ألم يحن الوقت لنهضة عربية حديثة?

ألم يحن الوقت لنهضة عربية حديثة?

في إحدى مقالاته المنشورة في مجلة (العربي) عدد شهر يناير 2002 رقم (518) تساءل المفكر البحريني د.محمد جابر الأنصاري (لماذا نحن معلقون بين أفضل المبادئ التي نعلن انتماءنا إليها, وأسوأ الأوضاع التي نعيشها في الواقع... أين هي الحلقة المفقودة?).

وقد أحسن د.الأنصاري استخدام كلمة (معلقون) للدلالة على الواقع الحقيقي الذي نعيشه اليوم في الأمة العربية. حقا لسنا في هوة, ولسنا أيضا في عمقها الفاصل بين ما ننتمي إليه من فكر وبين ما نعيشه من ممارسة, إننا صراحة مازلنا معلّقين في فراغ, على أثر تلك القفزة الهائلة التي دفعتنا, منذ زمن الدويلات وتفكك الإمبراطوريات, ومنذ حلول الضيف الاستعماري الثقيل في ديارنا, إلى خارج المدار, مدارنا الحضاري العريق.

مازلنا معلّقين, نتمسك بقشّة هنا, وبريشة هناك, ونخشى التأرجح والإفلات, لأننا نعاني بلا جدال حالة انعدام الوزن, وفقدان الجاذبية, بعد أن فقدنا الأرض وموطئ القدم, وبعد أن فرطنا ببوصلة الفكر السويّ, فبتنا نبحث عن حالة صلبة كفيلة بأن تحمل الثقل المترتب على أفكارنا وكواهلنا وطرائق حياتنا.

ما زلنا معلّقين, وأعيننا تبحث في فراغ هائل, عن كل شيء علّنا نجد ما نصبو إليه ولكن دون جدوى. وعلى الرغم من أن صوَر (عنترة) و(قيس بن ساعدة) وأنوار النبوة وقبسات الفتوحات مازالت تمثُل في ذاكرتنا العريضة, فإننا محتارون ننظر إلى اللامكان, والى اللازمان, وكأننا نخشى من التطلع إلى الخلف بعد أن شاعت بين بعض المفكرين الرهبة من فكرة (الماضوية) والعودة المأزومة إلى التراث. وفي الوقت عينه نتهيّب من طرق أبواب المستقبل بمفردنا, بعد أن اعتدنا على أساليب الوصاية, والاستهلاك وعدم الرغبة في الاكتشاف والإبداع الحقيقي الملامس لحاجات الواقع. لكأننا نعاني قلة نضج, أو انعدام جرأة, وقد مزقنا بأيدينا ( الأبجر) الشريد على سفوح المبررات والانطوائيات والتسليم المقيت بما هو آت.

خريطة الحضارة

نحن نعاني فعلا, عدة معوقات فيما لو أزيلت, لأعطت الأمة جمعاء الدافع للتأرجح مرات عدة, دون وجل, لتفلت يديها دون تردد, مندفعة فوق هوة الانحطاط, نحو أرض صلبة ـ تختارها, نحو قاعدة ثابتة مهيأة لبناء وتركيب الخريطة الوراثية لحضارتنا ولفكرنا العربي التائه.

ويبقى السؤال الأكبر, ما هذه المعوقات, هذه الحلقة المفقودة?

إنها النكبة الفكرية الحقيقية التي تجتاحنا! تقفُ كالجدار الذي أغلق ويغلقُ على العقول والأفعال في آن. ربما ما نبحث عنه حالة من حالات (الجمع), أي هي حلقات مفقودة تؤزم واقعنا وتؤرق مضاجعنا. ولا سبيل لنا في معرفة هذا العلاج الناجع إلا بالبحث في ثنايا تجاربنا وتجارب الشعوب علّنا نتجاوز هذا الوضع المأزوم إلى أوضاع أفضل, بإصلاحٍ هنا, وترميمٍ هناك, وبربط المقطوع وجبر المكسور.

وشعورا بهذا الهمّ المثقل بالتساؤلات, لا يستطيع المرء إلا الوقوف على واحدة من أهم التجارب العالمية, أي التجربة اليابانية, في ثورتها النهضوية التي بدأت منذ عام 1860. لم تمنعها الاختبارية المتوحشة للقنبلة الذرية الأولى في (هيروشيما), من تجاوز أوضاعها الاقتصادية والسياسية المتردية, لتقوم مرة بعد مرة من تحت الرماد البركاني الذي يغطي أجواءها, فتنتصر على الخلل الذي مسّ اتساق تاريخها وحضارتها. بل تندفع لتحاصر جغرافيتها وطبيعتها المزدحمة بالزلازل والبراكين, فتنتصر وتقدّم للعالم نموذجا حضاريا يفوق التصور في الصبر والانبعاث والرغبة في التحديث والتغيير. ترى لمَ لمْ تشكل الملكية ونظامها السياسي المعتمد في اليابان عائقا في وجه هذا الديناصور الآسيوي الزاحف دوما إلى الأمام بطموحاته التي لا تعرف حدودا? المؤكد أن الرغبة الصادقة بالمشاركة بين الحاكم والمحكوم في تحمل المسئولية, والتفاعل والتحرك المشترك في مواجهة المخاطر, هي بحدّ ذاتها المعيار الذي يردم الشرخ المتعاظم بين كثير من الأنظمة وبين شعوبها, ويفتح المجال واسعا أمام بداية نامية واعية فعلية, بل تضخ دماء صدق النوايا في الأداء السياسي الديموقراطي الذي لا يخلو منه نظام.

إرباك هامشي

والواقع أن النظام سواء كان ملكيا أو حتى شموليا, بل أحيانا ديكتاتوريا ليس المشكلة في حدّ ذاته. وما الإرباك الذي نعيشه كل يوم بحثا عن شكل ديمقراطي عصري إلا إرباك هامشي, ليس من الحكمة نفي ضرورة وجوده, ولا من الحكمة جعله المحور والعنصر الأساسي في تطوير المجتمعات والشعوب, بل ينبغي التركيز على حسن الأداء وصدق النوايا في التعاون السلطوي.

من ناحية أخرى, تلفت الانتباه تلك العزلة الجغرافية التي وجدت فيها اليابان, بل الوضع الجغرافي الفريد المتشظّي إلى العديد من الجزر, لتطرح سؤالا آخر: لمَ لم يقف ذلك حاجزا أمام التقدم? لقد استطاع الشعب الياباني أن يمد جسور التواصل فوق البحار, متحديا عتو الأمواج والأعاصير, ليبني لنفسه هوية قومية يفاخر بها أمام الشعوب الأخرى. ويدفعنا ذلك لا إراديا باتجاه العقل العربي المحتجّ بالانقسامات الجغرافية من المحيط إلى الخليج, لنرفع في وجهه هذا المثال, ولنتأكد أن الوضع الجغرافي العربي لم يصل إلى مأساوية الانشطار, بل إن التواصل متوافر أصلا وبأكثر من أسلوب. فكم حري بنا مع عدم وجود العوائق الطبيعية بين الأقطار العربية, أن نلتمس أنجع الأساليب لتمتين العلاقات, ولدفعها سريعا باتجاه التعاون المتبادل على قاعدة احترام الجميع لحقوق الجميع, وعلى قاعدة الجميع مسئول. ولعل اتفاقية التيسير وغيرها فيما لو تم التعاطي معها على قاعدة جدّية, هي الخطوات الأولى باتجاه هوية عربية فعلية, تبنى على غرار الهوية الأوربية وقوتها المتنامية.

ويبقى اللغز الأكبر, ماذا وراء ( يابان اليوم)? نظام حكم, جغرافيا, اقتصاد, ديموغرافيا...?

أسئلة وأسئلة, والإجابة الوحيدة التي تتبادر إلى الذهن, دون كثير مبالغة: العقلية ثم العقلية ثم العقلية.

العقلية اليابانية, تلك العقلية التي استطاعت ببساطة وبتعقيد في آن, أن تنافس أقوى الدول, وأن تدخل دون تردد موازين القوى سياسيا واقتصاديا, بل دون هوادة. إنها العقلية الأصيلة التي ارتكزت على تراثها وحافظت عليه, وامتصت إفرازات الحداثة, لتبني على هذه القواعد المتينة أساليب حياة ناجحة لأجيال المستقبل.

لم يتخل الياباني عن لغته في خوضه غمار العلم المتعدد الجنسيات, بل على العكس اصبح العالم بأجمعه يبحث عن أساليب ومناهج لتعلم هذه اللغة التي ما زالت تحمل في مضامينها الكثير.

لم يتخل الياباني عن أسلوب حياته البسيط, فها هو يرتدي بذلته الرسمية في عمله, فيما يعود إلى بيته ليرتدي لباسه التقليدي دون خجل, فيجالس زوجته وأولاده على مائدة خشبية منخفضة, وتمسك أنامله بأصعب وسيلة لالتقاط الطعام ليؤكد للعالم أن هذه الأنامل نفسها قادرة وبجدارة على محاكاة أعقد الآلات الإلكترونية في العالم.

لم يخف الياباني من الزلازل, بل هاجم الطبيعة دفاعا عن نفسه, بأبنية صنعها لكي تتناسب مع هذا الواقع المهتز, ضاربا أقدامه عميقا في أعماق الأرض, رافعا جبهته إلى السحاب, باحثا عن افضل الوسائل للحفاظ على مكان إقامته, ضاربا بعرض الحائط جواز سفره. بل لم يرتعب الياباني من الوحشية النووية وهي التي هشّمت مدينتين من مدنه, وقام من تحت الرماد, آمن بوجوده, بل بأهمية وجوده, وأعاد بناء نفسه من جديد.

لم يستسلم الياباني أمام ضغوطات السوق, بل حسّن أداءه وطوّر أساليب إنتاجه, أبدع وأحسن الإبداع, ليسجل أعلى نسبة اختراع في العالم, حيث بلغت براءات الاختراع عام 1998 (994) لكل مليون نسمة, أي ما يقارب 3 أضعاف براءات الولايات المتحدة, وما يقارب 300 ضعف براءات إحدى الدول العربية.

أليس هذا كله جديرا بالإعجاب? أليس هذا جديرا لنا كعرب بالاعتبار والبحث والتدقيق, كي نشرع بتنقيح الذات وتنقيتها, بحثا عن نهضة حديثة آن لها أن تبدأ ولو متأخرة?

أطراف الحلقة

حلقاتنا المفقودة كلها تنبع من العقلية, تلك العقلية الرابضة وراء آلاف الحجج كي لا تتقدم إلى الأمام. إن الفكر السويّ يتجه دائما إلى التمسك بهويته وتراثه, إلى الاستزادة من المعرفة, إلى احترام الآخر, إلى التكيف مع المحيط, إلى البحث عن وسائل جادة لسد الحاجات, إلى الاهتمام بالآخر البعيد والقريب مادام يعبر عن حالة إنسانية جديرة بالاهتمام. ضمن هذه المعايير ألا يستطيع أي فرد, في أي مكان, من أعالي (التيبت) إلى عمق الصحراء, أن يمارس شكلا واعيا من أشكال هذه الحضارة? بلى بالتأكيد, وبغض النظر عما إذا كان مسكنه من الزجاج والحجر المصقول الذي يقيه حرارة الشمس, وبرودة القطب, أو من القش والخشب والشعر, بل حتى من الجليد الذي يؤدي الهدف ذاته.

لا مراء أن بعض المفكرين أمسكوا بأطراف هذه الحلقة, إلا أن البعض الآخر ما زال يدفن رأسه في الرمل, وإن بحث, يبحث في اتجاه معاكس. ألم يحن الوقت كي يعتلي كل مفكر عربي, بل كل مواطن عربي صادق مع نفسه, صهوة قوله وفعله, ليقوّم المعتل, وليصحّح المسار, بعد أن يئست الأمة من مفكري البلاط ومن مستوردي الفكر على السواء, وقد أمطرت الأمة الحلول المقدّمة من مذنبات لا تطل على العالم العربي إلا مرة كل سنوات عدة.

ألم يأن للمفكر العربي أن يحمل المشعل, أن يفتح عقله وقلبه للحقيقة, أن يرشد ويوجه, وأن ينزل من برجه العاجي, ليقول شيئا ولو لمرة, لا يشتري به ثمنا قليلا? أم ننتظر أن يضرب نقص المناعة انتماء المواطن العربي, فلا ينطلق صاحبنا إلا للبحث عن شيء واحد لا غير, عن كسور وجذور تربيعية حضارية, من هنا وهناك, تتوافر فيها بعض الصفات التي يظنها من معادلة الحضارة, فيدخل في ( أتون) التسكع على أبواب الشعوب, ليذوب, وليتحول تحت ضربة العداد العالمي, إلى كمّ طفيلي يحاول الحياة على قارعة التطور.

ماذا ينتظر البعض, وكما قال قس بن ساعدة:

وما قد تولى فهو قد فات ذاهبا

فهل ينفعني ليتني ولعلني.

أفلا نحمد الله أننا في أرض لا تعرف الزلازل والأنواء, وأننا نمتلك التراث نفسه, ونتحدث اللغة نفسها, وأننا لم نضرب بعد بقنبلة نووية?

حسام محيي الدين - لبنان

 



أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات