في صباح 3 فبراير 1975 اختطف الملايين من شوارع القاهرة جثمان أم
كلثوم الذي كان مقررا أن يشيّع من جامع (عمر مكرم) الشهير, وظلت الملايين تدور
بنعشها أكثر من ثلاث ساعات حتى مسجد (سيدنا الحسين) لاعتقادهم أنه أحد المساجد
الأثيرة لديها. وقبل صلاة الجنازة على جثمانها ناشد إمام المسجد الناس أن يتركوا
الجثمان ليجري دفنها وفقا للشرع.
وهنا فقط استجابوا...
ويربط الكثيرون بين جنازتها وجنازة جمال عبدالناصر, والفارق بينهما
نحو خمس سنوات فقط, فقد سار في جنازة جمال عبدالناصر الملايين أيضا, كما شمل الحزن
عليهما معا عشرات المدن العربية, واستمر الحداد الشعبي عليهما أسابيع عدة.
كلاهما إذن كان (ظاهرة عربية) تنتمي لتلك اللحظات المضيئة والمتألقة
في التاريخ العربي الحديث. كلاهما اختطف قلوب الناس وارتبط بهم وعبّر عنهم, باختصار
كان صوتهم الذي يبحثون عنه.
تذكرت هذا وأنا أدلف إلى داخل متحف أم كلثوم المقام في جزيرة الروضة
ملاصقا لمقياس النيل ومطلا على منطقة يبدو فيها النيل في أقصى مساحاته اتساعا. في
الغرب تبدو أشباح الأهرام الثلاثة بعيدة, وفي الشرق تظهر آخر سلسلة جبال
المقطم.
المتحف الذي أقامته وزارة الثقافة في مصر أخيرا لأم كلثوم بعد ستة
وعشرين عاما من رحيلها أقل كثيرا من قيمتها ودورها وتأثيرها, ومع ذلك فهو الوحيد
المتاح!
وفي أعقاب رحيلها مباشرة, تعالت الأصوات بتلك الحماسة المعهودة بضرورة
تحويل (فيلتها) التي قضت بين جدرانها عشرات السنين, وشهدت أفراحها وأحزانها ومولد
أغانيها إلى متحف. لكن الفيلا ما لبثت أن بيعت واشتراها أحد المستثمرين الذي أسرع
بهدمها وبنى مكانها بناية شائهة مقبضة تشبه سجناً (خمس نجوم)!
كانت فيلا أم كلثوم تطل على النيل أيضا في حي الزمالك الذي يعد من
أكثر أحياء العاصمة ثراء ويصل سعر المتر من الأرض فيه إلى أرقام فلكية, لذلك سرعان
ما هدم المستثمر جدران الفيلا وحطم تاريخا كاملا وذاكرة لوطن وأمة!
الحقيقة أن أم كلثوم كانت تستحق متحفا عربيا وليس مصريا فقط, فما
أسدته لنا جميعا - من المحيط إلى الخليج - دين يطوق أعناق الملايين من العرب, ولم
يكن صعبا على هذه الملايين أن تكتتب من أجل شراء بيت أم كلثوم, إلا أن هذا ما جرى,
وفقدنا بيتها بكل ما يمثله من ذكرى, كما فقدنا أيضا مقتنياتها وأثاث بيتها وأشياءها
الصغيرة العزيزة!
الحقيقة أيضا أن ما حصلت عليه من ألقاب وصفات كانت تستحقها تماما, فهي
معجزة الغناء العربي وكوكب الشرق والصوت الساحر وفنانة الشعب, وغيرها من الألقاب
والتسميات, والمعجزة التي تتجاوز كل هذا هي رحلتها الأسطورية من فلاحة ولدت وعاشت
سنواتها الأولى في قرية (طماي الزهايرة) الصغيرة في أعماق الدلتا, إلى تلك المكانة
التي احتلتها في قلوب الملايين وامتدت لعدة عقود متوالية, بل ولاتزال حتى الآن تحتل
مكانتها في قلوب ملايين لم يروها ولم يعاصروها, فصوتها وأغانيها لاتزال بيننا.
رحلة عنيدة
في السطور التالية سأحاول أن أوجز قدر الإمكان رحلة أم كلثوم, قبل أن
أصحب القارئ في جولة بين مقتنياتها - الباقية - في متحفها.
ولدت - على الأرجح - في 4 مايو 1904, فيما يشي نصب تذكاري, أمام
المتحف إلى العام 1899, وكان أبوها إمام مسجد قرية طماي الزهايرة من أعمال مديرية
الدقهلية, وهي قرية صغيرة لا يتجاوز عدد سكانها 1600 شخص, وكان بيتها, شأن البيوت
الفقيرة في القرية, مبنيا بالطوب اللبن, وشأن أطفال القرية الفقراء أيضا, ما إن
كبرت قليلا حتى نزلت الحقول تعمل وتغني, وكان مرقص أفندي ناظر العزبة معجبا بصوتها
الجميل الذي خفف على الفلاحات عناء اليوم الطويل, كما تشير إلى ذلك د. رتيبة الحفني
في كتابها عن أم كلثوم.
ولما كان الأب فقيرا, فقد صحب ابنه (خالد) إلى الأفراح وحفلات الطهور
في القرى القريبة ليزيد من دخله بغناء الأغاني والموشحات والأدوار الدينية, وهي ما
تفتحت أم كلثوم على سماعها, حين كان أبوها يقوم بتحفيظ خالد تلك الألحان, كما أرسله
إلى (كُتّاب) القرية ليتعلم ما تيسر من مبادئ القراءة والكتابة ويحفظ القرآن
الكريم. لم يكن التعليم متاحا للبنات, إلا أن عائلة (عم إبراهيم) والد أم كلثوم
كانت عائلة مختلفة فيما يبدو, فبعد إلحاح طويل من أم كلثوم وافق والدها على إلحاقها
بالكتاب مثل أخيها, وعندما مرض الأخير ولم يتمكن من الذهاب مع أبيه إلى بيت عمدة
القرية لإحياء إحدى الليالي, جاءت الفرصة لأم كلثوم, وارتدت ملابس بدوية بحيث تبدو
كأنها صبي, وغنت مع أبيها, فقد كانت الطفلة الصغيرة لا تمل من استراق السمع إلى
أبيها وهو يدرب شقيقها على أداء الأغنيات فحفظتها عن ظهر قلب, وحين اكتشف أبوها ذلك
أدرك أن صوتها فريد, ووافق على أن تحضر دروس تدريب خالد.
منذ هذه اللحظة بدأت أم كلثوم رحلتها الأسطورية لتصبح صاحبة الصوت
النادر بالفعل, فصوتها واحد من أندر الأصوات التي صادفتها الإنسانية. وهناك باحثة
أمريكية لا تعرف العربية هي فرجينيا دانيلسون قضت ست سنوات كاملة خلال عقد
التسعينيات لتدرس (صوت) أم كلثوم من الزاوية الفنية الموسيقية البحتة - لاحظ أنها
لا تعرف العربية - وكانت النتيجة كتاب (صوت أم كلثوم) الذي ترجمه عادل هلال
عناني.
كتبت دانيلسون: (كان صوت أم كلثوم قويا بقدر ما كانت نوعيته متساوية
من مداه الغليظ الى مداه الحاد دون انتقالات أو تغيرات ملحوظة). ومن أمثلة
التحليلات التي تعطي هذه الصفة ما تستحقه من تقدير ما عبر عنه محمد عبدالوهاب بقوله
(إن صوتها لا يتغير وقعه على الأذن بسبب تغير المدى في اللحن. فالطبقات الغليظة
مماثلة للمتوسطة ومماثلة للحادة من حيث سيطرتها عليها, وتحافظ على الجرس الذي يميز
صوتها). وتضيف دانيلسون: (وكان تغيير نوعية الصوت من الرنين الرأسي إلى الرنين
الصدري أو الانتقال إلى صوت حاد على الطبقة يستخدم بغرض الزخرفة, من أجل لفت
الانتباه إلى نقطة محددة في النص أو الخط اللحني. وكان الانتقال من رنين الصدر إلى
رنين الرأس أثناء إلقاء الأغنية يعد عيبا أو خطأ, فعلى الرغم من أنه كان من المعترف
به أن الأصوات تختلف في طبيعتها المميزة, فإن الصوت السوبرانو والألطو والتينور
والباص لم تكن مفاهيمه تنطبق على الغناء العربي, فأثناء السنوات المبكرة من القرن
العشرين, حدث في معظم الأحيان تداخل بين المدى الأكثر حدة للصوت الرجالي والمدى
الأكثر غلظة للصوت النسائي مقداره عشر أو إحدى عشرة طبقة صوتية).
***
نعود إلى المتحف الذي يقع في أقصى الركن الجنوبي الغربي من جزيرة
الروضة, ويشغل أحد المباني الملحقة بقصر (المانسترلي) والأرجح أنه كان مبنى مخصصا
للخدمات (!!) ومساحته لا تتجاوز 250 مترا مربعا. وهكذا... بقدر ما كان صوت أم كلثوم
يسع الدنيا كلها, هاهو متحفها لا يتجاوز 250 مترا مربعا! أما قصر المانسترلي نفسه
فهو أثر تاريخي مهم تبلغ مساحته 1000 متر مربع وصاحبه حسن فؤاد باشا المانسترلي
الذي بناه عام 1851م, حين كان واحدا من كبار رجال الدولة في عهد الخديو عباس حلمي,
وكان آخر منصب تولاه هو وزير الداخلية عام 1857 وتوفي عام 1859.
في 28/12/2001 تم افتتاح المتحف رسميا - وأول ما يواجه الزائر له
حافظة زجاجية تضم نظارتها المطعمة بالألماس ومنديلها الذي كانت تضمه بين يديها
أثناء الغناء, واشتهرت به كما يعرف الجميع. ثم تتوالى الحوافظ الزجاجية وداخلها
مقتنياتها.
***
نرجع إلى الطفلة الصغيرة التي التحقت لتوها بكتاب قريتها, وحضرت مع
أبيها حفل عمدة القرية, وفي رواية أخرى حفل شيخ البلد, بدلا من أخيها الذي كان
مريضا. أما أجرها الذي وعدها به أبوها إذا نجحت فهو طبق كامل من (المهلبية)..!!
وهكذا بدأ نجم الطفلة يعلو, ولم يدخر الشيخ إبراهيم وسعا في تحفيظها أغاني وألحان
الشيخ أبو العلا محمد أحد أكبر أساطين ذلك العصر, واصطحبها معه في كل الأفراح التي
كان يدعى إليها, ولأن بعض هذه الأفراح كان في القرى المتناثرة, وكان على الفرقة أن
تسير على الأقدام, فإنهم كانوا يضطرون لحملها واحدا بعد الآخر!
من قرية إلى قرية راحت الطفلة الصغيرة تنتقل وتغني, وعرف البعض صوتها
بل وبدأوا يطلبونها بالاسم. وفي عام 1915 وصل أجرها إلى رقم فلكي بالنسبة لها: مائة
وخمسين قرشا بالتمام والكمال!
وتحكي أم كلثوم عشرات النوادر التي صادفتها أثناء تلك الفترة, وعلى حد
تعبيرها في مذكراتها التي كتبها علي أمين: (مسحت بقدمي الصغيرتين القطر المصري قرية
قرية قبل أن أضع قدمي في القاهرة... ركبنا مرة قطار الدلتا (وهو نوع من القطارات
الصغيرة المزدحمة والمخصصة للتوقف في القرى الصغيرة) لمدة ساعتين ونصف الساعة. ثم
ركبنا الحمير لمدة ساعتين ونصف الساعة لكي نصل إلى (الكَفْر) الذي سنحيي فيه ليلة
الفرح. ولما وصلنا بسلامة الله بعد هذا المشوار الشاق الطويل, تبين لنا أن الفرح قد
تأجل. فقال أبي لصاحب الفرح:
- طيب لما الفرح اتأجل... مش كنت تدينا خبر?
فأجابه الرجل ببساطة شديدة?
- كل الناس عارفة إن الفرح تأجل...)!!
بالطبع لم تكن كل حفلاتها نوادر من هذا النوع, فالمسافات التي كانت
تقطعها مع والدها وبطانتها تتراوح بين خمسة وعشرة كيلومترات, كما كانت تنتظر على
أرصفة المحطات في البرد والمطر مددا قد تصل إلى اثنتي عشرة ساعة, لأن القطارات كانت
تمر أمام المحطات عادة مرتين: في السادسة صباحا والسادسة مساء.
من قرى ونجوع وكفور ومراكز الدلتا, صبية صغيرة ترتدي العقال والكوفية
والمعطف وتقف بين أبيها وشقيقها تغني وتمدح النبي (صلى الله عليه وسلم) وآله وعترته
الزكية, انتقلت أم كلثوم إلى القاهرة, حدث الأمر بالمصادفة, فقد التقيا - والدها
وهي - بالشيخ أبو العلا محمد أحد أساطين الغناء والذي كانت أم كلثوم نفسها تردد
أغانيه وموشحاته دون أن تراه. لم تصدق الصبية نفسها, هاهي تلتقي وجها لوجه بالشيخ
الذي طالما رددت ألحانه. وظلت تلح عليه ليقبل دعوتها بزيارة قريتها, وفي بيتها
سمعها الشيخ أبو العلا وأعجب بصوتها, بل وطلب من أبيها أن ينتقل مع ابنته إلى
القاهرة لأن فرصتها الحقيقية في العاصمة, وهو ما حدث بالفعل, فزارت القاهرة لأول
مرة عام 1919 حيث غنت في قصر الوجيه عز الدين يكن وأحيت ليلة الإسراء والمعراج.
ارتبطت أم كلثوم لفترة طويلة بالشيخ أبو العلا محمد وتعلمت منه وحفظت
ألحانه منه مباشرة وهو ما لعب دورا مهما في إتقانها, وعن طريقه تعرفت على الشاعر
أحمد رامي. وتروي أم كلثوم: (وفي إحدى حفلاتي بحديقة الأزبكية, عرفت أن أحمد رامي
جاء يسمعني فأردت أن أحيي الشاعر الذي غنيت أشعاره قبل أن أراه. أردت أن أقول له
أهلا. فغنيت له قصيدة (الصَّب تفضحه عيونه) وكانت مفاجأة له... كان رامي يحب
الغناء, وكنت أنا أحب الشعر. ويرجع له كل الفضل في تذوقي للشعر وفهم معانيه. كان
يقدم لي في كل مرة يزورني فيها ديوانا من الشعر. وتعلمت على يديه أوزان الشعر..
وبدأت أفرق بين البيت المكسور والبيت الذي يقف على قدميه...).
ومنذ هذه اللحظة لن يفترق رامي عن أم كلثوم إلا بالموت!
لم يأت عام 1931 إلا وكانت قد حققت أحد أحلام حياتها وهو غناء لحن
للشيخ زكريا أحمد, وفي الوقت نفسه اختفت حملات النقد في الصحف ضدها, كما توفي
والدها وسندها الشيخ إبراهيم البلتاجي. وبعد شهور عدة سافرت في جولة فنية للغناء في
كل من سوريا ولبنان وفلسطين, أما في بيروت, فقد عزف لها مستقبلوها السلام الملكي
المصري عند نزولها من الباخرة. وفي العام التالي أقام لها معهد الموسيقى العربية
حفل تكريم, كما أقرت غريمتها الأساسية المطربة منيرة المهدية بعجزها عن المنافسة!
كذلك شهد هذا العام ظهور الميكروفون لأول مرة أمام المطربين في الحفلات, إلا أن أم
كلثوم غضبت بشدة حين وضعوا لها هذه الآلة, وقذفت بها من فوق خشبة المسرح!!
وفي يوم الخميس 31 مايو 1934افتتحت أم كلثوم الإرسال الإذاعي الأول
لمصر, ومنذ ذلك التاريخ أصبح يوم الخميس هو موعد حفلاتها الشهرية حتى آخر حياتها,
وأصبحت مطربة الإذاعة الأولى وتقاضت أعلى أجر في ذلك الوقت وهو ثلاثون جنيها مقابل
ساعة من الغناء!
جواز سفر ومفكرتان
الأضواء الخافتة وألوان الجدران الداكنة تضفي جوا من الرهبة والقداسة
عندما يتجول زائر متحف أم كلثوم بين ردهاته القليلة الضيقة. المعروض في الحوافظ
الزجاجية قليل جدا يكاد يكون مجرد عينات! هناك - على وجه الحصر - ثلاثة أزواج من
الأحذية وثلاث حقائب حريمي, ثماني فساتين تنتمي لطراز واحد وهي على الأرجح تم
تفصيلها خلال الستينيات.
بعض الأوسمة والنياشين والأنواط وبراءاتها ومن بينها نيشان الكمال
الذي أهداه لها الملك فاروق, وقلادة النيل - أعلى الأوسمة وأرفعها في مصر التي
أهداها لها جمال عبدالناصر, ودروع , ومن بينها درع اتحاد طلبة جامعة الكويت...
ومن بين مقتنياتها أيضا جواز سفرها الدبلوماسي برقم 1534 والعود الذي
كانت تحبه, وقصائد وأغاني بخط أحمد رامي وبيرم التونسي وأحمد شوقي وعبدالفتاح مصطفى
والأمير عبدالله الفيصل وجورج جرداق, أما قصيدة نهج البردة فهي بخط يد كبير خطاطي
العصر الفنان سيد عبدالقوي, ومفكرتان يوميتان لعامي 1954و1964 مفتوحتان على صفحتين
تضمان حسابات غامضة!! وأخيرا مفكرة صغيرة تضم الصفحة المفتوحة عليها كلمات
بالفرنسية ومقابلها بالعربية... يكاد ما سبق أن يكون حصرا لمقتنيات أم كلثوم, إذا
استثنينا بعض الاسطوانات المتناثرة ومسجلا وراديو وميكروفونا أهدته الاذاعة إلى
المتحف وسجلت عليه أم كلثوم عددا كبيرا من أغانيها.
أما (العلبة) الصغيرة الملحقة بالمتحف والمخصصة كمكتبة فلا تضم سوى
أربعة أجهزة يمكن من خلالها طلب الأغاني إليكترونيا وسماعها بـ(الهيدفون) وبعض
الكتب القليلة عنها وببليوجرافيا وبعض النوتات الموسيقية.
الوطن والبيت
وعلى الرغم من أن الملك فاروق كان قد منحها واحدا من أرفع النياشين
وهو نيشان الكمال عام 1944, فإنها بعد هزيمة 1948 دعت جميع أفراد كتيبة الفالوجا
التي حوصرت أثناء الحرب إلى حفل استقبال في بيتها تعبيرا عن تضامنها معهم لأن
الكتيبة رفضت الاستسلام, وكان من بين ضباطها جمال عبدالناصر, الذي حضر الحفل والتقى
بأم كلثوم, لذلك لم يكن غريبا أن يتدخل شخصيا بعد الثورة, حين علم أن أحد الضباط
أمر بعدم إذاعة أغاني أم كلثوم باعتبارها تنتمي للعهد البائد, وأصر على الاعتذار
لها, وعادت أغانيها للإذاعة, بل وأنشأ إذاعة خاصة لها ظلت تذيع أغانيها بين الخامسة
والعاشرة مساء بين أغاني أخرى للعديد من المطربين والمطربات.
أما الحياة الخاصة للفنانة الكبيرة فقد اتسمت بالتحفظ الشديد, بسبب
نشأتها الريفية, ولذلك ظلت مصرّة على ملابسها المحتشمة الأنيقة. وتركز الباحثة
الأمريكية فرجينيا دانيلسون في كتابها السابق الإشارة إليه على هذا الجانب كثيرا من
شخصيتها. فعلى الرغم من أنها كانت (بنت نكتة... واشتهرت بقفشاتها وتعليقاتها الذكية
اللماحة وسرعة بديهتها, فإنها ظلت متحفظة على الدوام).
تزوجت أم كلثوم مرتين الأولى من الملحن محمود الشريف زواجا لم يطل
كثيرا, وقيل إنها تزوجته ردا على تخلي شريف صبري باشا خال الملك فاروق عنها تحت ضغط
العائلة المالكة, فكيف يتزوج الباشا من امرأة هي في نهاية الأمر من عامة الشعب, بعد
أن كانا على وشك الزواج فعلا, ويقال إنها ردت اللطمة للباشا بزواجها المفاجئ من
الفنان الشعبي الذي كان على أولى درجات السلم في ذلك الوقت.
زواجها الثاني والأخير كان من الدكتور حسن الحفناوي أحد أطبائها فضلا
عن أنه كان واحدا من محبي فنها ومستمعا من أصحاب الصفوف الأولى في كل حفلاتها. تم
الزواج - كما نشر الأهرام - في 17/9/1954 في جو عائلي هادئ, ود. الحفناوي كان وقتها
أستاذا مساعدا بكلية طب قصر العيني, وهو من مواليد عام 1915, أي أنه كان أصغر منها
سنا, ومع ذلك دام الزواج حتى رحيلها عام 1975.
بعد الثورة, شاركت أم كلثوم في تشكيل ملامح المجتمع الجديد, وفي عام
1955 تلقت خطاب شكر من جمال عبدالناصر لتبرعها بألف جنيه ضمن حملة التبرعات لتسليح
الجيش, ومنحها الميدالية الذهبية لأسبوع التسليح.
وفي عام 1956غنت لتأميم القناة أغنيتها الشهيرة (ما أحلاك يا مصري),
وبعد العدوان الثلاثي غنت (والله زمان يا سلاحي) التي تحولت إلى نشيد قومي, بل
ودعيت في العام التالي لحضور افتتاح مجلس الأمة المصري في دورته الجديدة كإحدى
الشخصيات القومية الكبرى. أما عام 1960 فقد شهد وقوفها أمام عدسات التلفزيون للمرة
الأولى, بعد أن رفضت مرارا تصوير حفلاتها تلفزيونيا, وفي العام نفسه تعرفت على
الملحن الشاب بليغ حمدي وغنت أول لحن له: (حب إيه اللي انت جاي تقول عليه) كما حصلت
على وسام الاستحقاق المصري - في السنة نفسها - من الدرجة الأولى تقديرا لفنها.
يرى الكثيرون أن بدايات تراجع أم كلثوم فنيا ترجع إلى أول أغنية لحنها
لها محمد عبدالوهاب وهي (أنت عمري) عام 1964, فقد تخلت عن القوالب وطرق الأداء
والألحان التي برعت فيها, واستسلمت للألحان التي تبدو وكأنها في واد وصوت أم كلثوم
في واد آخر, إلى جانب اعتماد عبدالوهاب على الآلات ذات الحس الغربي مثل الجيتار
الكهربائي والمقدمات الموسيقية الطويلة المملة.
لكنها - وفي أعقاب الهزيمة المروعة في 1967 - كادت تتفرغ لمعركة أمتها
ووطنها من أجل هدف وحيد وهو ضرورة إزالة آثار العدوان. لذلك غنت لمصلحة المجهود
الحربي في عشرات الحفلات داخل مصر, بل وخارج مصر, حيث غنت على مسرح الأولمبيا في
باريس وأرسل لها ديجول تحيته الشهيرة:
لقد لمست بصوتك أحاسيس قلبي وقلوب الفرنسيين جميعا....
كما غنت لصالح المجهود الحربي في عدد من البلدان والعواصم
العربية.
لكن جمال عبدالناصر رحل عن عالمنا عام 1970, وبدا أن العهد الجديد -
عهد أنور السادات - لا يرحب بها كثيرا, وقيل وقتها إن العهد الجديد يبحث عن وجوه
جديدة ترتبط به ويرتبط بها, وبالفعل بدأ الإعراض عنها في وسائل الإعلام, وتحت السطح
بدأ تلميع وتجهيز صغار القامة وضعاف الإمكانات والمواهب ليحتلوا المسرح, فقد انتهى
عصر وبدأ عصر جديد!!
ولحسن حظ أم كلثوم, ولحسن حظ الغناء العربي, ولحسن حظ عشاقها, لم
يمهلها عمرها كثيرا لتشهد المزيد من لحظات الغروب والزوال. كان آخر حفلاتها في
الخميس الأول من يناير عام 1973, حيث بكت على المسرح وهي تغني, وبكى جمهورها. ثم
ألغي حفل الشهر التالي في فبراير 1973 واعتذرت الإذاعة لملايين العشاق الذين كانوا
ينتظرون الخميس الأول من كل شهر لتجتمع الأسر والعائلات من المحيط للخليج ليعيشوا
ليلة من ليالي العمر.
وعلى مدى العامين التاليين عاشت أم كلثوم تصارع المرض, وأغلب الظن أن
معنوياتها لم تكن على ما يرام, وفي 3 فبراير 1975 سلمت الروح.
سألت مدير متحف أم كلثوم عن المقتنيات فقال: إنه منذ عام 1994م بدأ
الاتصال بأسرتها لجمع مقتنياتها, وكان الأمر صعبا في البداية لأن الأسرة لم تكن
مقتنعة بجدية المسعى لإقامة المتحف, وعندما بدأت الخطوات العملية وأدركوا أننا بصدد
إقامة متحف بالفعل, تعاونوا معنا وتبرع أفراد الأسرة بكل المقتنيات الموجودة من
ملابس ووثائق وأوسمة ونياشين وتسجيلات نادرة... لقد تبرعوا بكل هذا عن طيب خاطر
وبتعاون كامل.
وعندما قلت له: ما ألاحظه بالفعل هو المقتنيات الهزيلة ومساحة المتحف
المحدودة الضيقة التي لا تتناسب مع حجم أم كلثوم في قلوب الملايين.
أجاب:
نعم... المساحة قليلة لكن هذا ما توافر, والأهم أن الموقع لائق
واختارته وزارة الثقافة لأنه يشرف على النيل مباشرة. النيل الذي غَنَّتْ له أم
كلثوم رائعتي شوقي وبيرم التونسي, وأم كلثوم نفسها كانت عاشقة للنيل, وعاشت عمرها
كله في فيلتها بالزمالك المقامة على النيل أيضا. أضف إلى هذا أن المكان الحالي يضم
قصر المانسترلي وهو أثر تاريخي مهم, ومقياس النيل أقدم أثر إسلامي بعد جامع عمرو بن
العاص.
يضم المتحف مكتبة تحتوي على كمية من الوثائق والكتب أغلبها تم إدخاله
إلى الكمبيوتر ليستخدمه الباحثون. والوثائق التي يملكها المتحف تصحح الكثير من
المعلومات التي كانت قد أصبحت حقائق راسخة على مدى قرن من الغناء.
شدو على موج
وأنا أغادر المتحف, قلت لنفسي: صحيح أنه على النيل الذي طالما عشقته
أم كلثوم, وصحيح أيضا أنه أقل كثيرا من قامتها ودورها وتأثيرها, لأم كلثوم حقوق
علينا, أقلّها متحف لتخليد فنها, والمتحف - بالنسبة لفنانة بحجمها - يجب أن يكون
مركز إشعاع ثقافي وفني وموسيقي يضيف ويطور مثلما يؤصل ويحفظ, بل ويقيم الندوات
والمؤتمرات وحلقات البحث, ولعلي أتجاسر وأطالب بأن يتولى تدريب الأجيال الجديدة من
الموهوبين وتكوين فرق تنتسب لها ولتراثها الخالد.
لقد كانت أم كلثوم وحدها عصرا كاملا, عبّرت عنه بأغانيها وشخصيتها
وإخلاصها اللامحدود لفنها, لذلك منحتها الملايين في أرجاء الأرض العربية عشقا ندر
أن يحصل عليه الكثيرون.