جدلية الاستبداد والاستضعاف يحيى الرخاوي

جدلية الاستبداد والاستضعاف

الاستبداد في الحب غير الاستبداد في الحكم, والاستبداد في الرأي غير الاستبداد في الفعل, الأرجح أن الخطر الحقيقي لا يكمن في الاستبداد نفسه بقدر ما يتمثل في مناورات إخفائه لتمييع مواجهته, وكذلك في العجز عن التفرقة بين ضرورته المبدئية, ومضاعفاته الخطيرة.

الشائع المتواتر عن (الاستبداد/القهر) هو أنه يتم بفعل فاعل من جانب واحد, لأننا نهمل النظر إلى الجانب الآخر (المفعول به) مع أنه لا تقل مسئوليته عن الجانب الفاعل في ظهور الظاهرة وتماديها, مع أنه يدفع ثمنها أفدح وأظلم.

إن المستبدّ, والمستَبَدّ به, شريكان في ظهور واستمرار الظاهرة بالرغم من اختلاف مسئولية كل منهما, وأيضا برغم اختلاف مضاعفات الظاهرة لدى كلٍّ, المستبَدُّ به يدفع الثمن غاليا: قهرا واستهانة وتهميشا حتى الإلغاء, والمستبِدُّ يدفع الثمن وحدةً واغترابا وانقساما وتفريغا من الداخل, ثم ضياعا لاإنسانيا في نهاية المطاف.

هذا بالنسبة للشائع عن مضمون لفظ الاستبداد حاليا كما يستعمل في مجالات السياسة, والحكم, والمعارضة, والتحريض, أما عن أصل الاستبداد في جذور الطبيعة البشرية, فلعل اللغة العربية - قبل العلوم النفسية - قد استطاعت أن تلتقط وتستوعب هذه الجذور لتضمّنها هذا اللفظ, حين نستقرئ اللغة دون تحيز سابق, ودون غلبة ما شاع عن اللفظ أخيرا, نفاجأ بأن أصل لفظ الاستبداد في ذاته بريء مما احتواه لاحقا من مضامين. نحن نقصر استعماله حالا على ما هو قهر وظلم وغطرسة واستعلاء, في حين أنه أصلا يشير إلى الانفراد والغلبة. في أساس البلاغة: (استبد بالرأي انفرد به), وفي تاج العروس: (استبد فلان به أي (تفرّد به دون غيره), وفي لسان العرب (واستبد برأيه انفرد به). فإذا انتقلنا من الرأي والشخص إلى الأمر والفصل, فإن المعنى يتحرك إلى ما نسميه الآن: (حكم الفرد) أو (الحكم الشمولي), ففي حديث عليّ رضي الله عنه (أشار إليه ابن منظور وذكر نصه الزبيدي)...(كنا نرى أن لنا في هذا الأمر حقا فاستبددتم به). ثم إنه كما يستبد الشخص بالأمر يستبد الأمر بالشخص (استبد الأمر بفلان إذا غلبه فلم يقدر على ضبطه), حتى بدا كأن في الاستبداد حزمًا مطلوبًا)...إذا عزم على أمر أمضاه ولم يثنه عنه شيء (أساس البلاغة).

يمكن أن نحدد منطلقاتنا في الحديث عن الاستبداد على محاور عدة: أولا: تطور مراحل الاستبداد. ثانيا: المسئولية المشتركة في عملية الاستبداد. ثالثا: تجليات الاستبداد, وأخيرا: جدلية الاستبداد والاستضعاف.

تطور مراحل الاستبداد

أن تستبد برأيك بدء ولادته حتى لو كان ذلك في عمق اللاوعي, هذا أمر وارد, بل هو مطلوب, وإنكار ذلك مخالف للطبيعة البشرية, ومضيّع لفرص الحوار الحقيقي, لا أحد يبدأ - داخل نفسه - إلا من موقع متفرد محدد جدا, وبذلك يمكنه أن يكون متيقنا من نقطة انطلاقه, مستبعدا غيرها, حتى إذا لم يكن هذا الموقف المحدد باديا في ظاهر الشعور, فإنه يظل حاضرا في عمق الوعي, حتى لو تخفّى وراء ظلالة من ميوعة الغموض وادّعاء قبول الآخر, وزعم الحرية دون شروط, فإذا ظهر هذا الموقف المستبدّ (المتفرّد) على سطح الوعي, فهو الرأي البدء القابل للحركة والجدل والتحريك والمواجهة, ذلك أنه بعد ذلك - بعد ظهوره - يصبح في متناول وعي الآخر, كما يدخل اختبار واقع ملموس, فإذا استمر - برغم ذلك - كما هو بنفس التفرّد والصلابة, لا يهتم برأي الآخر, ولا يتطور إلى ما يطوّره من واقع الواقع, فهو الاستبداد بالرأي (وليس الاستبداد البدء) وهنا يمكن أن يوصف بالتعصب والعمى والتحيز والجمود.

فإذا كان صاحب هذا الرأي المستبد ذا سلطة محدودة (والد أو مدرس مثلا) فقد انتقلنا إلى احتمال الاستبداد (بالأمر) (بالفعل) حين يفرض هذا الرأي - تنفيذا - على غيره من الأضعف والأحوج. أما إذا كانت سلطته شاملة تمتلك أسلحة الإغارة على الوعي (الإعلام) وعلى الفعل (الاستغلال والاستعمال) فهو الاستبداد الشمولي, والدكتاتورية, وما إلى ذلك.

نحن لا يمكن أن ننكر أن في هذه النظم المسمّاة استبدادية - خصوصا في بداية انطلاقها - ما يشير إلى إيجابية ما (لعلها تتوازى مع بعض ما لاحظناه من استقراء اللغة) لكن المصيبة الكبرى تتحقق من خلال آليتي (التمادي) و(التعميم). إن قائد مجموعة من الثوار حين يستبد برأيه في اجتماع سري محدود أثناء فترة الإعداد, قد يكون على حق وهو يمارس اختراقات التردد ليتغلب على بلبلة التخوفات, أو ميوعة الأغلبية, لكن هذا القائد نفسه حين يستبد برأيه بعد أن يتولى السلطة, ويملك ناصية الفعل والفرض بشكل شامل, يصبح استبداده برأيه مجلبة لمصائب ليس لها علاقة لا بالثورة ولا بإيجابيات التفرّد. هنا ننتبه إلى أن العيب ليس في فكرة الانفراد ذاتها, لكنه في الخلط بين الحاجة إلى بداية تحتاج إلى الحسم الجسور, وبين التمادي في فرض الرأي على الجميع من موقع السلطة:

المحور الثاني: المسئولية المشتركة

لا أحد يولد فرعونا, حتى لو كان ابن فرعون, إن التفرعن ينشأ من الاحتياج إليه, ثم إنه يتمادى بفضل من يسمح به, ويزكّيه وينمّيه. يبدو أن هذا هو بعض ما نمى إلى وعي الشعب المصري وهو يطلق مثله الشهير (قالوا لفرعون إيش فرعنك, قال: ما لقيتش حد يردني).

من حيث المبدأ يكاد يستحيل تصور أن ظاهرة بهذا التعقيد, وهذا التمادي يمكن أن تظهر وتستمر إلا في مناخ يسمح بها, وأحيانا يباركها, المستبَدُّ به يشارك في إرساء قواعد الاستبداد بالضعف, والاستسلام, والاعتمادية والتخلي عن حقوقه. لا عيب في الضعف باعتباره مشروع القوة القادمة, لكن العيب في الاستضعاف.

لقد فرّق القرآن الكريم بشكل حاسم بين الضعف والاستضعاف. احترم الضعف وغمر أصحابه بالرحمة والعفو يُريد اللهُ أنْ يُخَفّف عَنكُم وخُلق الإنسان ضعيفًا الآنَ خَفَّف اللّهُ عنْكُمْ وَعَلِمَ أنَّ فيكُمْ ضعْفًا لكنه نبّه إلى خطورة ومسئولية المستضعفين, وأنهم ظالمو أنفسهم إنَّ الَّذينَ توفَّاهم الملائكةُ ظالمي أنفسهم قالوا فيم كُنْتُم قَالُوا كُنَّا مستضعفينَ في الأرْضِ قالوُا أَلَمْ تَكُنْ أرضُ اللهِ واسعةً فتُهَاجِروا فِيها - ومع الاختلاف حول معنى (أرض الله) ومعنى (الهجرة) فإن الآية الكريمة صريحة في التنبيه على رفض التسليم, من حيث أن قبول الظلم هو إسهام في تحقيقه وتماديه.

الخطر

الخطر الحقيقي - هو في التوقف عند مرحلة الاستبداد بالفعل - وليس فقط بِبِدْءِ الرأي. يتم ذلك ليس فقط من خلال غطرسة المستبد المتزايدة, ولكن أيضا باستمرار المستضعف في الاستسلام الفعلي, حتى لو جَأَرَ بالشكوى. إن آلية الاستبداد وآلية الاستضعاف تغذي بعضها بعضا.

يبدأ المستبد باختبار مجال سلطته بقرون استشعار ترصد نوع تلقي استبداده, فإذا وجد تراجعا تقدم, ثم يتواصل تمادي الاستبداد وانتشاره مع تمادي الاستضعاف والاستسلام والتراجع, وهنا يصل المستبد إلى الخدعة الكبرى, فبدلا من أن ينتبه إلى الخطر الذي يحيق به قبل ضحاياه, إذا به ينخدع فيتصور أن هذا النجاح الزائف هو نتيجة صفاته المتفردة, فهو يستشعر آنذاك في نفسه قوة غير حقيقية, ويغيب عنه أنها ليست سوى محصلة عماه الذي تضاعف مع تهاوي المقاومة التي كان يمكن أن تفيقه.

مسلسل التمادي

تقول الآية الكريمة في فرعون موسى: فاستخفَّ قومه فأطاعوه, يصلني من هذه الآية أيضا صحة عكس الاتجاه, بمعنى يفيد أن القوم حين أطاعوا الفرعون, استخفهم, ثم إنه استخفهم أكثر فأطاعوه أكثر. هكذا نفهم كم أن التمادي المغلق الدائرة المتفاقم التصعيد, هو سر دوامية الاستبداد وتعاظم مضاعفاته.

إن غياب المقاومة الحقيقية بكل صورها, من أول فاعلية أحزاب المعارضة التي لا بد وأن تَعِد (أو تهدد) بتداول السلطة, حتى ضغط الرأي العام بكل الصور المشروعة, والمهددة باختراق الشرعية, غياب كل ذلك هو الذي يشجع الحكام المستبدين على الاستخفاف بالمستضعفين, ومن ثم التهميش, حتى الإلغاء تماما.

تجليات الاستبداد

ومن واقع ما سبق, بدءًا من أصل المضمون وقبولا بمشروعية البدايات, وتحذيرا من التوقف والتمادي والتعميم, يمكن رصد فشرح عدد غير قليل من مجالات ومظاهر الاستبداد من أول إيجابياته النفسية في تربية الأطفال حتى دوره السلبي في تفرد شركات الدواء بزرع أفكار مطلقة شبه علمية في عقول الأطباء (لاسيما صغارهم), مرورا باستبداد بعض المناهج العلمية - دون سواها - لاحتكار تعريف ما هو علم, انتهاء باستبداد القوة العالمية الجديدة لاحتكار الحرية تحت اسم الديمقراطية, واحتكار الحضارة تحت اسم التقدم, واحتكار أمل الوجود البشري في التطور تحت مسميات مثل مجتمعات الوفرة والرفاهية.

الاستبداد في الحب

يقول عمر بن أبي ربيعة وهو ينشد:

ليت هندًا أنجزتنا ما تعدْ وشفت أنفسنا مما تجد
واستبدت مرة واحدة إنما العاجز من لا يستبد


هل كان عمر بن أبي ربيعة يمزح أو يناور وهو يتمنى على هند أن تستبد به ولو مرة واحدة, أم أنه كان ينبهنا إلى عمق هذه الحاجة ومشروعيتها وهو يعلنها بلسان رجل خبير?

إننا نميل إلى تفخيم رجولة الرجل بإطراء خشونته أو التلميح بفحولته, فكيف نفهم أمنية عمر بن أبي ربيعة أن تستبد به هند وهو يعلنها صريحة هكذا? إننا - أيضا - نصوّر ونتصور أنوثة المرأة بشكل إن دل على شيء فهو يدل على طغيان المفهوم الاجتماعي (المحلي) على المفهوم البيولوجي/الوجودي للأنوثة, إن التركيز على تصوير أنوثة المرأة, من خلال البعد الاجتماعي المتخلف باعتبارها تمارس موقف المتلقي الناعم السلبي المستجيب بأقل قدر من المبادأة, هو موقف خاطئ ناقص. المرأة لا تتفجر أنوثتها الفطرية, إلا إذا احتوت ذكورتها في تكامل خلاق.

ذكورة المرأة ليست استرجالا, بل هي تأكيد لأنوثتها, حتى من وجهة نظر هرمونية. إن اللقاء الأنجح والأكمل بين المرأة والرجل يكون لقاء رباعيا بين أربعة وليس اثنين, وذلك حين يسمح الرجل لأنثاه الداخلية أن تحضر لتحتوي ذكورة شريكته, في حين تسمح المرأة لذكورتها الكامنة أن تخترق تردُّدَ شريكها. إن جاذبية المرأة الجسور, (المستبدة), التي لا تنتقص من أنوثتها بل تُضاعفها, لا تخفي على المبدعين (والمؤرخين) عبر التاريخ. أشير استطرادا إلى مثالين من السينما: الغجرية: لندادارنيل في: فيلم عنبر إلى الأبد في أواخر الأربعينيات أو أوائل الخمسينيات ثم فيلم (شباب امرأة), وفيه تحية كاريوكا, تجسّد هذا الدور بكفاءة, ربما تتسق مع سمات شخصيتها بشكل أو بآخر. هكذا قدمت السينما للشخص العادي حضور المرأة المستبدة فائقة الأنوثة.

دورات التبادل

لا يمكن أن نستوعب معنى الجدل دون مسخه, إلا ونحن نعايش حركيته مع الزمن وحيوية الإيقاع. إذا اعترفنا ابتداء - كما حاولنا في البداية - أن علينا أن نعطي للاستبداد مشروعية مبدئية تمهيدا لتجاوز مضاعفاته, ثم اعترفنا أيضًا بمشروعية مبدئية للاستضعاف على مسار تجاوز سلبياته, فعلينا أن نقبل في الوقت نفسه دورات التبادل حيث يصبح المستضعف مشروع مستبد, في حين يتراجع المستبد إلى مشروع مستضعف وهكذا. لعل هذا هو ما أشارت إليه الآية الكريمة: ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين , كما لعل هذه الدورات أيضا تكمن فيما تلوّح به الديمقراطية من (تداول السلطة).

حتى الوالد الذي أشرنا إلى حاجة الطفل إلى استبداده, حين يعمّر ليصبح كهلا جميلاً, يصبح أحوج ما يكون إلى من يستبد به ليعينه.

الخلاصة

أخلص من كل ذلك إلى تحديد الفروض التي حضرتني من خلال هذه الإحاطة المتنوعة على الوجه التالي:

أولاً: إن كلا من الاستبداد والاستضعاف طبيعة بشرية عامة.

ثانيًا: إن ظهور, وقبول أي منهما يتوقف على المرحلة, التي تظهر الظاهرة فيها, ثم على توظيف أي منهما لغرض بذاته, في طور بذاته, من أطوار الوجود والنماء.

ثالثا: إن الاستبداد (بالمعنى الذي ورد في المقال كله) ضرورة مبدئية مرحلية, لكن التمادي فيه فعل شمولي جامد, يحقق عكس ما تعد به بداياته.

رابعًا: إن (الاستضعاف) حق مرحلي مشروع, لكن التوقف عنده هو ظلم المستضعف لنفسه, بل وللمستبد به, لأنه يوقف الحركة للاثنين معًا.

خامسًا: إنه بتبادل الأدوار, من خلال الإيقاع الحيوي للأفراد, ومن خلال تداول السلطة للجماعات, ومن خلال دورات الحضارة للأمم, بهذا التبادل تطّرد حركية جدلية تسمح باستيعاب هذه الحاجات الأساسية لتتخلق منها حيوية نابضة واعدة باطّراد التطور دون اختزال أو استقطاب.

 

يحيى الرخاوي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات