قطعة من أوربا رواية بحثية صلاح فضل

قطعة من أوربا رواية بحثية

ستبقى الروايات التي تتأرجح بين الأدب والتاريخ تثير العديد من الأسئلة التي قد نجد بعض إجاباتها في هذا المقال.

الدكتورة رضوى عاشور, أستاذة الأدب الإنجليزي بجامعة عين شمس, بدأت مسيرتها الروائية مبكرة, عندما نشرت منذ عقدين (1983م) سيرتها الأولى: (الرحلة! أيام طالبة مصرية في أمريكا). ثم تابعت إبداعاتها الأكاديمية والفنية, حتى توّجتها بثلاثية غرناطة التي تعتبر من أهم ما كتب عن الرؤية المعاصرة للأندلس.

ويبدو أن للتاريخ جاذبيته الخاصة, فقد استدرج الدكتورة رضوى لتشبع حسّها السياسيّ المتوقد, بكتابة تعرف أنها تتأرجح على شفا جرفٍ هارٍ بين الأدب والبحث التاريخي, فتبتكر شخصية كهل مقعد تحت وطأة الذكريات وثقل الشعور المرضي بالمسئولية تجاهها, مولع بالتنقيب في بطون الصحف والكتب, والإنترنت أيضا, لتوثيق الأحداث ومحاولة الربط بينها دون جدوى. وتطلق عليه تسمية تبذل جهدا واضحا لتبريرها وهي (الناظر) الذي لا تربطه علاقة بناظر المدرسة ولا بناظر الوقف ولا بناظر الحقانية, لكنه بمعنى الشاهد الذي يدوّن ما يقرأ وما يتذكر, فهو في حقيقته يمثل الجانب الباحث الذي توظّفه الكاتبة لأغراضها المتعددة. إذ تختار محورًا سرعان ما تنزلق فوقه, لتقع على سطح الأحداث الراهنة لعالم اليوم. ومع أن عنوان الرواية (قطعة من أوربا) يشير إلى مشروع الخديو إسماعيل في تحديث البنية المعمارية للقاهرة في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر, استكمالاً لما بدأه جدّه محمد علي في تأسيس دولة عصرية, فإن الصفحات المخصصة لقصة هذا المشروع تتضاءل تمامًا بجوار سيل المعلومات المتدفقة عن أحداث تشغل منتصف القرن العشرين, خاصة حريق القاهرة في يناير 1952, وكأن تاريخ الروائع المعمارية من فنادق وبنوك ومتاجر وعمارات يبدأ من لحظة احتراقها, ثم لا تلبث هذه البؤرة بدورها أن تتحرّك مرة أخرى لتنتشر عند بقعة دموية معاصرة تشغل حدقة الراوي في الهيمنة الاستعمارية والصراع العربي - الصهيوني بجذوره العميقة, خاصة في هذا المكان المصري الذي شهد تكالب أنصار الحركة الاستيطانية عليه واتخاذه منطلقًا للسيطرة على فلسطين.

الجرح النازف

وبهذا تنتقل بؤرة الرواية إلى الجرح النازف في وجدان رضوى عاشور وأبناء جيلها في المصير الدرامي لهذا الصراع الذي لايزال في عنفوانه. واللافت للنظر أن الكاتبة شديدة الوعي بانتهاكها المقصود لقوانين الكتابة الروائية, وخروجها على مقتضيات تقنياتها الفنية والجمالية, للوقوع في شرك الغضب حينًا, وتسطير كلمات مباشرة تعصف بوهم المتخيّل حينًا آخر. تكرر ذلك مرات عدة في صلب الرواية دون أن تقوى على تفاديه أو تبريره, فهي تخرج على نظام الخطاب الروائي لتشبع حرقتها السياسية, تقول قبيل النهاية - لو كان لمثل هذه الكتابة نهاية - (كيف أمزج الحكاية بالمقال, لا مانع من مقال قصير تحتويه الحكاية, ولكن الموضوع يتطلب مقالاً طويلاً, حتمًا سيكون ناتئًا, ثم إن الروايات - على ما أعرف - لا تفضح أفكارها بالتعبير المباشر, لا تقدم الأمور هكذا, بل تضمّنها حياة شخصيات تروح وتغدو, تعيش وتموت, فيجسّد مسارها ومصيرها تفاصيل الفكرة والمنظور. ليست مهمّتي الآن نقل تفاصيل الانتقال وأشكاله (في المكان), وتحليل كيف ولماذا ورث من ورث القاهرة الرومية, أريد أن أحكي عن المكان الذي وُلدت فيه, لا خبرة لي بكتابة الرّوايات, أنا لا أكتب رواية, بل أنظر في وسط المدينة حيث حكايتي, أتأمل القديم والمستجدّ من ملامحها. هذا ما أقصد).

على أن لعبة الاعتراف النقدي الماكر بنفي صفة الرواية عن هذه الكتابة لا تستنفد غرضها في محاصرة القارئ وإبطال احتجاجه, بل علينا أن نتجاوزها لكي نتساءل عن هذا النوع من الكتابة التي تنفي ذاتها وتنقض بنيتها من الداخل. وفي تقديري أن الكاتبة تقدم فيها نموذجًا طريفًا لرواية يمكن أن نطلق عليها (الرواية البحثية) التي لابد لمن يبرع فيها أن يكون من أساتذة الجامعة المتمرّسين بالبحث العلمي, وأن يتقن استخدام المصادر في الصحف والمجلات والكتب, (تشير الكاتبة إلى عدد منها في ختام الرّواية), وأن يكون ماكرًا لتكليف حفيدته - إذ فاته قطار عصر المعلومات - لتبحث له على صفحات (الإنترنت) عن المعلومات المتعلقة بموضوعه, وأن يعتذر من حين لآخر للقرّاء على أنه قد خيّب ظنهم في العثور على متخيّل متماسك تنطبق عليه مواصفات الرّواية.

الناظر دون تاء

تمارس الكاتبة حقّها في اختيار الرّاوي الذي يحمل منظورها, وتجتهد لتبرير تسميته, وتخفي خلال ذلك عملية قاسية في تبديل نوعه, وكأنها ترد الصاع بمثله لهؤلاء الكتاب الرّجال الذين نطقوا باسم المرأة وقدموا رؤيتها للحياة, فهي حينما (تسترجل) في شخصية الرّاوي السّاخط كأنما تذكّرنا بعبارة توبيخية قالتها أم الأمير عبدالله في الأندلس لابنها الذي كان يبكي كالنساء, على مُلك لم يستطع الحفاظ عليه كالرّجال, وهي العبارة التي تعكسها الحفيدة (شهرزاد) في خطابها لجدّها الرّاوي: (كيف أوصلتمونا إلى ما أصبحنا فيه). والواقع أن الكاتبة قد نجحت إلى حد كبير في عملية الاستبدال وتثبيت منظور الرّجل في الرواية, باستثناء مواقف قليلة في التخيّل والتعبير, لا يمكن أن ترد على خاطر رجل. مثل قول الناظر: (يحيّرني شكل استجابتي للمرأة الحامل, ابنتي أو ابنة أصدقاء أو معارف, أو امرأة عابرة تلتقطها عيني في الطريق, شعور كأنه الإشفاق أو التوجّس أو الخوف, أو أي شيء آخر أجد صعوبة في تعريفه لأنه مبهم وغير محدد, ورغم ذلك أعرفه تمامًا لأنه يتكرّر, ليس فقط عندما أتملّى البطن المتكوّر وامتلاء الثديين, بل في لمحة, ترسل العينان فيها إشارتهما البرقية إلى الرأس فتأتي الإجابة الفورية: اضطراب ما, انقباض أو اختلال طفيف في الحركة المنظمة لعضلة القلب, أو دوار لا يدوم سوى جزء من الثانية).

ولا شك أن هذا الإحساس بالغ الصدق والرهافة, ولكن من منظور المرأة, أما الرجل فما يثيره لديه منظر المرأة الحامل فهو أشد ما يكون بُعدا عن ذلك, ولن أخوض في أشكال الاستجابات المعهودة لدى الرجال عند رؤيتهم للحوامل, من فجاجة الشبق حينا, إلى استملاح التورد والازدهار الأنثوي, أو على العكس من ذلك استقباح الخطوط الجمالية للقوام أحيانا أخرى, لكن الخوف والإشفاق لا محل لهما في منظوره, فهما ينبعان فحسب من عيني المرأة التي تتماهى مع نظيرتها وترقّ لها.

وكذلك يتأنث الناظر دون أن يدري في مثل تلك الصورة التي لا ترد على ذهن رجل وهو يحكي عن أحلامه وكوابيسه: (أرى نفسي أدفع قطارا, أستجمع كل قوتي لدفعه فأدفع, لا يتحرك بطبيعة الحال القطار, وإن اكتمل جهدي لدفعه إلى حدوده القصوى, كأنني امرأة في الطلقة الأخيرة من وضعها, ولكن لا وليد يدفع من جانبه, ولا أمل معلقا في جسد صغير من لحم ودم). ولأن مثل هذه التجربة لا تدخل في خبرات الرجال مهما تمثّلوها فهي لا تشكل جزءا من رصيدهم اللاشعوري ولا تسعفهم في التعبير. وفيما عدا مثل هذه الإشارات اليسيرة فإن الكاتبة تنجح تماما في توظيف الراوي المذكر, وتقسو أحيانا على بنات جنسها عندما تعمد إلى تغييب رفيقته التي انفصلت عنه وطلقت في المحكمة لأنها لم تطق استلابه وجنونه, لم تتعاطف مع ذهوله لفقد أخيه الشهيد في الحرب وتوهماته برؤيته ومحادثته, وكأنها أصبحت تمثل العقل الذي يتلاءم مع الواقع يرضى بمعطياته ويخضع لنظمه ويكف عن معايشة الرجال المسكونين بالأوهام والإحباطات, لكن الكاتبة لم تعط لهذه المرأة فرصة الظهور والدفاع عن منظورها, فقد كانت مشغولة بالبحث والتقصي في الأمور السياسية والتاريخية, وتركت خلفها عالما غنيا بالعلاقات الإنسانية والمشاعر التي تعتبر المادة الذهبية للأعمال الفنية الناضجة التي ترسم معالم الروح والجسد.

مفارقات المعلومات

يسرد الراوي عشرات الصفحات, في مواقع مختلفة من عمله, لرصد حريق القاهرة, بالمشاهدة حينا, والتذكر عبر قصاصات الصحف والمجلات حينا آخر, وهي كلها معلومات غير جمالية, لم تتقطر عبر وعي الشخصية في مواقف محتدمة جدلية مع الواقع كاشفة عن تطوره الاجتماعي ومرهونة بمصيره, لكنه يتخذها ذريعة لسرد تاريخ الرأسمالية اليهودية في مصر دون أن يكون طرفا في الصراع معها, فهو مجرد مراقب خارجي لا تربطه علاقة عضوية بهذه المشروعات ودلالاتها, ثم تورد الكاتبة في مشهد قصير بالغ العمق والتأثيروصفا فنيا لآثار هذا الحريق ذاته على لسان شخصية نسائية, فتقدم رؤية مواتية تماما للسياق, تغني عن كل هذه المعلومات الخارجية, لأنها قد استوفت شروط الإبداع وجمالياته ومنصهرة في نار التجربة الحيوية, إذ يحكي الراوي على لسان جارته (فرانشيسكا) وهي أجنبية متمصرة (الله يرحمه روبرتو (زوجها) هو مسكين, لو هو ما ماتش كان هو ميعرفش فين يروح, يعني شبر دا تحرق,وكمان سيسيل, وكمان الريتز بديعة مش مهم, لأنه هو محترم مش بيروح بديعة, لكن فين هو يروح.. تطلعت إلي أمي وسألتها بقلق: انتِ مدام.. اشتريتي اللانجري لأختك ولا لسّة (وكانت أمي تشتري لخالتي ملابس استعدادا لزفافها) قالت أمي إنها اشترت, قالت فرانشيسكا: كله.. كله? قمصان النوم, الأرواب, الليزوزات? (اشترينا) حمدا لله, حمدا لله, أنا امبارح افتكرت, قلت مسكينة جارتنا, فين هيّ تشتري لأختها الجهاز, شيكوريل, شملا, داود عدس, بن زايون, كله اتحرق, بديعة مش مهم, أحسن بديعة اتحرق). ودعك من طرافة المحاكاة اللغوية للشخصية على إمتاعها, لكن اللافت في هذا المشهد صدق التمثيل الوجداني والإنساني, ودلالته على حيوات الناس وتآلفهم مهما كانت أصولهم العرقية والمللية في المجتمع المصري, من هنا تصبح هذه المعلومات جمالية تشف عن منظور الأنثى الذي يعمد الراوي إلى كتبه فيطل علينا رغما عنه ليقدم رؤية إبداعية بليغة للموقف.

وحسبنا أن نختار من فيض المعلومات التاريخية الأخرى مشهدين أحدهما يجلو بؤرة الرواية ويركز دلالتها والآخر يكاد يطمسها بالتشتت المخلّ.

يروي الناظر: (قبل شهور من حفل افتتاح قناة السويس شارك إسماعيل في المعرض الدولي الذي أقيم في باريس, نزل في قصر أقيم داخل الجناح المصري, فكان هو بحاشيته وزوّاره جزءا من العرض والمعروضات... وفي المقابل شاركت أوجيني في معرض القاهرة (يقصد افتتاح قناة السويس) حيث أقام لها إسماعيل قصرا واجهته أندلسية, وجعل الأجنحة المخصصة لها صورة طبق الأصل من أجنحتها في قصر التويلري في فرنسا. ويحكى أنه عند وداعها قدم لها هدية مبولة لغرفة النوم مصنوعة من الذهب الخالص تتصدرها ياقوتة حمراء, وعلى المبولة نقش باللغة الفرنسية يقول (عيني ستظل معجبة بك إلى الأبد) ولا نعلم على وجه الدقة إن كان الخديو قد قدم هذه المبولة إلى الإمبراطورة, أم أنها نكتة من اختلاق بعض الحرافيش, أو شائعة مصدرها حريم إسماعيل, أشاعتها - من باب الكيد - زوجاته ومحظياته وجواريهن).

مثل هذه المادة الحكائية لصيقة بالمشروع الأول للرواية في جلاء ما زعمه إسماعيل من أنه سيجعل مصر قطعة من أوربا والذي لم يستغرق الحديث عنه سوى صفحات معدودة في العمل المنجز الذي تشتت أبعاده بالاستطرادات والمعلومات التاريخية القيمة, لكنها غير ملائمة للرواية, وإن كان بعضها يعدّ اكتشافا حقيقيا, مثل ما تنقله الكاتبة عن المقريزي حول تمثال (إيزيس) الذي كان يقوم في مصر العتيقة ويعتبر الحاجز الذي يمنع ماء النيل عن اجتياح مصر, وكان العوامّ يعدونها سريّة أبي الهول الذي يقوم بدوره في منع الرمال من طمس معالم مصر, هذا التمثال الذي هدّم عام 1311م بحثا عن كنز تحته, وهي إشارة بالغة الأهمية لكن لا دلالة لها في سياق رواية بعيدة عنها في الزمان والموضوع, غير أن شهوة البحث والضنّ بالمعلومات التي يعثر عليها غلبت على الكاتبة وهي تسطّر صفحاتها الساخنة عن مصير مصر في عيني باحث مقعد ومستلب يحمل هموم الدنيا كلها على قرنيه.

 

صلاح فضل

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات