قراءة جديدة في كتاب (العثمانية) الجاحظ مُفَكّراً مُعَاصرا طيبة الشذر

قراءة جديدة في كتاب (العثمانية) الجاحظ مُفَكّراً مُعَاصرا

قد يسمو الكاتب فوق الزمان والمكان, فيكون كالنجم الخالد الذي يمكن أن نلاحظه في أزمان مختلفة وفي أماكن متباعدة, ويبقى دوره هو أن يبهر الناظر إليه.. ويشد المتطلع نحوه.

اختار هنا دراسة كتاب واحد للجاحظ من أواخر كتبه وهو كتاب (العثمانية) الذي حققه الأستاذ عبدالسلام هارون وطبعه في القاهرة عام 1955, وسأضع هنا موضوع الكتاب وما ناقشه جانبا, في محاولة لاستخراج نظرات معاصرة في موضوعات مختلفة في هذا الكتاب مثل شروط الكتاب الجيد وشرط المؤلف, ودراسة قدرات الأطفال, وتعليل الشجاعة وأسبابها, وقوة الدعاية النفسية وغيرها.

سوف نلاحظ في تناولنا لهذه الموضوعات كثيرا من الشبه بين ما نفكر به اليوم والطريقة التي نعلل بها بين منهج الجاحظ في التفكير والتعليل, وكذلك منهج الجاحظ في النقض والإبرام للخبر التاريخي.

التأليف والرواية والبحث

أ- شروط الكتاب الجيد وشرط المؤلف:

يدعو الجاحظ الكاتب عند التأليف إلى أن يكون علمياً محايداً ينقل وجهات النظر المختلفة دون تمييز ودون عصبية وأن يؤدي للقارئ حقه في الاطلاع على وجهات النظر المختلفة قال: (واعلم أن واضع الكتاب لا يكون بين الخصوم عدلا ولأهل النظر مألفا حتى يبلغ من شدة الاستقصاء لخصمه مثل الذي يبلغ لنفسه حتى لو لم يقرأ القارئ من كتابه إلا مقالة خصمه لخُيّل له أنه الذي اجتباه لنفسه).

ويرى الجاحظ أن الكتب في الموضوعات التي تعالج الحقائق العلمية والنقاش إنما تضع الكليات أمام القارئ ولا تنحو نحو الاستقصاء وهو يتكلم هنا عن الدراسات التاريخية بشكل خاص. قال: (وإنما ملاك وضع الكتاب: إحكام أصله, وألاّ يشذّ عنه شيء من أركانه, فأمّا استقصاؤه حتى لا يجرى بين الخصمين منه إلا شيء قد وُضع بعينه, فهذا ما لا يمكن الواضع ولا يحتمل الكتاب. ولو أمكن الواضع واحتمله الكتاب لكان طوله قاطعا لنشاط القارئ, ومجلبة لنعاس المستمع, إلا لمن صحّت إرادته, وأفرطت شهوته وقوي طبعه, وحسن احتسابه, وقد أعيتنا هذه الصفة في المعلمين, فكيف في المتعلمين).

كان الجاحظ يؤمن بالتخصص ويؤمن بالمؤلف المثقف المتخصص الذي اطلع على موضوعه ويعرف ما يقول فيه, وأما آراء أشباه المثقفين التي تعتمد على أطراف من المعرفة ونبذ من القول, فهو مما لا يعتد به في البحث العلمي الأصيل قال:

(ولو برز عالم على جادة منهج وقارعة طريق, فنازع في النحو واحتج في العروض, وخاض في الفتيا, وذكر النجوم والحساب, والطب والهندسة, وأبواب الصناعات, لم يعرض له ولم يفاتحه إلا أهل هذه الطبقات, فليس لمن كانت هذه صفته أن يتحيز مع الخاصة, والعامة وإن كانت تعرف جمل الدين بقدر ما معها من العقول فإنه لم يبلغ من قوة عقولها وكثرة خواطرها أن ترتفع إلى معرفة العلماء, ولم تبلغ من ضعف عقولها أن تنحط إلى طبقة المجانين والأطفال).

ب - كيف نجمع المادة التاريخية الموثقة:

اعتمد الجاحظ في جمع مادته على مصادر مختلفة وطرق متعددة ودعا المؤلف إلى اتباع الطرق العلمية كافة للوصول إلى جمع المادة التاريخية الموثقة. فهو قد استفاد من النصوص الأدبية والأشعار في الاستنتاج التاريخي كما اعتمد على الخبر التاريخي المحض. قال: (وليس بين الأشعار وبين الأخبار فرق إذا امتنع في مجيئها وأصل مخرجها التباعد والاتفاق والتواطؤ).

وأن جمع الحقائق من أماكن مختلفة قد يكون أداة للتوضيح والتصوير الصادق والكشف العلمي قال: (فإن قلتم: إن قولها ليس بحجة. قلنا: قد صدقتم لو كان ليس بحجة إلا قولها فقط, ولكن الأمور إذا جاءت من ها هنا وهاهنا كان اجتماعها دليلا).

الجاحظ وهو أول دعاة أخذ المعدل الوسط في القضايا التاريخية التي تعتمد على الأرقام والعدد والسنين التي يقع فيها خلاف كثير في سبيل الوصول إلى الرواية الموثقة. وان احتمال تعمّد الكذب فيها أقل من الخبر المروي, وإنها لا مجال فيها للعصبية ويعلل ذلك بقوله:

(وهذه التأريخيات والأعمار معروفةٌ لا يستطيع أحد جهلها والخلاف عليها, لأن الذين نقلوا التاريخ لم يعتمدوا تفضيل بعض على بعض, وليس يمكن ذلك مع اختلاف عللهم وأسبابهم).

وطريقة الجاحظ في التعامل مع الأرقام في الرواية التاريخية كما يلي: (القياس أن يؤخذ بأوسط الروايتين, وبالأمر بين الأمرين, فتأخذ أوسطها وهو أعدلها, وتطرح قول المقصر والغالي, ثم تطرح ما حصل في يديك من أوسط ما رُوي من عمره وسنيه).

ج - الرواية ومشاكلها:

إن كثيرا من معارف العرب التاريخية والأدبية والدينية اعتمدت على الأخبار والسير والأحاديث ولذلك كان على الجاحظ أن يرسم الطريقة المثلى للحصول على الرواية العلمية الموثقة, التي يتم فيها (الإجماع) ويمتنع فيها (العمد) و (الاتفاق) والتواطؤ.

قال: (وإن كان هذا شيئا تقوله فتقول, أو جاء من وجه ضعيف, فهو مع ضعفه شاذ, وليس في ذلك لكم حجة, لأن الحديث قد يحتمله الرجل الواحد الثقة عن مثله, فيكون شاذا, ما لم يكن مستفيضا شائعا قد نقل عن المستفيض الشائع. وقد يكون الحديث يحتمله الرجلان والثلاثة, وهم ضعفاء عند أهل الأثر فيكون الحديث ضعيفا لضعف ناقليه ولا يسمّونه شاذا, إذا كان قد جاء من ثلاثة أوجه. وإنما الحجة في المجيء الذي يمتنع فيه العمد والاتفاق. وهذا الجنس من الخبر هو الإجماع.وليس يكون الخبر إجماعا من قبل كثرة عدد الناقلين ولا من قبل عدالة المحدثين, وإنما هو العدد الذي نعلم أنهم لم يتلاقوا ولم يتراسلوا ولا تتفق ألسنتهم على خبر موضوع, مع اختلاف عللهم وأسبابهم, ثم يكون معلوما عند سامع ذلك الخبر من ذلك العدد, أنهم قد نقلوه عن مثلهم في مثل أسبابهم وعللهم.

فإذا كان معلوما أن فرعه كأصله كان ذلك موجبا لليقين, ونافيا لعرو الشك واسترابة التقليد).

الجاحظ هنا لا يجوّز رفض رواية من روايتين إذا تساوت الروايتان في قوتهما فإما أن تقبلا معا أو ترفضا معا أو يعطى الدليل المادي على وجود تخريج آخر لإحدى الروايتين ووضع مبدأ (التصادق) في الروايات المسموعة ومبدأ (التعارف) على القبول عقليا, وفي هذا يقول:

(إن الأخبار لابد فيها من التصادق كما لابد في درج العقول من التعارف, فإن في عدم التعارف في حجج العقول, والتصادق في حجج السمع, عدم الإنصاف, وبطلان الكلام.

وليس لكم أن ترفعوا خبرا له ضرب من الإسناد وتوجبون تصديق مثله, لأن كل واحد من الخصمين لا يعجزه دفع المستفيض بلسانه, فضلا عن دفع الشاذ وإن كان ناقله عدلا في ظاهره, فإذا كان ناقله ذلك كذلك فأولى الأمور بكم وبهم الصدق. وليس كل من أراد الصدق في مثل هذا قدر عليه إلا بالتقدم في كثرة السماع واتساع الرواية. وليس لأحد, وإن حسن عقله وصحّ فكره, أن يقول فيما لا يضاف علمه إلا من طريق الخبر حتى يكون صاحب خبر, وطالب أثر. فإذا صحّ عقله وكثر سماعه, خفّت مؤونته على نفسه وعلى خصمه).

وإذا صحت روايتان تاريخيتان متناقضتان من مصدر واحد فما موقف الجاحظ وموقفنا منهما?

لقد اعتقد الجاحظ أن الحقيقة لا تتناقض ووضع مبدأ ((الحق لا يتناقض)) ولكن قد يكون الخبر موضوعا أو يكون نقله ناقصا أو مضطربا, وطبق هذا المبدأ على الأحاديث النبوية والأخبار الدينية, فقال: (الحقُّ لا يتناقض)... إلا أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد قال أحد القولين وصحّت به الشهادة, ولم يقل الآخر وإنما ولّدته الرجال, وصنعته حملة السير. ولا سبيل لنا إلى معرفة ذلك إذا كان الإسناد متساويا, وعند الرجال متقاربا. وليس في هذه الأحاديث كلها حديث يضطر خصمه إلى معرفة صحته, أو يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد تكلم بكثير من هاتين الروايتين وكان معناه وقصده فيه معروفا عند من كان بحضرته. حتى كان الجميع يعرفون خاصّه من عامّه. ولكن الناقلين احتملوها عن السلف مجرّدة بغير تأويل معانيها, فأدّوها على اللفظ العام, فصار السامع يتناقض عنده إذا قابل بعضها ببعض, لجهله بأصول مخارجها, وكيف كان موقعها, والذي فسّرت لك مثلٌ تعرف به سمت الحجة وقصد السبيل).

ورفض الجاحظ الاستنتاج دون توافر الرواية أو المشاهدة ووضع مبدأ (الاستخراج لا يكون إلا عن عيان أو خبر) ولفظ (الاستخراج) هو ما نسمّيه نحن بالاستنتاج. فقال: (أرأيتم هذا الذي قُلتموه, وادَّعيتموه, أشئ استخرجتموه أو سمعتموه? فإن زعموا أنهم سمعوا قلنا لهم, فأتوا بفقيه واحد أو محدّث يقول كما تقولون, ويحدّث كما تزعمون, وجميع ما يُدّعى باطل).

د- نماذج تطبيقية في تجريح وتعديل الخبر التاريخي:

جاء في الأخبار أن سلمان الفارسي قال عند بيعة السقيفة (كرْداذ ونكرْداذ) ويشرحها الجاحظ:

(وإن كانت هذه الكلمة حقا كانت ترجمتها بالعربية صنعتم ولم تصنعوا), ثم يرفض الجاحظ هذه الرواية ويعطي عدداً من الأدلة التاريخية التالية:

- لو كان سلمان قد قال ذلك لكان من أهل الطعن والمخالفة فكيف يكون مع هذا والياً للنظام الذي عارضه. قال الجاحظ: (فكيف يحتمل لسلمان الطعن والخلاف ثم لا يرضى له إلا بالولاية على بلاد كسرى, ففي هذا دليل على أن سلمان لم يقل: كرداذ ونكرداذ).

- انعدام السند التاريخي الموثق لهذا الخبر وفي هذا يقول الجاحظ: (مع إنك لو طفت في الآفاق تتطلب لكرداذ ونكرداذ إسنادا لما وجدته. ولكنّا قد روينا أن سلمان قال: (أصبتم الحق وأخطأتم المعدن) ويعلل الجاحظ أن هذا القول قد صدر عن سلمان تأثرا بنظام الحكم الذي كان موجودا في بلاده التي نشأ فيها ولم يفهم الفرق بين البيئة العربية والبيئة الأجنبية.

قال الجاحظ: وسلمان رجل فارسي, وهذا كان شاهد كسرى, فتوهّم أن حكم الكتاب والسنّة كحكم تدبير السر والقائمين بالملك, فإنما تكلم على عادته وتربيته.

- النص فارسي والمخاطب عربي: ويضيف الجاحظ نقطة أخرى تضعف الخبر, قال (وإن كان سلمان على ما قد وصفتم, وبالمكان الذي وصفتم, من الحكمة والبيان, فما دعاه إلى أن يكلم العرب والأعراب بالفارسية, وهو عربيّ اللسان فصيح الكلام, وهو يعلم أنه لم يكن بحضرة المدينة فرس ولا من يتكلم بالفارسية ولا من يفهمها. وهو إنما أراد الاحتجاج عليهم والإعذار إليهم.

ثم يضيف الجاحظ ممعنا في إضعاف الرواية: (وكيف فهمت معناه العرب وهي لا تعرف من الفارسية قليلا ولا كثيرا, ولم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم ترجمان يعبّر عنه للفرس فيكون ذلك الترجمان كان حاضرا لكلامه, فيفسّر للناس معناه.

وكيف نقلت عنه الصحابة إلى التابعين وكل من كان بحضرة القوم, لا يفهمون الفارسية.

والجاحظ يعتبر الرواية الموثقة هي الرواية التي تم الاتفاق عليها على اختلاف الزمن, وتفاوت المدة وانتفاء المصلحة والغرض والمعرفة.

فلا يكون الخبر التاريخي (مولّدا محدثا, وأكثر من تكلّم به ليسوا بذوي نحلة فيتقدّروا له, ولا بذوي معرفة فيعرّفوا فضله, ولا بذوي قرابة فيطلبوا السبق به, مع الذي نجده في الأشعار الصحيحة القديمة. وليس بين الأشعار والأخبار فرق إذا جاءت مجئ الحجج).

دراسة القدرات النفسية للأحداث

(بين السنتين السابعة والتاسعة):

يفترض الجاحظ أن الأطفال كافة من ذوي الأسنان المتقاربة عدا الطفل صاحب القدرة الخاصة يكونون على المستوى النفسي نفسه وعلى الدرجة نفسها من القدرة والقابلية وهو حكم علمي سليم.

قال: (إنما نتكلّم على ظاهر الأحكام, ومما شاهدنا عليه طباع الأطفال, وجدنا حكم ابن سبع سنين, وثماني سنين وتسع سنين, حيث قرأناه وبلغنا خبره, ما لم يعلم مغيّب أمره, وخاصة طباعه, حكم الأطفال, وليس لنا أن نزيل ظاهر حكمه والذي نعرف من شكله بلعلّ وعسى, غير أن الحكم فيه عنده على مجرى أمثاله وأشكاله).

وشرح الجاحظ القدرات النفسية للأطفال في هذه السن بشكل عام, ويرى أنهم أميل إلى الحفظ والترداد منهم إلى التحليل والتعليل والإثبات والنقض. قال:

(ولعمري إنا لنجد في الصبيان من لو لقّنته وسدّدته أو كتبت له أغمض المعاني وألطفها, وأغوص الحجج وأبعدها, وأكثرها لفظا وألطفها طولا, ثم أخذته بدرسه وحفظه لحفظه حفظا عجيبا, ولهذه هذا ذليقا. فأما معرفته صحيحه من سقيمه, وحقّه من باطله, وفصل ما بين المقرّب والدليل, والاحتراس من حيث يؤتى المخدوعون, والتحفّظ من مكر الخادعين, وتأتى المجرّب, ورفق الساحر, وخلابة المتنبئ, وزجر الكاهن, وإخبار المنجّمين, وفرق ما بين نظم القرآن وتأليفه ونظم سائر الكلام وتأليفه, فليس يعرف فروق النظر واختلاف البحث, إلا من عرف القصيد من الزجر, والمخمس من الأسجاع, والمزاوج من المنثور, والخطب من الرسائل, وحتى يعرف العجز العارض الذي يجوز ارتفاعه من العجز الذي هو صفة في الذات, فإذا عرف صنوف التأليف عرف مباينة نظم القرآن لسائر الكلام, ثم لم يكتف بذلك حتى يعرف عجزه وعجز أمثاله من مثله, وأن حكم البشر حكم واحد في العجز الطبيعي وإن تفاوتوا في العجز العارض, وهذا ما لا يوجد عند صبي ابن سبع سنين وثماني سنين وتسع سنين أبدا).

ويميز الجاحظ بين ما يسهل تعلمه على الصبي الحدث في هذه السن وبين ما لا يمكن أن يتعلمه لوقوف السن مانعا, وعدم النضوج سدا بينه وبين ما يريد. قال الجاحظ:

(وقد نجد الصبيّ الذكي يعرف من العروض وجها, ومن النحو صدرا, ومن الفرائض أبوابا, ومن الغناء أصواتا, فأما العلم بأصول الأديان ومخارج المِلل, وتأويل الدين, والتحفظ من البدع, وقبل ذلك الكلام في حجج العقول, والتعديل والتجوير, والعلم بالأخبار وتقدير الأشكال, فليس هذا موجودا إلا عند العلماء).

التعليل العلمي والنفسي للبطولة

لاشك أن لحياة الجاحظ الحضرية التي ابتعدت عن الغزو والحروب أثرا في هذا التحليل والرصد لسلوك البداوة ومثلها العليا, ووضع الشجاعة فوق كثير من الاعتبارات في السلوك الاجتماعي, فشخصية عنترة قد شغلت العرب كثيرا وشجاعة أبطال الحروب تركت وراءها كثيرا من الفخر سطره الأبطال أنفسهم أو سطرته قبائلهم, ومازلنا في عصرنا هذا ننظر إلى شخصية الشجاع والبطل نظرة فيها شيء من التقديس, ولكن الجاحظ في تعليله وتحليله يحاول أن يبتعد عن أي تأثر, وأن يضع الظاهرة مجردة تحت منطق العقل المجرد ليرى قيمتها وما تساويه مع بقية التجارب الإنسانية.

هل الشجاعة ذاتية وأصيلة في الذات البشرية? هل الشجاعة صفة مسببة بعلل ثانوية أخرى? هذا ما يوضحه الجاحظ في نصوص كتابه العثمانية.

قال الجاحظ:

(واعلم أن المشي إلى القرن بالسيف ليس هو على ما يتوهّمه الغمر من الشدة والفضل وإن كان شديدا فاضلا. ولو كان كما يظنون ويتوهّمون ما انقادت النفس ولا استصحبت للقتال, لأن النفس المستطيعة المختارة التي قتالها طاعة وفرارها معصية قد عُدّلت كالميزان في استقامة لسانه وكفّتيه, فإذا لم يكن بحذاء سيفه إلى السيف ومكروه ما يأتي به, ما يعادله ويوازنه لم يمكن النفس أن تختار الإقدام على الكف, ولكن معه في وقت مشيه إلى القرن أمور تنفحه مسجعة, وإن لم يبصرها الناس وقضوا على ظاهر ما أبصروا من إقدام).

ويعدد الجاحظ الأسباب المختلفة الخفية التي قد تكون سببا في شجاعة الشجاع فيقول:

(والسبب المشجع ربما كان الغضب, وربما كان الشراب, وربما كان الغرارة والحداثة, وربما كان الإحراج, وربما كان الغيرة, وربما كان الحمية, وحب الأحدوثة, وربما كان طباعا كطباع القاسي والرحيم والسخي والبخيل, والجزوع من وقع السوط والصبور).

ويرى الجاحظ أن العقيدة وحدها لا تكفي أن تحيل الجبان شجاعا لأن العقيدة مكتسبة.

قال الجاحظ: (وربما كان السبب الدين, ولكن لا يبلغ الرجل بقوة الدين في قلبه ما لم يشيّعه بعض ما ذكرناه أن يمشي إلى السيف, لأن الدين مكتسب مجتلب, وليس بأصلي ولا طبيعي, ولأن ثوابه مؤجل, والخصال التي ذكرناها طبيعية أصلية, وثوابها معجل).

ويرى الجاحظ أن الحكم الصادق على الشخصية يجب أن يتم على أساس تقويم كل صفة في الإنسان منفردة وإعطاء كل فضيلة في الشخص ما تستحق بغض النظر عن الصفات السلبية الأخرى وما فيها من رذائل إلى جانب الفضائل. يقول الجاحظ:

(وإذا كانت الأسباب المشجعة في وزن الأسباب المجبّنة كان مطيعا ولم يكن حيث وضعه القوم, لأنهم توهّموا مع مشيه بالسيف إلى القرن احتمال المكروه كله, ورفعوا من أوهامهم الأسباب التي لولاها لم يمكنه المشي إلى القرن بالسيف).

الدعاية وأثرها في الحرب النفسية

إن الجاحظ من أوائل المفكرين الذين عرفوا خطر الدعاية وأثرها في الحرب النفسية والتأثير على الأفراد, فان المجتمع الذي نشأ فيه الجاحظ كان مجتمعا تتصادم فيه الأفكار والآراء والنظريات بعضها بعضا وتحول القلم فيه بحق إلى ما يشبه السيف في المجتمعات البدائية حيث كان هو الحكم والفيصل في كل ما يختصمون فيه.

وإن كثرة الفرق والعقائد في المجتمع الإسلامي خاصة تلك العقائد الموجهة لضرب العرب أو عقيدتهم جعلت الجاحظ يحذر أشد الحذر من تلك الأفكار وأثرها في الشعب, وميّز الجاحظ بين نقل تلك الأفكار لغرض مناقشتها وبين التأثر بها والخضوع لما تدعو إليه.

فهو يعتذر عن منهجه الذي يعتمد على استعراض كل شيء في كتبه فيقول:

(ولولا اتكالي على انقطاع الباطل عن مدى الحق وإن استقصيته وبلغت غايته, ما استجزت حكايته, وقمت مقام صاحبه).

ولكنه يعود ثانية إلى التحذير من الفكر الأجنبي والغريب وخاصة ذلك الفكر الموجه المختار والمنمق لغرض الاستهواء فيحذر منه قارئه فيقول:

(وعلى أن للنحل صورا كصور الناس, فكما أن بعض الصور أشد مشاكلة لطبعك, وآنق في عينك, واخفّ على نفسك, فكذلك النحل في مقابلة الأهواء, ومشاكلة الشهوات, والخفة على النفوس.

فاحذر حوادث الشهوات, واتصال المشاكلة, فإنه أخفى من الدقيق, وأدق من الخفي. هذا إذا كان المعنى مجرّدا والمذهب عاريا, فكيف إذا موّهه صاحبه, وزخرفه واضعه, بأعذب الألفاظ وأشهاها, وأحسن المخارج وأعفاها فشفى كل واحد منهما صاحبه, وحببه إلى سامعه, فإن وافق ذلك منه تعظيم لسلفه, وهوى في قائله, فقد أسمحت نفسه بالتقليد, واستسلمت للاعتقاد. فاحذر في هذه الصفة, ولا تستخفّن بهذه الوصية).

ويحاول الجاحظ أن ينبهنا إلى أن الدعاية قد تأخذ الأحداث الشاذة والظواهر النادرة وتعتبرها مقياسا ونقطة ارتكاز في الهجوم على أي نظرية أو فكرة أو نظام أو شخصية وعلى الإنسان في رأيه أن يميّز بين الفساد المطلق والفساد الذي يكون ظاهرة شاذة لا مفر من وقوعها في أي مجتمع وفي كل زمان ومكان, فقال:

(فليس في طعن الطاعن دلالة إذا كان المطعون عليه كاملا فاضلا, وإجماع الناس كلهم على الصواب أمر لا ينال, ولكن إذا كانت الأمة قد أطبقت على طاعة رجل على غير الرغبة والرهبة, ثم لم يكن اغترارا ولا إغفالا, فليس في شذوذ رجل ولا رجلين دلالة على انتقاض أمره, وفساد شأنه).

ويرى الجاحظ أن الخليفة عمر بن الخطاب في التاريخ العربي كان من أوائل الذين استخدموا الحرب النفسية, ففي بداية الصراع العربي ـ الفارسي كان العرب يهابون الفرس وكان الفرس مازالوا في أوج مجدهم وعنفوان قوتهم فأظهر الخليفة استخفافه بالفرس لهذا السبب. قال الجاحظ: (فأما ما ذكروا من تهجينه أمر العجم, وتعظيمه أمر العرب, فإنما كان ذلك لأنه لما ندب الناس إلى قتال كسرى والأساورة, تثاقلت عن ذلك العرب الأعراب وجميع المهاجرين والأنصار, هيبة لناحية كسرى والفرس, وخفّوا لغزو الروم ونشطوا له, حتى انتدب أبوعبد الثقفي أول من انتدب, فلذلك عقد له على كبار المهاجرين الأولين, والأنصار, والبدريين, فلم يكن له همّ إلا تصغير أمرهم وتهجين شأنهم والحط من أقدارهم ليرد ذلك من نفوس العرب, ومن الدليل على ما وصفنا من تدبير عمر, تركه الاستخفاف بأقدار العجم وإظهار احتقارهم والإزراء بهم بعد جلولاء), وبعد أن تم النصر النهائي للعرب على الفرس في هذه المعركة الشهيرة.

ويعلق الجاحظ على الذين لم يفهموا سياسة الخليفة عمر رضي الله عنه في الدعاية النفسية في الحرب قال:

(وهكذا تدبير الخلفاء ولكن أكثر الناس لا يعلمون, ولو كانوا إذا لم يفهموا عن الأئمة لم يعترضوا عليهم ولم يخطئوهم ولم يجهلوهم كان أيسر).

وينفي الجاحظ العصبية القومية عن عمر ويقول عن ذلك:

(والذين نحلوا عمر العصبية رجلان: رافضيُّ أحب أن يمقته إلى العجم والموالي, ومتعرب عرف أن عمر عند الناس قدوة, فنحله ذلك ليكون له حجة, فاعرف ذلك)

 

طيبة الشذر

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات