أم كلثوم ورامي... ذلك الحب المستحيل محمد المنسي قنديل تأليف : سليم تركية ترجمة: بسام حجار

أم كلثوم ورامي... ذلك الحب المستحيل

إنها قصة حب تشبه الخيال. رغم أن كل ما فيها من تفاصيل حقيقية ومعروفة أيضا. وهي لم تكن سرا في يوم من الأيام, فقد باحت بها كلمات الأغنيات على لسان أشهر مطربة عربية عرفها العالم. وكان طرفاها هما تلك المطربة الشهيرة, والشاعر الذي رددت معظم أغانيه, أم كلثوم وأحمد رامي مَن الذي لا يعرفهما?!

لا يقدم كتاب (كان صرحا من خيال) شيئا جديدا من تفاصيل هذه العلاقة, كل الوقائع معروفة, رواها مؤرخو الموسيقى والأدب على السواء, واعترف بها أصحابها, ولكنها من خلال هذا الكتاب تكتسب بعدا جديدا. إنها تلتئم وتترابط وتتخلى عن التحفظ الشرقي الذي يكبت المشاعر في نفوس أصحابها وتقدم صورة أدبية حية, مزيجا من القص الروائي والسرد التسجيلي كي تعيد رواية القصة, كأنها أغنية من أغنيات أم كلثوم نفسها, نعرفها ونحفظها ومع ذلك نطرب كلما استعدناها.

صدر هذا الكتاب بالفرنسية تحت عنوان غاية في الاختصار (أم) وهو النصف الأول من اسم كلثوم. كأنما كان هذا كافيا للدلالة على ما يحويه. كتبه سليم تركية, وقام بترجمته بسام حجار واختار له هذا العنوان المأخوذ من قصيدة (الأطلال) للشاعر إبراهيم ناجي, وهي إحدى أغنيات أم كلثوم القليلة التي لم يؤلفها أحمد رامي الذي يمكن القول إنه كان الشاعر الخصوصي لها, والكتاب يروى على لسانه أيضا. وقد توفي رامي في عام 1981 بعد أن نظم حوالي 137 أغنية من أصل 283 أغنية أنشدتها أم كلثوم خلال حياتها الفنية. وقد تخيل الكاتب أن رامي يروي لنا مذكراته ويبث فيها لواعج قلبه ويعترف بصراحة بكل الأشياء التي لم يستطع أن يعترف بها صراحة من خلال أغنياته.

وبعيداً عن فصول الكتاب, فقد كانت أم كلثوم شخصية مثيرة للجدل, فهي لم تكن أشهر مطربة عربية فقط, ولكنها كانت ظاهرة فنية وسياسية أيضا, وكانت هي الشيء الوحيد الذي اجتمع عليه الشارع العربي بعد أن اختلف على كل شيء, كما أنها المطربة التي كانت عبرت كل العصور وأرضت كل الأذواق وتعرضت لكل صنوف المدح والقدح. ورغم أنها قد أحيت عمراً طويلاً من الغناء العربي الكلاسيكي, وبعثت الروح في العديد من قصائد الشعر المنزوية بين صفحات الكتب, فإن البعض اتهمها بأنها كانت سبب التخلف الذي أصاب الموسيقى العربية. وجاء على رأس هؤلاء النقاد الكاتب الكبير توفيق الحكيم الذي قال عنها وهي في عز مجدها إنها تقف عثرة في طريق تطور الموسيقى, لأن الجماهير التي استنامت لجمال صوتها لم ترد التطوير ولا التغيير. قالوا أيضا إنها حاربت كل الذين حاولوا أن يقفوا في طريقها, وبلغ الحسّ التآمري بالبعض أن اتهمها بأنها كانت وراء مصرع المطربة أسمهان, وأنها حاربت عبدالحليم حافظ في بداية حياته الفنية, وأنها كانت بخيلة إلى حد التقتير وأنها لم تكن تعطي مؤلفي أغانيها ولا الملحنين حقوقهم المالية, بل وصل الحد بالبعض إلى اتهامها بتهم شائنة.

ولعلنا جميعا نذكر ذلك المسلسل التلفزيوني الذي قدم منذ عدة أعوام عن حياة أم كلثوم, وقد عرض هذا المسلسل في وقت واحد تقريبا في معظم التلفزيونات العربية والتفت حوله الجماهير بشغف مثلما كانت تلتف حول أغانيها في الخميس الأول من كل شهر. لم يسأل أحد نفسه عن الترابط الدرامي لهذا المسلسل, ولم يدهش أحد من تلك المثالية الزائدة التي كانت عليها بطلته أم كلثوم, بل إن أحدا لم ينتبه إلى أن الممثلة التي قامت بالدور كانت زائدة الوزن إلى حد مفرط بحيث لا تسمح الدهون بخروج أي صوت من حنجرتها, لم ينتبه أحد لذلك.

وقد قابلت مؤلف المسلسل الكاتب الشهير محفوظ عبدالرحمن وقال لي (لقد قدمت أم كلثوم كما أحب الناس أن يروها دوما, لم أحاول تشريح شخصيتها, ولكن حرصت على تقديم عصرها كاملا, ولم يكن هناك مكان للانتقادات...).

لم يرد أحد أن يجازف, لا المؤلف, ولا مخرجة العمل, حرص الجميع على ترسيخ الصورة القائمة, تعاملوا مع الظاهرة, ولم يواجهوا الشخصية التي هي قوام العمل الفني, تعاملوا مع تفاصيل عصر, وليس مع تفاصيل حياة خاصة وهو جزء من الطبيعة الشرقية التي لا تعطي أحداً الحق في اقتحام الحياة الخاصة, حتى ولو كان علما من الأعلام, لقد كان المسلسل جيدا, ومتحفظا ولكنه لم يحمل من سمات الإبداع إلا القليل.

كتاب سليم تركية على العكس من ذلك, وأعترف أنني لا أعرف إلا القليل عن مؤلفه, قرأت له أكثر من مقالة صحفية في الجرائد العربية التي تصدر في الخارج ولكن لم أتعرف على إمكاناته الأدبية التي تثير الدهشة والإعجاب إلا من خلال صفحات الكتاب.

من الصعب أن تصنع رواية حول حقائق الحياة الواقعية. ومن الصعب أن تقدم جديدا من خلال الوقائع التي يعرف الجميع معظم تفاصيلها بشكل جيد, ولكن هذا لم يكن مهما, فالكتاب يغوص في رحلة غير معلومة إلى أغوار أنفس الذين تعرضوا لهم وهو يصف العالم والحب والشعر من خلال عيني عاشق متفرد لا يدري إن كان هناك مَن يبادله العشق أم لا. والحب من طرف واحد كان ولايزال أمرّ صنوف العشق, فما بالك إذا حدث هذا لوجدان شاعر رقيق مثل أحمد رامي.

تبدأ الفصول بعودة رامي من رحلة تعليمه إلى فرنسا, بموعده القدري مع الخطوات الأولى لأم كلثوم وهي تغني في حديقة الأزبكية. كانت تلك الفلاحة المصرية التي ولدت في قرية طماي الزهايرة عام 1910, واكتشف أهلها موهبتها المبكرة فدفعوا بها إلى طريق الغناء الديني والموشحات, ولكن صوتها القوي تمرد على كل تلك القوالب الضيقة, ولم يرض بعالم الأفراح والمناسبات في النجوع والقرى الصغيرة, لذلك هاجرت إلى القاهرة, تصاحبها في البداية فرقتها الدينية من الفلاحين ثم ما لبثت أن تخلصت منهم جميعا.

يراها رامي للمرة الأولى وهي تشدو بإحدى قصائده القديمة التي كتبها قبل رحيله إلى فرنسا.. (الصب تفضحه عيونه). ويفاجأ رامي بكلماته وقد اكتست على لسان تلك الفتاة القادمة من القرية (حسبها في البداية فتى) بحة خفيفة تحتوي على نكهة من الشهوانية, تستولي عليه وتبعث في داخله انفعالا مؤلما.

حب من النظرة الأولى!

هل هو الحب من النظرة الأولى كما تصوّره لنا عشرات الروايات الخيالية?! أم القدر الذي غير حياته, وجعلها تشبه سلسلة من التنازلات التي لا تنتهي من أجل محبوبة غير موثوق بحبها?! كان تنازله الأول في لقائه الأول بها حين أقنعته أن يكتب لها, ليس بشعر الفصحى كما تعود, ولكن بالعامية المصرية. ولدهشته الشديدة, فقد قبل بالأمر وتخلى قليلا عن ترجمة رباعيات عمر الخيام التي كان يقوم بها عن اللغة الفارسية ليكتب لها أغنية بسيطة أشبه برسالة حب مباشرة مليئة بالخوف (خايف يكون حبك ليا... شفقة عليا). كانت أغنية مجانية مثل معظم الأغاني التي قدمها لها فيما بعد, وكانت هي عنوان أسطوانتها الأولى, ولكن العلاقة كانت قد أخذت سمتها بينهما. كان الشاعر القادم من باريس والمغنية القادمة من أعماق الريف قد وجدا لغتهما المشتركة, أخذ يتردد على بيتها في شارع (قوله) كل يوم, يجلس معها ليقرآ الشعر ويعلمها كيف تتلوه بشكل صحيح, ثم تعدى الأمر ذلك ليعلمها آداب السلوك.. وتناول الطعام, والتعامل مع الكبراء, هل تذكرون (بجماليون) وما حدث له مع التمثال الذي صنعه?

كانت الأيام تكشف عن معدن الفتاة الصلد القوي, ففي القاهرة واجهت حربا مزدوجة, حربا من المطربين القدامى وعلى رأسهم (منيرة المهدية) وحربا من بقايا فرقتها من الفلاحين الذين كانوا يريدون قمعها حتى لا تخرج من أيديهم. ونشرت إحدى المجلات الفنية خبرا تقول فيه إن أم كلثوم قد غادرت قريتها هربا من العار بعد أن تعرضت للاغتصاب, وقد شاعت التهمة وترددت حتى أصبحت أشبه باليقين, وفي الوقت الذي فضل فيه أبوها الهرب عائدا إلى القرية قررت هي أن تبقى في القاهرة, قررت أن تقبل التحدي, وقررت حتى أن تخلع الثياب الريفية وأن تصبح فتاة عصرية, بل إن الفلاحة تحوّلت حقا إلى أميرة.

أين الأمان?

كان هذا هو السر المعلوم والمكتوم عن أم كلثوم, ويتعرض الكتاب لهذا الأمر ليقدم لنا تفسيراً منطقياً ومقبولاً, فهو يقول على لسان أحمد رامي...(كانت تحب النساء. أعلم, ولكن ليس بالطريقة التي يلمحون إليها, لقد فتحت عينيها على عالم حيث الرجال, كل الرجال, يشبهون والدها بالطغيان نفسه, وبالعناد نفسه, وبحس التملك نفسه, فبحثت عن الأمان في جنسها هي, وكانت تردد على مسامع الجميع: لن أتزوج لأنني تزوجت فني, ويجب أن أكرّس نفسي لما وهبته ولجمهوري الغيور, وبذلك كسرت العرف, وما كانت لتعرف عرفا آخر, فوجدت نفسها بلا أعراف).

ربما من أجل ذلك ظل رامي في ذاكرتها الخلفية, في مكانة محفوفة بالأسرار لا سبيل إليه للتقدم منها والتواصل معها إلا عبر الأغنيات والقصائد.

ورغم ذلك فلم تكن علاقتهما سهلة ولا هينة, لقد كان الصراع والتنافس يزداد ويشتد بينها وبين محمد عبدالوهاب الذي كان ينافسها ويرتقي لقامتها بعد أن انسحب الجميع. وحدث أن كتب أحمد رامي قصيدة ليغنيها عبدالوهاب بعنوان (أخدت صوتك من روحي) لم يكن رامي يريد أن يكون الشاعر الخاص بها, وأن تحتكر وحدها كل كلماته, ثورة مكبوتة لعاشق مغبون, ولكن عبدالوهاب رفض القصيدة وظلت القصيدة مركونة بين الأوراق القديمة للشاعر حتى جاءت أم كلثوم. كانت متعجلة وتريد أغنية في حفل سوف يقام على شرف الملك فؤاد. وأخرج رامي القصيدة القديمة وأعطاها لها, وقام القصبجي بتلحينها وقامت هي بالغناء أمام الملك.ورآها محمد عبدالوهاب فرصة سانحة للانتقام من غريمته فسرب القصة للصحافة, (لقد حظى الملك فؤاد والمدعوون وجمهور الأوبرا بعمل قديم ومستعمل) وكانت فضيحة انفجرت في وجه أم كلثوم, لقد غنت عملا سبق أن رفضه عبدالوهاب, وفعلت ذلك أمام ملك البلاد, وكانت القطيعة بينهما, لقد عاد إلى مركزه الذي لم ترفعه عنه إلا قليلا, مجرد مؤلف أغان خاص بها.

هل كانت أم كلثوم عنيفة في خصومتها, يفسر الكتاب ذلك من خلال كلمات على لسان محمد القصبجي الذي أخلص لها ملحنا وعازفا ومع ذلك ذاق منها الأمرّين. يقول (أو تعلم, كل هذا التهليل الذي ينطلق فجأة من بقعة معتمة أمامها كل هذا التصفيق هو الشكل الأوضح لعنف ما. جسدها يتلقفه, ويختزنه ليلة بعد ليلة, ولكن لابد لهذا المقدار من العنف أن ترد به كما تتلقفه حتى على الذين لم يتسببوا لها بأي أذية).

أمام حب مستحيل كهذا كان على رامي أن يتزوج من امرأة أخرى, امرأة حقيقية من لحم ودم, وليست رمزا لعصر بأكمله, تكون له وحده وليس لملايين العشاق, لذلك كان ارتباطه سريعا ومفاجئا بواحدة من دارسات الأدب الفرنسي. فتاة محبة ومنفتحة, لكن المأساة أن ذلك كله تم بنصف قلبه الآخر, القلب الخالي من الصبوات, الخاضع لحكم العادة والاحتياج الجسدي, لذا كان من الطبيعي أن يتعرض هذا الزواج للعديد من التصدعات, ومع كل أغنية جديدة كانت الزوجة تكتشف أن قلب زوجها ينزف ألما وشعرا من أجل امرأة أخرى.

أم كلثوم تتزوج أيضا, زواجا سريا حتى تحافظ على لقب الآنسة الذي التصق بها, تتزوج محمود الشريف (لم يكن سوى عازف كمنجة في فرقتها, مدمن على الكحول, في العادة لا ينظر إليها أو بالكاد, وبنظرات استخفاف وازدراء, وكانت تسامحه على كل شيء, بهيّ الطلعة, فظ. يصل متأخرا عن مواعيد البروفات وحين تفتقده تجده برفقة صديق يحتسي الشراب على قارعة الطريق).

ربما كان هذا هو الرجل الوحيد الذي أحبته وأرادت أن تطيعه وأن تعيش معه بقية عمرها, ولكن أحدا لم يرض عن هذا الزواج غير المتكافئ. بل إن القصر قد تدخل شخصيا كي يرغمها على الطلاق من هذا العازف السكير. وربما كسر هذا في داخلها شيئا لم يلتئم أبدا حين أدركت أنها رغم كل شهرتها عاجزة عن نيل ما تحب. كانت أم كلثوم فلاحة, وقد ظلت كذلك حتى آخر أيامها, حتى عندما قامت ببناء فيلتها الشهيرة في الزمالك, لقد بنتها على حافة عالمين لا يلتقيان, في الأدوار الأولى التي تبرز فوق الأرض يوجد عالم القاهرة حيث تقوم باستقبال أعيان البلد ورجال القصر الملكي وضباط الثورة فيما بعد. إنه عالمها الرسمي والفاخر, الوجه الذي تحب أن يراه الجميع وأن تكتب عنه الصحف. ولكن في الأسفل, في البدروم يوجد عالمها الآخر, خدم القصر الذين جاءوا كلهم من قريتها (طماي الزهايرة). ويوجد أهل البلد الذين يتوافدون على القاهرة حيث يجدون في هذا البدروم المأوى والطعام, أناس جالسون على الأرض, يأكلون ويشربون الشاي وينامون على فراش خشن كما يفعلون في القرية تماما.

يحفل الكتاب بالعديد من تفاصيل أيام أم كلثوم العصيبة, وهو يترك التفسيرات الجانبية ومزج الخيال الذي اعتمد عليه في المرحلة السابقة, ليتحول إلى ملاحقة شبه تسجيلية لوقائع الأيام الأخيرة. حرب أكتوبر, تدهور الصحة والمرض, الغيبوبة الطويلة, الموت الذي آن أوانه, يقول الكتاب على لسان رامي في آخر لحظاته: هي تغني (يوم الهنا), إنها أغنية مفرحة, حبيبة تلتقي محبوبها. وليس لي إلا أن أتشبث بالنغم وأتبعه, فمعها لا خوف علي, أشعر بذلك, ثمة شيء قد انقطع, هناك, عند حنجرتي, أشعر بأنه يكفي أن أغمض عيني لكي ينطفئ, الله وحده يعلم أننا حاولنا أن نلمع صورة هذا العالم وأن نرتقي به صوب الشمس, والآن هناك الظلمات...).

يقدم لنا هذا الكتاب درسا بليغا في كيفية إعادة كتابة الحقيقة, فليس هناك حقيقة مطلقة. ولكن هناك حقائق خاضعة دوما للتفسير, وتحتاج إلى الإيضاح. هذا هو جوهر الفن وتنظيم كل ما هو مبعثر, وإضفاء هالة على كل ما هو عادي, والنتيجة هي رؤية كل ما تمت رؤيته من قبل ولكن بصورة مغايرة.

 

محمد المنسي قنديل

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات