في الذكرى الأربعين لوفاته: العقاد... ورسالته في الثقافة العربية سامح كريم

في الذكرى الأربعين لوفاته: العقاد... ورسالته في الثقافة العربية

سُئل العقاد عن الفرق بينه وبين المفكر والكاتب الإنجليزي برنارد شو. فقال: برنارد شو يقف على أكتاف ستة أجيال من الثقافة الأوربية. أما أنا فأقف على قدمي...). هكذا كان العقاد يرى رسالته, وسواء كان مخطئًا أو محقًا, فقد ترك في الثقافة العربية أثرًا لا يمحى.

كانت هذه رسالة العقاد ودوره في الانتقال من عصر إلى عصر شأنه في ذلك شأن قادة الفكر ممن كانت رسالتهم وأدوارهم ليست في أن يزيدوا المعرفة بمعرفة من جنسها, وإنما كانت في أن يغيّروا من نوع المعرفة, وينقلوها إلى أسلوب جديد ومفيد.

ويمكن أن يلمس القارئ تلك الرسالة وذلك الدور بمقارنة حال الثقافة في بدايات القرن العشرين حيث بدأ العقاد يتلمّس طريقه. وحالها في ستينياته.

عندئذ يندهش المرء في كيفية قيام العقاد بهذه الرسالة وذلك الدور وهو الذي لا يحمل لقبًا علميًا يسنده ولا سلطانا يعزه, ولا جاها عريضا يدعمه, ولا مالا وفيرا يحميه. وتزيد الدهشة إذا أدركنا أن العقاد لم يكن ممن يجيدون لعبة ركوب الموجة, فلا ينافق ولا يتملّق ولا يزايد....إنما العقاد كان مقاتلاً على الدوام. فهو يحارب الصهيونية محاربته للنازية, ويحارب الشيوعية محاربته للرأسمالية, ويحارب الاستعمار محاربته للمتاجرين بالوطنية, ويحارب الإلحاد محاربته لأدعياء الدين, ويحارب ممثلي الأقلية محاربته لممثلي الأغلبية, ويحارب القصر محاربته للباشوات, ويتخذ من هذه جميعا مواقف, تجسّد رأيه الخاص الذي يعبّر عنه قائلاً: (....أريد أن أكون أنا نفسي لا أكثر ولا أقل...).

وطبيعي أن يكون صاحب هذه الرسالة وذاك الدور موضع اهتمام الدارسين داخل الجامعة, اهتمامًا يتخذ أحد ثلاثة أشكال: إما بتخصيص الرسائل العلمية لتقييمه أو بإعداد الاهتمامات الجامعية أو الدراسات النقدية المنشورة بالصحف والمجلات التي تدور حول فكره وفي عملية الرصد لهذه الرسائل والمحاضرات والدراسات قد يلمح القارئ اشتمالها على نقد لا يعطى العقاد حقه أو مدح يعطيه أكثر من حقه, إلا أن هذا وذاك لا يطغى على المعنى النبيل الذي من أجله أجرى الباحث قلمه في تناول فكر هذا الرائد العظيم.

الرسالة الجامعية

وأولى هذه الرسائل منشورة في كتاب (العقاد ناقدا) التي قدمها الدكتور عبدالحي دياب إلى كلية دار العلوم, وناقشها الدكاترة محمد غنيمي هلال ومحمد مندور وشوقي ضيف. كان موضوعها (النقد عند العقاد) وفيها عنى الباحث في الباب الأول بالميراث النقدي قبل العقاد, وذلك في المحاولات النقدية السابقة عليه في النصف الثاني من القرن التاسع عشر, ثم المحاولات النقدية المعاصرة, وكان من طلائع أعلامها ويخصص بابها الثاني لاتجاهات التجديد في النقد عند العقاد كتطبيق لنظريته النقدية. والباب الثالث خصصه للحديث عن المعارك النقدية, وكيف كان لها أثر في تعميق نظرياته النقدية أو إضافة جديد إليها, وختمها بتسجيل دور العقاد في الثقافة المعاصرة نقدًا وأدبًا.

والرسالة الثانية مخطوطة وقدمها الأديب الحساني حسن عبدالله بمعهد الدراسات العربية وموضوعها (فلسفة الجمال عند العقاد وعلاقتها بآرائه في النقد) وناقشها الدكاترة شكري عياد وخلف الله أحمد ويحيى هويدي. واستهلها الباحث بدراسة لمنهج البحث في أصالة العقاد النقدية, منتهيا في ذلك إلى أن الأصالة بوجه عام ضوء متوهج لا تملك عين نكرانه وأنها لا تعرف عن طريق البحث المعملي. وأن نصيب العقاد من ذلك الضوء كنصيب غيره من أصحاب الأصالات المعتمدة. ثم عرض بعد ذلك لبعض الدعاوى عن تأثر العقاد بالأجانب وتوقف طويلا عند مصطلح التأثر مستحسنا العدول عنه إلى أحد مصطلحات ثلاثة هي (الإفادة) أو (التقلد) أو (السرقة), وأنه من اللازم عند درس الأصالة تحديد المقصود بالتأثر أهو مجرد إفادة أم تقليد أم سرقة? وانتهى في رسالته إلى فحص اتهام العقاد بأنه تأثر بالشاعر الألماني شيلر. وأجرى مقارنة دقيقة بين الاثنين أكّدت اختلاف معين كل منهما.

والرسالة الثالثة مخطوطة أيضا قدمها الأستاذ محمد عبدالهادي محمود لآداب القاهرة, وموضوعها (نظرية الصورة الشعرية عند مدرسة الديوان) وأشرف عليها الدكاترة شكري عياد وعز الدين إسماعيل وسهير القلماوي. وبالطبع كان العقاد يستأثر بالجانب الأكبر من الرسالة, حيث نجد الباحث يعرض نظرية الخيال الشعري عند العقاد, وكيف كان أثره في كل من (بليك) و(كولريدج) و(وردزوورث) و(شيللي) و(كيتس).

ثم نظرية الجمال عند العقاد, وهو في هذا الجزء يرد ضمنيا على الذين كتبوا عن أصالة العقاد في نظرته للجمال. ثم يحدّثنا عن مشكلة الشكل والمضمون وفيها يغلو الباحث في نقد النقاد, ثم يبحث عن علاقة الشعر باللغة عند العقاد, فيبدو متأثرا بمنهج الدكتور محمد مندور. ويتطرق إلى دراسة مشكلة الإبداع عند العقاد , فيرى أن هناك هوّة كبيرة بين مفهوم الإبداع الفني المعاصر وإبداع العقاد خصوصا في ممارساته الشعرية.

والرسالة الرابعة مخطوطة كان قد قدمها للجامعة الإسبانية الدكتور عبداللطيف عبدالحليم, وناقشتها لجنة مكونة من خمسة من أساتذة الجامعات هناك يتقدمهم عاشقان للثقافة العربية هما (بدرو مارتينث مونتابث) و(خوسيه باثكث) وموضوعها (دراسة بين العقاد وأونامونو) باللغة الإسبانية.

ولكونها بهذه اللغة كنت عاجزًا أمامها إلا أن الذي يطمئن المرء عن أهمية هذه الرسالة أن صاحبها من أخلص تلاميذ العقاد وأكثرهم جدية, ولعلي تذكرت بهذه المناسبة أستاذنا الدكتور عبدالرحمن بدوي بالخير, وكيف كان يتشدد معنا كتلاميذ في قراءة النصوص الفلسفية بلغاتها الأصلية في الإنجليزية والفرنسية والألمانية واليونانية واللاتينية.

وكيف لاحظ تبرمنا من اللغات الخمس يومها قال بحدة: (وددت لو جعلتها عشرا حتى لا تكونوا معصوبي العيون أمام أي معرفة من المعارف) فها أنذا الآن معصوب العينين أمام هذه الرسالة?! وسأكتفي بالرجوع إلى ما كتبه عنها صاحبها بالعربية في المجلات المتخصصة راجيًا أن تتدارك ذلك الجامعة التي هو عضو في هيئة تدريسها فتكلفه بترجمتها معترفة بأن ما يقوم به إعمال للفكر عليه يثاب, أو حتى وزارة الثقافة فتعمل على تكليفه بترجمتها ونعود إلى ما كتبه الباحث عن رسالته, وقد أصبح قدره ألا نقرأه إلا موجزا فنراه يحدّثنا عن الظروف السياسية والاجتماعية والأدبية في كل من مصر وإسبانيا في الفترة ما بين 1850-1950 موضحًا كيف كانت هذه الظروف متشابهة. وكيف نشأ كل من العقاد في مصر و(أونامونو) مستهدفا مكونات تفكير كل منهما المتشابهة حتى يصل إلى تشابه بين الاثنين في مفهوم الأدب عامة والشعر خاصة, وينتهي في رسالته إلى إثبات هذا التشابه الكامل حتى في موضوعاتهما الشعرية مع أن العقاد لم يطّلع كثيرًا على (أونامونو) في لغته.

والرسالة الخامسة منشورة في كتابي (عباس العقاد رجل الصحافة رجل السياسة) و(العقاد زعيما) للدكتور راسم الجمال وناقشتها بكلية الإعلام الدكاترة عبدالملك عودة وخليل صابات ومختار التهامي وكان موضوعها العقاد في تاريخ الصحافة المصرية من 1907 إلى 1964, وفيها تتبع الباحث مسار فكر العقاد وكتاباته في الصحف مبرزا كفاحه الصحفي والسياسي حتى عام 1930, حيث تمت محاكمته بتهمة العيب في الذات الملكية. ثم تتبع الباحث مسار فكر العقاد من عام 1930 إلى 1964. وفي ذلك تحول من كاتب سياسي إلى زعيم سياسي, حيث دفع زعماء الوفد إلى إعلان موقفهم عام 1932, وعبأ الرأي العام ضد السياسة الإنجليزية, ومهّد لانشقاق السعديين عن زعامة الوفد, وأكّد الباحث على أمرين, أولهما مكانة العقاد السياسية والصحفية, وإثبات مدى صدق بصيرته الوطنية.

وكما ذكرنا أنه إذا كان العقاد لم يظفر بلقب علمي يعزه, ولا مؤهل جامعي يحميه, ولو حتى شهادة متوسطة يتستّر وراءها, فقد استطاع بمواقفه العظيمة, وأعماله الخالدة - أن يجتاز الباب الضيق, إلى دائرة الاهتمام العلمي بالجامعة, فكان محور اهتمام عدد كبير من الرسائل كما رأينا, وعدد أكبر من المحاضرات والدراسات كما سنرى. ولا عجب إن حظي العقاد بكل هذا التقدير في جامعات مصر وحدها, إذا كان هو العقاد الذي نعرفه صاحب الرسالة والهدف, وأحد روّاد التنوير ممن كانوا لا يعيشون الحاضر بعقل الماضي, ولا يترجمون الواقع بلغة الوهم, ولا ينقلون الحقيقة بصورة الخرافة, ولا يكتبون بأيديهم ما ترفضه عقولهم.

وجهات نظر مختلفة

وطبيعي أن يكون حول العقاد وهو بهذه المكانة اختلافات في وجهات النظر عند التقييم يمكن أن نجملها في فريقين, أولهما مترفق في تنظيره, وثانيهما صارم في تطبيقه, ولكنهما ينتهيان إلى توكيد ريادة هذا المفكر.

من الفريق الأول الدكتور شوقي ضيف, لقد كتب عن العقاد فصولا في كتبه (مذاهب الأدب) و(الأدب العربي المعاصر) و(فصول في الشعر ونقده), وأفرد له كتابا يعتبر المرجع الأساسي للدارسين هو (مع العقاد) وهو تصوير مجمل لسيرة العقاد, وما امتازت به شخصيته من مقومات مادية ونفسية وعقلية وروحية. وكيف دفع مع جيله أدبنا الحديث إلى تطوره الحي المثمر, وكيف استحدث موازين جديدة للنقد, وكيف جال بفكره في تاريخنا الإسلامي مقدما عظماء هذا التاريخ, راسمًا لأمتنا عبقرياتها وشخصياتها, وتطرق إلى إبداعه القصصي, وتوقف طويلا عند إنتاجه الشعري الضخم.

والاهتمام الثاني لرائد الفلسفة الجوانية الدكتور عثمان أمين في صورة كتاب (نظرات في فكر العقاد), وفيه ينبهنا إلى أن ما يقدمه ليس نظرًا وافيًا في فكر العقاد بقدر ما يكون مقدما لهذا الفكر. وهو مع هذا يقدم على صفحات الكتاب نظرات واعية لأدب العقاد وفلسفته وإسلامياته, ويؤصل ذلك وكأنه يعطي للباحث عشرات المفاتيح إلى هذه الموضوعات كذلك يرى سمات الفلسفة الجوانية في أدب العقاد على وجه الخصوص وروايته (سارة) التي يراها جوانية لا تشغل الأحداث الخارجية منها إلا ما يلزم حبكتها الفنية. ويقرر أن حياتنا الأدبية بلغت بجهده ويقظته تقدما ملحوظا.

والاهتمام الثالث لرائد الوضعية المنطقية الدكتور زكي نجيب محمود ويترجمه هذا الجانب الكبير في كتابه (مع الشعراء) وفيه يقدم لنا العقاد مفكرا وأديبا. ويستخلص فلسفته من شعره, بطريقة تحليلية مذهلة, ويتوقف عند شعره فيراه أقرب شيء إلى فن العمارة والنحت, فالقصيدة عنده أقرب إلى هرم ضخم أو معبد كبير منها إلى زهرة أو عصفورة. والقلم في يده هو إزميل النحات, فلا الفكرة عنده قريبة المنال, ولا المادة سهلة التشكيل, حتى ينتهي إلى القول بأن شعر العقاد أدخل في باب (الجليل) منه في باب (الجميل) ففيه شموخ الجبال وصلابة الصوان وعمق المحيط, وفيه من الشعور صحوه لا نعاسه.

والاهتمام الرابع للدكتورة سهير القلماوي في صورة محاضرة نشرت فيما بعد بمجلة الهلال بعنوان (سارة.. أو عبقرية الشك) فيها تفلسف حال الشك الإنساني عند العقاد من خلال أحداث رواية سارة, فترى أن عبقرية الشك العقادي صنف من عبقرياته شاذ فريد, لكنه يخضع لمنهج العقاد في تصوير العبقرية, والشك هنا عملاق يتقبل آثار الأحداث والتاريخ, ولكنه يتصدى لها.

والاهتمام الخامس للدكتورة نعمات أحمد فؤاد في صورة كتاب (الجمال والحرية والشخصية الإنسانية في أدب العقاد) وفيه نلمح محاور ثلاثة يتضمنها حديثها الرقيق المتميّز عن الحرية والجمال والشخصية الإنسانية عند العقاد. وقد شغل المحور الأخير معظم صفحات الكتاب, وفيه حدّثتنا عن عبقريات العقاد وموقفه من المرأة, والإنسانية في شعره وأدبه, ثم قدمت لنا العقاد حين يترجم لنفسه.

والاهتمام السادس يأخذ شكل ثلاثة كتب هي (عبقرية العقاد) و(النقد والجمال عند العقاد) و(الفلسفة الاجتماعية عند العقاد) وفيها يؤرخ الدكتور عبدالفتاح الديدي لأستاذه من جوانب كثيرة, أهمها شخصيته المتفرّدة, ونظرية النقد وعلاقتها بالجمال ومؤثراتها الخارجية, ثم الجانب الفلسفي عند العقاد.

والاهتمام السابع كتاب ضخم هو رسالة جامعية للدكتور محمد أبو الأنوار عنوانه (الحوار الأدبي حول الشعر) ويشغل العقاد منه جانبًا كبيرًا وفيه يسجل لمعارك مدرسة الديوان, وظهور كتاب الديوان كفاصل بين عهدين, والخصومة التي نشأت بين رواد الديوان, ثم استمرار جهود هذه المدرسة ممثلة في العقاد إلى آخر هذه الموضوعات التي كان العقاد فارسها.

وفي المقابل هناك الفريق الثاني الذي يتقدمه شيخ النقاد الدكتور محمد مندور, حيث يخصص فصولاً من كتبه (الشعر المصري بعد شوقي) و(النقد والنقاد المعاصرون) و(في الميزان الجديد) و(مسرحيات شوقي) للحديث عن العقاد الناقد والأديب والكاتب. فيراه يقحم النظريات الفلسفية في ميدان الأدب, حيث يتحدث عن (رسالة الغفران) للمعري, ويرى أن دراسات العقاد الأدبية تنصبّ على التعليل والتفسير أكثر من انصبابها على التقويم والنظر في القيم الجمالية, ويراه يختار الشعراء الذين تنطبق عليهم فلسفته العامة في الحياة, ويعيب على العقاد استخدامه للمنهج النفسي فحسب في الدراسات الأدبية, ويختلف معه في النظرة إلى الشعر الحديث عامة والمهموس خاصة.

اتجاهات مضادة

والاهتمام الثاني من هذا الاتجاه المضاد يمثله كتابان للدكتور عبدالقادر القط, فيهما يحتل العقاد حيزًا ملحوظًا الأول (مواقف وقضايا) والذي يفرد فيه فصلا عن اللغة الشاعرة عند العقاد فيشير إلى غلبة الشعور القومي عند العقاد على الحقيقة العلمية, كما يشير إلى النقص المنهجي عند العقاد الناتج عن هذه الأنانية القومية التي تجعله ينساق إلى الدفاع عن لغتنا من حروفها وتعبيراتها ذاهبا إلى أنها أعظم اللغات من حيث شاعريتها. والكتاب الثاني (الاتجاه الوجداني في الشعر العربي المعاصر)وفيه يرى العقاد متأثرًا بالشعر القديم, وبملاحظته للعناصر التقليدية القديمة, من الصورة إلى اللغة إلى المعنى وجد الكثير من الشعر القديم يتسرب إلى شعر العقاد.

والاهتمام الثالث تترجمه هذه الفصول الممتعة من كتاب (بين القديم والجديد) للدكتور إبراهيم عبدالرحمن وفيها سجل ملاحظات على أدب ونقد العقاد ومنها أن آراء العقاد النقدية نبعت من غاية هي تحطيم مكانة شوقي وغيره من الشعراء لإزاحتهم حتى يفسح له ولزميليه مكانا مرموقا, وإن المرحلة التي كان يعيشها العقاد كانت ذات طابع إحيائي تتجه إلى التراث الإسلامي والأدبي القديم يأخذون منه وينسجون على منواله وقد تأثر شعر العقاد بهذا الجانب التوفيقي واحتذى في نزعته المنطقية التقريرية آراء ابن قتيبة وابن جعفر وابن رشيق وحازم القرطاجني ونقل مفهومه لوحدة بناء القصيدة من الحاتمي وابن طباطبا, وأن عيوب التفكك والإحالة والسرقة التي أخذها العقاد على شوقي وقع هو فيها.

والاهتمام الرابع يترجمه تحليل رواية (سارة) للعقاد في كتاب (تطور الرواية العربية الحديثة) للدكتور عبدالمحسن طه بدر حيث يشير إلى ظاهرتين تميزان العقاد - الأولى تتصل بشخصيته عندما تعرض كغيره للقلق والألم والشك وكانت وسيلته للخروج من هذه الأزمة تتمثل في اعتزازه الشديد بذاته واستعلائه على الآخرين. والثانية تتصل بتفكيره فتظهر في نزعته المنطقية الحادة فهو حين يريد إخضاع ظروف الحياة لإرادته يحاول إخضاعها لتفكيره. وفي (سارة) نجد أنفسنا أمام نزعة العقاد العقلية, وقدرته على التحليل والتعليل التي ينجم عنها التنظيم حتى للحظات التوتر التي تتشابك فيها العواطف في العمل الروائي ولذلك تاهت سارة!

والاهتمام الخامس تترجمه فصول من كتب الدكتور أنس داود أولها كتاب (الأسطورة في الشعر العربي الحديث) وفيه يقارن بين رأي العقاد في أن حياة الشاعر تعرف من شعره ورأى (إليوت) الذي لا يرى صلة بين حياة الشاعر وشعره. ثم ينعي على العقاد توقفه عند حدود المدرسة الرومانتيكية الأوربية, وكتاب (رواد التجديد في الشعر الحديث) وفيه يجرد العقاد من زعامته لمدرسة الديوان, وكتاب (الرؤية الداخلية للنص الشعري) وفيه يرى العقاد يخالف القاعدة في الشعر حيث يبدأ حكيما وينتهي عاطفيا.

والاهتمام السادس رسالة لدار العلوم عن مصطفى صادق الرافعي قدمها الشقيق العراقي الدكتور مصطفى البدري وفيها ذكر العقاد بما لا يليق, والباحث معذور لطبيعة موضوعه عن الرافعي, ولأن موجهه هو الدكتور عمر الدسوقي الذي أقسم بأيمان مغلظة ليسخرن علمه للهجوم على العقاد?

تأملات لويس عوض

وتبقى من هذه الاهتمامات المنشورة بالصحف والمجلات تأملات الدكتور لويس عوض في فكر العقاد.

فالعقاد الذي شغل حياتنا لأكثر من ثلاثة أرباع قرن, في حياته أو بعد مماته, تقدمه لنا تأملات الدكتور لويس عوض في مجلة المصور فلا نعرفه! وكيف نعرفه وقد انتهى في عام 1937 وليس كما هو معروف في عام 1964, وقد بدا مناقضا لفكرنا الديني التقليدي, وأصبح متتلمذا على فلاسفة أوربا ومفكريها! باختصار العقاد في هذه التأملات, شخص آخر غير الذي نعرفه, هو نتاج للثقافة الغربية بخيرها وشرها, وليس من نتاج الثقافة العربية.

ونتأمل معا تأملات د.لويس في أدب العقاد مبتدئين باختبار ذلك المنهج الذي سلكه في التعامل مع سطور للعقاد عدد كلماتها 35 كلمة, في مقدمة لا تزيد على الصفحة ونصف الصفحة لكتابه (الفصول) الذي بدأ كتابة فصوله عام 1913 ليصبح ترتيبه الخامس بين 105 كتب هذه الكلمات تقول: (في سبيل الحق والجمال والقوة أحيا. وفي سبيل الحق والجمال والقوة أكتب, وعلى مذبح الحق والجمال والقوة أضع هذه الأفكار المخضلة بدم فكر ومهجة قلب قربانا إلى تلك الأقانيم العلوية وهدية في السحاب إلى العباب) فنجده أقرب إلى استخدام المنهج الاستدلالي.. حيث انتقل من قضايا منظور إليها في ذاتها, إلى قضايا ناتجة عنها, وفقا لقواعد منطقية. وهذا أمر طيب. ولكن أن يختار هذه الكلمات من مقدمة لكتاب بدأ مؤلفه كتابة فصوله عام 1913 فهذا هو وجه الغرابة.

إن أكثر من خمسين عاما بين البدء في تأليف الكتاب ووفاة صاحبة كافية لإضافة جديدة إلى فكر المؤلف. ومن هنا لا يكون الحكم مطمئنًا بالنسبة للمادة موضع الدراسة. يتصل بهذا المنهج الذي اتبعه الدكتور لويس, حرصه الواضح على حشد خطوات إثبات ما يريد بموكب من النظريات والمصطلحات والمفاهيم التي من المؤكد أنها تغزو عقل قارئ الصحيفة السيارة, فيستسلم, والأكثر يصبح عاجزًا عن تبين مواطن القوة والضعف. والصواب والخطأ.

ماذا كان العقاد?

في تناول الدكتور لويس لأدب العقاد وفكره بهذا المنهج, المرء يدهش لجرأته في تقديم رؤية مبنية على استخلاص الكل من الجزء! بعد ذلك تطل من بين صفحات التأملات ملاحظات هامشية ومنها مثلا ملاحظة حول هذا العنوان: (تأملات في أدب العقاد) وكيف أن القارئ لما تتضمنه الحلقات يدخل أدب العقاد من باب فكره لما يطالعه في هذه التأملات من جوانب فلسفية واجتماعية وسياسية ثم أدبية في أحوال قليلة.

ونطوف مع التأملات ونتوقف عند قول الدكتور لويس: (وفي الأربعينيات تابعت بعض أدب العقاد الديني. ولكن العقاد الذي أعرفه وتأثرت به انتهى نحو عام 1937).

بمراجعة إنتاج العقاد في هذا التاريخ نجده يصدر الكتاب السابع عشر في سلسلة مؤلفاته التي تجاوزت مائة كتاب إلى جانب أحاديثه الصحفية والإذاعية وندواته فكيف انتهى?

ويتساءل الدكتور لويس: ماذا كان العقاد? ويجيب إنه لم يكن فيلسوفًا بل متفلسفا, وأنه كان متشربا بفلسفة (الترانسندانتال) فقال مسجلا أن هذه الفلسفة بلغت قمتها عند كارلايل, مع أن الثابت أن هذه الفلسفة بلغت قمتها عند كانط وهيجل وهما من الفلاسفة الكبار, وليس عند كارلايل المؤرخ والأديب).

ثم يقول (أعود إلى الاسم الأجنبي للفلسفة الترانسدية وهي حرفيا تعني التجاوزية ولكن عثمان أمين رحمه الله ابتكر لها كلمة البرانية في مقابلة الجوانية) والسؤال الآن: لماذا كثرة الترجمات لمصطلح اتفق الغالبية على أن ترجمته هي كلمة (مفارق) كما يقول مؤرخ الفلسفة الدكتور يوسف كرم في كتابه (تاريخ الفلسفة الحديثة) كذلك يعلن الدكتور لويس استنادًا إلى الدكتور عثمان أمين أن العقاد كان (برانيا) وبالرجوع إلى كتاب (الجوانية أصول عقيدة وفلسفة ثورة) نجد الدكتور عثمان أمين يعتبره جوانيا بل (خير معبر عن النظر الجواني في أدبه وفلسفته).

ويقول الدكتور لويس عن العقاد بأنه (مفكر تلفيقي لعديد من الفلاسفة الألمان) وهذا التوصيف مهين لفكر العقاد, فالتلفيقية في المعجم الفلسفي نزعة بعيدة عن الروح النقدية, وترمي إلى جمع مصطنع بين أشتات غير متلائمة, فهل كان العقاد في فكره بهذه الصورة?

وحين يؤصل الدكتور لويس لدلالة هذه الكلمات (الحق والجمال والقوة) عند العقاد يجعل لها بديلا يبعدها عن التفكير الإسلامي ويقربها من الفكر الحديث وثالوث المسيحية) مع أنها كلمات متداولة في التفكير الإسلامي فالحق صفة من صفات الله حيث نردد: يقول الحق سبحانه وتعالى, وكذلك الجمال (الله جميل يحب الجمال), والقوة مشتقة من اسم من أسماء الله الحسنى (القوي).

والدكتور لويس يعتبر العقاد ضمن المدرسة المثالية ثم يقول: (إذا أردت أن تعرف الفرق بين الله في الفلسفة المثالية والله في الفكر الديني لم تجد اختلافا حقيقيا بينهما, إلا أن الله عند الفلاسفة المثاليين غير مشخص) ومعنى هذا أن الله مشخص في الفكر الديني. يقول هذا عن العقاد الذي نجده يردد في كتابه (الله) قوله تعالى (ليس كمثله شيء) عندما يورد صفات الله.

إضافة إلى كل ذلك, فهناك الكثير من الاهتمامات التي ترجمتها الرسائل الجامعية والدراسات والمحاضرات وكلها - سلبا وإيجابا - أعمال مشكورة تؤكد خلود فكر العقاد.

 

سامح كريم

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




 





عباس العقاد في شبابه





العقاد كان موضع تقدير من مجلس قيادة الثورة المصري