جمال العربية: جمال لغة وجمال إبداع

جمال العربية: جمال لغة وجمال إبداع

تقول اللغة: رام الشيءَ يرومُه روْمًا: طلبه، فهو رائمٌ، وروّام.

يقال: هم رُوّمٌ له، غيرُ نُوَّمٍ عنه.

قال ابن فارس: «الراء والواو والميم أصل يدلٌ على طلب الشيء».

وقال امرؤ القيس يتغزل:

وبيضةِ خِدْرٍ لا يرامُ خِباؤُها
تمتّعْتُ من لهوٍ بها غيْرَ مُعْجلِ

بيْضةُ خِدْر: كناية عن صونها ورعايتها.

وقال المُفضّل النُّكْريُّ وهو شاعر جاهلي:

عَدتْ ما رُمْتَ إذ شَحَطتْ سُليْمى
وأنت لذكرها طرِبٌ مشوقُ

عدت ما رُمْتَ: تجاوزَتْ ما تطلبه وتبغيه. وفي الجزء الحديث الذي سيصدر قريبًا من «المعجم الكبير» الذي يضم مواد حرف الراء - وهو المعجم الذي يعكف علي إصداره مجمع اللغة العربية والذي صدر أول جزء منه عام 1960م، مزيد من الكلام عن هذا الجذر اللغوي الذي يجمع بين دلالتين: طلب الشيء، وجيل من الناس.

يقول ساعدة بن جُؤيَّة وهو شاعر مخضرم، يصف أمًّا تنوح على ولدها:

فبيْنا تنوحُ استبشروها بحِبِّها
على حين أنْ كلَّ المرامِ ترومُ

استبشروها: قدموا لها البشارة، حِبّها (هنا) المقصود به: ابنها.

وقال ابن مقبل وهو شاعر مخضرم، يفخر بقبيلة مضر:

والحائطون فلا يرام ذمارُهمْ
والحافظون معاقدَ الأحسابِ

الحائطون: الحافظون، ذمارهم: هو كلُّ ما يلزم الرجل حفظه والدفاع عنه، معاقد الأحساب: الأسباب والخصال التي استحقّت بها الأحساب الرفعَة والشرف.

وقال مالك بن خالد وهو شاعر إسلامي:

إذا ما جلسنا لا تزال ترومُنا
سُليْمٌ لدى أطنابنا وهوازنُ

جَلسْنا: أتينا الجلْسَ، والمقصود به هنا نجد، وأطنابنا: بيوتنا.

ويقال: رام العدوَّ: طلب الغلبَةَ عليه.

قال المتنبي:

ولقد رامك العُداةُ كما را
مَ فلم يجرحوا لشخصك ظلاَّ
ولقد رُمْتَ بالسعادة بعضًا
من نفوس العِدا، فأدركْتَ كُلاَّ

كما رام: يعني الدهر.

وقال أبو العلاء المعرّي:

يرومُكَ والجوزاءُ دون مرامهِ
عدوٌّ يعيبُ البدْرَ عند تمامهِ

وجاء في اللغة: روّمَ فلانٌ: لبِثَ.

وروّم الشيءَ: نسبه إلى الروم.

قال ابن الروميّ يذكر امرأةً:

يُزنَّج منها الناسبونَ وشيظةً
وجمهورُها في الناسبين مُروَّمُ

يُزنّج: ينسبُ إلى الزَّنُج. الوشيظةُ من الناس: الذين ليس لهم أصل واحد. ويُزنّج فلانًا وبفلانٍ الشيءَ: رغّبهُ فيه، وجعله يطلبه. ورامة: اسم موضع بالبادية. وقيل: بالعقيق.

وقال عمارة بن عقيل: وراء القريتين في طريق البصرة إلى مكة، وقيل: إنه من ديار عامر.

وقال زُهيْر:

لمن طللٌ بِرامةَ لا يريمُ
عفا وخلا له عهدٌ قديمُ

وقال أوْس بن حَجر:

ولو شهد الفوارسُ من نُميْرٍ
برامةَ أو بِنعْفِ لِوى القصِيمِ

النَّعُفُ: ما ارتفع من حزونة الجبل عن منحدر الوادي، اللِّوى: مُنقَطع الرمل.

وقال القطاميُّ:

حلَّ الشقيقَ من العقيق ظعائنٌ
فنزلْنَ رامةَ أو حللْنَ نَواها

نواها: يريد دارها.

وقد يثنّون فيقولون: رامتان.

وفي المثل:

«تسألني برامتيْنِ سلْجَما»

وهو مثل يضرب لمن يطلب شيئا في غير موضعه، أو لمن يطلب حاجةً عسرة.

والنسبة إليها وإلى رامتيْن أيضًا: راميُّ، على غير قياس.

قال أبو حنيفة الدّينوري: وقيل لراميٍّ: لم زرعتم السَّلْجمَ؟ فقال: معاندةً لقول الشاعر:

تسألني برامتيْن سَلْجَما
يا ميُّ لو سألْتِ شيئًا أَمَما
جاء به الكريُّ أو تجشَّما
أمَـما: قريباً ممكــنًا.

وقال جرير:

بان الخليطُ برامتيْن فودّعوا
أو كُلّما رفعوا لبيْنٍ تَجْزعُ

رفع القوم: أصعدوا في البلاد، يريد: تهَيّؤوا للرحيل.

وقال ابن سيده: وإنما قضيْنا على رامتينِ أنها تثنية سُمّيت بها البلدة للضرورة، لأنها لو كانتا أرضيْن لقيل: الرامتيْن، بالألف واللام، كقولهم: الزيدان، وقد جاء الرامتين بالألف واللام في قول كُثيِّر:

خليليَّ حُثّا العيس تصبحْ وقد بَدتْ
لنا من جبالِ الرّامتيْن مناكبُ

ورامتان: الاسم الذي سمّى به الدكتور طه حسين منزله في شارع الأهرام بالجيزة.

وتتسع مادة «المعجم الكبير» في أحدث أجزائه الذي سيصدر قريبًا، لدلالات أخرى للجذر اللغوي: الراء والواو والميم الذي يشير إلى جيل من الناس.

فهناك الرُّوام: الُّلغام، وهو الزبدُ حول الفم.

والرَّوْم (عند القراء): سرعة النطق بالحركة التي في آخر الموقوف عليها مع إدراك السمع لها، وهو أكثر من الإشمام لأنه يُدركُ بالسمع.

وقال الجوهريّ: روْم الحركة الذي ذكره سيبويه: حركة مختلسة مختفاة بضرب من التخفيف، وهي أكثر من الإشمام لأنها تسمع، وهي بزنة (الحركة) وإن كانت مختلسة مثل همزة بين بين.

واستعاره أبو العلاء المعري لحالة مع الحوداث، فقال:

فإن تقفِ الحوادثُ دون نفسي
فما يتركْن إشمامي وروْمي

وعند النحاة: إخفاء الصوت بالحركة، والإشارة إليها بطرف خفيّ.

والرَّوْمُ والرُّومُ: شحمةُ الأذن.

والرُّوم: جيل من الناس معروف، في بلاد واسعةٍ تضاف إليهم فيقال: بلاد الروم، واختلفوا في أصل نسبهم.

وفي القرآن الكريم: الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ .

وقال عديّ بن زيد العِباديّ:

وبنو الأصفر الملوكُ ملوكُ الـ
رومِ لم يبْق منهمو مذكورُ

بنو الأصفر: كنيةُ الرُّوم.

وقال عبيد الله بن قيس الرقيات:

ذكْرةٌ ما ذكرْتُها أمَّ بكرٍ
بقُرى الروم حين جُزْنا الدروبا

وإذا قوبل العرب بالروم كان ذلك كناية عن العداوة. قال البحتريّ يمدح إبراهيمَ بن الحسنِ بن سهل:

جمع القلوب وكان كلُّ بني أبٍ
عربًا بشحناء القلوب ورُوما

ولمن شاء المزيد في مجال الدلالات والشواهد الشعرية سيجد ضالّته في جزء المعجم الكبير، الذي يتضمن حرف الراء.

صوت من العراق:

في إطلالة على حاضر الشعر في العراق، ندرك عظمة هذه الأرض العربية في إنبات الشعراء المبدعين جيلاً بعد جيل، وزمانًا بعد زمان. فهؤلاء الذين يمثلون الامتداد لشجرة الشعر العربي، هم من جهة قريبة أبناء السياب والبياتي ونازك وبُلَنْد، ومن جهة أبعد أصولًا هم الأحفاد الجديرون بالانتساب إلى الجواهري والرصافي والزهاوي، وهذه الأرض الشعرية التي تُقلِّهم وهذا الأفق الشعري الذي يظللهم، هما امتداد جديد لعصر العبقرية والازدهار في تاريخ الشعر العربي كله، حين صدحت في بغداد أصوات الكوكبة الذهبية فيه من كبار شعراء العصر العباسي، وامتد تأثيرها في أوصال شعراء العربية حتى اليوم.

هذه الإطلالة يهيئها ديوان جميل من المختارات، أعده فقيد مؤسسة البابطينِ الراحل الشاعر والباحث عبد العزيز جمعة، وضمنه قصائد لواحد وعشرين شاعرًا وشاعرة عراقية، شاركوا بإبداعاتهم الجديدة والمدهشة في ملتقى الشعر من أجل التعايش السلمي الذي عقد في دبي من 16 إلى 18 أكتوبر 2011، وصدر هذا الديوان عن مؤسسة البابطين، بعنوان: «قصائد من الشعر العربي المعاصر في العراقً، ممثلا لجميع الأطياف الشعرية وجميع المناطق في العراق.

يستوقفنا في مستهل المختارات صوت الشاعر أجود مجبل، وهو من مواليد سوق الشيوخ عام 1958، تخرج في دار المعلمين عام 1979، ويعمل مشرفًا تربويًّا، ويحمل عضوية اتحاد الأدباء والكتاب في العراق وعضوية اتحاد الكتاب العرب. وأعلن شعره عن تميزه لغةً وبناء قصيدة ونَفسًا شعريًّا مغايرًا للسائد والمألوف، حين فاز بالجائزة الثانية في المهرجان القطري للشعراء الشباب عام 1992، والجائزة الأولى في مهرجان الشعراء الشباب عام 1993.

في قصيدة بعنوان «إليها» يقول أجود مِجْبل:

جسدُ القصيدة يستفيق خيولا
والليل يوقظ حُلمها المقتولا
فتقرّبي مني، لنخطف برهةً
جذلى، سيدهسها الخريف عجولا
وليقترح فمك الصغير على فمي
قُبلا ألمَّ بها الحنين طويلا
وجهي بريدُ الغائبين وبوْحُهم
فلتقرئيه رسالةً ورسولا
للّيل طعمُ سفينة مجروحةٍ
باللا مكان، ولا تطيقُ وصولا
فمتى تعيد لنا الدروب حكايةً
كانت بذاكرة الفرات نخيلا؟
لا تسأليني: كم أحبُّكِ؟ إنني
طفل يحبُّ، ويكرهُ التفصيلا
فالماءُ يرفضُ أن نُفسّر طعمَهُ
والعشق يأبى الشرْحَ والتفصيلا
وأنا وأنتِ شجيرتان تلاقتا
يوما، فراعهما اللقاءُ رحيلا
وأنا وأنتِ، وأيُّ حزنٍ شاهقٍ
لم نكتشف لغةً له، فنقولا
فلكم بكيْنا، والوجوهُ مراكبٌ
غرقت، وأخرى تحضن المجهولا
ولكم تعانقْنا قُبَيْل هبائنا
مذهولةً قد عانقت مذهولا!
لا تسأليني عن غدٍ، فغدٌ مضى
وفصولهُ مرّت تجرُّ فُصولا
لم يبْق إلا الأمس، يحفظُ شكْلَنا
وحفيف هجْسٍ نرتديه جميلا
هذا الغياب مجرّةٌ، وأنا بها
قمرٌ طعينٌ لا يريد أُفولا
متوعّكٌ بالنرجس السّري في
سفر، سقاه الصّالبون سُدولا
وسلالمٍ عدميةٍ، تُغوي الخطى
وتُعيرُ حلم الصاعدين نزولا
في جبهتي مدن تراءت واختفت
وبها ممالكُ أومأتْ لتزولا
ورصاصة جاءت لتسألَ مرّةً
غسق الكلامِ وصحوهُ المخذولا
فرَمَتْ إليَّ عراءهَا، وتوغلت
كي تعلن الأفق الفتيَّ طلولا
فمشيتُ مقتفيا نضوبى، حاملاً
موتي، على عتماتها، قنديلا

***

عصفورك النائي أنا، لم يبتعدْ
إلا استدار به الغروب قفولا
سيعود فانتظريه تحت سحابةٍ
أو خلف غُصنٍ ما يزال خضيلا
ولتهطلي، كالعيد فوق غيابه،
فهواكِ أروع ما يكون هطولا
إني عشقتكِ يا أنايَ مسلّةً
أولى، قرأتُ حُروفَها تقبيلا
أنا ذلك الهيمانُ كلُّ يمامةٍ
عبَرتْ دمي، تركتْ عليه هديلا
وتعفَّرتْ بالزقزقاتِ أصابعي
فرسمْتُ أفْقًا، وافتتحْتُ حقولا
عبّأتُ من شجر السهاد حقائبًا
وبنيْتُ ظلًّا للبروقِ ظليلا
كوني بعيْنيَّ البلادَ جميعها
وانسيْ يديكِ على يديَّ قليلا
فبنا من الشوق الكتيم دفاترٌ
وبنفسجٌ نزفَ النهار ذبولا
والعمر يرحل كالغيوم، حبيبتي
فمتى نلملمُ عصْفَنا المأكولا؟

هذا النسيج الشعري المحكم اللغة، المنسوجة في صنعة قوية واقتدار، يذكرنا بفحولة شعر السياب في وثباته الشعرية العالية وبناء قصائده الباذخة، بل يأخذ بنا إلى ما هو أبعد بكثير من تجليات شعر السياب، يأخذنا إلى الجدّ الشعري العبقري البعيد: البحتريّ، رصانةَ لغةٍ وتدفق إيقاعٍ وانسياب نفَسٍ شعري عارم، وتملُّكا لقصيدته نبضًا وأطرافًا وفواصل، وانتشاءً بانهمار القصيدة سلسة طيّعة في غير مشقة أو إعنات. إنه شاعر عراقي معاصر، مسكون بأرواح شعرية عراقية كبرى، يسير على دربها، ويتجاوزها ليبدع ويقول قصيدته هو وكلمته هو.

وفي قصيدته «نقوش على حقيبة المتنبي » يقول أجود مجبل:

ذاك الذي في براري صوته ساروا
واستأذنَتْه قُبيلَ الماءِ أنهارُ
لم يعرفوا وجد عينيْهِ اللتين هما
زقّورتان، تعرَّت فيهما النارُ
وعندما أنجبتُهُ الشمسُ ذات ضُحًى
حطّت على شجر التاريخ أطيارُ
تشبثت آخر الأوراق هائمةً
به ولاذت بشبّاكيْهِ أشعارُ
ذاك الذي لم يكن في صحن نجْمتهِ
سوى الحروف ومن في سرِّها حاروا
يوما ستخضرُّ هذي الريحُ من دمهِ
كما (على قلقٍ) تخضرُّ أشجارُ (*)
لم يقتبس من أعالي حزنه وطنًا
غير الرحيل، ولم تُومض له دارُ
مغرورق بالسَّبايا، بعضُ هيبته
تورُّقٌ، والبقايا فيه أسرارُ
لطالما لقيتْهُ الريحُ وانكسرتْ
وظلَّ منها على كفَّيْهِ آثارُ
وطالما خسر الأعوام، متكئاً
على الهبوب، وملءُ الوقتِ أصفارُ
ينسلُّ بين تفاسير الغروب إذا
تلعثمت في كتاب الرمل أمطارُ
يسائلُ الليل عن أصحاب وحْشتهِ
وكيف من دمعهم لم يبْقَ تذكارُ؟
فهل تُرى عبروا خلف التماعتهم؟
وهل إلى غيْمةٍ ممحوّةٍ صاروا؟
كانوا قد احتشدوا في البرق واقتسموا
زاد ابن يقطين حيث الليلُ أسفارُ
مرّوا على عربات الصيف أخيلةً
وحول أضرحةٍ مذعورةٍ داروا
فيا حمامة هذا الليل، ما بقيتْ
لا عنكبوتٌ تُواريهم ولا غارُ

وفي ختام قصيدته يقول:

يا أحمدَ القلب، هذي الأرض أرملةٌ
وحيدة، لم يزرها بعدُ آذارُ
فاترك يديك عليها موجتين، فلم
يرجع من البحر يا مولايَ بحّارُ
حملْتَ غُرْبَتك الكبرى على حُلُمٍ
رأيْتَهُ وطنا ينأى وينهارُ
وعُدْتَ كالرمح مفتونا بقامته
ما بين موتيْن عبر البيد تختارُ
ها أنت عيدٌ، لكلّ العائدين إلى
أجسادهم ومزاراتٌ وزُوّارُ
وأنت عنقود ضوءٍ في دفاترهم
مرَّت شموسٌ به شتى، وأقمارُ
الخيلُ كوفيةٌ، والملتقى حلبٌ
وكلَّ دربٍ إليك الآن زخّارُ
املأ كؤوسك واشربْ من توهّجها
نخلٌ نداماكَ، والناياتُ سُمّارُ!

----------------------------------
(*) إشارة إلى قول المتنبي:

على قلقٍ كأنّ الريح تحتي
أوجّهها جنوبًا أو شمالا

 

فاروق شوشة