المعرفة كضرورة للتنمية عبداللطيف الحمد

المعرفة كضرورة للتنمية

(لم يعد امتلاك الثروات هو العامل الوحيد المحدد لمكانة الدول وقدرتها على المناضلة, بل القدرات العلمية وامتلاك وسائل المعرفة).

تكتسب المعرفة أهمية بالغة في وقتنا المعاصر, لما تحدثه من تغيرات بمعدلات متسارعة لها أثرها في كل المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتربوية والثقافية, تتضح معالمها في كل بلاد العالم, وهذا هو الذي دعانا لاستعراض بعض جوانب المعرفة في هذا المقال للتعرف على أهميتها, وواقعها الراهن في الدول العربية, وانعكاساتها على اقتصادات هذه الدول, وكيفية تطويرها.

وتعتبر المعرفة السمة البارزة للعصر الكوني الراهن, إنها هويته الأساسية, ولا يمكن تصوره بمعزل عنها, استطاع بها اكتساب دلالات وتحولات كثيرة لها انعكاساتها على كل مجالات الحياة المختلفة, لما لها من علاقة عضوية بالتنمية الإنسانية, إذ إنها أحد المكتسبات الأساسية للبشر, يتم بها بناء قدراتهم, وعظيم رخائهم, ولكونها أيضًا عنصرا أساسيا من عناصر الإنتاج, ومحددا أساسيا للإنتاجية, تتبدل بفعلها مصادر المزايا النسبية التقليدية من كثافة نسبية في الموارد, إلى كثافة نسبية في المهارات والمعرفة الفنية والابتكارية والتقانة المتطورة.

وتتضمن المعرفة أبعادًا كثيرة ومتنوعة في إطارها, إذ تعمل على تطوير كفاءة وقدرات الموارد البشرية في دفع عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية على حد سواء, وتؤثر في الوقت نفسه على زيادة القدرة التنافسية للدول التي أصبحت تقاس في عالم اليوم بقدرة الاقتصادات المختلفة على الإبداع والتجديد والابتكار, لما لهذه العناصر الثلاثة في منظومة المعرفة من تأثير على النهوض بالتقانة المتطورة وتحسين الإنتاجية, وغيرها من المؤهلات المطلوبة للمنافسة.

ولهذا فإنه ليس من الغرابة بمكان أن يبرز تقرير التنمية الإنسانية العربية الأول أن أحد أهم النواقص في الدول العربية هو موضوع المعرفة, وأن يكرس تقرير التنمية الإنسانية العربية الثاني بالبحث المعمق لمسائل المعرفة ومجتمع المعرفة, ويقيم حال اكتساب المعرفة نشرًا وإنتاجًا في الدول العربية.

وغني عن البيان أن مضمون المعرفة لا يقتصر على التعليم والتعلم والدروس المستفادة من خبرات العمل والحياة, ونواتج البحث العلمي والتطور التقاني والمعلومات, وإنما يتسع في منظومة كبيرة تنتشر في جميع جوانب النشاط الإنساني, وتغطي مجالات ومواضع كثيرة متشابكة تجمع بين ثلاثية المعرفة العلمية, ومعرفة الإنسانيات, ومعرفة مختلف أنواع الفنون, وتتعداها أيضًا إلى ما يتصل بوسائل الإعلام والبنى الأساسية للاتصال, وتقانات المعلومات والاتصال, وكذلك البنى التنظيمية لنقل وتوطين التقانة, والبنى الاجتماعية والسياسية والثقافية والتاريخية والاقتصادية والقانونية, وحريات الرأي والتعبير والتنظيم اللازمة لاكتساب المعرفة إنتاجًا ونشرًا, ولتعزيز إمكانات البحث والتطوير, والقدرات العلمية والأدبية والفنية والتقانية والابتكارية ولتشجيع الانفتاح على الآخر, واستيعاب نواتج المعرفة العلمية المتجددة.

ومن المسلم به أن مخزون المعرفة يتأثر بمحددات مجتمعية كثيرة يعتبر الموروث التراثي, مكونًا أساسيًا منها, واللغة حاملاً لها, وترتبط ارتباطًا عضويًا مع ما أنتجه البشر من أفكار وتصورات وعادات ونظم اجتماعية وسياسية واقتصادية, وفعاليات أدبية وفنية وتقانية, ومفاهيم في مجالات الحياة المختلفة, بما فيها الطب الشعبي, والثقافة الشعبية, بكل ممارساتها وأفكارها التاريخية والجغرافية والإنسانية, والتي تشكل كلها قاعدة مهمة للبناء المعرفي في الدول العربية, تستلهم منها قوى دافعة للنهوض والحداثة واكتساب المعرفة التي تتناسب ومقتضيات الألفية الجديدة.

العرب والمعرفة

بالرغم من أهمية الإنجازات التي حققتها الدول العربية في مجال اكتساب المعرفة في شتى مجالاتها وتوافر رأس مال إنساني مهم فيها, فإنها مازالت تعاني في الوقت الراهن نقصا في مجال إنتاج المعرفة ونشرها, ووجود مجتمع معرفي عربي ضعيف في بناه الأساسية, أقرب ما يكون إلى التابع إلى مصادر المعرفة الحديثة الأجنبية, وتحديدًا الغربية منها, ويمكننا تلخيص أهم أسباب نقص إنتاج ونشر المعرفة وتوطينها بكفاءة في الدول العربية فيما يلي:

- تدني مستوى التعليم: وثمة إجماع في هذا الشأن على أنه بالرغم من أن غالبية الدول العربية قد حققت تقدمًا ملموسًا وبدرجات متباينة في تعميم التعليم ورفع مستواه, فإن هذا التقدم كان كميًا في مخرجات التعليم عامة ويغلب عليه تدني التحصيل المعرفي, وضعف القدرات التحليلية والابتكارية واطراد التدهور فيها, وعدم تحقيق تطوير نوعي في قدرات الكوادر البشرية وتلبية احتياجات سوق العمل المحلي من حيث التخصصات والكفاءة العلمية ويشهد على ذلك البطالة المنتشرة في الوقت الحاضر بين الخريجين, وبخاصة حملة الشهادات الجامعية والتي تعزى إلى تضخم التعليم النظري, على حساب التخصصات العلمية والتقانية, مع استمرار النظام التعليمي في الدول العربية, في أطره النظامية المدرسية التقليدية, التي تعتمد على التلقين, وعدم التطوير والتجديد بقدر كاف لمواجهة احتياجات أسواق العمل المتغيرة.

- انخفاض مستوى البحث والتطوير التقاني في الدول العربية: وتتجسد هذه الإشكالية بمحدودية عدد وإمكانات المؤسسات والمراكز البحثية وضعف أدائها وقلة مواردها المالية وعدد الباحثين فيها, وتضخم عدد الإداريين, وإدارتها بأسلوب بيروقراطي, إضافة إلى ابتعادها عن النشاط الإنتاجي, وتطوير المجتمع وتحديثه, واهتمامها الزائد بالعموميات والبحوث الأكاديمية النظرية البحتة وعدم تركيز أنشطة بحوثها على المجالات العلمية الابتكارية التي تتطلبها المنافسة العالمية ويستثنى من هذا بعض التجارب الإيجابية النادرة مثال ذلك تركيز مراكز البحوث في مصر على الزراعة, ومراكز البحث في الجزائر على الأدوية, مما ساعد على تحقيق إنجازات مهمة في هذين البلدين, تشكل بلا ريب مثلا يقتدى به لإعادة تركيز أنشطة مراكز البحث العربية في عدد من المجالات الملتصقة التصاقًا وثيقا باهتمامات الدول العربية, مثل الأمور المتعلقة بالطاقة والأمراض المزمنة والمياه الذي يتوقع أن تصبح الدول العربية في مجالها مستقبلاً تحت خط الفقر المائي, وغير ذلك من المجالات الأخرى ذات الأهمية.

كذلك تتجسد هذه الإشكالية بانفصام العلاقات بين الجامعات ومراكز البحث والتطوير والأنشطة الإنتاجية, وعدم توافر الرعاية المادية والمالية والاجتماعية اللازمة لتحفيز الباحثين, وعدم وجود شبكة داخلية للإتصال بين الباحثين على المستويين القطري والإقليمي لتبادل الآراء فيما بينهم, إضافة إلى محدودية المجالات العلمية المحكمة, وقصور الجوانب التحكيمية القائمة, وكذلك عدم توافر مؤسسات مختصة وقوانين محلية لحماية الحقوق الملكية الفكرية, التي تلعب دورًا كبيرًا في تنمية الاختراع والابتكار وتحميه من التقليد, وترتب لمالكيه حقوقًا قانونية ومالية, كما وتساعد على نشره بين المستخدمين.

وبسبب هذه الظواهر السلبية كلها فإن مخرجات البحث والتطوير في الدول العربية مازالت هامشية بشكل عام, ومن الأدلة على ذلك أن نصيب هذه الدول من النشر العلمي لا يزيد عن 1% من إجمالي النشر العلمي في العالم, في وقت تبلغ فيه حصة السكان العرب نحو 5% من إجمالي سكان العالم. يضاف إلى هذا أيضًا ضآلة براءات الاختراع المسجلة للدول العربية, إذ تشير البيانات المتاحة في هذا الشأن إلى أن تسع دول عربية قد سجلت في الولايات المتحدة 370 براءة اختراع خلال الفترة من 1980 إلى 1999/2000, (تشمل نسبة كبيرة من براءات اختراع مسجلة من قبل جهات أجنبية) وهي ضئيلة جدا مقارنة ببراءات اختراع سجلت خلال الفترة نفسها في الولايات المتحدة لدول أخرى ككوريا وإسرائيل وتشيلي حيث بلغت براءات الاختراع التي سجلتها هذه الدول 16328 و7622, و147 براءة اختراع على التوالي, ويشير هذا إلى أن إنتاجية البحث والتطوير في الدول العربية متدنية كثيرًا مقارنة بدول أخرى من العالم, حيث إنه من بين كل مناطق العالم لا يقل عن الدول العربية في هذا الشأن إلا إفريقيا جنوب الصحراء.

ومما لا ريب فيه أن ثمة معوقات كثيرة تحد من أنشطة البحث والتطوير في الدول العربية, نذكر منها - على سبيل المثال لا الحصر - ضآلة الإنفاق على البحث والتطوير, حيث لا يتجاوز هذا الإنفاق 0,2% من الناتج القومي للدول العربية, بينما تتراوح هذه النسبة في الدول المتقدمة اقتصاديًا بين 2,5% و5% من دخولها القومية, مع ضرورة التأكيد على أن 89% من حجم الإنفاق على البحث والتطوير في الدول العربية تغطيها مصادر حكومية, ويستهلك معظمه في تغطية رواتب العاملين وفي المقابل تساهم القطاعات الإنتاجية والخدمية بنحو 3%, بينما تزيد هذه النسبة عن 50% في الدول المتقدمة اقتصايًا, يتحملها الأثرياء ومؤسسات المجتمع المدني والقطاع الخاص, يستهدفون من استثماراتهم في البحث والتطوير الحصول على نواتج تلقائية, يتم تسويقها, وتدر لهم أرباحًا, وتدفع عجلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية في بلادهم إلى الأمام.

وفي هذا المجال لا يمكننا تجاهل أحد أهم معوقات البحث والتطوير في المجالات الاجتماعية المتمثلة في ضآلة حرية البحث والتعبير, لأن من شروط ازدهار البحث والإبداع, توافر بيئة صحية تشجع العلماء والمبدعين, وتوفر لهم الظروف المواتية لممارسة عملهم في ظل أنظمة سياسية ديمقراطية, تعبّر عن مصالح مواطنيها, وتحفّزهم للفعل والمبادرة الحرة.

وثمة مؤشرات كثيرة في هذا المجال تبين بجلاء أن معظم القوانين المنظمة لمؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي في الجامعات العربية, تتضمن لوائح ونظمًا تحد من استقلالية تلك المؤسسات وتضعها في علاقة تبعية مباشرة للنظم السياسية الحاكمة, مما يترتب عليه تقليص الحريات الأكاديمية, وعدم تشجيع الأساتذة عن الإبداع أو التجديد الذي قد يؤدي إلى إثارة قضايا خلافية, أو قد يثير قضايا سياسية, وتكون النتيجة قتل روح الإبداع في الباحثين, باستثناء قلة من المميزين منهم ممن يحققون نتائج إبداعية ملحوظة نتيجة جهود فردية وظروف شخصية خاصة بهم, وليس بسبب دعم مؤسسي.

- ضعف البنى التنظيمية لاكتساب المعرفة اللازمة لنقل وتوظيف التقانة: مما أثر على اقتناء الدول العربية طيلة العقود السابقة لوسائل الإنتاج فقط وعدم السيطرة على التقانات وتوظيفها وتطويرها, نتيجة غياب الآفاق الابتكارية اللازمة لإدارة المعرفة, وتوظيف رأس المال المعرفي في إنتاج التقانة وتوظيفها في عملية النمو الاقتصادي, وهذه هي إحدى الإشكاليات الأساسية التي تواجه التنمية العربية, وذلك لأن الابتكار وسياقاته التنظيمية التي يقوم بها المنظمون ورواد الأعمال, عبارة عن رافعة أساسية للنمو الاقتصادي, ولتأسيس اقتصاد المعرفة, وزيادة القدرة التنافسية.

إن اعتماد الدول العربية على استيراد وسائل الإنتاج لا يعتبر نقلاً حقيقيًا للتقانة وامتلاكًا لها, بل يعني زيادة فقط في القدرات الإنتاجية لفترة زمنية محددة, تتقادم بعدها التقانة, وتصبح منتجاتها وخدماتها بعد ذلك عديمة الجدوى من الناحية الاقتصادية, وغير قادرة على المنافسة في الأسواق العالمية مما يستوجب استيراد تقانة جديدة, وهذا من شأنه أن يقلل من عائدات الاسثتمارات العربية, وذلك على عكس ما هو عليه الأمر في الدول الصناعية حيث تعمل دومًا من قبل نظمها الابتكارية على الدخول في عمليات طوير تقاني مستمر, من خلال إنجازاتها البحثية والإبداعية التي تتم في مؤسسات البحث والتطوير, وحاضنات المشروعات, وتنتج من خلالها تقانات جديدة توظف في عمليات الإنتاج.

- قصور تقانات المعلومات والاتصالات التي تعتبر أحد أهم منتجات البحث والتطوير التي تزداد أهميتها في اقتصاد القرن الواحد والعشرين, الذي تتبوأ فيه تقانة المعلومات مراكز الثقل بدلاً من معالجة المادة والطاقة كما كان عليه الأمر فيما مضى, وتم بذلك الانتقال من اقتصاد السلع إلى اقتصاد المعلومات التي تزيد فيه الأهمية النسبية للمكون المعلوماتي على حساب الموارد الطبيعية.

وتؤكد البيانات المتاحة ضآلة توافر تقانات المعلومات ووسائل الاتصال الحديثة, والبنى الأساسية اللازمة لها في الدول العربية, وذلك بالمقارنة مع الدول المتقدمة صناعيًا, حيث يلاحظ أن أجهزة الإذاعة المسموعة والمرئية في الدول العربية, تبلغ في المتوسط حوالي ربع المستوى السائد في الدول الصناعية, بينما تنخفض النسبة فيما يتعلق بخطوط الهواتف الرئيسية إلى حوالي الثمن, وتبلغ نسبة أجهزة الرسائل المصوّرة في الدول العربية 6% من المستوى المتوافر في الدول الصناعية, أما بالنسبة للحاسبات الشخصية فإن نسبتها في الدول العربية إلى مستوى الدول الصناعية تنخفض إلى 4%, وفي وصلات البريد الإلكتروني (الإنترنت) إلى 1% فقط.

ونظرًا لزيادة معدل تجدد تقانات المعلومات والاتصال, فإنه من الطبيعي أن تتسع الفجوة الرقمية بين مناطق العالم المختلفة, وتعتبر المنطقة العربية ضمن الشرائح الدنيا على أساس هذه المؤشرات, فعلى سبيل المثال لا الحصر, يبلغ نصيب المنطقة العربية نحو 0,5% من إجمالي مستخدمي شبكة الإنترنت, بينما يبلغ سكانها 5% تقريبًا من إجمالي سكان العالم, أي أنها تقع في آخر القائمة فيما يخص عدد مواقع الإنترنت وعدد مستخدمي شبكة الإنترنت.

سلبيات قصور المعرفة

يتبين من كل ما تقدم أن الدول العربية تعاني نقصا كبيرا في كل جوانب المعرفة, وفي هذا تأثير سلبي على التنمية بشقيها الإنساني والاقتصادي, ويهمنا في هذه العجالة تسليط الضوء على الأثر السلبي لقصور المعرفة المكتسبة على التنمية الاقتصادية, خاصة أن الدول العربية تقف في المشهد الأول من القرن الواحد والعشرين, وتواجهها تحديات اقتصادية ضخمة, إذ لايزال الفقر والحرمان بأشكالهما العديدة قائمين في العديد من الدول العربية, حيث تقدر نسبة السكان الذين يقل متوسط دخلهم اليومي عن دولارين بنحو 20% من إجمالي سكان الدول العربية, أي حوالي 55 مليون نسمة. وتقدر نسبة الذين يتراوح متوسط دخلهم بين دولارين وخمسة دولارات بنحو 52% من إجمالي سكان الدول العربية, أي حوالي 153 مليون نسمة.

يضاف إلى هذا أيضا أنه مازال خمس سكان الدول العربية لا يحصلون على المياه الصالحة للشرب, ولا يتوافر لثلث سكانها خدمات صرف صحي, كما لا يتوافر لنصفهم السكن الملائم, ويعاني ربع سكان الدول العربية الأمية (حوالي 68 مليون نسمة), إذ مازال خمسة ملايين طفل خارج المدارس الابتدائية, و15 مليونا آخرين خارج المدارس الثانوية, وكذلك 75% من النساء خارج قوة العمل, كما أن 20% من إجمالي قوة العمل العربية عاطل عن العمل, يضاف إلى ما تقدم إلى اختناقات البنى الأساسية, وانخفاض الإنتاجية, وقصور تطور القوى المنتجة, ومحدودية القاعدة الإنتاجية في كل القطاعات.

إن الآثار السلبية لقصور المعرفة في الدول العربية امتدت إلى جوانب مختلفة من الحياة الاقتصادية, نلخص أهمها فيما يلي:

1- ضآلة مخزون القدرات المعرفية العالية للقوى العاملة العربية مقارنة مع أقاليم رئيسية أخرى, وقد قدر هذا المخزون في نهاية التسعينيات, والمتمثل في خريجي التعليم العالي, بنحو 10-12 مليون خريج, أي ما بين 10,5 إلى 12,5 في المائة من القوى العاملة, ويشكل خريجو كليات العلوم والتكنولوجيا ما بين ربع وثلث تلك النسبة.

2- انخفاض إنتاجية القوى العاملة العربية التي ترتبط طرديًا مع مستوى التعليم والتدريب والصحة للعاملين. ويشكل انخفاضها تحديًا خطيرًا للاقتصادات العربية, إذ تساهم في تقييد النمو الاقتصادي على نحو خطير, ووفقًا لبيانات البنك الدولي المنشورة في تقرير التنمية العالمي 1998/1999, فإن الناتج القومي الإجمالي للعامل في البلدان العربية, كان أقل من نصف الناتج القومي الإجمالي للعامل في بلدين ناميين اتخذا كمقياس للمقارنة, وهما كوريا الجنوبية والأرجنتين.

ووفقًا للمصدر نفسه ارتفعت إنتاجية العمالة خلال الفترتين 1980-1990 و1990-1997 بحوالي 15% في الصين, و8% في كوريا الجنوبية, و6% في الهند, ولكنها بالمقابل زادت بأقل من 4% في البلدان العربية بشكل عام, وعلى مستوى هذه الدول فرادى, 3-4% في عمان ومصر, و2-3% في تونس وموريتانيا والمغرب, و1-2% في الأردن والجزائر. ويعزى هذا الانخفاض النسبي في الإنتاجية في الدول العربية لكونها تتخلف عن الدول السريعة النمو في تكوين رأس المال البشري مقاسًا بمتوسط سنوات التعليم.

3- ضعف التطوير التقاني, إذ تتسم الدول العربية بكونها في حال تخلف تقني أساسي, ومشترية دائما للتقانة, نتيجة انخفاض البحث والتطوير كما سبق ذكره, ولا يخفى ما لهذا الضعف من تأثير كبير على تعميق الهوّة ما بين الدول العربية والدول الصناعية المتقدمة التي يزيد فيها التقدم العلمي والتقاني السريع في الاقتصاد الجديد (الرمزي) من أهمية المحتوى التقني والمعرفي والمعلوماتي للسلع والخدمات بدرجة كبيرة, ويزيد في الوقت نفسه من تأثيره الكبير على طبيعة العمل والقدرات الفنية والتنظيمية المطلوبة للمنافسة.

تطوير المعرفة عربيًا

إن قصور المعرفة في الدول العربية يشكل عائقًا ضخمًا على طريق مواجهتها لتحديات القرن الواحد والعشرين في كل المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية, ولا يمكن دون اكتساب المعارف والقدرات التقانية التي تتناسب ومقتضيات القرن الجديد أن تحقق الدول العربية إنجازات إنمائية ملموسة في الأجل الطويل, بل قد تؤدي بها إلى كوارث غير محسوبة, ولهذا فإن تكريس اكتساب المعرفة هو صلب التجاوز اللازم لتخطي أزمة التنمية في الدول العربية, على كل الأصعدة الإنسانية والاقتصادية والاجتماعية, من أجل إنتاج مقومات الرفاه المادي والمعنوي, ورفع مستوى الإنتاجية, وزيادة معدلات النمو الاقتصادي بعامة, وهذا هو الذي يجعل تعزيز اكتساب المعرفة في الدول العربية من المهام العاجلة لكي تتمكن من استيعاب معطيات العصر, بكل تطوراته ومناهجه وأساليبه, من خلال وضع سياسات ومناهج ناجعة ووسائل لازمة لزيادة إنتاج ونشر وتوظيف المعرفة في جميع المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية, والارتقاء بمستوى التنمية الإنسانية.

ونرى أن نقطة البداية في هذا الشأن تكمن في حتمية تطوير التعليم بكل مراحله بشكل جذري, شاملاً إصلاح الخلل الهيكلي وترقية جودة النوعية في جميع المراحل التعليمية والإسراع في محو الأمية, وإعطاء أولوية للتعلم في مرحلة الطفولة المبكرة, إضافة إلى إيلاء عناية خاصة بالتعلم المستمر مدى الحياة, وإلى تطوير التعليم المهني والفني, وتنمية المهارات, وتأمين الفرص لنبوغ المواهب في سني الطفولة, وكذلك الالتزام باستمرارية التجديد الدوري لنوعية التعليم بما يتوافق مع مستجدات العصر.

ودون الدخول في حيثيات تفصيلية للسياسات وصيغ العمل المطلوبة في مجال تطوير المعرفة في الدول العربية يكفي أن نؤكد مجموعة من الجوانب المفصلية الأساسية التالية:

1- ضرورة تثمين المعرفة وإيلائها الأهمية اللائقة بها من قبل المجتمع والحكومة, بتوفير الحوافز والمكافآت لكل أصناف التميز والابتكار العلمي والأدبي والفني, وإجراء المسابقات بين المبدعين في كل هذه المجالات, وإعطاء البارزين منهم المكافة اللائقة بهم داخل المجتمع, وإبرازهم كقوة للأجيال الصاعدة, ولإنشاء ثقافة للمعرفة, تتسع دائرة انتشارها من خلية الأسرة إلى كل فئات المجتمع بأسره, مع إعطاء أهمية للملكات الإبداعية المبكرة لدى الأطفال برعايتهم وتنمية قدراتهم الذهنية, وتوفير الفرص الحقيقة للتميز.

2- إعطاء دور أكبر للقطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدني في تمويل التعليم وأنشطة البحث والتطوير في ضوء تقليص الإنفاق العام الذي تقوم به الحكومات, وذلك بتقديم الحوافز اللازمة لها مثل الإعانات, والإعفاءات الضريبية, وخفض رسوم الاستيراد على معدات البحث.

3- توطيد العلاقة بين الجامعات ومراكز البحوث والتطوير, وتوفير التشريعات والمساعدات المادية والمالية اللازمة لتثبيت العلاقات فيما بينها في إطار استراتيجية متكاملة للمعرفة على المستوى الوطني, يكون لكل جهة منها دوره الواضح والمتكامل مع أدوار الجهات الأخرى, مع ضرورة إشراك الأنشطة الإنتاجية (الشركات الخاصة), كما هو عليه الحال في الدول المتقدمة, في العمل البحثي وذلك من الناحيتين التمويلية والبحثية, لتسهيل تحويل النتائج البحثية إلى أساليب وأدوات تقانية قابلة للتطبيق والاستغلال الاقتصادي.

4- إنشاء شبكة على المستويين القطري والقومي لتوثيق الصلات ما بين الباحثين العرب, لتسهيل تبادل الرأي فيما بينهم, وتشجيعهم على تنفيذ البحوث المشتركة, وبناء قدرة ذاتية عربية في البحث والتطوير. وهذا يستلزم إرساء قواعد لحماية حقوق الملكية الفكرية, والاهتمام بالنشر العلمي المحكم, وتنمية الاختراع والابتكار وتحفيز المبدعين والباحثين على البحث من خلال رعايتهم ماديًا واجتماعيًا وتوفير مناخ إداري وتنظيمي ومادي ومالي يشجع على الإبداع البحثي, ويساعد على التفرغ للبحث وتحويل المعرفة إلى منتجات عملية تطبيقية تدعم التنمية الاقتصادية والاجتماعية العربية.

5- إعطاء أولوية قصوى لزيادة نشر واستخدام المعلوماتية على المستويين: التعليمي (بكل مراحله), والمجتمعي, من خلال تطوير البنى الأساسية للاتصالات والإعلام ونشر استخدام الإنترنت السريع بكل أشكاله المكتوبة والصوتية والصورية بأقل التكاليف.

التحدي الكبير

إن النهوض بمعدلات النمو الاقتصادي وتحقيق الرفاه الإنساني في الدول العربية, هو التحدي الكبير الذي يتطلب التصدي له تكاتف كل الجهود لتطوير اكتساب المعرفة, بزيادة المنسوب المعلوماتي والتقاني لدى هذه الدول على المستويين الفردي والجماعي, بما يساعدها على مواجهة التحديات الإنمائية, وغيرها من التحديات التي تتعلق بالوعي والقيم الإنسانية وأنماط السلوك البشري, وأنسنته بما يساعد على تثبيت دعائم الاتصال الحضاري مع الآخر بدلا من الابتعاد والتنافر.

وعليه فإنه لابد أن ينظر للمعرفة بوصفها بعدًا أساسيًا لأي تطور متكامل في مستقبل الدول العربية, وتبوؤها مكانة لائقة بها في العالم, لأن امتلاك الثروات لم يعد العامل الوحيد المحدد لمكانة الدول وقدرتها على المنافسة في قسمة العمل الدولية كما كان من قبل, ذلك لأن القدرات العلمية والبحثية والتقانية, لاسيما في مجال المعلوماتية والاتصال, إضافة إلى امتلاك وسائل المعرفة الأخرى, هي التي باتت ترسم بشكل متزايد ملامح قسمة العمل الدولية, وتحدد الفوارق ما بين الدول.

 

عبداللطيف الحمد

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات