من الذي دفع للزمار؟ الـ (سي. آي. إيه) والحرب الباردة الثقافية
من الذي دفع للزمار؟ الـ (سي. آي. إيه) والحرب الباردة الثقافية
عندما أطلّت أسطر قلائل على شبكة الإنترنت تعلن قرب إصدار هذا الكتاب ثار فضول العالم, فما كشف عن أسرار تلاعب السي. آي. إيه بمقومات الحياة الثقافية والفنية العالمية لا يعدو أن يكون الجزء الكافي من جبل الجليد, ومن المؤكد أن هناك العديد من الأسرار والحقائق والوقائع التي لم يعلم أحد بمجرد وجودها. حينما صدر هذا الكتاب عن دار جرانتا في 509 صفحات من القطع المتوسطة, تحول الفضول إلى اهتمام حقيقي بالكتاب, على امتداد العالم, ولم يكن عالمنا العربي استثناء من هذه القاعدة, فقد كان له نصيبه من الحملة الهائلة التي شنتها السي. آي. إيه في هذا الصدد, والكتاب يكشف عن أسرار جانب لا بأس به من هذا النصيب.لم يأت هذا الفضول والاهتمام من فراغ, ولا نبعاً من المجهول, وإنما كان رد الفعل الطبيعي لحشد من المفاجآت أثارها الكتاب. المفاجأة الأولى هي أن الكتب ليست ثمرة جهود حشد من الباحثين, وإنما هو النتيجة المباشرة لدأب مؤلفته, فرانسيس ستونور سوندرز, التي تعد اسماً جديداً في دنيا الكتاب, وعلى الرغم من خبرتها في عالم التوثيق إلا أن هذا الكتاب يعد الإطلالة الأولى من نوعها لها. فمن هي مؤلفة الكتاب? وكيف أتيح لها أن تضع يدها على هذا الحشد الرهيب من الأسرار والحقائق والأرقام والوقائع والصفقات والمؤامرات وعمليات التلاعب والخداع? وما هي الوثائق والمقابلات والأصول والأساليب التي أتاحت لها أن تخرج على العالم بكتاب على هذا القدر من الجرأة والجسارة? تخرجت فرانسيس ستونور سوندرز من جامعة أكسفورد عام 1987 وعملت منتجة مستقلة للأفلام الوثائقية. ومن أبرز الأعمال التي أنجزتها فيلم وثائقي يعرض في شكل سلسلة تستغرق أربع سنوات بعنوان: (أيد خفية: تاريخ مختلف للحداثة). واهتمت بالإضافة إلى ذلك بكتابة القصة القصيرة, ونشرت قصتها (أمور جسيمة) في مجلة (كتابة جديدة) في عام 1998, وهي تقيم في لندن غير أن نشاطاتها تمتد عبر شاطئ الأطلسي, وتتركز حول التوثيق. وهي تطلعنا على جانب من الصعوبات التي واجهتها قبل أن يرى كتابها النور, فتوضح أن تأليف الكتاب كان في جوهره رحلة تشرد هائلة, انطلقت فيها ومعها ملفاتها وصناديقها الحافلة بالوثائق من مكان إلى آخر وعلى الرغم من القائمة الممتدة لمن ساعدوها في جهدها والذين تدرجهم في صدر الكتاب, فإنها توضح أنها عندما بدأت في توثيق وقائع الحرب الباردة الثقافية كانت تعلق آمالاً كباراً على الاستفادة من قانون حرية المعلومات الأمريكي. غير أنها سرعان ما اصطدمت بحائط الواقع الصلد. وثائق باهظة الثمن ربما كان مصدر هذه الآمال الكبار أن العديد من الوثائق الحكومية الأمريكية التي كانت محظورة في السابق قد كشف النقاب عنها, إعمالاً لهذا القانون, وتم تسليمها للباحثين, ونتج عن هذا إثراء العديد من الدراسات الحديثة التي تدور حول مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي إلى حد كبير. وتوضح سوندرز أن الحصول على الوثائق من السي. آي. إيه أمر مختلف تمام الاختلاف, حيث تقدمت لهذا الجهاز بطلب رسمي للحصول على وثائق ينطبق عليها قانون حرية الإعلام الأمريكي وذلك في عام 1992 وحتى صدور الكتاب لم تكن قد حصلت على ما طلبته من وثائق, وأقر مسئولو الجهاز بتلقي طلب رسمي لاحق منها, ولكنهم حذروها من أن تقديم الوثائق المطلوبة سيكلفها مبلغاً إجمالياً يصل إلى ثلاثين ألف دولار, وأوضح لها منسق المعلومات والخصوصية في الجهاز الأمريكي أن فرص التعامل الناجح مع الطلب الذي تقدمت به للحصول على الوثائق وفقاً للقانون الأمريكي من السي. آي. إيه تئول إلى الصفر بصورة فعلية. هكذا, لم يكن أمام المؤلفة من بديل إلا اللجوء إلى الوثائق الموجودة في المجموعات الخاصة, حيث إن إدارات أمريكية متتابعة مدت تعاونها إلى القطاع الخاص, وفي مرحلة الحرب الباردة بصفة خاصة شاركت مع الخارجية الأمريكية في صنع مقومات السياسة الخارجية الأمريكية مجموعة من الكونسرتيوم والمؤسسات والشخصيات شبه الحكومية, وقد أدى هذا إلى توفير إمكان التدقيق في العديد من العمليات, بما في ذلك العمليات السرية. وساعد في عمليات التدقيق هذه وجود أرشيفات ومكتبات تقدم ثروة حقيقية للباحثين, منها مكتبة (تاميمنت في نيويورك, جوزيف ريجنشتاين في شيكاغو, دوايت أيزنهاور في إبيلين, الأرشيفات الوطنية في واشنطن, بتلر في جامعة كولومبيا, مركز جورج ميني في واشنطن, مركز أبحاث هاري رانسوم في واشنطن, مكتبة لندون جونسون في أوستن بتكساس, مكتبة جون كينيدي في بوسطن, مكتبة هاري ترومان في أندبندنس, فضلاً عن مكتب السجلات العامة في لندن ومكتبة جامعة ريدنج). واعتمدت سوندرز قائمة كبيرة من المراجع والمقابلات التي أجرتها خصيصاً للكتاب أوردتها في هوامشه الضافية. ولكن ما هو جوهر ما تقدمه المؤلفة عبر صفحات الكتاب البالغة خمسمائة وتسع صفحات? الجبهة الثقافية من ناحية القالب الذي أفرغت سوندرز فيه مادتها سنجد أنفسنا أمام مقدمة تلقي فيها الضوء على الأطروحة الرئيسية للكتاب وخاتمة تؤكد فيها على الخلاصات الأساسية التي توصلت إليها من عملية جمع المعلومات. وبين المقدمة والخاتمة يمتد ستة وعشرون فصلاً يتضمن كل منها إلقاء للضوء على جانب محدد من جوانب الحملة المكثفة والمتصاعدة التي شنتها السي. آي. إيه على الجبهة الثقافية في إطار الحرب الباردة. وجوهر ما تطرحه المؤلفة عبر الفصول الستة والعشرين يدور انطلاقاً من
الحقيقة القائلة إنه خلال الحرب الباردة وجد العديد من الكتّاب والأدباء والفنانين
والمبدعين أنفسهم في مواجهة تحد هائل, ففي الاتحاد السوفييتي والدول الدائرة في
فلكه كان من المتوقع منهم أن يقدموا أعمالاً تمجد النزعة الكفاحية والنضال والتفاؤل
المطلق,وفي الغرب جرى التباهي بحرية التعبير باعتبارها الجوهرة الأثيرة في تاج
الديمقراطية الليبرالية, ولكن مثل هذه الحرية يمكن أن تكبّد من يحظون بها ثمناً
باهظاً. هكذا توضح فرانسيس ستونور سوندرز كيف تسللت السي. آي. إيه إلى كل ركن في المعمار الثقافي العالمي, وكيف قامت المنظمات والمؤسسات (الخيرية) التي تتخذها واجهة لنشاطها في هذا المجال ـ والتي تحولت إلى قنوات تتدفق أموالها عبرها ـ قامت بعقد المؤتمرات وتنظيم المعارض والإشراف على الحفلات الفنية ونقل فرق الأوركسترا في مختلف أرجاء العالم, وتصدت لرعاية الفن التجريدي كرد على الواقعية الاشتراكية, ودعمت مشروعات باهظة التكلفة للنشر والترجمة, ودفعت بعناصر تابعة لها إلى دعم صحف ومجلات في أوربا وغيرها من أرجاء العالم وإلى تغطية خسائرها. وبوضوح, وبلا مواربة, وبالدليل المقنع تقدم المؤلفة: آرثر كوستلر, ملفين لاسكي, توم برادن, نيكولاس نابوكوف ومايكل جوسيلسون باعتبارهم في مقدمة حشد هائل من نظرائهم الذين أداروا هذه الحملة, وقاموا بإغواء المساهمين فيها واجتذابهم من فنانين وكتّاب ومحررين وأدباء. من الناحية العملية, فإن هذا الكتاب يقدم سيرة حياة جماعية ونقدية لهذه الدائرة التي انغمست في هذه الحملة. وكان أعضاء هذه الدائرة ممن يكنون حباً حقيقياً للقيم الغربية, بينما كان هناك آخرون من بينهم تدفعهم حماسة منبعثة من أهواء أخرى. ووجد المثاليون من بينهم أنفسهم, في نهاية المطاف, في وضع من يهدد بالخطر قيم الحرية الفكرية ذاتها التي شكلت دافعهم للتحرك, وفي الختام شاهت صورهم جميعاً عندما تم في أواخر الستينيات تمزيق النقاب عما كانوا ضالعين فيه. تطعيم العالم إذا كان جوهر الكتاب هو ما أوضحناه لتوّنا, فإن من شأن محاولة إلقاء نظرة, ولو عجلى, على الفصول الستة والعشرين التي يمتد عبرها هذا الجوهر من شأنها أن تضعنا وجهاً لوجه أمام عاصفة حقيقية من التفاصيل والجزئيات والفرعيات التي قد تبعدنا عن صميم ما نحاول أن نضع أيدينا عليه في غمار هذه المناقشة النقدية للكتاب. فلنكتف, إذن, بإيراد مجموعة من النقاط الأساسية التي نتصور أنها تشكل في مجموعها ما يمكن أن نسميه ـ على سبيل التبسيط ـ بـ (عظم) الكتاب, وأبرز هذه النقاط ما يلي: أولاـ اعتباراً من عام 1947, بدأت السي, آي, إيه في بناء ما يمكن وصفه بأنه كونسرتيوم هائل له مهمة مزدوجة تتفرع إلى عشرات المهام, حيث يتعين عليه تطعيم العالم ضد عدوى الشيوعية وتسهيل تمرير مصالح السياسة الخارجية الأمريكية في الخارج, وحشدت لهذا الغرض موارد مالية وبشرية كبيرة, وكانت النتيجة شبكة محكمة من الناس تعمل جنباً إلى جنب مع ذراع الجاسوسية الأمريكية على الترويج لفكرة محددة, وهي أن العالم بحاجة إلى سلام أمريكي, وإلى عصر تنوير جديد, وإلى ما سيسمى بقرن أمريكي. هكذا فإنه في سمت الحرب الباردة نفذت الحكومة الأمريكية برنامجاً سرياً قوامه الدعاية الثقافية من محاوره الأساسية الزعم بأنه لا وجود له, وكانت الأداة الأساسية فيه ما يعرف باسم (مؤتمر الحرية الثقافية) الذي أداره عميل السي. آي. إيه مايكل جوسيلسون في الفترة من 1950 إلى 1967, وفي أوج نشاطه عمل (المؤتمر) انطلاقاً من مكاتب في 35 دولة وقام بتشغيل العشرات من الكوادر, وأصدر ما يزيد على عشرين مجلة بارزة وأقام العديد من المعارض والحفلات الفنية, ونظّم مؤتمرات دولية بارزة, وقدم المنح, والجوائز للموسيقيين والفنانين, بالإضافة إلى فرص العرض والأداء. وشكل هذاكله السلاح السري لأمريكا في الحرب الباردة, وكانت له آثار بالغة الخطورة ربما لا تزال تمتد حتى اليوم, فقلة محدودة من الكتّاب والشعراء والفنانين والمؤرخين والعلماء والنقاد في أوربا ما بعد الحرب العالمية هي التي لم ترتبط أسماؤها بشكل أو بآخر ـ وسواء علمت أو لم تعلم وأرادت أو لم ترد ـ بهذه الحملة السرية المكثفة والممتدة. الفكر المقيد ثانياً ـ يظل المدى الذي ذهبت ذراع التجسس الأمريكية في التغلغل في الشئون الثقافية لحلفائها الغربيين, بما في ذلك تحريك المثقفين والأدباء والفنانين كقطع الشطرنج والتلاعب بمقومات نطاق عريض من الأنشطة الإبداعية, يظل واحداً من أكثر جوانب الحرب الباردة إثارة للخلاف والجدل. والدفاع التقليدي الذي يطرحه بعض المنتمين إلى هذه المرحلة عند السي. آي. إيه قوامه الزعم بأن الاستثمار المالي الهائل الذي حشدته ذراع التجسس الأمريكية لم يرتبط بخيوط محددة للتحرك في اتجاهات بعينها من جانب من صبت هذه الاستثمارات في خزائنهم أو جيوبهم, وإن السي. آي. إيه كانت مهتمة بمد نطاق إمكانات التعبير الثقافي والديمقراطي الحر. ويقول قائل المتمسكين بهذا الدفاع: (إنما أردنا مساعدة الناس على أن يقولوا ما كانوا سيقولونه على أي حال). ويمضي أصحاب هذا الطرح الدفاعي عن السي. آي. إيه إلى القول إنه إذا كان المستفيدون من أموال السي. آي. إيه يجهلون حقيقة مصدرها, وبالتالي فإن سلوكهم لم يتغير, فإنه يترتب على هذا أن استقلالهم كمفكرين نقديين وكمبدعين مستقلين لا يمكن أن يكون قد تأثر. غير أن الوثائق الرسمية المتعلقة بالحرب الباردة الثقافية تضع بصورة مؤكدة حداً لأسطورة الإيثار هذه, ذلك أنه وفقاً لما توضحه هذ الوثائق فإن الأشخاص والوثائق الذين يتلقون دعم السي. آي. إيه كان يتوقع منهم أن يشكل أداؤهم جزءاً من حملة إقناع واسعة النطاق, أو إن شئت الدقة فقل يشكل جزءاً من حرب دعائية تعرف الدعاية في إطارها بأنها (أي جهد منظم أو حركة منظمة لنشر معلومات أو مذهب معيّن عن طريق الأخبار أو الحجج الخاصة أو النداءات المعدة للتأثير على أفكار أي مجموعة معينة أو تصرفاتها). وقد كانت من المكونات لهذا الجهد الحرب النفسية التي تم تحديدها باعتبارها تعني (الاستخدام المخطط من قبل أمة ما للدعاية والأنشطة الأخرى غير القتال التي توصل الأفكار والمعلومات المقصود بها التأثير في الآراء والمواقف والمشاعر والسلوك الخاص بالجماعات الأجنبية بطرق تؤيد تحقيق الأهداف القومية). وفضلاً عن ذلك فإن (نوعية الدعاية الأكثر فعالية) تم تعريفها بأنها تلك النوعية التي في إطارها (يتحرك الهدف في إطار ترغب فيه لأسباب يعتقد أنها متعلقة به). ومما لا طائل وراءه المنازعة في هذه التعريفات, فهي متناثرة في وثائق الحكومة الأمريكية, منفذة الدبلوماسية الثقافية الأمريكية لمرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. أي نوع من الحرية? ثالثاً ـ يثير ما تكشف عنه الوثائق مجموعة بالغة الخطورة من الأسئلة وعلامات الاستفهام المتعلقة بأنشطة السي. آي. إيه على الجبهة الثقافية في مرحلة الحرب الباردة. فمن الجلي أن ذراع التجسس الأمريكية قد تحركت, في غمار قيامها بتمويه استثماراتها في القطاع الثقافي, على أساس افتراض أن ما تقدمه سيتم رفضه إذا عرض صراحة وبلا تمويه, والسؤال المطروح هنا هو: أي نوع من الحرية هذا الذي يجري ترسيخه وتكريسه بمثل هذا الخداع? هل كان هناك أي تبرير حقيقي لافتراض أن مبادئ الديمقراطية الغربية لا يمكن إحياؤها في أوربا ما بعد الحرب العالمية الثانية وفقاً لآلية داخلية من نوع ما? إلى أي حد كان ما يمكن السماح به أن تقوم دولة أخرى هي الولايات المتحدة في هذه الحالة بالتدخل سراً في العمليات الأساسية المتعلقة بالنمو الثقافي العضوي أو النقاش الحر والتدفق الذي لا تلاعب فيه للأفكار في أوربا? ألا يتضمن ما قامت به السي. آي. إيه مخاطربإفراز لا الحرية وإنما تفكيك الحرية حيث يعتقد الناس أنهم يتصرفون بحرية بينما هم في حقيقة الأمر مرتبطون بقوى لا يملكون سبيلاً إلى السيطرة عليها أو كبح جماحها?والأسئلة حول خوض السي. آي. إيه لغمار الحرب الثقافية لا تقتصر على ذلك, وإنما تمتد إلى المزيد والمزيد من علامات الاستفهام. فهل أدى الدعم المالي الأمريكي إلى تشويه العملية التي بمقتضاها يتطور المثقفون والأفكار التي يعملون على تطويرها? هل كان الناس يختارون لمواقفهم وليس على أساس ما يتمتعون به من مزايا فكرية? هل كانت الشهرة تتحقق أو يتم دعمها من خلال عضوية الكونسرتيوم الثقافي الذي شكلته السي. آي. إيه? كم من الكتّاب والمفكرين والفنانين الذين حققوا شهرة عالمية في تلك المرحلة هم في حقيقة الأمر رجال ونساء متواضعو المواهب? رابعاً ـ ما كان يمكن لحملة السي. آي. إيه على الجبهة الثقافية أن تستمر إلى الأبد, ربما لأنها استنفدت جانباً ليس بالقليل من أغراضها, وربما لأن العديد من أساليبها أصبحت تنتمي إلى مرحلة آذنت شمسها بالمغيب, وربما لأن أنشطتها بحكم طبيعتها لا يمكن أن تظل سراً إلى الأبد. هكذا فإنه في عام 1966 نشرت صحيفة (نيويورك تايمز) سلسلة من المقالات كشفت فيها النقاب عن نطاق عريض من العمل السري الذي يقوم به مجتمع المخابرات الأمريكي, هكذا طغت على السطح وقائع محاولات الانقلابات وعمليات الاغتيال السياسي, ووسط هذا كله تسربت تفاصيل عن عمل السي. آي. إيه على الجبهة الثقافية. خامساً ـ أدى الطرح القائل إن العديد من المثقفين والأدباء والفنانين كانوا يتصرفون بتعليمات من صانعي السياسات الأمريكية وليس انطلاقاً من معاييرهم المستقلة إلى إثارة موجات من التقزز والاستياء على مستوى لا يستهان به, والأمر الأكثر خطورة هو أن السلطة المعنوية والأخلاقية التي تمتعت بها الأنتلجنسيا خلال مرحلة الذروة والسمت من الحرب الباردة تعرضت للاهتزاز بشدة, بل غدت موضع سخرية واستهزاء من جانب البعض. سادسا ًـ لعله من قبيل المفارقة الجديرة بالاهتمام حقاً أن الظروف التي جعلت من الممكن الكشف عن الحملة الأمريكية السرية على الجبهة الثقافية هي نفسها التي أسهمت في إضفاء الغموض على المغزى الحقيقي لهذه الحملة, فمع انطلاق الحملة الأمريكية الاستحواذية المعادية للشيوعية في فيتنام وما تركته على الساحة الداخلية الأمريكية من انقسامات ونزاعات ومع ما أعقب ذلك من فضائح من مستوى ووترجيت وأوراق البنتاجون, غدا من الصعب أن يتواصل الاهتمام, دع جانباً الغضب والحنق, حيال الحملة الاستخبارية الأمريكية على الجبهة الثقافية. من دون وثائق وعلى الرغم من الاهتمام الكبير الذي حظي به هذا الكتاب في العديد من مناطق العالم, والذي انعكس في عالمنا العربي في المشروع بترجمته, فإن المرء مع الانتهاء من قراءة صفحاته الخمسمائة والتسع لا يملك إلا التوقف عند عدد من الملاحظات التي نتصور أنها لا تفتقر إلى الأهمية: ـ الملاحظة الأولى تدور حول أنه في الكتاب الأول لإعلامية مهنتها التوثيق, وفي كتاب مهمته الأولى التوثيق لوقائع حملة سرية استمرت قرابة عقدين من الزمان, ومع التقدير للجهد الذي بذلته المؤلفة في مطاردة المصادر والمراجع, فإنه يثير الدهشة أن ملاحق الكتاب لا تتضمن وثيقة واحدة ولا شهادة ولا بياناً ولا جزءاً من تفريغ لمقابلة أجرتها المؤلفة, ولست أشك في أن الكثير من الباحثين المهتمين بموضوع الكتاب والراغبين في المزيد من التعمق في موضوعه سيتوقفون بدورهم عند هذه الملاحظة الببلوجرافية. ـ الملاحظة الثانية هي أن الكتاب يبدو كما لو كان قد تم تأليفه من منظور أوربي محض, فالمؤلفة تهتم بوقائع الحملة السرية الأمريكية التي شهدتها أوربا, وهذا أمر طبيعي ومنطقي ومفهوم, ولكن ما ليس مفهوماً أن وقائع هذه الحملة السرية التي تحدث خارج أوربا لا تحظى إلا بإشارات عابرة, تصل في حالة الوقائع التي تجري في العالم الثالث إلى حد التهميش. ـ الملاحظة الثالثة ترتبط بسابقتها بصورة وثيقة, فالكتاب لا يمكن إلا أن يكون مخيباً للآمال من منظور القارئ العربي, حيث لم يتطرق إلى وقائع الحملة السرية الأمريكية التي شهدها عالمنا العربي, وهي عديدة, وبعضها معروف منذ زمن ليس بالقصير, وعلي سبيل المثال فإن إصدار (مؤتمر الحرية الثقافية) لمجلة (حوار) بالعربية, وهو الموضوع الذي يرد في صفحة 334 من الكتاب لا يستغرق من المؤلفة أكثر من أربعة عشر سطراً. ـ الملاحظة الرابعة تتمثل في أن المؤلفة, فيما يبدو, وعلى الرغم من أن التوثيق مهنتها تكن عداء, أو قل عدم استلطاف ملحوظاً للقوائم, فهي على سبيل المثال تحدثنا عن تمويل السي. آي. إيه لأكثر من عشرين مجلة بارزة على امتداد العالم إلا أننا لا نحصل على قائمة بهذه المجلات العشرين أبداً, وهي في صفحة 245 من الكتاب تحدثنا عن ضلوع السي. آي. إيه في تمويل نشر ألف كتاب إلا أننا لا نحصل على قائمة بهذه الكتب الألف, ولا نعرف إلا عناوين عدد جد محدود منها, مثل كتاب لاسكي الثورة المجرية, وترجمات لـ (الأرض اليباب) لـ (تي. إس إليوت), و(أربع رباعيات) له أيضاً, وكذلك (دكتور زيفاجو) لبوريس باسترناك, و(التاريخ والأمل) لكوت جيلنسكي. وتتعدد الملاحظات المنتمية إلى هذا النوع, وبعضها مما يمكن للقارئ أن يغتفره, غير أن الأمر الذي لا يمكن اغتفاره للمؤلفة هو أنها وضعت صيغة عنوان كتابها في الماضي فجعلته (من الذي دفع للزمار) في إشارة للحكاية الشعبية الأوربية الشهيرة عن الزمار الذي خلص البلدة من الجراد والعمدة الشره الذي أراد أن يسلبه أجره. بينما في حقيقة الأمر أنها كان ينبغي أن تجعل العنوان (من الذي يدفع للزمار?). هذا التفضيل لصـــيغة المضارع في العــــــنوان مرده أن الكثيرين على امتداد العالم ـ ومن بينهم كاتب هذه السطور ـ تساورهم شكوك عميقة حول أن العديد من الزمارين لا يزالون يتلقون مدفوعاتهم من لانجـــلي في زمن العـــولمة للقـــيام بأدوار لا تختـــلف كثيراً عن تلك التي قــــام بها نظـــــراؤهم تحـــت ســـقف الحرب الباردة.
|