شعراء كتبوا بدم القلب رفيق المعلوف

شعراء كتبوا بدم القلب

ثلاثة شعراء ماتوا في ريعان الشباب. ارتفعوا في عقد الثلاثينيات من القرن الماضي كنجوم مضيئة ثم هووا كشهب محترقة, هم: أبو القاسم الشابي وفوزي المعلوف وإبراهيم طوقان الذين عاشوا في حياتهم القصيرة شهودًا على الحق الذي لا يموت.

في التاسع من أكتوبر 1934, توفّي الشاعر التونسي النابغة أبو القاسم بن محمد الشابي الذي انتقل إلى الملأ الأعلى وهو في شرخ الشباب وأوج العطاء, لم يتجاوز الخامسة والعشرين من عمر قضاه بين سراب الأمل وحراب الألم.

وقد حالت الأزمات الراهنة التي يتخبّط فيها العالم العربي دون أي احتفال رسمي أو شعبي بذكرى الشاعر الكبير الذي مرت سبعون سنة على وفاته دون أن تتزايل نغماته الشجيّة من ذاكرة الأجيال المخضرمة والجديدة على حد سواء. فاكتفى بعض المعجبين بعبقرية الشابيّ وقادري شعره, بزيارة ضريحه في بلده (الشابيّة) التونسية التي ولد فيها سنة 1909.

وتقع (الشابيّة) في ضواحي مدينة (تَوْزرْ) من أعمال منطقة (الجريد) في الجنوب التونسي, على بعد يناهز 400 كلم عن تونس العاصمة, ويتألف (شطّ الجريد) من بحيرة مالحة ذات مناظر خلاّبة, على منخفض من الأرض تحيط به واحات مترامية خضراء من البرتقال والنخيل, وينابيع مياه عذبة تتدفق عبر الزرائع اليانعة والقرى الحالمة.

هناك في تلك الغياض العابقة بالعطر والزهر وألوان الطبيعة الساحرة, نشأ أبو القاسم وترعرع, وظلّ قلبه يخفق مدى حياته القصيرة ومعابرها المحفوفة بالضنك والضيق, شوقًا وحسرة وأسفًا لمرور أيام الصبى ونعيمها المفقود. فيقول في قصيدته (الجنّة الضائعة):

كمْ من عهودٍ عذبةٍ في عَدْوَةِ الوادي النضيرْ
فِضِّيةِ الأسحارِ مُذْهَبَةِ الأصائِلِ والبكورْ
قضيَّتُها ومعي الحبيبةُ لا رقيبَ ولا نذيرْ

وقد تأثر الشاعر إلى أبعد مدى بوالده الشيخ محمد بن أبي القاسم الذي كان يتميّز بالعلم الوافر والخلق السويّ, وهو خريج الأزهر في القاهرة, أيام الإمام محمد عبده داعية الإصلاح السياسي والاجتماعي الأول في عصره. وقد عيّن قاضيًا شرعيًا بعد رجوعه إلى تونس, وتولى القضاء في مدن تونسية عدّة.وفي سياق أعوام الحداثة والشباب الأول كان أبو القاسم يتنقّل تحت عباءة والده من منطقة إلى أخرى, فيتملّى جمال تونس وروق طبيعتها, مع إكمال دراسته في جامعة الزيتونة التي تخرّج فيها سنة 1928, بعدما شارك مشاركة فاعلة في الحركات الإصلاحية التي قام بها الطلبة لعصرنة مناهج التعليم.

ولكن الكارثة التي حلّت بالعائلة جمعاء وانسحق الشاعر تحت وطأتها, كانت إصابة والده بداء عضال أودى بحياته سنة 1929, فوجد أبو القاسم نفسه وحيدًا أعزل, بين أم تغالب أحزانها وأخوة وأخوات صغار فقدوا الوائل والمعيل, يضاف إلى ذلك أنه كان قد تزوّج نزولاً عند رغبة أبيه ورزق ولدين. غير أن ابتلاءه بمرض القلب أرغمه على التوحّد في الريف, والإقامة بين أحضان الطبيعة والغابات والجبال بقية عمره, حسبما أشار به الأطباء, معرضاً عن أي رياضة جسديّة متجنّبًا كلّ إرهاق.

وقد دبّ اليأس في أعماق نفسه المعذّبة, فأنشأ يقول في قصيدة (النبي المجهول):

يا صميمَ الحياةِ كم أنا في الدنيا غريبٌ أشقى بغربة نفسي
فاحتضنّي وضُمّني لك بالماضي فهذا الوجود علّة يأسي

كما أن كَلَفه بالطبيعة وعبادته الجمال, جعله لا يقوى على التحرّر من فكرة الموت التي انطبع بها شعره أيّما انطباع, حتى لتظهر كلمة (موت) أو ما يرادفها في قصائده جمعاء.

فيقول في قصيدة (مأتم القلب):

ماتَ حبّي ماتَ قلبي فاذرِفي يا مقلةَ الليلِ الدَّراري عبراتْ

أو في قصيدة (الدموع):

ضاعَ أمسي وأينَ منّيَ أمسي! وقضى الدهرُ أن أعيشَ بيأْسي
كخيالٍ من عالمِ الموت ينسابُ بصمتٍ ما بين رمسٍ ورمسِ

إلاّ أنه كان في بعض حالاته المتفائلة النادرة ينتفض ويثور فيتألق بأبيات من الشعر خالدة يتغنّى بها الركبان في ديار العرب قاطبة, بحيث بقي إلى اليوم اسمه مرادفًا لقوله:

إذا الشعبُ يومًا أرادَ الحياةَ فلابدّ أن يستجيبَ القدرْ
ولابدّ للّيلِ أن ينجَـــلي ولابدّ للقَيْدِ أنْ ينكسِرْ

وقد جمعت قصائد الشابي بعد وفاته في ديوان (أغاني الحياة, الذي طبع سنة 1955, إلا أنه ظهر نقص في تواريخ القصائد وعددها, فضلا عن الأخطاء المطبعية والعروضية الجسيمة التي نتجت عن إهمال الناشرين.

ولم يترك أبو القاسم أي أثر شعري آخر كما لم يصدر له أي كتاب نثري, باستثناء (الخيال الشعري عند العرب), وهو كتيب نشره في حياته يحتوي محاضرة ألقاها سنة 1929, أصبح مفقودًا لم يفكر أحد بإعادة طبعه.أما يومياته ومحاولاته القصصية ومقالاته وأبحاثه الأدبية القيّمة فمنتشرة في الصحافة الأدبية خلال النصف الأول من القرن العشرين. وله مراسلات مع الشعراء: علي الناصر في حلب, وإبراهيم ناجي, وأحمد زكي أبو شادي صاحب مجلة (آبوللو) في القاهرة, ومع بعض معاصريه من الأدباء والشعراء التونسيين, ولم يتم إلى اليوم جمع هذا النتاج الغني بالفكر والنقد الذي يتناهى إليه النسيان بتوالي الزمان.

شاعر الطيارة

أما فوزي عيسى المعلوف (شاعر الطيارة) فقد كان أول العباقرة الثلاثة الخالدين الذين فجعت بهم الأمة العربية بين عامي 1930و1941, فعم الحزن والأسى شعوب المنطقة وأوساطها الفكرية والثقافية والاجتماعية في زمن كان الاستعمار الأوربي جاثما على صدور العرب في معظم أقطارهم. فأضاف إلى تلك الفواجع إحساسًا بالألم واليأس والتشاؤم لاتزال أصداؤه تترجع في أعماق النفس العربية إلى يومنا هذا.

ولد فوزي المعلوف في مايو سنة 1899, في مدينة زحلة اللبنانية, وانتقل إلى رحمة الله في البرازيل في شهر يناير 1930 وهو ابن الثلاثين ربيعًا. وقد نشأ فوزي في بيت مولع بالأدب والشعر, أنجب طبقة رفيعة من الشعراء, فأبوه المؤرّخ العلاّمة عيسى اسكندر المعلوف مؤلف (تاريخ الأسر الشرقية) وكتاب (دواني القطوف) في أنساب أهل زمانه من سكان بلاد الشام, وجذور الأسرة المعلوفية الغسّانية, كان يقرض الشعر في الوقت نفسه. وجدّه لأمّه إبراهيم باشا نعمان المعلوف أنجب خمسة شعراء من أخوال فوزي بعضهم حظي بالشهرة العريضة. وكان لفوزي شقيقان شاعران هما: شفيق الذي يحتلّ منزلة عالية بين الشعراء العرب الكبار, ورياض الذي تميز إنتاجه بالأوصاف الرومنطقية والعاطفة الجيّاشة.

وكان من الطبيعي أن يتأثر فوزي بالأجواء الشعرية التي أحاطت به منذ نعومة أظفاره, فنظم الشعر وهو في الثالثة عشرة, وفاق معاصريه جميعًا في صناعة القريض قبل وصوله إلى السابعة عشرة من عمره. ولكن قصائده انطبعت منذ أيام الدراسة في الكلية الشرقية بزحلة أو في بيروت ودمشق, بفكرة الموت والفناء, فنسمعه يردّد:

أَلمٌ كلُّها الحياةُ فلا تُضحِكُ ثغرًا إلاّ لتبْكي عيونا

ويبلغ التشاؤم أوجه عند فوزي المعلوف في ملحمته الشهيرة (على بساط الريح), أو (شاعر في طيّارة) التي نشرت للمرة الأولى سنة 1926 في مجلة (الجالية) بمدينة سانباولو. وكان فوزي قد هاجر إلى البرازيل التي اتخذها الكثيرون من أنسبائه المعالفة وطنًا جديدًا لهم, وأنشأوا فيها جمعية ضمت نخبة مميّزة من شعراء المهجر, باسم (العصبة الأندلسية), حيث كان الحنين إلى أمجاد العرب يذكي الأمل في نفوسهم, والرغبة في التعويض عن ضياع الأندلس بملك أدبي عريض في البرازيل التي أطلقوا عليها اسم (أندلس الجديدة).

ومما قاله فوزي والباخرة تقلع به من بيروت سنة 1921, وهو يرمق بحزن غامر جبال لبنان من على صفحة اليمّ:

لَهَفي للربوعٍ تُضحّي وتُمْسي وهيَ خلوٌ إلاّ من التنكيدِ
ينزحُ الساكنونَ عنها, ووجهُ الأرضِ رحبٌ, إلى المزارِ البعيدِ
ولَو أنَّ الأصَمَّ يسمعُ صوتًا صرخوا بالبواخرِ الصمِّ: عُودي

والواقع أن بلاد الأندلس توطّنت قلب ذلك الشاعر الحسّاس منذ أيام الصبا, فألف وهو في السادسة عشرة رواية (ابن حامد) أو (سقوط غرناطة) شعراً ونثرًا, ولاتزال قصيدته الشهيرة التي مطلعها:

غرنـاطـةٌ, أوّاه غرنـاطـه! لم يبقَ شيءٌ لكِ من صولتِكْ
ما نهرُكِ الجاري سوى مَدمعٍ يبكي على ما دال من دولتِكْ

لاتزال ترجمة هذه القصيدة التي نقلها كبير شعراء الإسبان فرنسيسكو فيلاسباسا إلى الإسبانية محفورة على لوحة رخامية في قصر الحمراء الشهير بغرناطة.

وبالعودة إلى ملحمة (على بساط الريح), لابدّ من الإشارة إلى أن فوزي المعلوف ركب إحدى الطائرات السياحية الصغيرة في البرازيل, وكان أول شاعر في العالم يدوّن انطباعاته خلال رحلة فضائية في 14 نشيدًا من روائع الأثر الخالد. وقد ترجمت هذه الملحمة الشعرية الفلسفية والإبداعية إلى 36 لغة عالمية.

وكان حلم الطيران الذي راود البشرية منذ نشأتها, وبدأ يصبح واقعًا في أوائل القرن العشرين, قد خلب العقول واستنطق الشعراء الملهمين كما تعهّد الدهشة والحيرة إزاء مصائر الحياة والكون. وقد سبق لفوزي المعلوف أن تأثر بمصير الطيار العثماني فتحي ورفيقه صادق اللذين سقطت بهما الطائرة في قرية (سَمْخ) بالقرب من بحيرة طبريا سنة 1914, فنظم في تلك الحادثة قصيدة جاء فيها:

يا مَنْ سَموْتَ إلى العلى فبلَغْتَهُ وسبَقْتَ أسرابَ الطيورِ طِرادا
فتَخِذْتَ ثوبَ السافياتِ سوابحًا كفنًا, وأطباقَ السحابِ وسادا

ويبلغ الألم والتشاؤم واليأس مداه في ملحمة الطيّارة هذه, حيث يركّز الشاعر تركيزًا عميقًا على غربته في عالم التراب, وينحي باللاّئمة على الإنسان الذي سخّر الكون لعلمه وهو في حقيقته عبد مكبّل بسلاسل العبودية:

أنا عبد الحياة والموتِ أمشي مكرهًا من مهودها لقبوره
عبد عصر من التمدّن نلهو ضلّةً عن لبابه بقشوره

هكذا كان فوزي المعلوف يتحسّس الموت, يرصده ثم يتلمّسه ويلتمسه منذ أن نشر (على بساط الريح) قبل أربعة أعوام من وفاته. ثم شرع في وضع آخر دواوينه الشعرية ملحمة (شعلة العذاب) التي فاجأه الأجل قبل أن تكتمل, إثر عمليّة جراحية فاشلة استعصت في ذلك العصر على الأطباء. ومن أروع ما يقوله في هذه الملحمة التي أنجز منها ستة أناشيد فقط:

إيه يا موتُ لا تمسَّ خلودي فاقضِ ما شئتَ لستَ وحدكَ تَقْضي
فأنا خالدٌ بشعري على رغمِ زمانٍ عن قيمةِ الشعرِ يُغضي

أو يقول:

يولدُ الطفلُ للعذابِ وهذي سُنَّةُ الدَّهرِ وُقِّيَ المرءُ شَرَّهْ
بين أوجاعِ أمّه يدخل المهدْ وَبَيْنَ الأَوْجاع يدخُلُ قَبْرَهُ

وقد طبع لفوزي ديوان شعر ناقص تضمّن بعض قصائده عام 1957, لكن الجزء الأكبر من روائعه الشعرية وموشحاته الأندلسية وديوان (تأوهت الروح), وديوان (من قلب السماء), وغيرها من الأعمال الشعرية والنثرية الرائعة بقيت مخطوطة غير طبوعة في المكتبة المعلوفية في زحلة.

صريع القوافي

أمّا الفارس العبقري الثالث صريع القوافي والغواني إبراهيم بن عبدالفتاح طوقان, فيختلف عن أخويه فوزي المعلوف وأبي القاسم الشابّي في كونه لم يعرف اليأس في حياته المضطربة يومًا, ولا نزع إلى التشاؤم والانهيار الوجداني, بالرغم من دائه الجسدي المزمن وآلامه المبرّحة, ومرائر الخيبة التي لقيها في كفاحه الوطني الطويل, وطموحه الغرامي المنتكس بين غمرات السراب. وقد تأخر أجله بفضل روحه المكابرة إلى السادسة والثلاثين من العمر في حين أن أبا القاسم رحل في السادسة والعشرين, وفوزي بعده في الثلاثين.

فقد ولد إبراهيم سنة 1905 في نابلس ونشأ بين عهدين مظلمين من تاريخ فلسطين, عهد الاستعمار التركي الفاسد بنهاية الإمبراطورية العثمانية, وعهد الانتداب البريطاني الذي حضن الهجرة اليهودية إلى فلسطين, وكان معبرًا لنشوء دولة إسرائيل فيها.

وبعدما أتمّ دراسته الابتدائية في (المدرسة الرشادية الغربية) في نابلس بين 1914 و1918 خلال الحرب العالمية الأولى, وحفظ القرآن كما ألمّ بالآثار الإسلامية السلفيّة وتمكن من قواعد العربية والشعر القديم, انتقل مع أخيه أحمد إلى (الكليّة الإنجليزية) في القدس بين 1919 و1923, ثم التحق بجامعة بيروت الأمريكية, التي قضى فيها ستة أعوام من 1923 إلى 1929, أفرخ عوده خلالها وبلغ أشدّه فتملّى من ثقافة عصره وبدائع فنونه وعلومه.

كلّ شيء في تلك المرحلة العصيبة من صولة الاستعمار وسطوته, كان يدعو الشباب العربي إلى الكفاح لتحرير الوطن العربي, ويتمثل في فلسطين خصوصًا بمحاربة الصهيونية والهجرة اليهودية إلى أرض العرب ومقدّساتهم. فتألق إبراهيم بشعره الوطني والقومي حتى بات يتمتع بشعبية واسعة في المؤسسات العلمية والجامعات, ولدى الأحزاب والهيئات النضالية على اختلاف مشاربها وانتماءاتها.

وقلّ من أهل زمانه من لم يردّد قوله الشهير:

وطنٌ يباعُ ويُشترى وتصيح: (فلْيَحْيى الوطنْ)
لو كنت تبغي خيرَهُ لبذلتَ من دمكَ الثمنْ

أو من لم يحفظ نشيد (موطني) الذي مطلعه:

الجمالُ والجلالْ والسناءُ والبهاءْ في رُباكْ
والحياةُ والنجاةْ والهناءُ والرجاءْ في هواكْ

وتعتبر قصيدته (الثلاثاء الحمراء) من روائع الشعر الوطني في تاريخ العرب الحديث, وقد نشرها (الأخطل الصغير) بشارة الخوري في جريدة (البرق) في بيروت, وعلّق عليها بقوله: (هذه العواطف الفيّاضة والصور الشعرية البارعة يلبسها إبراهيم ألوانها الممتازة... للحزن لونه, وللعنف لونه... فيحسّ القارئ وكأن الشاعر استشهد ثلاث مرات مع الشهداء الثلاثة!).

وكانت السلطات المنتدبة قد أعدمت شنقًا يوم الثلاثاء الموافق 17 يونيو (حزيران) 1929 ثلاثة من المجاهدين الفلسطينيين, هم: فؤاد حجازي, محمد جمجوم, وعطا الزير, بتهمة قتل اليهود في الحوادث التي عمّت المدن الفلسطينية, بسبب انتهاك صهيوني للمسجد الأقصى.

الأمر الذي كان له الأثر المؤلم في نفوس الفلسطينيين والعرب عمومًا, ونظم إبراهيم قصيدته الشهيرة بالمناسبة التي يقول فيها:

اليوم تنكره الليالي الغابرة وتظل ترمقه بعين حائرة
عجبًا لأحكامِ القضاءِ الجائرة فأَخفُّها أمثالُ ظلمٍ سائرةْ
وطنٌ يسيرُ إلى الفناءْ بــــلا رجــــاءْ
والداءُ ليس له دواءْ إلاّ الإبـــــــاءْ
إنّ الإباءَ مناعةٌإنْ تشتَمِلْ نفسٌ عليه تَمُتْ ولمّا تُقْهَرِ
والموتُ في أخذ الكلام وردّه فخُذِ الحياةَ من الطريق الأقصَرِ

تلك نماذج من شعر إبراهيم طوقان الوطني الذي ملأ صحافة عصره والكثير منه لم ينشر في ديوانه الذي أصدره أخوه أحمد سنة 1955, لكنه بقي على ألسنة الناس عقودًا طويلة بعد وفاته.

وهو بمقدار ما ألهب الجماهير بقصائده الوطنية, استطاع أن يتصدر شعراء الغزل إلى جانب (الأخطل الصغير) في لبنان خلال النصف الأول من القرن العشرين, وكانت أشعاره الماجنة والوجدانية تتردّد معًا على كلّ شفة ولسان حتى شُبّه عند نقّاد الأدب بعمر بن أبي ربيعة, ولقب (صريع الغواني).

وقد مرّ أسلوبه الشعري في الغزل بمراحل ثلاث, نختار لكل مرحلة منها قصيدة نموذجية. ومعظم هذا الشعر نظمه إبراهيم في بيروت التي كان مجتمعها المنفتح يتقبل ذلك النوع من التشبيب أكثر من مجتمع نابلس أو القدس أو غيرهما من المدن الفلسطينية المحافظة.

وأولى تلك المراحل التي ذكرت هي مرحلة انتماء إبراهيم إلى جامعة بيروت الأمريكية بين عامي 1923 و1929, حيث كان (التعليم المختلط) في بدايته يهزّ أفئدة الشبان والصبايا خلال تفاعلهم العلمي وزمالتهم الدراسية. ومن أروع ما فاضت به قريحة إبراهيم, وهو على فراش المرض بمستشفى الجامعة, حيث لم يفارقه داؤه المستعصي الذي كان يعاوده من حين إلى حين, قصيدة (ملائكة الرحمة) المتعلّقة بالممرّضات, وقد نشرتها مجلة (المعرض) لصاحبها ميشال زكور سنة 1924, ويقول فيها:

بيضُ الحمائم حسبُهُنَّةْ أني أُردّدُ سجعَهُنَّهْ
رمز السلامة والوداعة منذُ بدءِ الخَلْق هُنََّهْ
المحسِناتُ إلى المريضِ غدَونَ أشباهًا لَهُنّهْ
يشفي العليل عناؤهُنَّ وعطفُهنَّ ولطفُهُنَّهْ
مُرَّ الدواء بفيكَ حلوٌ من عذوبة نطقِهِنَّهْ
ولربما انقطعَ الحمائمُ في الدجى عن شدوِهِنَّهْ
أمّا جميلُ المحسناتِ ففي النهارِ وفي الدُجُنَّهْ

وثمة قصائد لا عدّ لها ولا حصر نظمها إبراهيم في بنات صفّه الفاتنات المتحفّظات خلال دراسته في الجامعة الأمريكية.ولكن أجمل ما قاله في تلك المرحلة على الإطلاق هي قصيدة (يا تين. يا توت) التي لا تزال إلى اليوم رائجة بين شبان الجامعة الأمريكية والعاصمة اللبنانية عمومًا. ففي سنة 1928 انتسبت إلى الجامعة صبيتان دمشقيتان من عائلة (تين) هما ليلى واليس, وكانتا على درجة خارقة من الجمال, ففتن بهما شبان تلك الدورة وفي طليعتهم إبراهيم الشاعر, وكانت التحفة الأدبية الرائعة التي يقول فيها:

يا تينُ. يا توتُ يا رمّانُ. يا عنبُ يا درُّ. يا ماسُ. يا ياقوتُ. يا ذهبُ
الله, الله, ما هذا الدلالُ? وما هذا الصدود? وما للقلبِ يضطربُ

يا تينُ. يا توتُ يا رمّانُ. يا عنبُ

الشمس ما الشمسُ إنّ الشمسَ تنكسفُ البدرُ. ما البدرُ. إنّ البدرَ ينخَسِفُ
الدمعُ. ما الدمعُ. إنّ الدمعَ ينذرفُ يا منية القلبِ, هل وصلٌ وأنصرفُ

يا تينُ. يا توتُ يا رمّانُ. يا عنب

يا تينُ يا ليتَ سرحٌ التينِ يجمعُنا يا توت. يا ليتَ ظلَّ التوتِ مضجعُنا
وأنت ليتك يا رمّان ترضعنا والكرم. يا ليت بنتَ الكرمِ تصرعنا

يا تينُ. يا توتُ يا رمّانُ. يا عنبُ

أما المرحلة الثانية من الغرام التي تقلب فيها إبراهيم على نار الألم والحرمان, فكانت هي أيضًا في جامعة بيروت الأمريكية, حيث التقى فلسطينية سمراء فارعة القدّ فائقة الحسن هي (م.ص) من بلدة (كفر كنَّة) أو ما يعرف بوادي الرمّان قرب الناصرة.

وأمّا المرحلة الثالثة والأخيرة من حياة إبراهيم وتجاربه الخائبة في الحبّ, فقد بدأت يوم علم بزواج (م.ص) عام 1930 من رجل لا تحبّه, فانصرف إلى معاقرة الخمر وارتياد علب الليل, الأمر الذي وسع دائرة المرض الذي يفتك به حتى وافاه الأجل بعد نزوحه إلى العراق سنة 1941, وهو في السادسة والثلاثين مهزولاً ضعيفًا.

وقد علق إبراهيم في هذه المرحلة المضطربة من حياته الغواني الأجنبيات وأوّلهنّ الإسبانية مرجاريتا التي تنتسب إلى إشبيلية في الأندلس, وكانت ترقص في مقهى (النجار) الشهير في بيروت سنة 1930, ويقول فيها:

أَفدي بروحي غيدَ إشبيليةْ وإن أذقنَ القلبَ مرَّ العذابْ
في مثلها يخلعُ مثلي العِذارْ ولا يبالي كيفَ أمسى وأينْ!
أشربُ من فيها وكأسِ العُقارْ معًا. فكيفَ الصحوُ من سكرتينْ?

ثم علق في بحمدون مصطافة حسناء اسمها فوز, وفي بيروت أيضًا الممرّضة (لولي), ثم في نابلس ممرّضة روسية حسناء نظم فيها قصيدة بعنوان (القيصرة), ومنها:

قيصرة الحسن ألا أشتكي إليكِ من جوركِ? يا طاغيةْ
هل كان نسيانك لي هفوةً أم خطّة أشراكُها خافية?!

ولعل أجمل قصيدة في ديوان هذه المرحلة اليائسة الطافحة بقصائد الحبّ الخائب, هي قصيدة (البلبل الصريع) التي استوحاها إبراهيم من قصيدة (البلبل والوردة) للشاعر البريطاني أوسكار وايلد, ويرمز بالبلبل إلى شاب وسيم ثَريّ عشق إحدى بنات الهوى الفاتنات التي ترمز إلى الوردة, فما برحت تمتص دمه وروحه حتى مات من الحبّ شهيد هواها. ويقول في هذه القصيدة:

صارت الوردةُ الخليعةُ للبلبل همًا ومأْربًا يُشقيه
شفّه السهدُ فاعتراه من الحب سقامٌ مبرّحٌ يضنيهِ
من رآها وقد تحامل يهفو نحوها كيف أعرضت تغريهِ
من رأى روحَهُ تسيلُ نشيدًا لاهبًا لوعةُ الأسى تُذكيهِ

ألا رحم الله شعراء الوجد بل شهداء الشعر الثلاثة الشبان وهم يستظلون سدرة المنتهى في جنة الخالدين.

 

رفيق المعلوف

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات