لحوم الخميرة... آتية فوزي عبدالقادر الفيشاوي

لحوم الخميرة... آتية

وردت من مختبرات بحوث الأغذية, أنباء تهز النفس: فمن أنواع مدهشة من الخميرة, يستخرج العلماء الآن أطنانًا فوق أطنان من لحم غض لذيذ, تتذوقه, فتحسبه أتى من أبقار ظلت سنوات ترعى أنضر المراعي, وتأكل أطيب الأعلاف.

أيمكن أن نتخلى - ذات يوم - عن لحوم الحيوانات, ونعيش على لحوم الخميرة, وأنواع أخرى من الميكروبات? سؤال أحمق...ربما...لكنه معقول تمامًا...وقد سأله باحثو التغذية مرات عدة, قبل سنوات. فقد كان الباحثون يعرفون أكثر من غيرهم, أن لحوم الخميرة سوف تستعمل طعامًا على الأرض يومًا ما. فالأفواه التي تطلب طعامًا تتزايد في عالمنا يومًا بعد يوم. في حين, تتزايد الحيوانات اللحمية بسرعة أقل من سرعة تزايد الأفواه. وغدا النقص في البروتين, لا يضاهيه النقص في أي أنواع آخرى من عناصر الغذاء.

أتفيد الخميرة في تخفيف وطأة هذا النقص? نعم, إنها تخفف الحالة دون شك, فالخميرة غذاء يفوق اللحم, فهي أغنى مصدر معروف بفيتامينات المجموعة (ب), وفيها من البروتين مالا يقل عن خمسين في المائة من وزنها الجاف. وهي تنمو وتتكاثر بمعدلات فائقة السرعة, مما يهيئ المجال لإنتاج أطنان من البروتين وحيد الخلية (SCP) Single-cell protein, في ساعات قليلة وبكلفة محدودة. فإذا كانت العجول الصغيرة تحتاج إلى وقت يتراوح بين شهرين وأربعة أشهر, لكي تتضاعف كتلتها الحيوية, فإن خلايا الخميرة لا تحتاج إلا لساعتين أو أربع ساعات, لكي تتضاعف كتلتها الحيوية. وفي حين نجد حيوان اللحم الذي يزن ألف رطل ويأكل العشب, ينتج رطلاً واحدًا من البروتين في اليوم, فإن القدر نفسه من الخميرة ينتج في اليوم, خمسين ألف رطل. وفضلا عن ذلك, تمتاز خلايا الخميرة بإمكان زراعتها على مواد خام رخيصة, تنتج كنفايات عن العمليات الزراعية أو تصنيع الأغذية. بمعنى أنها تقوم بمنفعة ذات حدين: فهي تتيح مجالاً جديدًا لاستثمار النفايات, بتحويلها إلى بروتينات, كما تخلصنا من مواد تعد إهانة مزرية للبيئة. وبالمثل, فهي إذ تصلح للزراعة على المكوّنات النفطية الشمعية (البرافينات Paraffins), تنتج بروتينات غذائية, وتحسن في الوقت نفسه نوع النفط الذي يتخلف عن النمو, كوقود.

وهي إنما تزرع فيما يسمّيه العلماء بالمفاعلات الحيوية. وهذا المفاعل لا يحتل من الأرض إلا مقدار ما يحتله مصنع صغير. وهو على الرغم من ذلك, ينتج من اللحم بمقدار ما تنتجه آلاف الرءوس من الأبقار التي ترعى أنضر المراعي وتأكل أطيب الأعلاف. فالواقع, أن (مصانع اللحوم البقرية) حين تعمل, تتجاهل تمامًا مصالح الآكلين. وهذا أمر طبيعي حقًا, إذ إن زيادة الوزن ليست إلا عملية واحدة فقط من عمليات كثيرة تحدث في أبدان الأبقار, وهي أيضًا ليست أهمها, كما أن الأمراض المعدية والأوبئة كثيرًا ما تطيح بآلاف الرءوس من الأبقار.

إن هذه المشكلات جميعها لا تهم خلايا الخميرة النامية في المفاعلات في قليل أو كثير, فهذه المفاعلات معقمة تمامًا, وظروف عملها كدرجة الحرارة ودرجة الحموضة والتقليب الميكانيكي والتهوية وتوافر غذاء الخميرة ونحوها, كلها تحت السيطرة. أما خلايا الخميرة, فهي لا تتوقف عن النمو والتكاثر بلا هوادة, وتتضاعف كتلتها الحيوية مرات, وتنتج بلا حدود مزيدًا من البروتين. إنها كفاءة إنتاجية, لم تكن يومًا مطمحًا حتى بالنسبة إلى أكثر علماء تغذية الحيوان حذقًا وبراعة.

بروتينات من خمائر نفطية

والآن, دعنا نستخبر العلماء عن الآلية التي مكّنتهم من إنتاج بروتين الخميرة وحيد الخلية. إنهم في البداية يختارون السلالة المناسبة لعملية التخمير, لا تصلح كل أنواع الخميرة كغذاء يناسب البشر, فمن بين مئات الأنواع نجح عدد قليل, واعتبر صالحًا لإنتاج البروتين. ثمة أنواع عدة, كشف الباحثون عن قدرتها على استخدام المكونات الشمعية الموجودة في النفط, كمصدر للطاقة اللازمة لعمليات الحياة, مثل خميرة (كانديدا تروبيكالس) وخميرة (كانديدا ليبوليتكا). توضع السلالة المناسبة في وعاء التخمير مع قدر من الماء الذي يحتوي على آثار من المعادن, بوتاسيوم, كالسيوم, مجنيسيوم, كبريت, وغيرها. ويوضع أيضًا الغذاء الأيدروكربوني, كمصدر للطاقة, ومصدر آخر للنيتروجين اللازم للنمو, مثل سلفات الأمونيوم أو اليوريا أو النوشادر. وينبغي تزويد المفاعل بالهواء على الدوام, لضمان حصول الخلايا على الأكسجين اللازم للتنفس والحياة. ومن الأهمية بمكان, تزويد المفاعل بمقلبات ميكانيكية, خاصة وأن الأيدروكربونات - وهي ذات قوام زيتي - لا تذوب جيدًا بالماء. والآن, كل شيء على ما يرام, وما على خلايا الخميرة إلا أن تنمو وتتكاثر بسرعتها المعهودة, محولة مكونات البيئة إلى كتل خلوية ضخمة. وهذه تفصل بالترشيح, ثم بأجهزة الطرد المركزي, لنحصل على منتج غليظ, يغسل ثم يجفف على هيئة مسحوق, نحلله فنجد به أكثر من خمسين في المائة بروتينًا.

على أننا مازلنا نذكر, أن العلماء الأول الذين عملوا على الخميرة, لاحظوا أن المنتج البروتيني كان برائحة النفط الكريهة, كما لم تكن تجارب السميّة التي أجروها عليه, سالبة تمامًا.

ظل الأمر باعثًا على الأسى فترة قصيرة, إلى أن نجح العلماء في التخلص من الرائحة النفطية, بإمرار هواء جاف بالمفاعل, كلما زوّدوا الخميرة بالأكسجين. كما نجحوا في تطهير المنتج من مسببات السميّة المقلقة, حين تمكّنوا باستخدام مذيبات ومواد ناشرة مناسبة, من إزالة بقايا المشتقات النفطية والمركبات غير المتحللة العالقة بالمنتج البروتيني. ليس هذا فحسب, فقد عثروا على سلالات جديدة مثل خميرة Hansenula polymorpha, تمتاز بقدرتها على النمو في بيئة من الميثان أو الميثانول, بدلاً من الشموع النفطية. بمعنى أنها لا تكون بحاجة إلى عمليات تنقية نهائية للتخلص من بقايا المواد غير المستهلكة, مما ينفي احتمالات السمّية بصورة قاطعة. وهكذا وجدنا العالم الكيميائي (ألفريد شامبان), وهو الذي أنفق سنوات طويلة من عمره محاولاً تطوير بحوث وتقنيات للبروتينات النفطية, يخبرنا أن تحويل 3% من إنتاج النفط العالمي إلى بروتين خلوي, كفيل بمضاعفة الإنتاج العالمي من مصادر البروتين. كان هدف (شامبان) من بحوثه, سد الثغرة بين سرعة تزايد الحيوانات اللحمية, وسرعة تزايد الأفواه التي تطلب طعامًا, وأيّدته في ذلك سلالات من خميرة نفطية مدهشة.

ومن النفايات بروتينات

يبدو أن استخدام سلالات الخميرة التي تغتذي بالنفايات الكربوهيدراتية, هي الخيار الأفضل لإنتاج البروتين الخلوي, ثمة باحثون يؤكدون ذلك, وعندهم, أن هذه النفايات هي الأوفر في عالمنا, وهي الأرخص ثمنًا, موازنة بالأيدروكربونات النفطية التي يتضاءل مخزونها يومًا بعد يوم. إن لدينا سلالات مثل خميرة الخباز (سكاروميسيس سيرفيسياي), وخميرة (كانديدا يوتيليس) (وهي التي كانت تعرف في السابق بخميرة التوريولا, وكانت تسمى علميًا (توريللوبسيس يوتيليس), تستطيع النمو على نفايات تخرج من تصنيع السكر تعرف بالمولاس, وهي مادة لزجة بنية تشبه العسل الأسود, إلا أنها أقل منه قيمة. كان المولاس نفاية لا ثمن لها, لكن سلالات الخميرة جعلت له ثمنًا وقيمة, وتقدمت تعرض خدماتها علينا, فأنشأنا لها مصانع البروتين الخلوي.

وما يستطاب ذكره, أن الألمان توصلوا في عام 1943, إلى طريقة مبسطة تكفل إنتاج كميات من البروتين هائلة, بتنمية خميرة التوريولا, على عدة آلاف من جالونات المحلول السكري, توازي كميات البروتين التي تنتج عن استزراع ألف فدان, وكانت هذه أول تجربة ناجحة في إنتاج بروتين الخميرة على نطاق تجاري. وهي التي دفعت الإنجليز إلى اتخاذ قرار جريء - أثناء الحرب العالمي الثانية - بتوجيه البحث في هذا المجال. وتوصل فريق من علمائهم بقيادة البيولوجي (ثايسين) إلى طريقة مبتكرة لتنمية خميرة التوريولا على بيئة من المولاس, تقتضي هذه الطريقة, وضع 125 رطلاً من خلايا الخميرة في صهريج كبير, يحتوي على سبعة آلاف جالون من الماء. يضاف إلى الخليط ثلاثة آلاف رطل من المولاس (وهو الذي تغتذي الخميرة بسكره), كما يزوّد بالنوشادر, الذي يتحوّل نيتروجينه بفضل نمو الخميرة وتكاثرها إلى بروتين. يحتاج الخليط إلى تحريك جيد, حتى تختلط به كل دقيقة ألف قدم مكعبة من الهواء. إذ إن نمو الخميرة في غياب الأكسجين, يسبب تحول المواد السكرية إلى مواد كحولية. وبعد 12 ساعة نجد الخميرة التي تنمو نموّا سريعًا عظيمًا, ازداد عددها وتضاعف وزنها مرات, فكوّنت كتلاً من نموات خلوية بروتينية, تُفصل بالترشيح ثم بالطرد المركزي, للحصول على منتج غذائي يغسل ثم يجفف على هيئة مسحوق يحتوي على أكثر من خمسين في المائة بروتينًا.

والواقع أن التجارب التي أجراها (ثايسين) على سلالات الخميرة العاملة على نفايات الكربوهيدرات, لم تكن غير بداية لفرع كبير مثير من فروع علم الميكروبات, ولكم هي عزيزة على القلب هذه البداية, فقد ألهبت حماسة العلماء للتوغل بعمق متزايد في دراسة السلالات, فعرفوا أن لديها قدرة جبّارة على أن تعيش وتنمو على مواد خام متباينة وغير مألوفة. فهي وإن كانت تفضل العيش على المولاس, فإنها لم تعد تأنف من العيش في بيئات رخيصة جدًا ومتواضعة, مثل الشرش ونفايات النباتات.

وهاهنا, لابد أن نشير إلى أن تقنية الهندسة الوراثية ساهمت بدرجة ملحوظة في تطوير السلالات, بغية خفض كلفة الإنتاج, فقد ظلت خميرة (سكاروميسيس سيرفيسياي) دومًا عاجزة عن الانتفاع ببيئة الشرش الأغنى بسكر اللاكتوز. وكانت كذلك عاجزة عن التعامل مع سكر الزيلوز الذي تزخر به نفايات النباتات. ويعود ذلك إلى فقرها الشديد في مجموعة الإنزيمات اللازمة لتمثيل هذه السكريات. ولكن حالها الآن غير ما كان...فقد تمكن مهندسو الوراثة من تعديلها, حيث نقلوا إليها جين (بيتا - جلاكتوزيديز), من بكتيريا K.lactis, لتصبح قادرة على إفراز الإنزيم الذي يحلل سكر اللاكتوز إلى جلوكوز وجالاكتوز.

وفي الوقت نفسه, تمكّنوا من نقل الجين الخاص بإنزيم (زيلوز إيزوميريز, إلى الخميرة, لتصبح قادرة على النمو بكفاءة في بيئة الزيلوز.

وهكذا رأينا خمائر جديدة معدّلة, بوسعها أن تنتفع ببيئات نمو رخيصة ومتوافرة, وإذن تقل كلفة إنتاج البروتين الخلوي إلى حد كبير.

بروتين الخميرة في الميزان

عندما يتأمل باحثو التغذية مليّا في بروتينات الخميرة, يجدون أن قيمتها الحيوية تقارب القيمة الحيوية لبروتينات فول الصويا أو الفول السوداني. يحتوي بروتين الخميرة على الأحماض الأمينية الأساسية كافة, بنسب تماثل - إن لم تتفوق في بعض الأحيان - النسب الموجودة في بروتين صفار البيض, باستثناء الأحماض الأمينية الكبريتية مثل السستين والميثونين, فنجد أن النسبة تقل عن المعدل القياسي المطلوب. تأكد الباحثون من هذه الحقيقة تحليليًا, وكذا حين أجروا تجارب لإحلال بروتين الخميرة محل بروتين الحليب أو بروتين الأسماك, في تغذية الفئران المعملية, فقد وجدوا أن نمو الفئران كان أقل عندما غذيت ببروتين الخميرة موازنة بالفئران التي غذيت ببروتين الأسماك أو الحليب. ولكن حين جرى تعويض النقص, بإضافة أحماض كبريتية إلى بروتين الخميرة, أسرعت الفئران في النمو, على نحو أثار دهشة العلماء.

أما الموقف في حال الحمض الأميني الأساسي (ليسين) فهو, بالطبع, أفضل من ذلك بكثير. إذ يمتاز بروتين الخميرة عن صنوف البروتينات النباتية, بوجود قدر واف من هذا الحمض الذي غالبًا ما يكون قليلاً في طعام الإنسان العادي.

ونعود فنقول, إن بروتين الخميرة في ميزان التغذية, بروتين قيم وعظيم, ولكن نقصه في أحماض السستين والميثونين, هو الذي يستوجب التقوية والتدعيم. كل ذلك صحيح, وقد ظلت هذه هي الوصية التي يوصيها باحثو التغذية, طوال السنوات الماضية. على أن مهندسي الوراثة يبدو أنهم توصلوا - أخيرًا - إلى حل آخر سعيد. فقد تمكنوا من زيادة تركيز الأحماض الأمينية الحديّة (وهي الأحماض التي توجد في البروتين بتركيز متدن للغاية) بإزالة المركبات الطبيعية المعوقة لإنتاجها. ومن ثم, فإن تطوير الخميرة لإنتاج بروتين أغنى في هذه الأحماض, لمما يقلل كثيرًا الاحتياج إلى تدعيمه بمصدر آخر للأحماض.

حاذر من (الرنا)

إننا نعرف الآن الكثير عن النواحي الإيجابية لبروتينات الخميرة, لكنا في الوقت نفسه, وعلى حق, ينبغي ألا نغفل نواحي ضعفها. لسنوات طويلة, اهتم الباحثون اهتمامًا واسعًا بمشكلة ارتفاع مستوى الأحماض النووية, وخاصة الحمض النووي الريبوزي (رنا), في البروتينات الخلوية. سيفهمني كل من يعرف طبائع الخميرة, عندما أقول إن هذه الظاهرة متوقعة تمامًا, بحسبانها من الكائنات سريعة النمو والانقسام والبناء. وهذا يستلزم وجود قدر وافر من (الرنا) وهي المسئولة عن عملية البناء الخلوي.

تتراوح نسبة الأحماض النووية ما بين 8-25/100 جم بروتين خميرة. في حين لا تزيد في اللحوم الحمراء على 2%, وفي أسماك السالمون 2,2%, وفي الكبد 4%, وفي بطارخ الأسماك 5,7%. والمشكلة الواضحة هي أن الباحثين وجدوا أن قواعد البيورين التي تكوّن الأحماض النووية تتحول في الأبدان, أثناء عملية التمثيل الغذائي, إلى حامض البوليك.

يخبرنا الأطباء أن نسبة حامض البوليك العادية في الدم هي 1-3 ملليجرام في المائة, وعندما يرتفع هذا الرقم إلى 4-6 ملليجرام, يكون هذا نذيرًا بقرب حدوث نوبة النقرس, لدى المصابين.

ولعلك تكون قد خمنت فصول السيناريو الكئيب, فحين يغتذي الإنسان بقدر وافر من بروتين الخميرة, يتولد في دمه الكثير من حامض البوليك, ثم إن أملاح الحامض (اليورات) تترسب في جهات متعددة بالجسم, وبخاصة حول المفاصل وغضاريف الأذن. وقد تتبلور الأملاح في البول, مكوّنة حصيات دقيقة في حوض الكلى, ثم لا تلبث أن تتحرك في البول, مسببة آلامًا مبرحة. وقد تتجمع في المثانة, وتستمر تتبلور حتى تتضخم الحصيات, ويغدو الخطر هائلاً. ولهذا استقر رأي علماء التغذية على ضرورة خفض كمية الأحماض النووية التي يحصل عليها الإنسان في غذائه اليومي, إلى الحد المأمون, وهو جرامان, ليس غير. وشرع كيميائيو الأغذية في بحث المشكلة بجد ومثابرة, فتوصلوا إلى ابتكار طرق مدهشة لتخليص البروتين الخلوي من (الرنا). ثمة طريقة تعتمد على الاستخلاص الكيميائي, وطريقة ثانية تعتمد على تحليل (الرنا) بالإنزيمات, وثالثة تقوم على أساس حضن المنتج على درجة حرارة عالية, أو ما يعرف بالصدمة الحرارية Heat shock. طرق - ولاشك - ناجحة, ساعدت على الخروج من المأزق, حين بشرت بإمكان خفض مستوى الأحماض النووية إلى 1-1,8, ليس غير. والحق أنني كنت أود من صميم قلبي أن أتوجه بالتهنئة إلى أولئك الذين لا يكفون عن البحث, ولكن لاتزال هناك عقبة تستوجب الانتظار.

أنأكل الميكروبات?

لعل من أعصى المشكلات التي تجابه خبراء التغذية, هي ما يعرف بـ(سطوة العادة) أو (قوة العادة). فالإنسان أسير لعاداته, إلى حد كبير. ولهذا فإن التعود على نمط من الطعام, قد يصرف المرء عن طعام آخر, ربما يكون أفضل وأفيد.

وأنت تنظر فتجد الكثيرين ينتابهم درجات من الغثيان متفاوتة, إذا تخيّلوا أنفسهم يأكلون (طعامًا ميكروبيًا) بدل أن يأكلوا شرائح اللحم المحمّر في السمن البلدي مثلاً.

لقد حظيت هذه المشكلة النفسية باهتمام الباحثين, فاقترحوا استخدام اصطلاح (بروتين وحيد الخلية) كبديل عن اصطلاح (بروتين ميكروبي) حماية للبروتين الجديد من دواعي النفور من كل ما يمتّ للميكروبات بصلة. واقترحوا توعية الناس بالدور الحيوي الذي يمكن أن يلعبه البروتين الجديد, لحل مشكلة نقص البروتين. واقترحوا إفهامهم حقيقة ما يأكلون, وأنهم يطعمون صباح مساء أعداداً لا حصر لها من الميكروبات, وهم لا يدرون. ففي الجرام الواحد من الجبن ما يزيد على بليون خلية بكتيرية, بل إن اللحم نفسه, إنما هو في الواقع من منتجات الميكروبات في أجواف المجترات. فالحيوان يغتذي بالأعشاب الأغنى بالسيليلوز, وهي مواد يلزم للإفادة منها إنزيم خاص بالتسكير, ولكن الغدد الهضمية للحيوان لا تخلق هذا الإنزيم, ولابد أن يهرع الحيوان إلى طلب مساعدة البكتيريا التي تقطن بالمليارات في جزء خاص من المعدة يعرف بالكرش, يوجد في السنتيمتر المكعب الواحد من محتويات الكرش نحو 15-20 مليارا من البكتيرات. وهذه تتغذى بالعشب وتأكله كله وتتكاثر بغزارة, وهي تستخدم ألياف الأعشاب في بناء مركبات, تكوّن منها أجسامها, أما البروتينات الذائبة, فإنها تتحول إلى بروتين ميكروبي. ومصير هذه الجحافل البكتيرية معروف, ففي معدة الحيوان تعيش أعداد لا حصر لها من حيوانات أولية وحيدة الخلية, تعتمد في غذائها على التهام البكتيريا الموجودة بالمعدة, ثم تحوّل البروتين الخلوي إلى بروتين حيواني في خلاياها. وفي موضع آخر من الجهاز الهضمي, يجري هضم الحيوانات الأولية وما تبقى من بكتيريا, وتمتص بروتيناتها, ليتشكل منها لحم الحيوان الذي يقدم على الموائد كشرائح لحم لذيذ. ولذلك من الأصوب اعتبار البقرة آكلة ميكروبات, وليست آكلة عشب. ومن الأصوب أيضًا أن نقول (لولا الميكروبات...ما أكلنا اللحم)!!!

على هذا النحو يمكن تأهيل الآكلين نفسيًا لقبول بروتين الخميرة, لاسيما إذا استخدم - كمرحلة أولى - في صورة إضافات غذائية لأطعمة مألوفة, وليس في صورة أغذية غير معروفة, أو في صورة أقراص مثلا. فمن الميسور إضافته إلى القمح عند تصنيعه خبزًا أو كعكًا أو بسكويتًا, بنسبة تصل إلى 10 %, لئلا يحدث أي تغير ملحوظ في طعم ونكهة المنتجات. ويمكن إضافته إلى العجائن الغذائية كالمعكرونة والشعرية, بغية الارتقاء بقيمتها الغذائية, والسجق والبورجر واللانشون والصلصات والأطعمة المطهية في الفرن.

وهذه الإضافات الناجحة ليست, بالطبع, المشاركة الوحيدة الممكنة لبروتين الخميرة في تغذية الإنسان. فهناك مشاركة أخرى ممكنة, بل أكثر طرافة.

غزل ونسج اللحوم

ربما يختفي - عمّا قريب - القصّابون بما يعرضون من سكاكين حادة تنطق بالقتل, ولحوم تقطر بالدم, وتشيع لحوم الخميرة بين جموع الآكلين في الغد أو بعد الغد. وإنها لتقنية عجيبة...تقنية إنتاج لحم الخميرة الصناعي الذي يضاهي في طعمه ومذاقه وقوامه اللحم الطبيعي. دعنا إذن نلخصها في كلمات: إنهم يعمدون إلى إذابة البروتين الخلوي في محلول قلوي, ليتخذ صورة محلول غرواني بروتيني. يدفع المحلول بقوة خلال غشاء دقيق الثقوب, ليعطي خيوطًا أو أليافًا بروتينية بأقطار تصل إلى 20 ميكرونًا. لابد الآن من غمر الألياف في محلول ملحي مخفف ومحمض, حتى تتخثر وتكتسب قوة أكبر, ثم تشد على نحو يجعلها تماثل ألياف اللحم الطبيعي. وهذه تطلي بمنكهات, ومواد ملوّنة كي تكتسب طعم ولون اللحم البقري, أو لحم الدجاج مثلا. وقد يجري إثراؤها بصنوف من المعادن والفيتامينات, حسب الطلب, كما تدعم بشحوم حيوانية مناسبة. وفي أعقاب ذلك مباشرة, يحدث تجميع للألياف في صورة حزم أشبه بتركيب العضلات اللحمية. وهي تتماسك معًا بمواد لاصقة كالنشا أو الصموغ أو الدكسترين, التي ترش في صورة مساحيق, أو يعمل محلول منها تغمس فيه الألياف.

لقد تملّكتني الدهشة والعجب إزاء ما يصنعه المنتجون بألياف البروتين الخلوي, فتارة تفرم الألياف لعمل خليط شبيه باللحم المفروم الذي يشيع استخدامه في صناعة السجق. وتارة أخرى يعمدون إلى (نسج) الألياف على هيئة شرائح اللحم, أو على هيئة أجزاء الطيور, أو سوى ذلك مما تشتهيه الأنفس وتلذ له.

وهكذا, فإن بروتينات الخميرة يمكن أن تمد مائدة الطعام في الغد القريب, بمقادير من الغذاء وافرة, وعمّا قريب, يحل اليوم الذي يستطيع فيه كل إنسان أن يجد نصيبه اليومي الوافي من هذه البروتينات في صورة أطباق متباينة, وفي مذاق لم يرق إليه من قبل خيال.

 

فوزي عبدالقادر الفيشاوي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




 





مع لحوم الخميرة سيختفي القصاب وتختفي الذبائح





قطعة الـ (ستيك) الشهيرة من يجزم بأنها لحم حقيقي أم لحم خميرة منسوج بدقة?





بخلط لحوم الخميرة مع الدقيق تحصل على (ساندوتش) كامل الدسم من الخبز وحده