يتناول الكاتب الدكتور باقر سلمان في كتابه الجديد الصادر عن دار
الساقي مشكلات التعليم وانعكاساتها على الخليج العربي ومجتمعه بشكل خاص, حيث شكل
التعليم في منطقة الخليج العربي آلية مهمة من آليات التحول الاجتماعي والثقافي بل
حتى السياسي, حيث تحول قبل ظهور النفط من مطلب للنخب الاجتماعية والسياسية إلى آلية
لنمو الوعي السياسي والاجتماعي والثقافي, وبروز القوى السياسية والاجتماعية في
الثلاثينيات والاربعينيات والخمسينيات, وتم بفضل التعليم ربط الشام والعراق مع
الخليج العربي عبر الحركات الفكرية والسياسية بحيث حقق التعليم النمو والتكامل في
هذا النسيج.
من هنا يطرح المؤلف تساؤلات جدية ومهمة هي: لماذا استطاع النظام
التعليمي في الدول الصناعية الكبرى وبعض الدول النامية مثل كوريا الجنوبية
وسنغافورة وماليزيا النهوض, ويفشل في تحقيق ذلك في الدول العربية, بل إنه في بعض
هذه الدول كان عاجزا عن تحقيق وظائف التعليم المعرفية والثقافية والسياسية وغير
قادر على النهوض بمسيرة التعليم وعلاقته بالمجتمع.
خلخلة المرجعيات
وينتقل المؤلف عبر فصول الكتاب ومباحثه في معالجة وطرح أبرز المشكلات
التعليمية في منطقة الخليج العربي, ويتناول في الفصل الأول مفهوم علاقة التعليم
بالمجتمع عبر ثلاث مقولات الأولى تبحث في العلاقة بين قوة التعليم وسحره في
المجتمع, والآخر يقول بعجز التعليم وتبعيته للمجتمع, والثالث يرى أن لكل منهما
تأثيره في الآخر, أي تأثير التعليم في المجتمع وتأثره به. ويدرك المؤلف أن أحد أهم
مهام العملية التربوية في منطقة الخليج العربي ليس في تحقيق التطور المعرفي والشخصي
للعاملين فيها, بل في قدرتها التعليمية على خلخلة المرجعيات التقليدية والمتخلفة,
وأن تجربة الخليج العربي في القرن العشرين تشير إلى حدوث مثل هذا التحول في التعليم
كما ونوعا, وإن التطور ليس في أعداد الخريجين بل في التقدم الحقيقي للتعليم
وانسيابها إلى مساقات الحداثة والخروج من التقليدية المتخلفة والانطلاق نحو علاقة
سليمة للشخص مع المجتمع ودوره الفاعل فيها, وما يقدمه لوطنه وأمته من جهود معرفية
راقية وعقلانية يتباهى بها أمام الأمم الأخرى. فالتعليم حسب رأي المؤلف يجب أن
يتحول إلى عامل تأثير في المجتمع وأداء أدوار فاعلة فيه.
إن الصلة الوشيجة بين التعليم والمجتمع أخذت تتجه شيئا فشيئا من
الواقع القائم نحو الانطلاق إلى طريق أوسع وأرحب لقيام فلسفة تربوية من أجل وضع
تربية قائمة ومستندة إلى الواقع بكل أبعاده, وأن هذه الأهداف لفلسفة التربية تكاد
يكون دراسة في هذا الوجود الشبكي بين التربية والتعليم من جهة والمجتمع من جهة
أخرى.
في الفصل الثاني وعنوانه (التعليم والمجتمع وجها لوجه) ينطلق المؤلف
نحو البعد الاجتماعي-الثقافي للتعليم حيث يبدأ بقوله إن أي فلسفة للتعليم يمكن أن
تحدد مصادرها في العقيدة الإسلامية والعروبة وقضايا المعاصرة والأصالة, والأوضاع
الاجتماعية والاقتصادية, واتجاهات العصر وخصائصه, وحاجات الفرد العربي ومطالب النمو
في دول الخليج العربي, وفي ضوء هذه الأطر تبرز التوجهات والفلسفة من حيث الوضوح أو
الغموض.
في مواجهة الخرافة
ثم يتوقف المؤلف عند أهمية التفكير العلمي في مواجهة الخرافة وبأن أي
تقدم في العملية التعليمية هو في قدرتها على إحداث نقلة نوعية وأساسية في طريقة
التفكير ونمط حياة الناس, فلا فائدة من نظام تعليمي يقوم بتخريج أعداد وأفواج من
الطلبة فحسب غير قادرين على التفكير العلمي أو الذهني والإبداع والإنجاز الحضاري.
أما في قضية تعليم المرأة والتحولات المجتمعية, وهي من القضايا المهمة المثارة في
منطقة الخليج العربي مع بقاء عقليات رجولية ترى ضرورة استلاب حقوق المرأة وشعورها
بالدونية, وعدم أهليتها للمشاركة في بعض الوظائف, وأن عملها يقتصر على البيت
ووظائفه التقليدية, وخلقت هذه الوظائف والقيم والأفكار في أوساط الرجال اتجاها
معاكسا للمرأة, وأن تعليم المرأة وعملها خارج البيت هو تهديد للرجل, ورغم التحولات
الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع فإنها لم تنعكس على المرأة بشكل كبير, ولم تجعل
المرأة تتحول إلى نسيج فاعل مع المجتمع, أو تخلق منها قوة اجتماعية ضاغطة للمطالبة
بحقوقها الاجتماعية والسياسية, ورغم أن هذه التحولات حققت فسحة من الحريات في بعض
المواقع, فإنها أدت في المقابل إلى تآكل مساحات من الحرية وحجبها مع حالات من تزييف
الوعي أو تأكيد تزييفه.
أدنى السلم
أما مكانة المدارس فتتسم حسب رأي المؤلف بشيء من التناقض في المجتمع
الخليجي, فمن ناحية هناك شعور بأن التعليم هو الحل لكل أزمات المجتمع بل يذهب إلى
حد رهن المستقبل به, ومن ناحية أخرى, هناك نظرة دونية لمن يعمل في التعليم, فموقع
المعلم والمدرس في أدنى السلم الوظيفي, وفشلت محاولات تحسين وضع المدرس حاليا
واجتماعيا, فالصورة التي يرسمها المجتمع للمعلم كاريكاتورية أقرب إلى مسرحية (مدرسة
المشاغبين) وهي نظرة وليدة التحولات في المجتمع الجديد, والطفرة النفطية.
ويتناول المؤلف عملية الدمقرطة, ويدعو فيها إلى عدم إعطاء الفرصة
للعصبية والتعصب أن تسود المدرسة, وأن ينتقل الطلاب إلى تبني أفكار ديمقراطية ورؤى
متطرفة لا تؤمن بالحوار والرأي والرأي الآخر وحرية الفكر والمعتقد والرؤى, رغم أنه
يعترف بصعوبة تخلي الفرد عن أفكاره المغروسة الدينية والقبلية والطائفية وأن رواسب
الماضي ماثلة الآن مع مصالح الحاضر في الكثير من ممارسات أفراد المجتمع العربي, رغم
محاولة البعض ادعاء عكس ذلك.
وفي موضوع المناهج وأنماط التدريس, يستشهد بكتاب عرب حول أزمة النظام
التعليمي في الخليج العربي, وبأن حداثة تبني المنطقة للأنظمة التعليمية الحديثة
فرضت عليها استيراد أنظمة تربوية من دول عربية تعاني أنظمتها التربوية والتعليمية
هي الأخرى, اخفاقا وهدرا كبيرين فالخبراء في التعليم والمخططون ساهموا في وضع فلسفة
اجتماعية وفلسفية مستوردة, ورغم محاولات إصلاحها في العقدين الأخيرين, فإنها مع ذلك
تبقى فيها بصمات الإخفاق, وتبقى محاولات الإصلاح التعليمي في المنطقة مرهونة بفكر
وعقل رجل الإصلاح في المؤسسة التعليمية وانتسابه لقيم الحداثة, وقدرته على تقبل
التغيير, وركونه إلى جهاز بيروقراطي, وتخلصه من الفخاخ الشرعية الأخرى المنصوبة
له.
دعوة للإصلاح
ثم يناقش المؤلف التوجهات المهنية للأفراد, ومعضلة العمالة الأجنبية,
وثقافة الاستهلاك, وأنها نتاج لعمليات العولمة ليصل في نهاية رحلته المشوقة مع
مشكلات التربية والتعليم في مجتمع الخليج العربي إلى محاولة الإصلاح التربوي ويتوصل
إلى ما يأتي:
- إن معضلة التربية في المنطقة الخليجية ليست في القصور الكمي أو شح
الإنفاق عليها, أو ضعف خدماتها أو قصور شمولها, بل في اختفاء الهدف لنوع المعارف
والمهارات التي تعلِّم الأفراد كيفية الانتفاع بها, واختيار القيم والاتجاهات
والمواقف وطرائق التفكير التي تغرس في عقول الداخلين في العملية التعليمية.
- إن السلطة السياسية في المنطقة تبدو في كثير من الأحيان في جانبها
الاجتماعي أكثر مرونة وتقبلا للتغيير في المجتمع أو من بعض الجماعات والقوى
السياسية والاجتماعية.
- قد يرغب النظام السياسي في إحداث تحول في المجتمع, أو في نظامه
الاجتماعي وقد يرغب النظام التربوي التابع له, في تحقيق قدر من التحول إلا أن الامر
يتوقف على نمو إرادة مجتمعية قابلة بالتغيير وراغبة فيه يتم التعبير عنها من خلال
إرادة سياسية تلتزم بالاصلاح الجذري الشامل الذي يمس كل جوانب الحياة الاجتماعية من
دون استثناء.
- يعتقد المؤلف أن الإرادة السياسية لا تستطيع وحدها احداث التحول فهي
قد ترغب في أن تدخل المرأة مجالس نيابية مثلا, إلا أن ذلك ليس له أن يتحقق إن لم
يكن متسقا مع رغبات المجتمع وتوجهاته الثقافية والاجتماعية, وأن عمليات الحداثة لا
تبنى من الأعلى بل من الأفراد أنفسهم من الداخل.
- نحن بحاجة إلى تجديد التعليم وغاياته التي يسعى لتحقيقها, بحيث يقود
إلى تحسن واضح في ظروف الناس الاجتماعية والاقتصادية بإعادة الثقة بالنظام التعليمي
وغرس الأفكار العقلانية في الحياة والعمل والمستقبل, والاعتراف بالآخر والإقرار
بحقوقه.