الكائنات المحورة وراثياً نزاعات ومفارقات بالجملة فهد نصر

الكائنات المحورة وراثياً نزاعات ومفارقات بالجملة

الهندسة الوراثية هي إحدى ملامح التقدم العلمي الحديث, وبالرغم من إنجازاتها واكتشافاتها المدهشة, فإنها تثير جدالاً محتدمًا بين المؤيدين والمعارضين.

لقد جاءت التقنية الحيوية كنتيجة لتطور علم الوراثة بشكل عام, وعلم البيولوجيا الجزيئية على وجه الخصوص. وبما أنها تعرضت لمسائل علمية لها طابع تطبيقي, فقد تحولّت مع الزمن إلى ركن من أركان علم الحياة, بحيث إنها قدّمت الحلول لمشاكل إنسانية جمة, عدا أنها تعد بالكثير في المستقبل. ومن أهم سمات التقنية الحيوية ما يتعلق بإنتاج كائنات معدّلة وراثيًا لأهداف طبية وزراعية وعلمية.

إن تعريف الكائن الحي المعدّل وراثيًا ليس باليسير, ولكن يمكن القول إنه كل مَنْ تضمّن تخليقه تعديلاً لجينومه (Genome) عن طريق إدخال معلومات وراثية جديدة أو تغيير بعض المعلومات الموجودة أصلاً, وهذا الأمر يختلف تمامًا عن مسألة التهجين التي تهدف عبر التزاوج الطبيعي إلى توليد كائنات لها صفات مرغوبة. مثال على ذلك النعجة (دوللي) التي أنتجت عبر آلية الاستنساخ بالنقل النووي, حيث احتوى جينومها على جين بشري يكوِّد, أي ينتج, عاملاً بروتينيًا محددًا وهو العامل رقم تسعة الذي يستخدم طبيًا في علاج المرض النزفي B (Hemophilia B). لقد خلقت التقنية الحيوية نزاعًا في المجتمع حيث ذهب البعض إلى رفضها جملة وتفصيلاً داعين إلى التخلي عن هذا العلم الذي لن تكون ثماره سوى الإساءة إلى البيئة والإنسان. لم يتوانَ هؤلاء المعارضون عن إيجاد تسميات بديلة لنتاج هذا العلم فاستخدموا مثلاً عبارات (الأطعمة المتلفة وراثيًا) و (الأطعمة المتضررة وراثيًا), أو أيضًا (البدائل الغذائية الممرضة وراثيًا).

جدل حول التقانة الحيوية

ان التعديل الوراثي في حقل الزراعة كان له أبعد الأثر في العلم الحديث, كما أنه أدى إلى مناظرة عنيفة شكل محورها كل من الولايات المتحدة الأمريكية وأوربا. وبينما ذهب المؤيدون إلى اعتبار التقانة الحيوية كثورة علمية إيجابية في حقل الزراعة, حيث إنها تسمح بإنتاج نباتات مقاومة للأمراض والجفاف, وذات قيمة غذائية عالية, كما إنها تخفِّض من كلفة الإنتاج وتقدم حلولاً زراعية بيئية لمشاكل التلوُّث, يرى المعارضون أنها لا تتعدى كونها مغامرة مضللة, لأنها - حسب رأيهم - ستؤدي حتمًا إلى تسرُّب أو إطلاق الكائنات المعدّلة وراثيًا في الطبيعة على نحو واسع, الأمر الذي لا يمكن التكهن بنتائجه السلبية, كما أنها ستغيّر البيئة بشكل نهائي لايمكن عكسه أو معالجته. هؤلاء يتخوفون أيضًا من التداعيات الاجتماعية المرافقة لهذه الاكتشافات, حيث إنه بدا واضحًا للجميع إن البراءات الكثيفة التي تصرُّ عليها الشركات العملاقة سوف تسيء إلى الزراعة لأنها ستحرم المزارعين التقليديين العاجزين عن شرائها, من فائدتها المزعومة. إن هذا الجدل لايزال يتأجج, وليس هناك من بوادر تدل على اقترابه من طريق الحل. وعلى الرغم من النزاع المعلن بين أمريكا المؤيدة والمشجعة للأطعمة المعدلة وراثيًا والدول الأوربية المعارضة, والتي تحتج بشدة مؤكدة أن هذه الأطعمة المعدلة لم تثبت سلامتها بعد على الصحة العامة, فإن اللجوء إلى منظمة التجارة العالمية لفض الخصام لم يرض الطرف المعارض, فلقد أعلنت المنظمة وبشكل قاطع أن مقاطعة الأطعمة المعدلة وراثيًا سوف تضرّ بالتجارة ويخلق حواجز غير مبررة للتبادل التجاري الدولي. ان إعلانًا كهذا ذا طابع نفعي لا يعبِّر بالضرورة عن رغبة الجميع ولا يقدم حلاً مرضيًا, بل إن من شأن قرارات كهذه ان تعزز شكوك الناس بعجز الدول عن التوصل إلى حلول أو سياسات تكون من الشفافية والوضوح بحيث توافق المعارضين والمؤيدين على حد سواء.

من البديهي الاعتراف أن التقانة الحيوية كعلم لا يمكن تصنيفها كجيدة أو سيئة بالكامل, كما يحاول أن يصوّرها مؤيدوها ومعارضوها. هناك أوجه إيجابية وأخرى سلبية, كما أنها تنطوي على حيِّز من الشك بجدواها ونتائجها, مما يعني أن أي تأخير في وضع سياسات عامة في ذلك الشأن لن يكون في صالح المستهلك الذي أخذ يفقد شيئًا فشيئًا ثقته بحكومته والحكومات الأخرى. في المجال الزراعي, يقول المعارضون إن المحاصيل المعدّلة وراثيًا, وهي التي تمتلك ميزة انتقائية تجعلها أكثر ملاءمة للنمو, سوف (تلوّث) المحاصيل التقليدية الأمر الذي قد يؤدي إلى اختفاء هذه الاخيرة. أما النتيجة الحتمية لهذه الانتقائية فهي فقدان التنوُّع الحياتي (Biodiversity) وهي مسألة يتخوف منها ويتوقع حدوثها الكثيرون. المؤيدون بدورهم يشيرون إلى الأذى الصحي الذي يسببه, على المدى القصير والطويل, استخدام المبيدات الحشرية والنباتية على نطاق واسع. هنا يثير هؤلاء السؤال التالي: أليست النباتات المعدلة وراثيًا والمقاومة للحشرات أقل ضررًا وبالتالي أكثر حرصًا على الصحة العامة من النباتات التقليدية التي تستوجب زراعتها أطنانًا من المبيدات? ويجدر التذكير في هذا السياق ان التقنيين يستعملون جينًا ينتج عاملاً سامًا للحشرات, يُصار إلى إدخاله ودمجه بجينوم النباتات المرغوبة مما يجعلها مقاومة طبيعيًا للحشرات, ويؤكد هؤلاء إن هذا العامل ذا السمّية الواضحة على الحشرات لا يؤثر اطلاقًا على صحة البشر, إلاّ أن هذا التأكيد قد يبدو متسرعًا نوعًا ما, مما حدا بالمعارضين إلى طلب المزيد من الاختبارات لتقديم البرهان على صحة هذا الطرح.

من الثابت الآن إن استخدام الكائنات المعدلة وراثيًا سوف يؤدي إلى تغيير بيئي حتمي, بيد أن الذهاب إلى اعتبار هذه الكائنات مضرّة بالبيئة يبقى في حلقة الجدل والآراء المتناقضة. لقد تبيّن عبر التجارب البحثية, وبما لا يرقى إليه الشك, أن استعمال المضادات الحيوية مثلاً يساهم في خلق أنواع مقاومة لهذه المواد مما يفقدها أهميتها ودورها في علاج الأمراض المعدية, ومن الضروري الإشارة إلى ان بعض السلالات من الكائنات المكروية, كالبكتيريا, أصبحت تشكّل قلقًا حقيقيًا وهاجسًا لدى الأطباء لأنها تقاوم كل أنواع المضادات الحيوية المتوفرة حاليًا, مما يضعها في موقع يمكن معه أن تتحول إلى وباء قد يصعب وقفه أو التحكم به. وقد أشار المعارضون إلى حقيقة أن هذه الكائنات المعدّلة سوف تولّد, عبر إنتاجها المنظّم والكثيف للمبيد الحشري, مناخًا ملائمًا لنمو سلالات من الحشرات المقاومة لهذا المبيد مما يجعل هذا الأخير قليلاً أو عديم الفائدة عند استخدامه على النباتات التقليدية. بالمقابل يجب الاعتراف, وهذا ما تطالب به الجهة المؤيدة للتقانة الحيوية - بأن استخدام المبيدات بكثافة لن يكون له أثر أفضل, وأنه سيؤدي حتمًا لنتيجة مماثلة.

مهندسون ولكن

إن التقانة الحيوية تتضمن مجموعة من التقنيات التي تشكل معًا ما يعرف بالهندسة الوراثية وهي فرع من علم الوراثة الحديث. وتشتمل الهندسة الوراثية على مقاربات تسمح بعزل جين (Gene) معيّن وتعديله أو تغييره وفقًا لما تقتضيه خطة البحث, ثم يتم إدخاله إلى المادة الوراثية لأحد الكائنات, من حيوان أو نبات أو كائنات مكروية, ومن شأن الجين المرغوب أن يؤدي إلى إنتاج عامل بروتيني له اهمية علمية محددة. نذكر مثالاً على ما تقدّم إن إنتاج مادة الأنسولين - وهي المستخدمة لعلاج مرضى السكري - بواسطة البكتريا المعدّلة, خففت من معاناة الكثيرين, كما أنها وفرت حلاً علاجيًا أقل كلفة وأكثر أمانًا من السابق, حيث إن الأنسولين كان يستخلص من الأنسجة الحيوانية مع ما تتضمنه هذه العملية من مخاطر صحية. نعود الآن إلى تسمية هذا الحقل بالهندسة الوراثية والذي يجد أيضًا من يعارضه بشدة. يعتبر المعارضون أن كلمة هندسة تعرّف عن علم يمكن التكهن بنتائجه, التي هي في الأساس أخلاقية وتخدم الإنسان. أما بالنسبة للتقانة الحيوية فلا يمكن التنبؤ بدقة بما ستكون عليه الكائنات المعدّلة وراثيًا, وما هي الآثار الجانبية التي ستترتب على استخدامها والتي قد يصعب فيما بعد التحكم بها أو السيطرة عليها. إن المؤيدين للتقانة الحيوية يجدون في هذا الامر إجحافًا بحقهم, ويشددون على السمات الإنسانية والأخلاقية لعملهم, كما أنهم يضيفون أن الجوانب والآثار الجانبية المحتملة للكائنات المعدّلة وراثيًا, والتي لا يمكن تقييمها مسبقًا, لا يجوز أن تخفي حقيقة إن عمل هؤلاء التقنيين هو محترف ولا يهدف الاّ لخير الإنسان, لذا يجدون أنه من العدل تسميتهم (مهندسين) حتى ولو كان الناتج النهائي لعملهم كائنًا حيًا! انطلاقًا من ارتباط التسمية بالسياسات العلمية, وحيث إنها تعكس طبيعة الجدل القائم, فإن المعارضين لا يصرون على حرمان العاملين في حقل التقانة الحيوية من لقب مهندس وحسب, بل يذهبون بعيدًا لحد اتهامهم بالإساءة إلى المجتمع والبيئة. وقد كان لموضوع الاستنساخ أبعد الأثر في حركة المناهضين لأي آلية تتضمن تعديلاً وراثيًا, إذ إن تطبيقات هذا العلم امتدت إلى الطبيعة الإنسانية, محاولة تغييرها كما حصل مع الكائنات الأخرى. هذا الأمر دفع بالسواد الأعظم من المجتمع إلى رفض المساس بالإنسان, واعتبار أي محاولة للاستنساخ أو تعديل الجينوم البشري انتهاكًا للكرامة الإنسانية وعملاً لاأخلاقيًا. يتفق هنا المؤيدون للتقانة الحيوية مع المعارضين, وقد أعلن البعض رفضهم لمسألة استنساخ البشر مطالبين بوضع قوانين أو سياسات عالمية تمنع هذه التجاوزات التي من شأنها أن تسيء إلى الهندسة الوراثية باعتبارها علمًا لخدمة الإنسان لا للإساءة إليه.

نحو حوار بنّاء

يصرّ المؤيدون على دور التقنية الحيوية, الذي لا غنى عنه, لإنتاج غذاء يكفي ويناسب النمو السكاني المطّرد. فعلى سبيل المثال لا الحصر نجد أن بعض النباتات التقليدية لا تنمو في مناخ قاحل وحار, فيما يمكن للنباتات المعدّلة أن تستخدم في مناخ مماثل, موفرة بذلك الغذاء للدول الفقيرة والنامية التي تشكو من مجاعات مزمنة. من جهة أخرى يأخذ المؤيدون على المعارضين سمة المبالغة عند التعرض لمسألة التنوّع البيولوجي ومدى تأثير الكائنات المعدلة على تردد الجينات في الطبيعة, ويشير هؤلاء إلى أن التسرب الجيني ليس وقفًا على الكائنات المعدلة بل إنه حدث ولا يزال - وبشكل طبيعي - منذ ظهور بدائيات النوى (Prokaryotes) وحقيقات النوى (Eukaryotes) عبر ما يسمى بالنقل الجيني الأفقي وهذا الأمر لم يؤدِ إلى كارثة بيولوجية أو بيئية, لذا يمكن اعتبار الكائنات المعدّلة كأي كائن آخر.

أما الأغذية المشتقة من كائنات معدّلة فهي بدورها لاقت استهجانًا ورفضًا من قبل المستهلك باعتبارها غير صحية ولا تتوافق مع شروط الجودة. ونشير إلى أن الأطعمة تعتبر معدلة وراثيًا إذا ما كانت تشتمل على عنصر أو عناصر أخذت من كائنات معدّلة. جدير بالذكر هنا أن الأزمات العديدة التي حصلت في بلدان أوربية على وجه الخصوص, نتيجة جنون الأبقار وغيرها من الأمراض المرتبطة بالتغذية, جعلت المستهلك أكثر حرصًا على سلامته وأكثر دقة في اختيار طعامه, كما أنها زعزعت ثقته بشروط السلامة الغذائية التي تنتهجها البلدان المعنية. لذلك نجد أن التقارير العديدة التي تشير إلى أن الأطعمة المعدّلة هي اكثر أمنًا وذات قيمة غذائية أفضل من الأغذية العادية, لم تلق آذانًا صاغية. وقد ذهب المستهلك إلى حد الإصرار على معرفة ماذا يأكل عبر مطالبة حكومته بوضع قوانين صارمة تضمن عنونة (Labeling) المواد الغذائية وتوضيح مصدرها والإشارة إلى أنها معدّلة وراثيًا إذا ما كانت تحتوي على 0.5% من الكائنات المعدّلة أو أكثر.

إن الصراع بين المعسكر المؤيد والمعسكر المناوئ للتقانة الحيوية والكائنات المعدّلة وراثيًا قد وصل إلى ذروته الآن, والسؤال الذي يُطرح هو كيف ستدار هذه الأزمة وما هي القوانين الملزمة التي من شأنها أن تعيد ثقة المستهلك بحكومته, وبالتالي في السلسلة الغذائية العالمية التي هو جزء منها? إن اكثر ما يقلق الجميع هو الانتشار الهائل للكائنات المعدّلة, مما يعني أنها أصبحت حقيقة لا مفر منها موجودة في كل مكان وعلى كل مستوى, ولا نملك إلاّ التعامل معها. من المؤكد الآن أن الطريقة المثلى لتقييم الكائنات المعدّلة ومشتقاتها ومعرفة جدواها, هي أن يُصار إلى تحليلها بتقنيات الهندسة الوراثية نفسها, الاّ أن هذا الأمر من شأنه أن يرفع الكلفة, كما انه غير ممكن في الكثير من الحالات. إذن مرة جديدة يعود العلم ودوره إلى الواجهة, وعندما يحتج البعض على السياسات العلمية المتبعة, واعتبارهم أن العلم لا يشكل بالضرورة ضمانة للجودة وينأى عن كونه مصدرًا للثقة, يجب على الباحثين حينئذٍ أن يفتحوا حوارًا بناءً تحت مظلة رسمية, وبعيدًا عن أي سمة نفعية, على أن يكونوا راغبين بالتوصل إلى خطة لتأطير الأبحاث الجارية ووضع قوانين منظمة وراعية لتخليق واستخدام الكائنات المعدّلة وراثيًا في الطب والزراعة والبحث العلمي. إننا أحوج ما نكون إلى هذه القوانين, وإن كل تأجيل لن يأتي إلا بالمزيد من الأزمات العالمية.

 

فهد نصر

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




لإظهار الجين المراد تعديله في الدجاج تستخدم الفيروسات التي تصيب الدجاج كأداة للإضافة والاستبعاد





طماطم معدلة وراثيا لتكون عطرية وذات شكل منتظم جماليا





ذرة طبيعية وأخرى مهندسة وراثيا لتختلف في الشكل والألوان