السّباق إلى القرن الواحد والعشرين محمد الرميحي

حديث الشهر
في برنامج الدعاية الانتخابية الذي أطلقه الرئيس الأمريكي السابق رونالد ريغان، وردت العبارات التالية:

"هناك دب في الغابة، بعضهم يقول إن روية الدب في الغابة ليست مسألة صعبة، بعضهم يقول إنه لا يستطيع رؤيته على الإطلاق.بعضهم يقول إنه دب أليف، بعضهم الآخر يقول بل هو دب متوحش، ولكن، بما أن أحدًا لا يستطيع أن يقطع برأي في هذه المسألة، أليس من الحكمة إذن أن تكون في قوة الدب، إذا كان هناك دب فعلاً".

بهذه المقدمة يفتتح المؤلف الأمريكي الشهير "ليستر ثورو" كتابًا صدر أخيرًا ويحمل عنوان "رأس لرأس (Head to Head) ويرسم فيه وبالتفصيل المواجهات الاقتصادية المقبلة بين اليابان وأوربا وأمريكا، ويصفها بأنها مواجهات "إمبراطورية".

وفي السياق يقول ثورو: "إن القرن التاسع عشر كان قرن بريطانيا، والقرن العشرون هو قرن الولايات المتحدة الأمريكية، ومع أن القرن الواحد والعشرين لم يصل زمنيًا بعد، ولكن، وكما أن نهاية الحرب الباردة بدأت مع سقوط جدار برلين عام 1989، فإن ميلاد أوربا الموحدة في ا يناير (كانون الثاني) 1993، يعني بداية جديدة للقرن المقبل، وفي تلك اللحظات التي ترافق الميلاد، فإن الولايات المتحدة، وللمرة الأولى خلال هذا القرن، سوف تكون القوة الاقتصادية الثانية في العالم...والمنافسة على القرن الواحد والعشرين سوف تتصاعد وتشتد...".

ويقول: "إن التحول من المواجهة العسكرية إلى المواجهة الاقتصادية هو خطوة متقدمة وحضارية، فلا أحد يقتل في هذه المواجهة، كما أن موارد الشعوب والدول لا تستخدم سلبًا في التدمير وفي القتل بل إيجابيًا في البناء والإنتاج".

ويقول: " إن البيت الأوربي، بعد ضم شرق ووسط أوربا، يتحول إلى عملاق اقتصادي قادر أن ينتج اقتصادًيا ضعفي ما تنتجه أمريكا واليابان معًا..وفي الباسيفيكي فإن اليابان تنهض من ركام الحرب الثانية نمرًا اقتصاديًا يدعمه تنين بأربعة رءوس هي كوريا وتايوان وهونغ كونغ وسنغافورة...".

وينتهي بلى القول: "إن الفائز في السباق بلى القرن الواحد والعشرين هو القادر على إنتاج أفضل السلع، وعلى رفع مستوى المعيشة بأقصى سعة ممكنة، ومن يملك أفضل قوة عمل وأكثرها ثقافة وتكريسًا، وهو الأكثر قدرة على التنظيم وعلى قيادة العالم في مجالات الاستثمار...إن مؤرخي المستقبل سوف سجلون أن القرن الواحد والعشرين هو " قرن البيت الأوربي" .

أين موقع دول مجلس التعاون الخليجي، وأين موقع العالم العربي في السباق على القرن المقبل..سؤال نترك الإجابة عنه..للقراء.

أوربا: خيار السرعات المتعددة

يقول رئيس اللجنة التنفيذية لدول السوق الأوربية المشتركة جاك ديلور: "إننا نعيش في عالم لا يمكن لنا أن نتوقف عن الحركة فيه"، ويضيف تعليقًا على موقف الدنمارك وبريطانيا ودول أوربية أخرى آثرت أن تتريث في الاندماج داخل المجموعة الأوربية.."ربما كان لبعضهم العذر في أن يتوقف ولكن عندئذ فإن آخرين سوف يتولون القيادة".

وبالتأكيد فإن أحدًا لا يتوقف لأن التوقف يعني الجمود والانهيار، ولكن المشكلة هي في اختلاف السرعة بين دولة وأخرى، ولذلك فإن مجموعة الدول ال 12 لجأت بلى ما أطلق عليه أحد المسئولين "خيار السرعات المتعددة"، حيث اختارت 5 دول على الأقل هي ألمانيا وفرنسا وبلجيكا وهولندا ولوكسمبورغ "الطريق السريع" للوصول إلى الوحدة بينما اختارت دول أخرى "الطريق البطيء".مع العلم أن الطريقين كليهما يقودان إلى الوحدة الأوربية ولكن في أزمنة متفاوتة.

إن اختيار "الطريق السريع" للوصول إلى الوحدة ليس ترفًا ورغبة ذاتية لدى الدول لأن هذا الطريق هو البديل عن الحرب.إذ يقول أحد قيادات الحزب الديمقراطي المعارض في ألمانيا بيتر غلوتز: "إن المشاعر الوطنية، كما كشف الاستفتاء في فرنسا، تتصاعد، وبالتالي لابد من محاولة استيعابها...

وإلا فإن أوربا سوف تبقى دولاً وطنية.تكون ألمانيا هي الدولة الأولى فيها، وفي خلال سنوات سوف تعود ألمانيا موضوعًا للكراهية من جاراتها...وهذا ربما يؤدي إلى أن يعيد التاريخ نفسه".

... ولأن التاريخ لا يعيد نفسه، ولأن العالم يستفيد من تجاربه فإن "قانون السرعات المتعددة " يطرح تسوية ربما كان العالم العربي ودول الخليج العربية بالذات تحتاجه أكثر مما تحتاجه أوربا الموحدة.

فرنسا: الزوجة تفر مع العشيق

الوحدة، أية وحدة، فيها على المدى القصير رابح وخاسر، أما على المدى البعيد فان الاثنين يربحان.لنأخذ فرنسا مثلاً، فالاستفتاء على،"ماستريخت" قسمها شطرين من الشمال إلى الجنوب، شطرا ريفيا وشطرا مدنيا.الريفي قال "لا"، وابن المدينة قال "نعم"، صحيفة "لوموند" عبرت عن هذا الانقسام بتقريرين، يحمل الأول عنوان "الأغنياء وأبناء المدن يقولون نعم"، والثاني "العمال والمزارعون يقولون لا"، وفي وصف الحالتين كتب المعلق الشهير برونو فرابات: "إن المسحوقين تحت ثقل تطورات العصر قالوا "لا".أما على الجانب الآخر فإن المرتاحين من أبناء فرنسا القادرين على مواجهة التطورات بأمل ومن دون قلق قالوا "نعم"...وربما تمر سنوات طويلة قبل أن تندمل الجراح بين المزارعين، والتجار، بين العمال والتكنوقراط، بين الليبراليين والوطنيين".

"إننا مهجورون...إن فرنسا الزوجة تفر مع عشيقها" العبارة نقلها تقرير نشرته صحيفة "لوس أنجليس تايمز" الأمريكية على لسان مزارع فرنسي لا تبعد مزرعته عن العاصمة باريس أكثر من 70 ميلاً، ويضيف بمرارة قاسية: "بالطبع أن منطقة "الألزاس" قالت نعم لماستريخت...لأن سكانها في نهاية المطاف ليسوا فرنسيين بل أنصاف ألمان".وعندما نتذكر أن الصراع على الألزاس واللورين كان في أساس الحرب التي نشبت بين فرنسا وألمانيا فإننا نكتشف عمق الهوة التي انفتحت بين الفرنسيين نتيجة للاستفتاء، وحولت فرنسا بلى مدينتين، واحدة تغلق حدودها وترفع أسوارها، بينما الثانية تحطم الجدران حولها بثقة لتنفتح على العالم الرحب، وما حدث في فرنسا ربما يحدث في بريطانيا وربما اختلفت النتائج.

الدنمارك: ديمقراطية أكثر

الوحدة أو الاندماج أو الدخول في تكتل يعني غالبا التضحية بالمصالح الآنية والمؤقتة من أجل المصالح المقبلة والدائمة.الدنمارك وحدها من بين الدول الاثنتي عشرة التي ستبني أوربا الموحدة رفضت اتفاقية ماستريخت، بفارق ضئيل حيث صوت 49,3 في المائة من الناخبين على قبول المعاهدة بينما رفضها ما نسبته 50,7 في المائة من الناخبين.عذر الدنمارك هو: عندما يكون هناك تعارض بين المصلحة الوطنية الدنماركية والمصلحة القومية الأوربية، فإن المصلحة الوطنية تأتي في المحل الأول.ومع أن ماستريخت منحت الدنماركومعها بريطانيا حق البقاء خارج العملة الموحدة بعد عام 1999، فإن الدنماركيين، كما قالت قيادتهم "يأكلهم الرعب عندما يتصورون أن البيروقراطيين من موقعهم البعيد في بروكسل هم من سوف يقم باتخاذ القرار وليس حكومتهم القريبة منهم..."، وهذا الخوف من "المجهول" يكاد يتضاعف إذا ما تمت مقارنته بالأمن المتوافر في الحاضر الراهن.أكثر من ذلك، فإن بعض القيادات في الدنمارك ما زال غير مقتنع بأن الحلم الأوربى الذي بدأ باتفاقات تجارية تم توقيعها قبل 35 عامًا يمكن أن يتحقق كاملاً مع بداية العام المقبل، ويقول خبير دنماركي: "نحن نتحدث عن سياسة خارجية موحدة، لنأخذ موضوع يوغسلافيا مثلا، نحن جميعا متفقون على الاعتراف بجمهورية مقدونيا، ولكننا لم نعترف بها، لماذا؟ لأن اليونان ترفض هذا الاعتراف، وتقول إن مقدونيا هي اسم لمقاطعة عندها وليس اسمًا لجمهورية...إذن لم يعد مهمًا أن يتفق 11 عضوًا على قضية معينة مادام عضو واحد لا يوافق عليها..إن هذا يدفعنا للبحث عن بدائل"، وفي الواقع فإن ماستريخت تتضمن قدرًا من المرونة في هذه الناحية، فهي تكتفي بأن تطلب من الأعضاء عدم استخدام "الفيتو" في مواجهة أية قضية تخص المجموعة، ولكن ما يريده الدنماركيون هو "ديمقراطية أكثر" وخاصة في الشئون الدفاعية، فهم يريدون البقاء خارج أي نظام دفاعي أوربي.ويقول ليون بريتان، أحد المسئولين البارزين في حكومة أوربا الموحدة: "لعلنا سوف نستطيع إغراء الدنماركيين بالموافقة على الاتفاقية إذا تركنا للحركات الوطنية حرية اتخاذ القرار متى أمكن ذلك".بينما يقترح خبير بريطاني "أن تخرج الدنمارك نهائيًا من أوربا الموحدة، لأن ما ينتظزنا كثير ومهم،وفي طليع ته التفاوض، بعد تصديق المعاهدة قبل نهاية العام الجاري، مع مجموعة الأربع التي ما زالت خارج السوق، وهي السويد، وفنلندا، والنمسا وسويسرا.إن هذه الدول لا تستطيع أن تتفاوض معنا إذا لم تعرف تمامًا حول ماذا سوف تتفاوض، ثم إن هناك دولاً في المعسكر الشرقي السابق، وكلها إذا قررت دخول أوربا الموحدة فإنه سيمنحها قوة كبيرة، لا تقاس بها قوة الدنمارك...إذن فلتخرج الدنمارك".

من كل هذا نكتشف أن الدمج أو التكامل أو الوحدة هو عملية "تسوية"، لا مكان فيها للربح بالمطلق أو للخسارة بالمطلق.

اليابان و..."روح الحيوان"

من كتاب "زن" البوذي نقتطف:

"إن الخبير في فن الحياة لا يميز كثيرًا بين عمله وهوايته، بين مهنته ومتعته، بين عقله وجسده، بين ثقافته وإبداعه، بين حبه وإيمانه، إنه بالكاد يعرف هذا الفرق، فهو يطارد رؤيته كي يجعل كل ما يقوم به مثاليًا، ويترك للآخرين محاولة اكتشاف ما إذا كان هارلاً أو جادًا، أما بالنسبة له، فهو يقوم دائمًا بالاثنين معًا".

اليابان هي القوة المالية العظمى على وجه الأرض.لندن في إحدى المراحل كانت خزانة الأرض، ثم انتقلت الخزانة إلى نيويورك، واليوم استقرت في طوكيو.ومن الصعب أن تتصفح صحيفة أو مطبوعة في الولايات المتحدة وتجدها خالية من أنباء عن الاقتصاد الياباني أو الشركات اليابانية وما تمثله من خطورة على مثيلاتها في أمريكا.وتكفي الإشارة إلى أنه بعد 3 أعوام من هبوط ميزان التبادل التجاري بين اليابان والولايات المتحدة فإن الصادرات اليابانية مازالت تلقى رواجًا هائلاً في أمريكا، وهو ما رفع العجز التجاري بين البلدين ولصالح اليابان إلى مبلغ 90 مليار دولار سنويًا.

نجاح اليابان في طرح نموذج رأسمالي للاقتصاد يختلف عن النموذج الأنجلو - ساكسوني، يعتمد بالدرجة الأولى على مثلث الكفاءة والغزو والسيطرة.إن العامل في الغرب، كما يقول "ليستر ثورو" يضاعف كفاءته كي يضاعف دخله وبالتالي قدرته على الاستهلاك، أما العامل في اليابان فيضيف إلى هذا "روح الحيوان" وهي الرغبة في الغزو والسيطرة، وإذا كان هناك ما يمكن للمرء أن يفيده في فهم سياسة الشركات اليابانية، فلابد له أن يلجأ لى تحليل كيفية بناء الإمبراطوريات بدل أن يجعل من "الحد الأقصى للربح" مقياسًا، وهو ما تقوم عليه الشركات الغربية، إن الياباني، كما يقول كتاب "الزن" يجعل من الحرفة متعة، ويتجاوز الدافع الاقتصادي الضيق كي يبني إمبراطورية تستوعب ثقافته وإبداعه، عقله وجسده وحبه وإيمانه.واليابان في مواجهة الولايات المتحدة وأوربا الموحدة تعلن أنها لن تبادر إلى إنشاء تكتل اقتصادي آسيوي يجمعها مع دول جنوب وشرق آسيا، لأن مبادرة من هذا النوع سوف تؤدي إلى مواجهة مع الصين ومع أمريكا وأوربا معًا.مع ذلك، فإن اليابان عمليًا، ومن دون إعلان، تتولى قيادة أهم تكتل آسيوي، ووفقًا لدراسة صدرت عن تجمع الصناعيين الفرنسيين فإن اليابان استثمرت في عام 1992 ما يزيد على 53 مليار دولار في 7 دول هي أندونيسيا وهونغ كونغ وكوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة وماليزيا والفيلبين.

ويشكل هذا الاستثمار حوالي 80 في المائة من صادرات وواردات هذه الدول.

وللتأكيد على تماسك هذه الكتلة التي تقودها اليابان ربما من المفيد الإشارة إلى أن طوكيو بنت منذ العام 1945 حوالي 1000 مصنع في دول جنوب وشرق آسيا، بينما بنت في المقابل 700 مصنع في الولايات المتحدة و300 فقط في أوربا.وهذه المصانع تعمل بكامل طاقتها الإنتاجية، مستفيدة من رخص اليد العاملة والضرائب المنخفضة ومن إعفاءات تكاليف النقل.وقد وضعت طوكيو، كما يقول التقرير خطة لبيع ثلثي إنتاجها من السيارات في هذه السوق الآسيوية.

كيف استطاعت اليابان إقامة هذه الإمبراطورية الآسيوية؟ يرد تقرير وضعه صندوق النقد الدولي أخيرًا أن اليابان ورغم هيمنتها على الأسواق الآسيوية لم تلزم هذه الدول باعتماد الين كوحدة نقدية في المبادلات التجارية إذ إن 50 في المائة فقط من صادراتها و 20 في المائة من وارداتها تسدد بالين والباقي بالدولار الأمريكي وبالعملات المحلية، بينما ألمانيا مثلاً تستوفي 80 في المائة من قيمة صادراتها إلى هذه الدول بالمارك الألماني.

واليابان بدأت التخطيط لتوسيع كتلتها بحيث تشمل كوريا الشمالية وفيتنام... وهو ما يجعل منها إمبراطورية قادرة على مواجهة الإمبراطورية الأمريكية والإمبراطورية الأوربية، وربما التفوق عليهما بدفع المزيد من روح الحيوان" في شرايين اقتصادها.

أمريكا: خذ دولارًا وأعطني 70 سنتاً

يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي قام كل من الرئيس الأمريكي جورج بوش والمكسيكي ساليناس والكندي ميلرونى، بالمشاركة في احتفال فريد في نوعه وهو اتفاقية التجارة الحرة (NAFTA)، حيث قام وزراء التجارة في الدول الثلاث بتوقيع الاتفاقية، لتنشأ بذلك سوف تضم ما يزيد على 360 مليون نسمة تتعامل باستثمارات تصل الى 6 تريليونات دولار، (التريليون يعادل ألف مليار دولار).

تم توقيع الاتفاقية في مدينة سانت أنطونيو في ولاية تكساس، وتحولت المدينة إلى مفتاح للتاريخ. بينما باتت (NAFTA) عنوانًا لإمبراطورية.

كيف استطاعت هذه الدول الوصول إلى اتفاق يرضيها جميعًا؟

يقول المثل الأمريكي "إذا لم تأت الفرصة إليك فالأفضل أن تذهب أنت إليها"، وهذا ما فعلته الولايات المتحدة، فالاتفاقية سوف تضمن مليون فرصة عمل للأمريكيين في عام 1995، كما أن مليونًا ونصف المليون سوف يدينون بوظائفهم لصادرات تذهب إلى كندا، كما أنها سترفع من رواتب الأمريكيين العاملين في التصدير بما نسبته 17 في المائة مقارنة مع باقي العمال الأمريكيين

"نافتا" سوف تجعل الولايات المتحدة أكثر قدرة على المنافسة عالميًا، فهي سترفع الحواجز أمام تدفق السلع والخدمات ورأس المال بين هذه الدول الثلاث، وسوف تدعم نشاط المؤسسات الصغيرة والمتوسطة في هذه الدول، حيث إن هذه المؤسسات هي الأكثر تضررًا، بالحواجز الجمركية، كما سوف تساعد الاتفاقية على تحسين أوضاع البيئة، حيث سوفا تطبق الشروط المفروضة في الولايات المتحدة على المكسيك وكندا...

ومع ذلك يبقى السؤال: كيف يمكن لدولة غنية مثل الولايات المتحدة أن تصل مع دولة فقيرة ومدينة مثل المكسيك إلى اتفاق يحفظ مصالح الطرفين ولا يؤدي إلى الإجحاف بحق أحدهما؟

الإجابة بسيطة وهي أن المكسيك تصرف 70 سنتًا من كل دولار تحصل عليه لاستيراد مواد وبضائع من الولايات المتحدة، وبالتالي فإن كل دولار أمريكي يدخل إلى المكسيك يجعل منها ليس "زبونًا" أفضل لشراء المنتجات الأمريكية، وإنما أيضا "جارًا" أكثر قوة واستقرار وازدهارًا وهو ما سوف يخفف من الهجرة المكسيكية غير القانونية إلى أمريكا، حيث يقطع مئات الألوف من المكسيكيين في كل عام نهر "ريوجراندي" للتسلل إلى أمريكا والعمل بصورة غير مشروعة، أو مزاولة أعمال غير مشروعة، تتحول بلى كارثة يدفع المجتمع الأمريكي ثمنها.

ولكن ألا يعني هذا إغراق السوق الأمريكية ببضاعة المكسيك وأسعارها من الرخص بحيث لا يمكن مقارنتها مع الأسعار الأمريكية؟

بلى، ولكن الاتفاقية وفرت حماية مؤقتة للبضائع الأمريكية، حيث حددت فترة انتقالية انسيابية تمتد على مدى 15 عامًا وترافقها إجراءات صارمة تحدد المنشأ وتضع حدًا للصادرات الوهمية أو المزيفة.

إن اتفاقية (NAFTA) تؤكد مبدأ مهمًا وهو أنه لم تعد هناك قوة اقتصادية عظمى بمفردها، حتى ولو كانت في قوة الولايات المتحدة، وأنه لابد لهذه القوة من أن تحاول بناء إمبراطورية قادرة على المواجهة مع الإمبراطوريات الأخرى.

الصين: العملاق النائم

الصين اليوم ربما تبدو أقرب إلى أن تكون عملاقاً نائمًا على الصعيد الاقتصادي، مع ذلك فإن الاقتصاد الصيني، بإجماع رجال الاقتصاد، يحرز تقدمًا كبيرًا، وهو ما يعكسه الفائض التجاري بين الولايات المتحدة والصين حيث زاد في العام الماضي على 10 مليارات دولار لصالح الصين.

والصين مثلما كانت فريدة في ثورتها، فهي فريدة في نقل ثروتها باتجاه اقتصاديات السوق، وقد بدأ الرئيس دنغ زهاو بنغ حركته الإصلاحية في عام 1978- 1979، حيث كانت الدولة تسيطر على 80 في المائة من الإنتاج الصناعي، ولكن مع حلول عام 1990 هبطت مساهمات القطاع العام الصناعية بلى نحو 50 في المائة من إجمالي النمو الاقتصادي بينما ارتفعت مساهمات القطاع الخاص والزراعي ومثلها نسبة الاستثمارات الأجنبية التي زادت بحوالي 50 في المائة خلال هذه الفترة. وأبرز ما في التجربة الصينية هو أن الشعب الصيني، وليس الحكومة، هو من تولى أخذ المبادرة لتطوير الاقتصاد. فقد بدأت الصين منذ السبعينيات في فتح الأسواق، وإسناد المسئولية إلى مديري المصانع، والسماح بتأسيس شركات تجارية من قبل المستثمرين الأجانب. وقد نجح الصينيون المقيمون في الدول الآسيوية المجاورة مثل سنغافورة، وتايوان، وكوريا الجنوبية في إقناع القيادة الصينية بإمكان تحقيق الازدهار الاقتصادي حتى في ظل غياب الديمقراطية الليبرالية. وتقوم الصين حاليًا بالتباحث مع كوريا الجنوبية حول عقد اتفاقات تجارية على الرغم من عدم وجود علاقات دبلوماسية بين البلدين.

وقد استغل الصينيون المقيمون في الخارج انخفاض أجور العمالة في الصين، وأقاموا العديد من المصانع على امتداد الساحل الصيني، مما حدا بحكومة هونغ كونغ الى انتقاد التطور الذي طرأ على مقاطعة جوان دونغ التي تضطلع بالنصيب الأكبر من الصادرات الصينية.

العامل الآخر المهم في دفع عجلة التقدم الصيني تمثل في الدار الياباني الجيد، والذي يرجعه البعض إلى شعور اليابان بالذنب تجاه ما اقترفته في الثلاثينيات، والأربعينيات في حق الصين، مما يدفعها الآن إلى دعم الاستقرار فيها، وبأي شكل من الأشكال. وقد بدأت اليابان بعد زيارة رئيس وزرائها الأخيرة إلى الصين بمواصلة دفع القرض الذي وعدت به قبل أحداث ساحة تيانان مين والبالغ 6 مليارات دولار.

الصورة الصينية العامة جيدة وليست باهرة، فحركة الإصلاح الزراعي لم تمض دون عقبات، فقد واجه المتشددون في الحكومة المركزية ثورة عارمة في الأرياف عندما قاموا بخفض القروض الزراعية مما حدا بالمسئولين المحليين إلى تجاهل الأوامر الصادرة من بكين إلى أن تم إلغاؤها.ولم تنم سوق الأوراق المالية في مدينتي شنغهاي، وشيزون بالصورة الكافية إلا بعد جهود حثيثة من قبل السلطات المحلية، اضطرت معها السلطة المركزية إلى الاعتراف بها.وهذا دليل واضح على أن حركة الإصلاح التي بدأها دنغ زهاو بنغ أفسحت المجال أمام موهبة الصينيين الهائلة في العمل التجاري.لقد حقق الصينيون حالة توازن عجيبة، ففيما استمروا في التغني بمباهج الاشتراكية، نهجوا نهجًا جديدًا هو أقرب إلى الرأسمالية الكلاسيكية، والعملاق النائم يمكن أن يستيقظ...ليدخل ساحة المواجهة.

المواجهة

دعا أخيرا 59 عضوًا في مجلس الشيوخ الأمريكي إلى "الثأر" من أوربا بسبب عدم التزامها باتفاقية "الجات" الدولية التي تنظم التبادل التجاري، واتهم هؤلاء الشيوخ الأمريكيون العائلة الأوربية بوضع عراقيل للمصدرين الأمريكيين بلغت خسائرها ملياري دولار في "فول الصويا" فقط.

و"فول الصويا" صار عنوانًا للمواجهة بين أوربا وأمريكا، وفي رسالة وجهها السناتور الجمهوري عن ولاية ميسوري جون واتفورت، حيث توجد مصانع ماكدونالد دوجلاس لصناعة الطائرات، إلى الرئيس جورج بوش، دعاه فيها "إلى أن يعرض في أكثر الصيغ قوة قلق الولايات المتحدة من الدعم الحكومي الواسع والمستمر الذي تلقاه صناعة الطيران في أوربا من حكوماتها".

أما المواجهة الأمريكية- اليابانية فإنها تحتل جميع وسائل الإعلام في العالم كله، ولم يفت أية مطبوعة في خلال الأشهر الماضية أن تتحدث عن الجنود اليابانيين الذين أكلوا لحوم البشر أثناء الحرب العالمية الثانية، أو استخدموا النساء في أغراض ترفيهية، وهي صور صغيرة فحسب في هذا السياق الماراثوني نحو القرن الواحد والعشرين.

العرب: من "إعلان دمشق" إلى "ماستريخت"

قدر التقرير الاقتصادى العرب الموحد لعام 1992 أن حجم الخسائر التي أصابت العالم العربي، نتيجة لاحتلال الكويت، بمبلغ 620 مليار دولار، وهذا الرقم يمكن قراءته على وجهين، الأول هو الوجه السلبي والمأساوي، وهو أن هذا المبلغ يساوي مثلاً حوالي 12 مرة استثمارات اليابان في دول جنوب وشرق آسيا خلال العام الجاري، وهي استثمارات مكنت طوكيو من دور قيادي في هذه السوق. أما الوجه الثاني فهو أن هذه المنطقة العربية إذا كانت قادرة على توظيف مبلغ بهذا الحجم في بند التجزئة والخسائر فإنها بالتأكيد لن تكون عاجزة عن توظيف مبالغ مماثلة في بند الاندماج والتكامل والربح. وإذا كان بعضهم يرى، في عتمة المرحلة الحالية، أن هذا الطرح يبدو أقرب إلى السخرية السوداء، فربما من المفيد أن نتذكر أن " الأسرة الأوربية" الحالية كانت تعيش- عشية الحرب العالمية الثانية، في لندن وباريس وبرلين وغيرها من العواصم والمدن- كوابيس تتناسل كل ليلة بين أنقاض المدن المدمرة، وتفرخ حركات سياسية واقتصادية وثقافية حبلى بالمرارة والحقد والرغبة بالثأر، وكما يقول المفكر الفرنسي سارتر، في وصف تلك المرحلة "كان يستحيل أن ينظر الفرنسي في عيني الألماني دون أن يشاهد فيهما جثة"، مع ذلك، فإن إعلانًا صدر قبل حوالي 35 عامًا يعلن ميلاد السوق الأوربية المشتركة، ومن دون مغالاة في التفاؤل، فإنه عربيًا يبدو أقرب إلى "إعلان دمشق" وقد وقعته دول الخليج العربية مع جمهوريتي مصر وسورية، وعنوانه الرئيسي هو التنمية والتعاون الاقتصادي، ومع أن الظروف الحالية، نتيجة لعدم استقرار العلاقات في المنطقة، تتنازع هذا الإعلان بين طرف يريد تحويله إلى صيغة أقرب بلى حلف شمال الأطلسي "الناتو"- مع نسبية المقارنة- وبين طرف آخر وهو الأغلبية يرى فيه إعلانًا عن سوق عربية تعتمد التنمية المشتركة شبيهة بالسوق الأوربية، فإن العرب في سباقهم نحو القرن الواحد والعشرين لا يملكون إلا خيار التكامل الاقتصادي على طريق الاندماج، وهو كما تقول الأستاذة في جامعة الإمارات د.فاطمة لشامسي "خيار صعب... ولكن لا بديل عنه للتنمية"، وتضيف في دراسة حول التنمية في دول الخليج والعالم العربي "إن الشعور المبالغ فيه بالسيادة الوطنية بين دول المنطقة يؤدي إلى عكس ما يهدف إليه، و بدلاً من زيادة الثروة الوطنية باعتماد التكامل والاندماج بين هذه الدول، في مواجهة الشركات العالمية، فإن ما يحصل هو النقيض حيث تسود المنافسة بين المشاريع الصناعية المتشابهة، وتضعف بالتالي قدرتها على مواجهة تلك الشركات...".

والشعور المبالغ فيه بالسيادة الوطنية يبدو مرحلة يعيشها العالم العربي كما تعيشها دول أخرى في العالم الصناعي، وإذا كانت الدنمارك اعتمدت هذا الشعور لتقول "لا" لماستريخت، في المرحلة الراهنة على الأقل، فإن فرنسا و10 دول أخرى تقول "نعم"، والمهم في كل هذا أن الأسرة الأوربية قادرة على أن تستوعب الاثنتين معًا، ولعل الديمقراطية وحدها هي القادرة على استيعاب "لا" الدنماركية و "نعم" الفرنسية، وهذه الديمقراطية عندما تعتمد التنمية قادرة بالتأكيد على تحويل "إعلان دمشق" إلى "ماستريخت" عربية.