العنف الهستيري الإسرائيلي وسياسة (محو الآخر)

العنف الهستيري الإسرائيلي وسياسة (محو الآخر)

الـحـفـربات الأثـريـة أسـقـطـت أسـانـيـدهـم

لا يزال رجل الشارع العربي العادي غير متفهم للدافع الحقيقي وراء ذلك العنف الهستيري الإسرائيلي الذي يحاول اقتلاع كل ما هو فلسطيني ومحوه من الوجود بشكل تخطى كل الحدود... ربما لأنه ـ رجل الشارع ـ لا يدري أن أهم أسانيد شرعية وجود الكيان اليهودي الرسمي ـ إسرائيل ـ قد أسقطت إلى الأبد بسقوط الهالة التقديسية عن أساطير كتاب (العهد القديم) المغلفة بإطار تاريخي.

لقد اعتاد جل المؤرخين في جميع أنحاء العالم على مدى قرون طوال وحتى الآن على اعتبار كتاب (العهد القديم) مصدراً تاريخياً لا يعتريه شك ينهلون منه كل ما يتعلق بالتاريخ القديم لليهود دون تمحيص أو تحقيق لأي مما ورد فيه من أحداث تاريخية بعناصرها (أماكن وتواريخ وأعداد وأسماء... إلخ), لكن نتائج الحفريات الأثرية في أرض فلسطين التاريخية طوال القرن العشرين ـ حتى بعد إقامة إسرائيل سنة 1948م ـ قد رسخت لدى العديد من علماء الآثار في الغرب الشك في المصداقية التاريخية لـ (الروايات المقدسة) بدلاً من تأكيدها. وبدأ يتشكل في الثمانينيات من القرن المنصرم تيار من المؤرخين الغربيين ـ وكذلك من المؤرخين العرب ـ يتجه نحو التخلي عن الافتراضات التاريخية المسبقة التي فرضها التفسير الديني اليهودي للتاريخ اعتماداً على كتاب (العهد القديم). وقد وجد هذا التيار الجديد من يؤيده بين المؤرخين وعلماء الآثار الإسرائيليين أنفسهم, إلا أن قليلاً منهم من كان يجرؤ على البوح بما يعتقد, وعلى رأس هؤلاء البروفيسور زئيف هرتزوج الذي كتب مقالاً في صحيفة (هآرتس) الإسرائيلية صبيحة يوم 3/10/1999م تحت عنوان (الكتاب المقدس: لا إثباتات على الأرض) اعترف فيه بأن حكايات كتاب (العهد القديم) عن آباء شعب إسرائيل واستيطانهم لمصر والخروج منها وغزو أرض كنعان ومملكة داود وسليمان (عليهما السلام) كانت مجرد أساطير, وأن حفريات 70 عاما في ما أسماه بـ(أرض إسرائيل) أكدت أنه لم يكن هناك أي شيء لليهود على الإطلاق, واعترف بأن معظم الباحثين الإسرائيليين في علوم الآثار والتاريخ والأنثروبولوجيا كانوا يعرفون هذه الحقائق منذ عشرات السنين, ومع ذلك لم تتغلغل مثل هذه الأمور الثورية في الوعي المجتمعي الإسرائيلي ـ غير المنيع ـ بشكل كاف لتبني الحقائق الأثرية التي تخالف روايات كتابهم المقدس ـ كتاب العهد القديم ـ حجر الزاوية الرئيسي في بناء الهوية القومية للمجتمع الإسرائيلي اليهودي.

تمثيلية برائحة التاريخ

إحدى الدعائم الأساسية لتاريخ بني إسرائيل القديم هي حكاية مكوث الأسباط الاثنى عشر في مصر ثم خروجهم منها, لكن لسوء حظ أبناء عمومتنا المزعومين لم يعثر حتى الآن على أي مصدر قديم من الآثار أو المخطوطات المصرية ـ التي سجلت الحروب والأحداث المهمة في مصر منذ القرن الخامس عشر ق.م وحتى القرن السابع ق.م ـ يشير ولو تلميحياً إلى ذلك الأمر, وأصبح من الثابت لدى المؤرخين الجدد عن قصة خروج بني إسرائيل من مصر أنها قد دوّنت بعد وقوع الحوادث التي ترويها بزمان طويل وأنها ربما تكون قد نحلت!, فلم يرد في أي نص أثري مصري أدنى إشارة إلى تلك الإقامة الطويلة لبني إسرائيل في مصر كما زعم (العهد القديم) ـ 430 سنة ـ وقد نقب الأثريون من الأطراف الأربعة للمعمورة في صحراء سيناء دونما كلل ـ خلال الفترة بين عامي 1967م ـ 1982م إبان الاحتلال الإسرائيلي لها ـ لتأكيد معطيات (سفر الخروج) في كتاب (العهد القديم), خصوصاً وأنه قد ذكر أن تعداد شعب الخروج كان يربو فوق الخمسمائة ألف نفس, كان يفترض أنهم خلّفوا وراءهم العديد من العلامات والآثار والشواهد في مسارات تيههم وتجوالهم, ومع ذلك لم يُعثر حتى الآن على أي دلائل أثرية على مرور بني إسرائيل في سيناء, رغم أنه قد تم العثور فيها على آثار تعود إلى العصور الحجرية الأولى!

لكن ما يضعف هذه (الرواية المقدسة) نابع ـ بجانب الحقائق الأثرية ـ من (سفر الخروج) المقدس ذاته, فهو يخبرنا أن آل يعقوب حينما هاجروا إلى مصر (البلد الغريب عنهم) انضماماً إلى أخيهم يوسف كانوا بمنزلة أسرة لا يزيد عددها على 70 شخصاً, وأنهم بقوا وبقيت ذرياتهم من بعدهم قرابة خمسة قرون في ذلك البلد دون أن ينصهروا في البيئة الجديدة اجتماعيا أو ثقافيا أو عرقيا!

هذا في الوقت نفسه الذي يخبرنا فيه السفر المقدس نفسه أن النبي يوسف نفسه كان مندمجا بالشعب المصري ـ بحكم منصبه كوزير للملك ـ خاصة بعد أن تزوج من أسنات بنت فوطي فارع رئيس الكهنة في مصر, فولدت له ابنين, فهل كان هناك ما يمنع زواج إخوة يوسف من مصريات أيضا تقليدا لأخيهم?!

وهل كان هناك ما يمنع ابني يوسف من الزواج بمصريات أيضاً مثل أبيهما بحكم أن أمهما مصرية?! وهل كان هناك ما يمنع زواج أبناء إخوة يوسف من مصريات اقتداء بعمهم?! وإذا أخذنا في الاعتبار أن اليهود يعتمدون مبدأ تحديد ديانة الأم للتحقق من (يهودية) أي شخص, فإن هذا يعني أن نقاء العنصر اليهودي قد ضاع منذ ذلك الحين ـ منذ بداية الحكاية ـ وإلى الأبد نتيجة امتزاج دماء أسباط بني إسرائيل الأوائل بدماء غير اليهود من المصريين كنتيجة لتلك الزيجات المختلطة, وبذلك يكون قد قُضي ـ وفقا للنص الكتابي المقدس ـ على أي ادعاء بوجود شعب نقي العنصر اسمه (شعب إسرائيل) الذي أتخمت بذكره كل أسفار(العهد القديم) تقريباً, ناهيك بأن الستار قد أسدل في سفر الخروج على حكاية دخول آل يعقوب ـ 70 شخصا ـ إلى مصر, ثم عاد بعد انقطاع دام 430 سنة ليصوّر لنا مشهد ولادة النبي موسى وتربيته في قصر الفرعون, وقصة الخروج وشعب الخروج الذي وصل تعداده إلى زهاء الـ 600 ألف شخص يهودي, كلهم ذوو دماء نقية لم تختلط بأي دم غير يهودي على الإطلاق, كما لو كان أجدادهم ـ 70 شخصا ـ قد تكاثروا فيما بينهم خلال تلك الفترة ـ 430 سنة ـ وفق متوالية هندسية خرافية!!, ولِمَ لا و(سفر الخروج) لم يخبرنا كيف كان حال أسباط إسرائيل خلال تلك الـ 430 عاماً رغم أن أسفار (العهد القديم) دأبت على تسجيل الغث والسمين!! كما لم يذكر صراحة اسم فرعون الخروج مع أن ذكره كان ذا أهمية لبني إسرائيل, ناهيك بالتعداد الهائل لشعب الخروج المزعوم ـ أكثر من نصف مليون نفس ـ الذي كان لا بد وحتما أن تحدث لهم عدة مجاعات قاتلة بالنظر إلى غضب السماء عليهم وانقطاع المن والسلوى عنهم وتيههم في الصحراء لمدة 40 سنة, وهو ما لم يرد ذكره بالتفصيل لا في (سفر الخروج) ولا في غيره!, وجملة الوثائق التي اعتمد عليها المؤرخون التوراتيون لإثبات ما ورد في (سفر الخروج) تطرقت إلى وصف عادات وتقاليد رعاة وبدو رُحّل يسمَّون (شاسو) ـ وليس للإسرائيليين أو بني إسرائيل علاقة أكيدة بهم ـ عندما دخلوا مصر إبان فترات القحط والجوع واستوطنوا على أطراف دلتا النيل ولم يكن لهم اختلاط معيشي بالمصريين, بعكس حال بني إسرائيل الذين يذكر (سفر الخروج) أنهم كانوا عبيداً في بيوت المصريين. من ناحية أخرى حاولت أجيال كثيرة من المؤرخين وصف محطات وقوف آل يعقوب في الصحراء في طريق دخولهم إلى مصر, ورغم الأبحاث العديدة التي تم تبنيها في هذا الصدد إلا أنه لم يتم اكتشاف أثر واحد يمكنه أن يؤكد الحكاية التوراتية.

خرافة غزو كنعان

من أهم الحقائق الأثرية التي صفعت الوجدان الصهيوني بعنف أن احتلال اليهود بقيادة يشوع (أو يوشع) بن نون لأرض كنعان وهزيمة الكنعانيين كان خرافة ما بعدها خرافة, لأنها كانت ـ ولا تزال ـ الدعامة الأساسية لمقولة (الحق التاريخي لليهود في أرض فلسطين) والسند التاريخي الأول لإقامة دولة إسرائيل الحالية.

لقد أجرت البعثات الأثرية المختلفة حفريات متكررة في كل من أريحا وعاي المدينتين اللتين وصف احتلالهما بشكل مفصل جداً في (سفر يشوع) بكتاب (العهد القديم), بدأت أول أعمال الحفر والتنقيب في أريحا عام 1876م ثم نقبت فيها بعثة أثرية نمساوية ـ ألمانية ما بين عامي 1907 ـ 1909, ثم بعثة تنقيب بريطانية بين عامي 1952 ـ 1958 بمشاركة بعض الأثريين الأمريكيين والكنديين, بالنسبة للنتائج فقد أوضح عالم الآثار الألماني إرنست سيلين في مذكراته عن نتائج أعماله التنقيبية في أريحا عام 1913 أن الكنعانيين سكان أريحا قد تعرضوا لكوارث مدمرة فيما بين عامي 1580 و1500 ق.م, على يد قدماء المصرين أثناء مطاردتهم لفلول الهكسوس ثم أثناء إخمادهم لثورات الشاسو والعابيرو ـ وهم غير العبرانيين ـ وقد أكدت هذا الرأي الأثرية البريطانية كاثلين كينون التي قامت بالتنقيب حول مدينة أريحا فبرهنت الحفائر التي قامت بها أن مدينة أريحا كانت غير مأهولة في القرن الثالث عشر ق.م, وهو الزمن الذي ذكر كتاب (العهد القديم) أن أحداث تدمير يشوع ـ أو يوشع ـ بن نون للمدينة قد وقعت خلاله, فقد وجدت كينون آنية من الفخار ترجع إلى القرن الرابع عشر ق.م, ومنزلا به إبريق صغير يرجع إلى الفترة الزمنية نفسها, ولا شيء ينتسب إلى القرن الثالث عشر ق.م, وهكذا كان حال مدينة عاي أيضاً حيث قامت بعثتان بالحفر والتنقيب وجاءت النتائج متطابقة مع مثيلاتها في أريحا, فلم تكن هناك مدينة بالوصف المذكور في (سفر يشوع) خلال القرن الثالث عشر ق.م, وبالتالي لم يكن يشوع بن نون ـ بافتراض أنه قد دخل أصلاً ـ بحاجة إلى أن يهدم شيئا لا وجود له! فلم يكن في هاتين المدينتين أي مظاهر للحياة ولم يكن هناك أي نفوس تسفك دماؤها!

كما لم يعترف هذا السفر المقدس بالواقع الجيوسياسي الذي كانت تعيشه المدن الكنعانية في القرن الثالث عشر ق.م (وقت الغزو اليشوعي المزعوم) حيث كانت خاضعة لحكم مصر وسلطانها وظلت كذلك حتي أواسط القرن الثاني عشر ق.م لكن يبدو أن ذلك لم يكن معروفاً أيضاً لمن قام بتدوين هذا السفر المقدس ـ سفر يشوع ـ !

مملكة على الورق فقط

تعتبر المملكة الموحدة في عهد النبي الملك داود وابنه سليمان من بعده (عليهما السلام) الدعامة الأساسية الأخرى لمقولة (الحق التاريخي لليهود في أرض فلسطين) والجذر التاريخي الأعمق لدولة إسرائيل الحالية... هذه المملكة لم يعثر المنقبون على أي أثر ينتمي إليها بشكل يقر ما جاءت به الأسفار المقدسة في (العهد القديم) حول عظمة هذه المملكة واتساع حدودها ونفوذها وبهاء عمرانها, خصوصا فيما يتعلق بالهيكل المقدس ـ هيكل سليمان ـ الذي يعرف الجميع الفشل الذي منيت به جميع الحفائر التي نقبت عنه, أو عن أي أثر ينتمي إلى المملكة السليمانية تحت الحرم القدسي وفي سائر مناطق مدينة القدس منذ عام 1967م وحتى الآن, ويبدو أن الحكايات والأوصاف التي اتخمت الأسفار المقدسة بها حول هذه المملكة الموحدة لا تعدو أن تكون في أقصى مداها مبالغات ورطانات إنشائية لا تختلف عن مثيلاتها من نتاج كُتّابْ العصور القديمة حتى نهاية القرن الخامس عشر للميلاد.

البحث عن مسرح

إذا كان بعض المؤرخين قد استطاعوا ضبط شواهد تاريخية على وجود اليهود على أرض فلسطين, فإنهم لم يستطيعوا إثبات انتسابها إلى فترة تاريخية أبعد من القرن الثاني ق.م, وليس إلى أي من المحطات الرئيسية التي تشكل العمود الفقري لأسطورة (إسرائيل القديمة), وقد دفع ذلك العديد من المؤرخين كي يتقدموا بطروحات مفادها أن المسرح الحقيقي للأحداث التاريخية القديمة المروية في أسفار العهد القديم ـ إن صح وقوعها من الأصل ـ ليس في فلسطين التاريخية ومحيطها, ومن هؤلاء المؤرخين مؤرخون عرب أمثال د. كمال الصليبي, ود. فرج الله صالح ديب الذي ذهب جنوباً فقدم نظرية تقوم على أساس أن بلاد اليمن كانت هي المسرح الحقيقي للأحداث التاريخية المروية في (العهد القديم) منذ هجرة سيدنا إبراهيم أبي الأنبياء من حاران بالعراق وحتى وقوع السبي البابلي في القرن السادس ق.م, وتكتسب مثل هذه النظريات أنصاراً جددا في الدوائر العلمية الجادة في الغرب ـ رغم ما يلاقيه علماء التاريخ هناك من اضطهادات واتهامات محفوظة عن ظهر قلب بمعاداة السامية ـ لا سيما وأن الآثار المكتشفة في فلسطين كلها تؤكد شيئين: إما عروبة فلسطين أو عمق الوجود الفلسطيني القديم في هذه البقعة الجغرافية منذ عصور ما قبل التاريخ... أدلة وبراهين تاريخية دامغة عجز المنقبون والمؤرخون التوراتيون عن الإتيان بأقل القليل منها لتأكيد التاريخ اليهودي القديم الذي ثبت أنه في جملته مختلق ومزوّر وقائم على الترهات, مما أذن ببدء تيار عالمي من المؤرخين أخذوا على عاتقهم مهمة تفكيكه, بشكل دفع العقل الجمعي لليهود إلى انتهاج سياسة محو الآخر (الفلسطيني) من الوجود لتوكيد الذات اليهودية الصهيونية.

 

طارق منير