي» و«أوسلو سلام بلا أرض» ثم كتاب بعنوان «نهاية عملية السلام» الذي صدر في عام 2000. وبعدها شارك إدوارد سعيد في إطلاق المبادرة الوطنية الفلسطينية مع مصطفى البرغوثي وحيدر عبدالشافي بهدف خلق قوة فلسطينية ثالثة تقوم على قاعدة ديمقراطية بعد احتدام الخلافات بين حركتي فتح وحماس.

وعندما نتحدث عن كتابات الدكتور إدوارد سعيد حول القضية الفلسطينية لا نستطيع تجاوز كتابه «خارج المكان» الذي يسرد ذكريات ويوميات إدوارد سعيد، وهو الكتاب الذي دحض فيه كل المزاعم الإسرائيلية والصهيونية.

والمعروف عن إدوارد سعيد أنه متعدد المواهب، فنشاطه السياسي من أجل فلسطين لم يمنعه من الاهتمام بالجانب الآخر من عبقريته المتمثلة بالنشاط الأدبي والثقافي والموسيقي، فهو لم يكن من عشاق الموسيقى ومن متذوّقي الكتابات الإبداعية الأدبية فحسب، بل كان عازف بيانو وكتب الكثير من المواضيع المتعلقة بالموسيقى والفنون، وله مؤلفات ومقابلات عدة حول الموسيقى، كما ناقش قضايا ثقافية وفنية وأدبية وموسيقية من خلال ندوات ومحاضرات ومقابلات نُشرت في الصحف الغربية والعربية، حيث كان قادرًا على ربط الموسيقى ببعدها الثقافي والسياسي والاجتماعي. وتكريمًا له، فقد أطلقت جامعة بيرزيت على مدرستها الموسيقية اسم «معهد سعيد للموسيقى».

لكل ذلك لا يمكن أن ننسى هذا المفكر النجم الفلسطيني العربي المشرقي الذي ستظل الأجيال تردد اسمه.
------------------------
* باحثة من الأردن.