غادة السمان وجهاد فاضل

غادة السمان وجهاد فاضل

  • ولدت وفي فمي بطاقة سفر وأحن للمدن التي تغيب عن عيني 
  • بيروت هي كابوسي المفضل.. كابوسي اللذيذ أغرقني والدي في قراءة التراث
  • الكتابة هي تحد حقيقي للموت.. إنها مهنة مرعبة ولكنها جميلة

على مدى أربعين عاما من عمرها ككاتبة, كان لغادة السمان حضورها اللافت في الأدب العربي الحديث. كاتبة كبيرة تلعب بالكلمات, وتأسر قلوب قرائها, كما كانت تفعل قديما جدتها شهرزاد مع الملك القلق المتوتر الأعماق, إذ تثير مخيلته, وتروّض الشرّ في داخله, وتجعله يستسلم لاحقا إلى سحرها وإلى أحلامها الوردية. وبحكم استمرارها كل هذه الفترة في الساحة الأدبية بلا انقطاع, أصدرت غادة السمان عددا وافرا من الكتب التي توزعت على فنون أدبية مختلفة كالقصة والرواية والشعر. وقد أعيد طبع هذه الكتب مرارا, مما يدل على وجود صلة وثيقة تربط هذه الكاتبة الكبيرة بقرائها الموزعين في كل مكان من بلاد العرب. ليست غادة السمان أديبة كأي أديبة أخرى تكتب قصصا وروايات وأشعاراً منثورة. فهي أديبة كبيرة بالمعنى الحقيقي للكلمة, وبالمعنى المفتقد النادر في عصرنا. فهي سواء كتبت هذا اللون من الأدب, أو سواه, تكتب أدباً بأرفع تجليات هذه الكلمة. تنزل الكلمة عندها منزلها بحيث يتعذر إحلال أخرى محلها لفرط دقتها ولتأديتها المعنى الذي قصدته على وجهه الصحيح. وقد بات هذا مع الأسف عنقاء حياتنا الأدبية المعاصرة حيث باتت العشوائية والمجانية قانوناً معمولاً به, وحيث أصبح الغلط الشائع يُنشئ القانون. فالسائد الآن ليس الأدب, بل تلك الكتابة السريعة العطب, وسريعة التهافت في آن. والسائد الآن هو الكاتب الذي يكتب مايرد إلى باله, دون أي مراعاة لشروط الفن, أو لتلك المبادئ الأولية الراسخة في كتاب الأدب. وتكون النتيجة انهيار هذه الصناعة الجليلة التي طالما أحيطت في الماضي بقيود والتزامات كثيرة من أجل أبعاد المتطفلين, أو غير الموهوبين, عنها.

وقد قام بالحوار معها الصحفي المعروف (جهاد فاضل) الذي أجرى العديد من الحوارات مع رموز الفكر العربي. 

  • بداية, سألت غادة السمان: ألهمتك بيروت كثيرا, كما ألهمتكِ الشام, فهل هناك مدن أخرى كان لها نصيب في عملية الإلهام هذه ? هل يُلهم المكان, كما يلهم الإنسان?

- إذا كان ثمة من يولد وفي فمه ملعقة من ذهب, فقد ولدت وفي فمي بطاقة سفر.

كثيرة هي المدن التي ألهمتني إلى جانب دمشق وبيروت, وحاولت التقاط تلك الشخصية المكهربة المتدفقة في سيالات روحية صوبي. ثمة مدن غربية أو عربية التقيتها وأنا مستعدة نفسيا لكتابة عمل قصصي أو روائي فتحلّ روح الشحنة في أي عمل إبداعي. وثمة مدن التقيتها في فترة مغايرة, فأحاول اعتقال لحظاتي الهاربة معها في مقالة أو خاطرة. وثمة مدن رائعة أزورها و(هوائياتي) هامدة, فلا تلتقط (أنتيناتي) شيئاً لنقص عندي. ولكنني غالبا أتفاعل مع المدن كما مع الأرواح التائهة وأنسكب في دورتها الدموية ونتواصل, وألتقط إشاراتها السرية الثرية, وهكذا فأنت تجد القاهرة في سطوري كما الكويت وتونس وسواها من المدن العربية (في كتاب (الجسد حقيبة سفر)).

تجد أيضا مدينة فيينا في سطوري في قصتي (الدانوب الرمادي). يومها أهداني المرحوم سليم اللوزي آلة تصوير (كاميرا) وطلب مني كتابة تحقيقات عن رحلتي الأولى, وبالأحرى إجازتي في فيينا. لكنني كنت أمرّ بفترة خصبة قصصياً, وتمرد القلم. وكتبت قصة صوّرت فيها الأشياء بعين الروح بدل الكاميرا. ولم يغضب سليم اللوزي ونشر القصة بحفاوة ورفض أن أعيد إليه الكاميرا. يومها لعبت فيينا دور صاعق التفجير وتوالت قصص كتابي (رحيل المرافئ القديمة).

في كتبي في أدب الرحلات, وهي حتى الآن: (الجسد حقيبة سفر), ( شهوة الأجنحة), (القلب نورس وحيد), تجد محصلة جنون القلب أمام إلهام المكان الأشد ضراوة من إلهام الحب في مشارق الأرض ومغاربها بين القطب وخط الاستواء, وبين سنغافورة وسان فرانسيسكو عرضاً.

وتسللت المدن التي ألهمتني إلى أعمالي القصصية. وهكذا تجد في مجموعتي (القمر المربع) باريس ونيويورك ولندن (التي أقمت فيها فترة طويلة أيام الدراسة). وتجد في روايتي (ليلة المليار) مدينة جنيف التي أقمت فيها عامين أيضا خلال الحرب  اللبنانية الثالثة (أم الرابعة?) وألهمني مناخها ومناخ (عرب سويسرا) تلك الرواية, كما كتابي (غربة تحت الصفر).

ولعل الأماكن تلهمنا كما البشر أو أكثر قليلا. في مدينة سالزبورج مثلاً, في (التيرول) كنت أسمع طوال الوقت (المزمار المسحور) لموزار, طفل المدينة, وأطارده.. في مدينة بون, في الأزقة حول البيت الذي ولد فيه بيتهوفن, كنت أسمع ألحانه وهي تنبعث من الشوارع المجللة بالمطر والضباب.

في نويشغنشتاين - بافاريا, كان الملك لودفيل الثاني عاشق إبداع فاجنر, يلاحقني بموسيقاه كشبح حي وأكثر حياة من أهل القرية كلهم, وأكثر رسوخا من قصره المنيف الطفولي الخرافي على قمة جبل له (بحيرة بجع) استثنائية الجمال. وهو القصر الذي قلّده والت ديزني في (ديزني لاند) كقصر لأحلام الطفولة, وسرقته هوليوود من بافاريا.

زرت بيت فاجنر الكبير في لوسرن مثلا, لكنني لا أدري لماذا شعرت بكثافة حضوره الروحي في نويشنغشتاين التي لم نكررها أصلاً أكثر من حضور روحه في أماكن عاش فيها.. كأن روحنا تحضر في المكان الذي يضمنا أهله إلى قبولهم. وبهذا المعنى أتمنى أن يظل شبحي حاضرا في دمشق ومدننا العربية, كما استمر فاجنر في نويشغنشتاين, كأننا نستمر بصورة غرائبية بعد موتنا داخل الأماكن التي سكنّا فيها أو أحببناها أو حلمنا بها أو احتوتنا فيها قلوب الذين أحبّونا, وهي استمرار حقيقي, وأكثر حقيقة من عنواننا الرسمي!

بل كأنه لا يوجد بيت غير مسكون ومدينة لا تحتلها الأشباح ليلاً, وهي تجلس فوق قمم الأبنية وتناديك لتسمع حكاياتها. والمهم استعدادنا لاستقبال كهارب الأمكنة.

عالمي كما ترى يغلي بالحضور اللامرئي للمبدعين والأشباح ولتاريخ من عراقة البسطاء. ولا أميز كثيرا بين الأحياء والأموات في المدن التي أزورها. فالمهم في أبجديتي تلك اللمسة المكهربة التي توقظني من سبات بعض الأموات والأحياء.

نعم. الأماكن تلهمنا لأنها بالتأكيد مزدحمة دائما حتى حين تبدو لأعين البعض خاوية. وقد نلتقي بأنفسنا (في مدينة لم نزرها من قبل) كما كنا حين كنا أطفالاً, أو كما سنصير حين نشيخ, وقد نلمح أمواتنا في شوارع بعض المدن.

مدن أحن إليها

  • أقمت كثيرا في مدن, وطفت كثيرا بمدن أخرى. ما المدن التي تحنّين إلى الإقامة فيها, أوالسفر إليها من جديد?

- أظن أن الحنين نمط من أنماط مقاومة الزمن الهارب حيث يعيد المرء بناء الماضي داخله, كما لو أنه يحجره على لحظة أو مرحلة معينة.

وربما لذلك أشعر بالحنين الجارف نحو مدينة أحببتها حتى الثمالة, وتشاجرت معها كما تفعل أي عاشقة صغيرة وهجرتها, وهي دمشق. دمشق التي لم أزرها منذ ألف عام, مازالت في أعماقي على حالها يوم غادرتها. مازال أصدقاء الأمس شبانا كما كانوا.

ومازالت أشجارها وأزهار غوطتها على حالها كيوم الفراق. وحتى الذين ماتوا, مازالوا أحياء وشبانا في خاطري. وربما لا أجرؤ على الذهاب خوفاً من أن أمشي في شوارعها ولا يعرفني اليوم أحد ولا ألتقي بالذين كنت ألتقيهم بالأمس (أي حين كنت طالبة صغيرة). ولحظتها سأعي أنني قدمتّ من زمان!

أحن بقلبي إلى دمشق, وأحنّ بعقلي إلى بيروت, حيث زرعت بيتي على أرض عربية. وأحنّ بمزاجي إلى مدن الحرية كنيويورك ولندن وروما وجنيف وسان فرانسيسكو وبيرن وسنغافورة وباريس حين أغيب عنها وسواها كثيراً.

وباختصار, أحنّ كثيرا إلى المدن التي حين تغيب عن العين, (يتلفت القلب).

المدينة والكابوس

  • لم يكتب أحد عن بيروت كما كتبتِ.. فهل يُعقل أن يكون الحنين إليها مجرد حنين بالعقل والمنطق وحسب?

- لا تزال بيروت كابوسي المفضل, كابوسي اللذيذ. ولا تزال عاقلة ومجنونة وبشعة وجميلة وقاتلة ومقتولة.. ككل الفاتكين المعشوقين!

إنني خريجة عشرة أعوام حرب, لكنني لم أختر الهجرة كموقف عقلاني, بل رحلت لأسباب شخصية عائلية. وإذا طالعت كتبي بإمعان, ستلحظ أنني من الأوائل الذين تعارفوا مع بيروت ما قبل الحرب من الداخل, بيروت القاع لا القناع, ووعيت من يومها - حتى في الزمان الذي كان يُدعى بأيام العز - العاصفة الدموية الآتية. ومن وجهة نظري. الحرب قامت بإحراق (الديكورات) والأقنعة, وبتعرية الواقع المستور الذي تفاقم وازداد بشاعة, كما هي الحال مع الحروب كلها. لكن بيروت لم تكن آية في الجمال قبل الحرب, وآية في البشاعة بعدها. وليس ثمة أبيض وأسود في الأمر, بل تدرجات رمادية.

الحقيقة أن بيروت ما بعد الحرب قد خسرت موقعها كمعيار نزيه للنقد الأدبي, الفني, وكغربال العرب. وفقدت منابرها الرصينة قيمتها حين اعتلاها مَن هبّ ومَن دبّ. وقبلها في الستينيات كانت دعوة ليلى بعلبكي للمحاضرة على منبر (الندوة اللبنانية) حدثا. في الستينيات كان الخط الفاصل بين الثقافة والإبداع لايزال محتدما, وبوسعك أن تكون مفلسا ومشردا وبلا عمل مثل محمد الماغوط, وتجد مَن يعترف بإبداعك. ولم تكن كل نصف جميلة, نصف شابة, نصف موهوبة, نصف ثرثارة تُدعى شاعرة, وتعتلي منبراً كان محترماً أدبياً ورصيناً وتخلى عن ذلك من باب مسايرة العصر والهوس الاستعراضي الفقاعي.

من القيم التي رفعت من شأن بيروت الفكري والأدبي في الستينيات, أنها كانت غربالا نقديا نزيها (أو على الأقل أكثر نزاهة بكثير مما يدور الآن). وكان لدى المرء نوع من الخجل أمام الحقيقة الأدبية. أما اليوم فقد فقدت بيروت الثقافية عامة تلك النزاهة النسبية في الحكم على التجارب المتدفقة عليها.

غريق في التراث

  • تُصدرين بين فترة وأخرى أعمالا لا يمكن أن توصف إلا بأنها أعمال شعرية, كان آخرها (الرقص مع البوم), وبذلك تضيفين إلى لقب القاصّة والروائية, لقب الشاعرة. وكنتِ قبل قليل ناقدة تصدرين أحكاماً على بيروت قبل الحرب, وبيروت بعدها... فكيف أمكنك تحقيق مثل هذه الوحدة في أكثر من شخصية أدبية في ذات واحدة?

- إذا صح قولك عني, فأظن أن الفضل يعود إلى والدي الرائع - رحمه الله -. لقد أغرقني منذ طفولتي بالقراءات التراثية وحسنا فعل إذ وعيت ذلك العبء الكبير الحقيقي الملقى على عاتق أي كاتب عربي يريد أن يزعم دونما خجل من تاريخنا أنه شاعر أو ناثر.

بالمقابل كنت بنتا عصرية. ووجدت أن الرواية بالذات, والقصة القصيرة أيضا, أكثر قدرة على التعبير عما أريد قوله أمام (التعقيدات) المتلاحقة اللاهثة في زمني يومئذ (كان ذلك في القرن الماضي).

ومنذ البداية وعيت حاجتي للوصول إلى صيغة للتعايش بين الشاعر/الروائي/الناثر, أي الفنان المركب للتعبير عن زمن مركب بالغ التعقيد خسر مسلّماته التقليدية, أو معظمها, ويحاول دق أوتاد جديدة في صحرائه الفضائية.

النبع المسحور

  • ولكن هذا الشعر المنثور الجميل الذي كتبته, تعامل معه القارئ, كما تعامل الناقد, بشغف أو باهتمام, فاق تعامله مع الشعر المكتوب حسب طرائق الشعر عند العرب... ولا نتحدث هنا - بالطبع - عمّا يُكتب الآن بغزارة ويُنشر تحت باب قصيدة النثر أو قصائد النثر... فما هي يا تُرى الدنان السريّة التي تنهلين منها?

- إنها تقع في قاع الروح حيث المياه مظلمة وسرية, وثمة دنان نعرفها وأخرى نجهلها.

لا أعرف مثلا ما النبع المسحور الذي أشرب منه كل صباح قبل أن أستيقظ, فأنهض مبتهجة بالحياة وأحتفي بها لمجرد أنني أحيا, حتى ولو استيقظت مربوطة إلى قدمي الرخّ وهو طائر بي إلى مغارته أو في قاع بئر الوحشة, إنها الوردة التي تنبت في قلب صخرة.

بالمقابل أعرف جيدا قيمة دنان التراث التي تضخّني بالمعرفة والمتعة والثقة بالذات حضارياً, وأعرف قيمة دنان التجربة المعيشة والانفتاح على عطاءات الشعوب الأخرى. فذلك لا يغمرني بالشعور بالنقص نحوها, بل يساعدني على شحذ أدواتي الكتابية.

وثمة دائما (حشرة التفكير السوداء) التي لا أجد لها اسما آخر. تلك التي تقرض الروح بالقلق والحيرة, وتمنحني بركة الكوابيس ولعنة الحبر. لكن التجربة المعيشة تبقى (فياجرا) الإبداع.

  • ثمة سؤال يلحّ علي دائما هو: لماذا يكتب الكاتب?

- وأنا مثلك, منذ عقود وأنا أتساءل: لماذا أكتب? لماذا انكبّ على طاولة صغيرة, وقد أدرت ظهري لباريس خلف النافذة بكل حيواتها وزخمها ومخلوقاتها? وأي حياة بديلة نخلقها بالكتابة فوق رقعة من البردي أو الورق الهش لا تزيد مساحتها عن عشرة سنتيمترات, أو أكثر قليلا نستغني بها عن كوكبنا كله? هل أكتب كتحدّ طفولي للموت? هل أكتب لأصدّق أنني مازلت أحيا? أم أكتب لأنني سأموت? هل الكتابة محاولة هزلية لإطلاق رصاصة على رأس موتي الآتي?

هل أكتب لأتحوّل من امرأة ستغني إلى رف في مكتبة أسرة عربية يتوارثها الأبناء والأحفاد وتبقى?

هل أكتب لأخلق معادلا موضوعيا إبداعيا لحياتنا الفانية, أم لتحويل مساحة صغيرة خانقة بحجم حبة الأسبرو إلى جزيرة روبنسون كروزو الشاسعة?

لو كنت أدري لوجدت بديلا, ولارتحت من الكتابة وأرحت!

مهنة الرعب

  • الكتابة مهنة مرعبة بالنسبة لكثيرين, ولكنها مهنة جميلة...

- لعل أجمل ما في الكتابة أنها رسالة حب تستطيع اختراق الأزمنة. أتساءل دوما: تراني أكتب للذين عاصروني فقط, أم للذين لم يولدوا بعد? الكتابة شعور عذب للذين لا يفتشون عن مغنم آني, أعني لمجانين الأبجدية مثلي... هأنا وحيدة في جزيرتي التي ألقت بي باخرة مجهولة غارقة على شاطئها. أكتب الرسائل إلى اللا أحد, وأبعث بها إلى اللاّمكان في زجاجة أرمي بها إلى الأمواج التائهة لتلتقطها يدّ ما في زمن آخر, في قارة أخرى.

سحر الكتابة يكمن في لامبالاتك بالمغنم الآني, وحاجتك إلى الجسر المضيء اللاّمرئي بينك والإنسان الآخر في أي زمان ومكان, ولا تبرير مقنعا لديك حول أسباب ارتكابها والتورط بها. الكتابة كالحب, يحدث لنا ولا نناقشه ولا شفاء منه.

ثمة بالتأكيد فارق بين كتاباتي بالأمس واليوم. كاتبة مثلي تعاقر الأبجدية, وترتكب جنون الحرف منذ أربعة عقود, وتعي جيدا أنها لا يمكن أن تكون قد كتبت في أمسها كما تكتب في يومها, وكما ستكتب في غدها. فنحن نخسر كل يوم شيئا ونربح  شيئا آخر. وأترك النقاد يقررون متى تسللت (كرتي) إلى (مرمى الإبداع) أكثر.

ليس كاتبا... ولكن كتبا

  • هل هناك كتّاب معينون تقرئينهم? هل لديك كاتب مفضل, وقارئ مفضل أيضاً?

- أطالع كثيرا ليس لأن الكاتب العصري الذي يريد الاستمرار مرغم على القراءة والاطلاع, بل لأن ذلك يمتعني.

ليس لدي ما يُدعى بالكاتب المفضّل. لدي (كتب مفضلة) من هذا وذاك. وأعتقد أن السبب يرجع إلى كرهي الفطري للزعيم الأوحد, والدكتاتور الأوحد, والكاتب الرسمي الأوحد, إلى آخره.

أؤمن بالتعددية في الحقول كلها, وبحرية الاختيار. وبذلك لا أضطر في أي يوم لتبرير سقطات بعض الأدباء أو كتاباتهم الأدنى منزلة, ولا أتبناها بتلقائية خانعة.

ثمة حقيقة لا يحب أي كاتب الاعتراف بها, وهي التفاوت في المستوى بين عطاءاته. إنه كالحكم, ليس مقدسا ويخطئ ويصيب ويكتب الجيد والأقل جودة, ومن حقي اختيار ما يعجبني منه ورفض ما أجده أقل منزلة كقارئة. ولعل عجزي السياسي في مجتمعات عربية ترضى بعشق الفرد المنزّه, جعلني أبالغ في رفضي لبعض أعمال كاتب أحبه, وذلك ربما كنمط من أنماط التعويض!!

أما قارئي المفضل فهو الذي يعيد قراءة كتبي في فترات زمنية متباعدة, ويفهمني في كل قراءة على نحو مختلف.

بالمقابل أتمنى أن أسطّر كتبا يضطر المرء إلى إعادة قراءتها.

أنا والرواية العربية

  • هل تقرئين روايات عربية? هل تجدين أن زمن الرواية العربية اليوم زمن عطاء حقيقي?

- أحاول مطالعة كل ما يصدر من روايات عربية وغربية أيضا, وأحرص على قراءة عطاءات الجيل الجديد.

الرواية العربية ازدهرت, لكنني أخشى عليها من مصير كمصير (الشعر الحديث), حيث يؤدي التفلت من الأصول الفنية كلها إلى تدوين أي هراء تحت لافتة (رواية) كما حدث من قبل لشعرنا العربي. أخشى على الرواية من هجرة الفاشلين إليها  بعدما (خرّبوا) الشعر العربي. هذا لا يمنع أن بعضهم مبدع.

هذه المخاوف هي مخاوف أوربية غربية أيضا, لكنني أعيشها كعربية دون أن أستوردها.

مسئول النشر في دار (دونويل) الفرنسية فسّر بأسى ظاهرة ارتفاع مبيعات الرواية الأمريكية في فرنسا, وسقوط أسهم الرواية الفرنسية, بقوله: إن الرواية الفرنسية لم تعد تروي (حكاية). ولذا يُقبل القارئ الفرنسي على الترجمة عن الأمريكية.

فما يُدعى بالرواية الجديدة أضحى في بعضه يشبه الشعر الحديث, وبوسعه أن يكون في كتب نادرة عميقا بعيد الأغوار, لكنه في معظمه هراء يجسّد ضياع المعايير والجوع إلى الشهرة بلا رصيد إبداعي وبثرثرة ذاتية (شواعرية).

إن كثرة المندسّين في إهاب الشعر جعلت القارئ العربي يعزف عنه, وآمل ألا تلقى الرواية العربية المصير ذاته حين تصير مجرد هلوسات ذاتية سطحية هرائية تخفي قصورها بالغموض, بعدما صار مَن هبّ ودبّ يريد أن يصير روائياً, لا حبّاً بالرواية, بل بالرواج. فهل سيتمّ تخريب الرواية بعد الشعر?

  • في خاتمة روايتك الأخيرة أدرجت تواريخ مختلفة عن انجازها.. متى فكرتِ بها, متى أعدتِ كتابتها, متى انتهيت منها...?

- لقد شعرت دائماً أنني مدينة أمام الحقيقة الإبداعية بتفسير, فأنا أكتب كما يتدفق السيل. لكن تلك المرحلة الخصبة المجنونة تسبقها أعوام طويلة من العمل الهادئ الدءوب الجاد بقراءة من هنا, وتأملات من هناك, وغليان سرّي, وانهيارات, وخيبات, وشكوك في الذات والقناعات والآخر.

الكتابة ليست استعراضا هوليووديا مسرحيا بالرياش والألوان الفاقعة, بل هي أولا نزف الروح المتوحدة في ليالي العزلة حيث الشبح أكثر دفئا من البشر. وقد حاولت في تلك الإشارة في خاتمة روايتي, لفت النظر إلى أن الكتابة ليست أداة آنية لشهرة أومغنم أو استعراضا راقصا بأقنعة أبجدية. إنها فرن الحلاج, وملذات جنة ميلتون المستعادة في آن.

ثم إننا نسجل التواريخ الحاسمة في حياتنا: تاريخ ولادتنا, وزواجنا, وسواها من تواريخنا وتذكاراتنا. أما تاريخ ولادة أبطال قصصنا, وولادة جرحنا على الورق بالدقيقة والثانية, فتلك أمور يمرّ بها البعض مرور اللئام على موائد الأبجدية!

 



أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية  
اعلانات




 





 





 





 





 





 





 





صورة نادرة لغادة السمان وهي في ربيع العشرينيات