الكذب القهري عند الأطفال كرستين نصار

الكذب القهري عند الأطفال

الكذب لدى الأطفال ليس كله مبالغة طفلية, فهو عندما يكون قهريًا يعني أن وراءه الكثير مما يتطلب الاكتشاف ويستلزم المعالجة.

(كذب الأطفال): واقع يشهد عليه معظم الأهل ويبيّن, إلى حد ما, أنّ الطفل لا يحتاج إلى تعلّم الكذب ولا للتثقيف أو للتشجيع كي يقوم به, وبالفعل, ليس علينا سوى ملاحظة واقع (المبالغة) عند الأطفال: تشويههم للحقيقة, إخفاؤهم لوقائع, اختلاقهم لقصص, إنكارهم لبيّنات واضحة كي ندرك أنّهم يكذبون.

وما يعنينا, بالدرجة الأولى, هو واقع الأكاذيب القهرية عند الطفل, أي واقع لجوئه غالبا للكذب أو من دون سبب ظاهري يدفعه للقيام بذلك فيميل الأهل, بشكل مواز, لعدم تصديقه, للشك به وللاحتراس منه, والطفل للمزيد من الكذب والعصيان والخداع. وهكذا, يصعب إيقاف حلقة الكذب حين تبدأ مرّة إذ تميل لأن تتكرّر دون انقطاع, لذا, من الضروري معرفة الأسباب الآيلة للجوء الطفل إلى الكذب ليصبح بالإمكان إيجاد السبل الناجعة لمساعدته على تعديل سلوكه: إيقاف الكذب عنده. الكذب كدليل على وجود اضطراب آخر.

لكن من المهم والجوهري, قبل القيام بأي بحث عن أسباب الكذب, الانطلاق من واقع كون الكذب يمكن أن يكون مؤشرا على وجود اضطراب آخر أكثر حدّة وعمقا, فلقد تبيّن, في ضوء الملاحظات العيادية, أن الكذب القهري يشكّل غالبا بمنزلة دليل كاشف عن معاناة عند أطفال مختلف مراحل الطفولة: عن وجود اضطرابات سلوكية - اجتماعية, خصوصا عند من يعانون خللا في الانتباه والتركيز, من إفراط حركي أو من اضطراب سلوكي معيّن.

تجدر الإشارة, في مثل هذه الحالات, لواقع كون الكذب القهري عند الطفل يترافق عموما مع اضطرابات سلوكية أخرى مثل: السرقة, الغش, العدوان, ثورات الغضب, تسلّق الجدران في المدرسة, الرسوب الدائم, تميّز السلوك الفردي بالفقر ضمن إطار التفاعل مع الجماعة... الخ.

كما أنّ مشاكل مثل: الانفعاليّة, العجز الظاهر عند الفرد عن ربط سلوكه بالنتائج المترتبة عليه, العجز عن تركيز الانتباه, انعدام الإحساس بالارتياح في الوضعيّات الاجتماعية.. الخ. كلها مشاكل تكوّن لب الكذب.

وفي مثل هكذا حالات, ينصح بتدخل مباشر لأخصائي في هذا المضمار كي يساعد الأطفال على حل مشكلاتهم وتجاوزها, أخصّائي قادر, فضلا عن ذلك, على تعريف الأهل بالأساليب الناجعة من حيث التعامل مع أطفالهم: أساليب تساعدهم على تأمين فهم معمق بخصوص كيفية مواجهة المشكلة.

يقدم الأخصائي في العلاج النفسي, فضلا عن ذلك, العلاج المتلائم مع عمر الطفل - صاحب المشكلة بالتعاون مع الأطباء المختصّين والقادرين على تقديم الخدمات الطبية - العقاقيرية (أو غير ذلك) اللازمة له.

نقطة جوهرية لا بد من لفت الانتباه إليها: يمكن اعتراف الأهل بوجود (حاجات خاصة عند طفلهم) من اللجوء إلى الأخصائي وطلب مساعدته عند الحاجة.

أسباب كامنة

وبخصوص الأسباب الكامنة وراء الكذب القهري, يمكن القول إن هناك العديد من الأسباب الجوهرية, إنما يمكن حصرها ضمن أربعة أسباب رئيسية:

أ - خوف الطفل:

يكذب الطفل, عموما, لأنه يخاف من انفجار غضب الأم عليه, أو من حرمان الأب لبعض الامتيازات المخصصة له أو إرسال المعلم له إلى المسئول, مثل هذا الخوف يمكن أن يكون مبرّرا كما من الممكن ألا يكون مبرّرا, لكن نتائج الكذب ومفاعليه تبقى مماثلة: النجاة المؤقتة من العقاب (أو القصاص).

كيف نعالج ذلك, أي ماذا يجب أن نفعل تجاه الكذب بدافع الخوف?

ينبغي الانطلاق من واقعين أساسيين لا بد من أخذهما بالاعتبار:

أولا: يكذب الطفل حين لا يكون هناك مدعاة للكذب لأنه يعرف بأنه ارتكب, عموما, خطأ ما, وهذا الأمر يؤمّن للأهل مفتاحا مهما يمكّنهم من تكييف استجابتهم تجاه كذب الطفل, أي اعتبار أنّ مشكلته لا تكمن في معرفة ما هو خطأ بل في مواجهة الإغراء, لذا يبقى القول التالي (من قبل الأهل): (أخبرتك أكثر من مائة مرّة... (عاجزا) عن مساعدة الطفل في حل مصدر خوفه أو عصيانه بل, على العكس, من شأن ذلك تثبيت مشكلة الكذب عنده. من هنا القول إن على الأهل الذهاب لأبعد من الكذب, أي عليهم أوّلا التوجّه نحو السلوك الكامن وراء هذا الكذب والتعرّف عليه لمعالجته.

ثانيا: ينبغي أن يتقبل الأهل واقع كون أطفالهم يكذبون لأنهم خائفون منهم: من تعكّر مزاجهم, وبالفعل, تشير الوقائع العيادية التطبيقية إلى تكاثر عدد الأطفال الذين يلجأون غالبا للكذب القهري في المنازل التي تتميّز أجواؤها بوجود أهل دائمي الغضب والصراخ والتصلب وشدة التقييد لحركات الطفل... الخ.

من هنا, يبقى التعامل الأفضل هو ذلك الذي يعتمد على الانفراد مع الطفل بعيدا عن الآخرين وتشجيعه على الكلام, والتفاوض (التسوية) معه المرفق بإصغاء جيّد لما يقوله قبل إلقاء الاتهام, وكل ذلك بصوت منخفض إذ من شأن ذلك تأمين الطريقة الفضلى للتواصل مع الطفل وإرساء دعائم التفاهم معه.

ب - العادة:

يمكن القول هنا إنه من الممكن أن يصبح الكذب بمنزلة عادة ترسّخت عند الطفل بفعل ممارسته الدائمة لها, كما من الممكن أن يلجأ فطريّا للكذب (أي على نحو لا إرادي)... وحين يواجه به يصر على أنّ ما يقوله هو الحقيقة.

إحدى أهم الطرق ذات الفعالية القصوى في التعامل مع اعتياد الكذب إنّما تكمن في منح الطفل إمكان العودة إلى الوراء وسحب كذبه دونما خوف من النتائج التي من الممكن أن تترتّب عليه.

ج - التشكّل:

(أو النمذجة) Modeling (تكييف المسلك):

نقول هنا إن الكذب سلوك دائم بحيث يتعرّض الأطفال دائما للكذب, أمّآ المشكلة الأساسية فتكمن في كون الطفل قد تعلّم الكذب في ضوء محاكاته لتجربة الآخرين في هذا المضمار, كما يكمن المأزق الأساسي هنا في صعوبة انتزاع الطفل من أكاذيبه (لا بل استحالة ذلك).

وهنا تشير الوقائع العياديّة إلى أن المصدر الأساسي لهذا التشكل إنما يأتي غالبا من المنزل, فالمثل يقول: ما يفعله الأهل باعتدال, يفعله الطفل بتطرّف.

والكذب باعتدال إنّما هو واقع يمارسه العديد من الأهل باعتبار كونه (كذبة بيضاء) أو بمنزلة (اعتذار غير مؤذ) أو, حتى (كأخطاء) (مثل: عدم احترام المواعيد وتبرير ذلك بكذبة ما) أو, حتى, باعتباره (أي الكذب المعتدل) بمنزلة تحريف للحقيقة تمّ حسابه بدقة كالقول مثلا أمام الطفل: (كان عليّ أن أكذب لكي...), لكنّ الأطفال يعجزون عن تمييز الفروق ما بين أشكال الكذب. وهكذا, يصبح من الصعب جدا على الأهل ضبط الأكاذيب التي يواجهها أولادهم خارج المنزل. على كل حال, نقول هنا: يتم تعليم الحقيقة بفعل تأثير تعلّم مزدوج: بفعل التعليم وبفعل النموذج (المثال) معًا, ونعني بذلك وجوب أن يقرن الأهل القول بالفعل.

د- التوقع:

يمكن للطفل أن يكذب, أيضا, لأنه يتوقع ردّة فعل معيّنة: مثال على ذلك الطفل الذي عبّر عن ذلك بقوله (أعرف بأن أبي سيقول لا, لذا كذبت), لكن, بالعودة إلى الواقع يتبيّن أن الأب لم يكن يود الرفض إنما كان يود طرح بعض الأسئلة للتعرف على الوضعيّة قبل إعلان موافقته.

لتجنّب مثل هذا النوع من الكذب, تكمن الطريقة الفضلى في تعريف الطفل, وبوضوح, على حدود الكذب والصدق لكن, خصوصا, في التركيز على أنّ هذه الحدود تبقى قابلة للتفاوض تبعا لتنوّع الوضعيّات. لكنّ ما يتم تعريف الطفل عليه ينبغي أن يبقى محدودا أي يتجنّب كثرة القواعد والقيود إذ من شأن ذلك تعزيز سلوك الكذب عند الطفل نظرا لعجزه عن فهمها (حين تكون كثيرة).

العقاب والعاقبة

والسؤال الرئيس يبقى: هل ينبغي معاقبة الكذب?

حين يصل الأهل إلى لب الموضوع, يود العديد منهم معرفة ما إذا كان من المتوجّب عليهم معاقبة الطفل على كذبه, وإن كان عليهم ذلك فكيف?

وهنا, لا بد لنا من العودة إلى البداية: لأوّل وأهم سبب يدفع الطفل للكذب ونعني: الخوف, يختار العديد من الأطفال الكذب لأنه أهون شرّين عليهم تحمّلهما, خاصة أنهم يتخيلون أن الكذب يمكن أن يجنّبهم العقاب. وبمعنى معيّن, يشكل الكذب سلوكيًا (هروبا), من العقاب, لكن المأزق الحقيقي إنما يمكن بوجهة نظر الأهل تجاه العقاب حيث من الممكن أن يعزّزوا عند ولدهم, عبر تصرّفاتهم وأقوالهم, الخوف من العقاب حتى وإن لم يمارسوا ذلك فعليا بل اكتفوا بالتهديد فيزداد, حينذاك, لجوء الولد إلى الكذب أكثر بكثير من إمكان خفضه عنده.

فضلاً عن ذلك, هناك خطر آخر يكمن في احتمال (الخلط) بين الرسالة المنوي إيضاحها وبين العقاب, فمثلا حين يقول الأهل للولد: نحن نعاقبك لأنك كذبت, يمكن لهذا الأخير أن يفكر مثلا بأنهم يعاقبونه لأنهم علموا الحقيقة من الخارج, وبالنسبة له, لا يرتبط العقاب بالكذب, بل بما هو خارجه. يمكن أن يجد, بالتالي وفي مرة قادمة طرقا أخرى لتشويه الحقيقة فيصعب, عندئذ, على الأهل الشك به أو تكذيبه.

هناك بعض المخارج لتجاوز مسألتي العقاب والكذب:

أ- يبقى العقاب أكثر فاعلية بكثير حين يكون الكذب بمنزلة عادة عند الطفل, لكنه لا يحل السلوك المكتسب كما أنه لا يساعد على تجاوزه: فالمشكلة الأساسية تكمن في كون العقاب لا يشكل بحد ذاته طريقة لتعلم وتعزيز سلوك تكيّفي لاحق, كما أن ممارسة العقاب خارج إطار جو من الحب يجمع بين المعاقب والمعاقَب خارج إطار (غاية التثقيف) إنما تبقى دون منفعة (لا بل ضارّة بالطفل) إذ تعرض مَن يمارسها لمخاطر الحاجة لأن يستخدمها بتطرّف.

ب - ثم إن عقاب الكذب, حين ينجم هذا الكذب عن الخوف أو عن التشكّل أو عن التوقّع, يميل لفقدان فعاليته إذا ما استخدم على المدى الطويل, لذا من الضروري جدا إيجاد الدافع للكذب كي يتم العمل على معالجة المصدر لا على معالجة العارض (العرض) symptom.

ج - ثمّ إن استخدام العقاب يجب ألا يتم إلا كخيار أخير لا كأول ردة فعل على الكذب: فكم من المرات تفاجأ الأهل لدى ملاحظتهم أن الحوار مع الطفل (مثلا القول له: لقد آذيت فعلا والدك أو...حين كذبت) هو أفعل بكثير من تهديده أو عقابه أو....

وفضلا عن كل ما سبق ذكره, لابد من الاعتراف بأن لدى جميع الأهل الرغبة الصادقة في تشجيع طفلهم على الصدق, لكننا نود تذكيرهم بأن ذلك صفة لا سلوك وأن القول غير السلوك. لذا ينبغي الجمع بين الاثنين لكن, خصوصا, دفع الطفل لحب الحقيقة لا الهروب منها, لكره الأكاذيب لا للارتجاف خوفا من القصاص الذي سيلحق به من جرّاء ارتكابه لها.

الذهاب إلى العمق

لابد لنا, قبل إنهاء حديثنا بخصوص الكذب القهري عند الطفل, من وضعه ضمن إطاره المتكامل ونعني بذلك: تناول موضوع الكذب بشكل عام, دلالته ومخاطره في مرحلة الرشد بشكل خاص.

لتعريفه, لا نجد تحديدًا دقيقًا للكلمة, لذا نكتفي بما أورده الدليل الإحصائي والتشخيصي الأمريكي DSM IV القائل إن (الكاذب هو شخص يخبر الأكاذيب بشكل دائم), لكن, لابد هنا من التنويه لواقع كون الكاذب المتعمّد (أي عن عمد) هو شخص يعرف بأنه يكذب, أما المريض الذي يكذب فإنه يجهل أنه يكذب ويستثني من ذلك الشخص الذي يخبر الأكاذيب لتجنّب إمكان إلحاق اضطهاد خارجي معين ضده. إنما يمكن اعتبار من يخبر الأكاذيب بشكل دائم, أكان ذلك لتجنب عقاب يلحق به أم لا, شخصا مريضا, والمرض يعني, ببساطة, (عدم السواء) أو (الابتعاد عمّا هو نموذجي). لكننا نتساءل هنا: مَن منا لم يلجأ إلى الكذب في حياته? وبالتالي, أيمكن اعتبار الجميع مرضى? وفي حال العكس, متى يصبح سلوك الكذب مرضيّا بالفعل?

للتمييز بين الكاذب العادي والكاذب المريض نعود إلى الواقع العيادي فنجد أنه من الضروري, كما أشار العديد من المعالجين النفسيين, إضافة محك آخر هو (الاضطراب الذهني): (فالكذب هو صفة تميّز عددا من الاضطرابات كـ: اضطرابات السلوك والشخصية المعادية للمجتمع حيث نجد, في اضطرابات السلوك مثلا, سلوكات أخرى تشتمل على العدوان غير المبرّر, التدمير, انتهاك القوانين والقواعد الاجتماعية, وحيث يثير مجمل الأطباء إلى أن الكذب بوجهيه: كاضطراب السلوك وكشخصية معادية للمجتمع إنما يستقي أحد منابعه الرئيسية من الوضعيات المعيشة داخل العائلة.

يضاف إلى ذلك محك أو واقع آخر هو غاية في الأهمية: ظهور أو تكوّن مثل هذه الاضطرابات قبل الخامسة عشرة من العمر, ممّا يعني أهميّة إيلاء مسألة الكذب الاهتمام اللازم ومنذ ظهوره وذلك تجنبا لإمكان أن يؤسس لنشوء الاضطراب فيما بعد, أي في مرحلة الرشد.

كلمة أخيرة لإنهاء حديثنا الحاضر: لوضعيات التحدي التي يتعرض لها الفرد ضمن إطار المنزل دور مهم في إحداث الكذب المرضي واضطرابات السلوك, ولمساعدة المصاب على التخلص منها يبدو العلاج العقاقيري كالسيراونين, وفي حال عدم توافره: البروزاك أو الزولوفت, فعالاً لكن بدمجه مع جلسات علاج نفساني.

حتى نكون أحسن

معظمنا يود أن يحسن نفسه, بطريقة أو بأخرى. فمثلا, قد نشعر أنه من الأفضل أن نكون في حالة طيبة وسعداء مع الآخرين. وللوصول لهذا التعديل السلوكي يمكن أن نحتفظ بسجل أسبوعي لعدد من الأوقات قمنا فيها بأعمال طيبة مبهجة للآخرين, وببساطة, فإن رؤية تلك البيانات المسجلة أحيانا تكون كافية لتغيير السلوك, هذا التسجيل يضع الخط الأساسي أو نقطة البدء التي يمكن أن نقارن بها سلوكيات سابقة متكررة. عندئذ يمكن أن نضع هدفا لزيادة طفيفة لعدد العلامات المسببة للسعادة والسرور, ويجب أن يكون هذا الهدف معقولا بالقدر الكافي ليسمح لنا بالنجاح (تعزيزًا). وللمساعدة في الحصول على هذا الهدف يمكن إدخال بعض أنشطة المتعة البسيطة والممكنة التي نؤديها بانتظام مثل زيادة في تناول فنجان من القهوة, الذهاب إلى السينما, أو أي شيء آخر يمكن عمله كقول شيء جميل لشخص آخر, وفي كلمات أخرى, فإن (التعزيز الإيجابي) يتم حدوثه بعد صدور السلوك المرغوب فيه. وبمجرد الوصول إلى الهدف الأساسي, عندئذ يمكن إقامة هدف جديد ليحدث تردد استجابي مرتفع.

 

كرستين نصار

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات