برلين وردة بيضاء.. عاصمة موحدة أشرف أبواليزيد عدسة: أشرف أبواليزيد

برلين وردة بيضاء.. عاصمة موحدة

خريف برلين 2003. شمس خجول يحييها مطر خفيف يتسلل من سماء نيلية. أستمتع بالانتقال سيرًا على القدمين بين ما كان يسمى بشطري العاصمة الألمانية, فلم يعد هناك ما يميز قسمي المدينة سوى شواهد الذاكرة. الانتقال حق ومتعة لم يكونا ليتحققا أبدًا حتى التاسع من نوفمبر 1989 يوم سقط جدار كان يشطر الوردة البيضاء, برلين, قبل أن تعود عاصمة لألمانيا الموحدة.

الجدار.. في بطاقة بريدية!

حين أسدلت الحرب العالمية الثانية ستار نهايتها, توزعت الأرض الألمانية بين نظامين اجتماعيين عكسا صورة أطراف الحرب. ففي الغرب قامت جمهورية ألمانيا الاتحادية وفق نظام ديمقراطي حر سعى منذ نشأته إلى الوحدة الألمانية الكبرى, أما في الشرق فقد وجد النظام الشيوعي ذاته في جمهورية ألمانيا الديمقراطية التي يحكمها الحزب الاشتراكي الألماني الموحد. حكم ديكتاتوري فرض قيوده على البلاد, وبنى شهرته على عزلها عن الغرب, وكان إنشاء جدار برلين في 1961 تتويجًا لحالة الاغتراب المتزايد بين مطرقة السلطة وسندان الشعب.

ظل هذا الجدار مقبرة الراغبين في التحليق بجناحي الهروب نحو الحرية والرخاء, الحرية المفتقدة في بلدهم, والرخاء الغائب عنه, في ظل بنية تحتية أخذت تنهار عامًا بعد آخر. كما شهد ذلك الجدار الفاصل بين شرق برلين وغربها مصرع الآلاف برصاص مواطنيهم من جنود يمنعونهم من فكرة اللقاء مع الآخر في الغرب. بعض الهاربين كان يلجأ إلى الممثلية الدائمة لجمهورية ألمانيا الاتحادية فيعتصم بها حتى يحصل على وعد قاطع بالسفر إلى الغرب. وإذ تضيق الممثلية بلاجئيها وتتعرض للإغلاق مرة بعد أخرى تتحول السفارة الألمانية الاتحادية ذاتها إلى بساط الريح الذي سيحمل هؤلاء الناجين بأحلامهم من الديكتاتورية.

في منتصف الثمانينيات يبزغ نجم الأمين العام الجديد للحزب الشيوعي السوفييتي ميخائيل جورباتشوف, وتبدأ لقاءاته بنظيره الأمريكي الرئيس رونالد ريجان في مؤتمرات لبناء الثقة حينا, وحينا لنزع الأسلحة أو تخفيضها في أوربا. وفي خلفية السياسة المغايرة ينهض مشهد جديد في مجالات الثقافة والفنون والتعليم والعلوم وحماية البيئة بين شطري ألمانيا. فيشهد عام 1986 بين مدينتي سارلوي وأيزنهوتنشتات قيام أول علاقة توأمة بين شرق ألمانيا وغربها. وإذ تنخفض حدة التوتر بين الشرق والغرب تقوى المطالبة بالإصلاح في ألمانيا الديمقراطية, وتتنامى المظاهرات في 1988 تتبعها حملة اعتقالات يائسة من سلطة بدأت قبضتها تصاب بالوهن. الاعتقالات تتوقف حين تصل المظاهرات إلى ذروتها فيما عرف داخل مدينة لايبزيغ بمظاهرات يوم الاثنين (الموافق السادس من نوفمبر 1989) وأمها نحو 450 ألف متظاهر!

وتدفع المظاهرات كلا من مجلس الوزراء والمكتب السياسي للحزب الاشتراكي الألماني الموحد إلى تقديم استقالة جماعية, محدثة شللا في أجهزة الدولة, ويندفع الآلاف إلى معابر الجدار ليجتازوها إلى برلين الغربية. وتجري في العام التالي انتخابات عامة وحرة يتشكل بعدها تحالف من أجل ألمانيا, وفي أغسطس 1990 يوافق مجلس الشعب على انضمام جمهورية ألمانيا الديمقراطية رسميا إلى جمهورية ألمانيا الاتحادية وليصبح الثالث من أكتوبر عيد الوحدة الألمانية, الوحدة التي لم تشهد قطرة دم واحدة.

أمام بوابة براندنبورغ

أصل إلى ساحة بوابة براندنبورغ, بعد 13 عاما بالتمام والكمال من عمر الوحدة. أسأل عن بقايا الجدار.. وحين تأتيني الإجابة أتعجب, لم يبق منه شيء!! صحيح أنني سأرى جزءا منه خلال الأيام التالية وهو يحمل توقيعات حراس وجنود ألمان وروس كانوا شهودًا على سنوات الألم, لكن الجدار نفسه أصبح شبحا ينتمي للماضي. يمضي بي البحث إلى مركز لبيع البطاقات البريدية. داخل بعض البطاقات علب دائرية من البلاستيك تحوي أحجارًا ملونة تشبه شظايا غير منتظمة. إنها كل ما بقي من جدار برلين وقد تحول إلى هدايا تذكارية. تأملت البطاقة التي ربضت خلفها بوابة براندنبورغ - بعد أن أصبحت رمزا لبرلين والوحدة الألمانية - وكان السور - آنذاك - على بعد أمتار خلفها, ليصبح الآن على بعد سنوات ضوئية من الذكريات. وقد بنيت البوابة فيما بين عامي 1788 و1791 ميلادية وهي الوحيدة التي بقيت قائمة من بوابات المدينة القديمة, وفوقها تجر الخيول عربة النصر والحرية على سقف يحمله 12 عمودا, موزعة إلى أعمدة خلفية وأمامية, وأدناها خمسة معابر. ذهب الجدار وبقيت ظاهرة لافتة وهي استمرار رسم جدران أخرى في أكثر من مكان لتشبه ما كان عليه الجدار. أتعجب من الذين لا يقرأون التاريخ - تاريخ انهيار جدران الفصل العنصري - وكنت أود أن أرسل إليهم هذا التذكار, لولا أن أحدًا يفصل بين شطري الجسد الواحد لا يستحق بطاقة بريدية!

أمام البوابة سياح ومواطنون, عازف بيانولا يبتسم وهو يردد نشيد الحرية والوحدة مع الأغاني التقليدية, وسائقو ريكشا ألمانية أنيقة ينتظرون على الجانبين أيا من الراغبين في التجول في الساحة التاريخية الشهيرة, التي تنتصب أمامها اليوم كرة قدم عملاقة تحيي فوز ألمانيا باستضافة بطولة كأس العالم 2006. والبوابة تحمل اسم ولاية براندنبورغ التي تحيط بولاية برلين, ويمتد من قلبها طريق حتى نصب النصر التذكاري. وإذا كانت ولاية برلين تبلغ مساحتها 889 كيلومترا مربعا, فإن ولاية براندنبورغ تبلغ 29 ألفا و479 كيلومترا مربعا, وعاصمتها بوتسدام التي شهدت في صيف 1945 مؤتمر قادة الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة وبريطانيا والألمانيتين بما صدر من قرارات استمر تأثيرها نصف قرن. برلين وسط براندنبورغ تشبه الوردة البيضاء في قلب مرج أخضر.

نهر.. وقرية صيادين!

زرقة الأفق توشي ثوبها سحبٌ تشبه كراتِ القطن. يتسلل نهر شبريه شمال برلين من شرق المدينة إلى غربها, يتعرج مثل خط طفولي يلهو في انحناءاته والتواءاته. يضيق هذا النهر في أحيان كثيرة فيكاد يشبه شارعا مائيا رصيفاه العمارة التقليدية  والخضرة الأبدية. أتجول وأنا أبحث على ضفتيه عن تاريخ المدينة فتدلني عليه عمارتها. أبواب لا تزال تحتفظ بالتقاليد الألمانية العريقة في العمارة من حيث الاحتفاء بالنصب التذكارية, وتردد قيمة الأعمدة التي تحدد المداخل خاصة في القصور الضخمة. أسمع حوارًا فنيا بين الأيقونات الرخامية التي تنتصب على الأبواب: وردة مرة, ومربع مرة أخرى, ثم وردة ومربع معًا, كأنها نوتة موسيقية بعلامات حجرية. تتحول الورود والدوائر والمربعات والأقواس إلى فتاة وبستان, أو إلى رجل يعزف, ثم الاثنين معا, كأن الأبواب أغلفة لكتب الحكايات الشعبية, تزحف عليها أحيانا أشجار نوادر الأخوين جريم.

تستوقفني سيدة في الستين تتحدث إلي بالألمانية التي لا تزيد مفرداتها عندي على أصابع اليد الواحدة. جذبتها آلة التصوير التي أحملها مع رغبتي في توثيق أشكال تلك الأبواب التي تطل على النهر. تعرفني على نفسها, اسمها موتسر إيبرينغ وعملت مصورة في الشرق. أعرف أنها سافرَتْ من الجزيرة العربية إلى أهرام مصر, لكنها اليوم تكتفي بنزهة يومية على الرصيف العامر بظلال الأشجار. تستمتع برؤية النهر الذي يسير قرب منزلها. والمشي رياضة يومية للأجيال جميعا (وغالبا مع الكلب الصديق الحميم للكثيرات هنا!). ولا تنافسه سوى رياضة ركوب الدراجات - وخاصة في أيام الآحاد - حين يخرج الجميع, الأزواج والأبناء والأصدقاء على دراجاتهم يجوبون المدينة. في إحدى محطات المترو سيكون مشهدا مألوفا أن يأخذ الراكب دراجته معه!

إنها برلين.. حيث يرسم نهر شبريه, ذلك الشريان العذب, تاريخ المدينة التي أنشئت في العام 1237م. وخلال مئات السنين, ظلت برلين مجرد قرية لصيادي أسماك وملتقى للتجارة القادمة من - أو الذاهبة إلى - مركز الدولة البروسية. ومع تنامي اقتصاد برلين, واتحادها مع كولن إبان تحول بروسيا إلى قوة عظمى, تصبح المدينة بعد تأسيس الرايخ الألماني في العام 1871 مركز ألمانيا الثقافي والصناعي والعلمي والسياسي في آن. واليوم بعد أكثر من 230 عامًا تؤكد برلين هذا الحضور الثري والتنوع الغني عبر كل مشهد, وأكاد أقول عبر كل ناصية.

في طريقنا إلى قلب المدينة يتحول المشهد المعماري الرصين المتناسخ على ضفتي شبريه إلى بنايات شاهقة, يختفي فيها الحجر التقليدي المميز للعمارة البرلينية ليحل الزجاج محله. بل إن بعض البنايات التقليدية هنا ألبستها التغييرات المعمارية أزياء زجاجية لأغراض جمالية أو اقتصادية أو أمنية أو طقسية (بحثا عن الشمس)! أتوقف عند ثلاثة أبراج تبدو كأشرعة شاهقة تبحر في محيط من المباني الجديدة عند ما يسمى (المركز الجديد), في ساحة تحمل اسمًا سينمائيا خالدًا: مارلينه - ديتريش. يحكي لي ناجي عباس - وهو كاتب وصحفي بدأت أيامه في برلين مع الوحدة - عن حدث معماري كبير عندما قررت شركة سوني بناء برجها المميز - الذي ينتصب أمامنا - استكمالا لحضورها العملاق. ويكتشف المسئولون الألمان أن المكان الذي اشترته سوني مقام فوقه سينما عمرها عدة عقود, مما يجعلها تاريخية لأهل برلين, وأن هدمها لا يجوز. وتعرض سوني على الجهات الرسمية نقل السينما التي يبلغ ارتفاعها عدة طوابق مشيدة على مساحة عدة مئات من الأمتار المربعة. وكان يومًا مشهودًا اجتمعت فيه ناقلات عملاقة لتحمل المبنى بعد أن تمت إحاطته بشبكة معدنية هائلة - تماما كما يحدث عند نقل شجرة - وتنتقل السينما إلى مكان لا يفصلها عن مكانها الأصلي سوى شارع واحد, مع تعديل واجهتها أيضا!!

وإذا كنتَ مثلي لم تشهد ذلك الحدث إلا أنك حين تبلغ أي ركن بالمدينة سترى الإعمار ينهض بالجديد في مبناه وتصميمه. وسترى تلك الروافع البرجية الديناصورية تربض في حفرة عملاقة هنا أو مساحة خالية هناك. مثلما تجد كثيرًا من اللوحات الإرشادية تعلن عن ميلاد مشاريع جديدة, وتحول عدد كبير من المباني التاريخية العتيقة إلى مقرات حكومية, ومنها مبنى الوزارة الاتحادية للاقتصاد والعمل, الذي كان في الأصل مستشفى خدم خلال الحربين. وستلاحظ في الأبنية الجديدة كيف استبدلت بالنقوش الرخامية وريثة الفن واجهات خرسانية زجاجية حينا وأخرى معدنية, تعكس في كثير أو قليل وجه العولمة الزاحف على العناصر العتيقة التي خلفها الفن والزمن. لكن ما لم يستطع المعماريون إخفاءه تلك الخضرة التي لا تنام في برلين, أو ربما تكون أول من يستيقظ في مدينة تبدو هادئة حين تعبرها حافلات السياحة العملاقة. اتسعت المدينة بشكل هائل ليس فقط لتسع سكانها البالغين أكثر من ثلاثة ملايين و400 ألف, وإنما أيضا لتعج بزوارها, الكل يأتي هنا لحضور مهرجانات أو للمشاركة في مؤتمرات أو إقامة شراكة عبر معارضها العديدة.

ينضم إلينا الدكتور نادر فرجاني, المحرر الرئيسي لتقرير التنمية الإنسانية في العالم العربي, ضيوفا على عبد العظيم حماد نائب رئيس تحرير الأهرام, ومدير مكتب الجريدة في فرانكفورت, جميعنا ضيوف المؤتمر, لكننا في هذه الأمسية نلبي دعوة حماد إلى (مطعم جورج), وهو على صغره من المعالم التي يؤمها العرب في هذه المدينة. قال لي جورج صاحب المطعم: أتيت إلى هنا قبل أربعين عامًا. بدأت رحلتي خارج مصر بالعمل في ميناء الكويت, ثم استدعيت لمصر لتأدية الخدمة الإلزامية, وبعدها رست بي سفينة الحياة في برلين ومنذ ذلك الحين وأنا أسير هذه المدينة الجميلة.

يضيف جورج وهو يشير إلى مجموعة من الصور على الجدران تحكي تاريخ المدينة: كل العمالقة مروا من هنا. وأنا سجلت بعدستي زيارة كيندي, لقد أمضى هنا ثماني ساعات في 26 يونيو 1963, وقد أقيم منذ شهور معرض يؤرخ لهذه الزيارة التاريخية. تعرف هذه المدينة لها تاريخا رسميا وآخر غير رسمي. لكنهما متقاطعان بشكل عجيب. فأنا شاهدت أرنولد شوارزنغر عندما جاء إلى برلين مجرد لاعب كمال أجسام درجة ثانية, في 1966, بل إن رياضيا عراقيا اسمه الجيار هزمه في مسابقة جمعتهما. واليوم أين هما الآن.. أحدهما يسعى لرئاسة الولايات المتحدة بعد فوزه حاكما لولاية كاليفورنيا, والآخر أصبح سائق لوري, مع زوجتين و19 طفلا! وقد عرفت أن الجيار عاد إلى العراق ليرأس جمعية لكمال الأجسام تعطيه 200 دولار سنويا, في حين أن ثروة أرنولد تتجاوز 100 مليون دولار!

عاد بنا جورج - بقائمة وجبات مطعمه - إلى الشرق: بط وحمام وسمك وأرز وحمص وخلافه. وبرلين تنافس عواصم العالم في كونها جنة راغبي الوجبات العالمية: كباب الباشا الاستانبولي, والسوشي الياباني, والكوتش التايلاندي الأصلي والاسباغيتي الإيطالية, والطواجن الإسبانية (الحريفة), والكبة الشامية, والمياه الفرنسية, والأعشاب الإفريقية, والتوابل الهندية, ولا تنسوا.. الفلافل المصرية! وكل ذلك تشتريه بعملة موحدة هي اليورو, الذي يقوى عوده يومًا بعد يوم أمام ملك العملات (سابقا) الدولار الأمريكي.

ثلاث كلمات من شيللر

انتهت جولة الصور - والطعام - مع جورج, لكن رحلة توثيق العاصمة الموحدة لم تنته. أستيقظ في ساحة (جاندارمن ماركت) القريبة من الفندق. تدلني عليها بطاقة بريدية للمكان التقطت صورتها في العام 1910. بين صورة بدايات القرن العشرين واليوم تشابه مذهل, كأن شيئا لم يختلف. لكن الحقيقة أن هذا المكان قد أعيد ترميمه بالكامل, ألتقط بطاقة بريدية أخرى للساحة وهي تحترق خلال قصف المدينة أثناء الحرب العالمية الثانية وبالتحديد في الرابع والعشرين من مايو 1944. كانت المدينة قد منيت - خلال الحرب التي فجرها النازيون - بكارثة التدمير, فاختفى وسطها مثلما اختفت أحياؤها الصناعية تماما. كان عدد سكانها قبل الحرب أكثر من عدد سكانها اليوم بعد أكثر من 44 عامًا (بلغ في 1939 أكثر من أربعة ملايين نسمة). في ساحة جاندارمن ماركت تتقاسم كنيسة ألمانية وأخرى فرنسية طرفي المكان, بينما يتوسطها مسرح فيلهارموني يستضيف حفلات الموسيقى الكلاسيكية, كما يستضيف أمامه عازفا آخر للبيانولا. ويقف أسدان من الحجر حارسين لهذا البيت الموسيقي, بينما يقرأ القصائد أمام ذلك الحشد كله تمثال للشاعر الألماني الكبير فريدريك شيللر (1759 - 1805), أكاد أسمعه ينشد:

لديَّ ثلاثة دروس أودُّ أن أدونها
ثلاثُ كلمات سأكتبُها بقلم يحترق
لأصل بها إلى الضوء الخالد
ثلاثُ كلمات عن قلوب البشر:
فليكن عندنا أمل..
حتى إذا غيمت السحب حولنا
وكاد السرور ان يختفى من وجهنا
حاملا الظلال بعيدًا
وإن لم يكن لليالي سوى لون الحداد!
فليكن عندنا إيمان..
حيثما نحل تنقشع الغمة وتهدأ العاصفة!
فليكن عندنا الحب..
يا سكان الأرض!
ليس حب شخص واحد وحسب,
بل حب الإنسان, كإنسان, إنه نداء أخوي
ليعم حب الإنسانية الجميع!

في هذه الساحة أمام كلمات وتمثال الشاعر الألماني الكبير تشهد برلين كل عام حفلات موسيقية في الهواء الطلق يحضرها الآلاف, ممن يضيق بهم المكان التاريخي. وبرلين تحتفل بشعرائها وشعراء العالم على حد سواء وقد سبقت رحلتي بأيام إقامة مهرجانها السنوي للقراءات الشعرية, حيث استمع 14 ألفا - ممن لا يزالون يؤمنون بقوة الشعر الروحية - إلى 250 شاعرا من كل أنحاء العالم, ومنهم - من الولايات المتحدة جوناتان فرانزن, ومن بريطانيا حنيف قريشي, ومن الهند آنيتا ديساي ومن الصومال نور الدين فرح..

برلين تجمع عشاق الشعر والمسرح والسينما والموسيقى والفن التشكيلي.. لأن بها شعبا يعشق الحياة, وحكومة تتمنى أن تصبح قلب العالم عبر عاصمتها الموحدة. والأرقام تجعل برلين ثالثة أكثر المدن الأوربية شعبية بعد لندن وباريس, حيث يقضي 68 مليون شخص سنويا يوما واحدا على الأقل في المدينة, ويقضي بها يوما سبعة ملايين زائر من رجال الأعمال يستضيفهم الأصدقاء أو الأقارب, وبعد سقوط الجدار اختار مليون شخص الانتقال للسكنى في برلين, فيما رحل عنها مليون آخر للضواحي حولها أو لولايات ألمانية أخرى مما يعني أن ثلث سكان برلين جاءوها للمرة الأولى بعد 1990.

برلين التي يبلغ عدد متاحفها 170, وعدد دور السينما بها 265, وعدد المسارح 150, وعدد مكتباتها 250 (على ذكر الكتب, توجد بألمانيا 2000 دار نشر منها 100 دار تتجاوز مبيعاتها السنوية 25 مليون مارك, تنشر 70 ألف عنوان جديد سنويا, وتضم نوادي أصدقاء الكتاب نحو سبعة ملايين قارئ), فضلا عن 300 قاعة لعرض الفنون التشكيلية تعرض لكل فناني العالم بدءا من ألف يورو للعمل الواحد, هذه المدينة تشهد كل يوم ما يصل إلى 1400 حدث ثقافي واقتصادي وسياسي, ويزور متاحفها سنويا 15 مليون شخص بينما يحضر حفلاتها المسرحية 3 ملايين ونصف المليون شخص! واليوم, بعد أن أصبحت مقرا للحكم, باتت أيضا قبلة الساسة العالميين!

وتسعى برلين أيضا إلى أن تحتفي بدورها الاجتماعي العالمي, إنها تريد أن تثبت ليس فقط كونها رمزا لوحدة ألمانيا بل إنها ساحة لتوحيد العالم: ففي حديقة في منتصف المسافة بين الرايخستاغ (مبنى البرلمان حاليا) وساحة مارلينه - ديتريش, وقرب بوابة براندنبورغ نرى دببة العالم. ليس فقط الدب الألماني أو الروسي, بل دببة من 123 بلدًا تحت فكرة: يجب أن يتعرف كلٌ منا على الآخر, فإن ذلك يجعلنا نفهم بعضنا بعضا, وأن يثق كلٌ منا في الآخر, وأن نحيا معًا تحت خيمة السلام. المكان نموذج لمشروع فني عالمي قام فيه 123 رسامًا بتلوين دببة تحمل سمات بلادهم, ضمن مشروع بدأ في نوفمبر 2003رحلة طواف عالمية يحج فيها إلى عدة عواصم, قبل أن تعرض الدببة في مزاد لصالح اليونيسيف.

لا تحاول المدينة نسيان الماضي, بل ربما تعالجه على طريقتها, أقول ذلك وهي تمنح اليهود بها - على قلتهم - مبنى تاريخيا يحمل قيمة فنية كبيرة, وأقصد هنا إلى (نيو سيناغوغه) الذي بني على شاكلة قصر الحمراء في غرناطة, كأن اليهود طردوا من الأندلس فأتوا بأجمل رموزها. لواجهة (نيو سيناغوغه) الأمامية طابقان ومئذنتان وقبة تتوسطهما, غير أن النجوم السداسية تحتل أماكن الأهلة! وصمم ذلك النموذج المعماري - الفريد في برلين كلها - وبناه المعماريان إدوارد نوبلوتش وخلفه أوغوست شتولر. ويميز الجدران الحجر ذو اللونين (مثل جدران المسجد الأموي) كما يزين النوافذ ألوان الأرابيسك. ورغم تهدم جزء كبير من المبنى خلال غارات 1943 فإن ترميمه بدأ منذ 1988 حتى عاد ليستقبل - بدءا من 1995 - معارض الجالية اليهودية ولقاءاتها ووثائقها أيضا! وعرفت أن ذلك المبنى ينهض له أشقاء كل فترة في باقي المدن الألمانية, حتى في تلك المدن التي لا يزيد اليهود فيها على عدة آلاف وحسب (في برلين 10 آلاف, وفي ألمانيا كلها 70 ألفا من اليهود, بينما يبلغ عدد المسلمين مليونين و600 ألف من 41 بلدًا)!

هل تحاول برلين تجفيف الدموع? ربما! جال ذلك بخاطري وأنا أعبر قرب محطة القطارات في فريدريك شتراسه بجانب قصر الدموع. فخلال فترة التقسيم, وبين محطتي القطار الأولى في الغرب (بانهوف تسو) والأولى في الشرق (بانهوف فريدريك شتراسه) يقف بناء شاهدًا على ما كان يجري عند نقاط التفتيش بين قسمي قلب المدينة. هذا المبنى الذي شهد دموع المفارقين أهلهم الواقفين خلف زجاجه السميك تحول في 1990 إلى معلم تاريخي. لعلك تنظر إلى واجهته فلا ترى سوى ذلك الزجاج الصامت, الذي يقسم الصورة إلى ألف مربع ومربع, صور المعذبين بين الألمانيتين, بكاء كان هنا, ونحيب كان هناك. إنها الحرب التي لم يع درسها أحد, سوى الألمان ربما. وما زلت أتمنى أن تقام قصور للدموع والرماد تدشن نهاية تاريخ الحروب على حدود فلسطين وبوابات كشمير وعتبات قبرص وحواجز الكوريتين.. 

شاهدة على التحول

على مقربة من الرايخستاغ تقف دار المستشارية الألمانية حيث سنجتمع أيامًا مع المشاركين في مؤتمر (عمليات التحول في بلدان الشرقين الأوسط والأدنى) وهو كما وصفته وزارة الخارجية الألمانية (ندوة حوار متعدد الأطراف), نظمها وخطط لها معهد العلاقات الخارجية في شتوتغارت. لقد اختارت برلين دار المستشارية في رسالة لضيوفها العرب تعبر عن قيمة الحدث النوعي, وأهمية الحوار الألماني - العربي (ولا أدري سببا لترويج مصطلح الشرقين الأوسط والأدنى بديلا عن البلدان العربية). ومثلما كانت برلين أبرز شاهد على التحول داخل الأرض الألمانية, هاهي تصبح شاهدًا على ما يتم في الوطن العربي من تحولات. السيدة بربارة كونرت - رئيسة المؤتمر, وترأس أيضا شعبة منتديات الحوار بمعهد العلاقات الخارجية - تتقدمنا لتجعلنا نعبر المرحلة الأولى من السياج الأمني لدار المستشارية دون تفتيش. لكن السياج الأمني الداخلي فوق رءوس الجميع: زوار المستشارية من السياح, وضيوف المؤتمرات التي تعقد كل يوم في قاعات المستشارية, والإعلاميين الذين يفدون كل يوم لتغطية مؤتمرات المستشار الألماني الصحفية, مع الساسة من ضيوف العاصمة.

المبنى الهائل الذي يقع في شارع المستشار الألماني - فيلي برانت شتراسه - مصمم بطريقة عصرية ترسي مبادئ الفن المعماري الحديث الذي تتبناه ألمانيا اليوم, بعد أن خرجت - أو كادت - من تقاليد عمارة النهضة الأوربية التقليدية. شرفة المبنى تطل على نهر شبريه ومن حديقته تستطيع رؤية مبنى الرايخستاغ. الفن يعلن عن نفسه في أكثر من مشهد: صور المستشارين الألمان بلوحات زيتية كبيرة في الردهة الأولى (تعجبت من أن صورة كول لم تعلق بعد.. ويبدو أن رسمها سيستغرق فترة أطول من المتوقع نظرا لحجم المستشار الألماني السابق!).

أدنى الدرج المفضي للحديقة يقف تمثال لامرأة عارية, أهداه نحات صديق للمستشار الألماني شرويدر. فطرية التمثال ولونه الداكن لا يعبران عن ألمانيا قدر تعبيرها عن مفردة الخصب الأنثوي, لكن التعليقات تتكرر - كما يقول دليلنا - من كل الزوار, بأنه غير ملائم! وبعد جولة في المكان تجمعنا مع الألمان طاولة رسمية مستديرة في قاعة المؤتمرات الدولية, رجال سياسة وفكر وإعلام من المغرب وسوريا والعراق والأردن ولبنان والبحرين والإمارات وقطر وسلطنة عُمان وفلسطين والكويت ومصر. وإذا كانت الملتقيات الناجحة هي التي تثير أسئلة أكثر مما تعثر على إجابات, فإن هذا الملتقى كان بين هذه الساحات التي اجتازت عتبات النجاح, خاصة عندما تحول الملتقى في أحيان كثيرة إلى مواجهة ساخنة, بين الألمان والعرب - على اختلافهم حتى مع أنفسهم - ويكاد يكون بينهم اتفاق على توجيه الاتهام حينا واللوم أحيانا لألمانيا على دورها - أو عدم القيام بدورها - في صراع الشرق الأوسط الأزلي. وكانت البداية مع بعض نماذج الديمقراطية في الوطن العربي.

التجربة البحرينية

عرض الدكتور حسن البستكي الأمين العام لمركز الدراسات والأبحاث في البحرين صورة (الإصلاحات الديمقراطية في البحرين كعملية مستمرة). ولخص البستكي أعراض هذه الإصلاحات في عناصر خمسة هي الإصلاحات السياسية, وحقوق الإنسان, ومساواة النساء, وحرية الصحافة والتعبير, ومنظمات المجتمع المدني. وكانت الإصلاحات السياسية قد عبرت عن نفسها بمملكة البحرين في دستور العمل الوطني الذي دعا لتخطيطه الملك حمد في 23 نوفمبر بلجنة مشكلة من 46 عضوا من رموز العمل السياسي في البحرين, منهم ست نساء وبعضهم بين قوى المعارضة. وشمل الدستور الذي قدم للملك بعد شهر واحد من ذلك التاريخ مجموعة هائلة من القيم الإصلاحية السياسية, كان من نتيجتها لاحقا أن تعرف الشعب إلى نظام التصويت الانتخابي الحر - للمرة الأولى - في الانتخابات البلدية (مايو 2002) والانتخابات البرلمانية (أكتوبر 2002) والتي ضمن نزاهتها مراقبتها من قبل جمعية حقوق الإنسان وجمعية للشفافية ومنظمتين بحرينيتين غير حكوميتين.

وكانت البحرين قد شهدت في ربيع 2002 إنشاء أول مركز لحقوق الإنسان في الخليج, ومن مهامه فضلا عن إجراء الأبحاث, توثيق كل ما يتصل بحقوق الإنسان والتدريب على المجالات المرتبطة بها.وفي معرض حديثه عن المساواة الممنوحة للمرأة البحرينية أشار البستكي إلى زيادة أعداد المتعلمات في مراحل التعليم المختلفة عن أعداد المتعلمين. وإذا كانت الجمعيات النسوية التي بدأ نشاطها في البحرين خلال الستينيات قد ركزت على الأمور الأسرية فهي اليوم قد انطلقت إلى ميادين السياسة وقطاعات العمل الأخرى. وتبلغ نسبة المرأة في لجان الجمعية العمومية للعمل في البحرين 14 % وانطلقت المرأة البحرينية سفيرة حيث تمثل الشيخة هيا بنت راشد آل خليفة بلادها أمام الاتحاد الأوربي وفرنسا وإيطاليا والفاتيكان. فضلا عن أن الجامعتين الرئيسيتين بالمملكة ترأسهما أكاديميتان. وبعد أن عرض البستكي ورقته مفصلا لقيم الحرية في مملكة البحرين التي منحت للصحافة وحرية التعبير, وتقوية دعائم منظمات المجتمع المدني, خلص إلى أن التحول الديمقراطي ليس اختياريا بل هو الخيار الوحيد في مجال الإصلاح السياسي, وهو ليس إصلاحا لمرة واحدة, بل يجسد عملية متواصلة تسعى للنهوض بالمجتمع.

التجربة البحرينية تلتها ورقتان تحدث في أولها هاني شكر الله مدير تحرير جريدة الأهرام ويكلي الأسبوعية الإنجليزية عن المهانة القومية التي أفضت إلى أزمة الديمقراطية في العالم العربي. شكر الله قال (لتكن إسرائيل هي البداية, فليست ديمقراطية أن يهيمن خمسة ملايين على مقادير 5 ملايين آخرين لمدة نصف قرن. ولسنا - كعرب - مولعين بإحالة حلول مشاكلنا على الآخرين, ولكن تنامي الشعور بالمهانة, منذ ما بعد الحقبة الكولونيالية (الاستعمارية) يشكل مأزقا حقيقيا لجوهر الديمقراطية في وطننا العربي. فنحن أمام منطقة تمثل استثناء فريدًا ومذهلا, لأن رياح التغيير تهب على العالم كله منذ 20 عامًا, لكن هذه الرياح تتحول إلى نسيم عليل حين تصل شواطئنا. وإذا كان علينا أن نتضامن مع الآخرين, فيجب - بداية - أن نكون قادرين على الدفاع عن أنفسنا. لقد خرج الإيطاليون لمظاهرة ضد الحرب في تضامن مع شعب غير شعبهم, لأنهم خرجوا قبل ذلك في إضراب ضد قانون العمل الظالم. ويجب ألا تكون حياتنا أمام خيارين إما الخضوع أو الموت, لابد من وجود طريق آخر, وكما يقول إدوارد سعيد, هناك طريق ممكن, وهو طريق للحياة والحرية في آن واحد).

ولخص الدكتور محمد شحرور المفكر الإسلامي وأستاذ الهندسة المدنية في جامعة دمشق ورقته التي دعت إلى (ضرورة البدء في إصلاحات ثقافية - ودينية على وجه الخصوص - لتطوير الديمقراطية في بلدان الشرق الأوسط), مؤكدًا أن (مفهوم الحرية لا يزال ضعيفا في الوجدان العربي. وهو ما يعزز حاجتنا إلى النقد وتسمية الأمور بمسمياتها, وأن يكون لدينا تجديد للدين, وليست هذه بدعوة إلى دين جديد. وإن عدم وجود فقه دستوري في التراث مرده إلى اعتمادنا على ثقافة النقل, في حين أن هذا الفقه يحتاج إلى إعلاء قيم الإبداع).

الأوراق الثلاثة أججت الكثير من التعليقات وأبرزها انتقاد البروفسور يوخن هبلر للتجربة البحرينية - نموذجًا للتجارب العربية - بأنها تأتي منحة من الحاكم, وبالتالي يمكن أن يتبدل الحال فيحرم منها الشعب. وهذا الانتقاد لقي الكثير من الاعتراض أبرزه ما جاء على لسان الدكتور عصام الرواس عميد كلية الآداب بجامعة السلطان قابوس, الذي انطلق يرسم بكلمته مشاعر عرب كثيرين, ممن حضروا المؤتمر, أو غابوا عنه: (ديمقراطيتنا ليست مقبولة منكم, ونموذج البحرين الذي اعترضتم عليه لم يأت من أعلى, وإنما جاء بعد سعي من جموع المحكومين. والواقع أنكم أمام مشكلة تاريخية نفسية أمام دولة إسرائيل, ولذلك تدعمونها وتساعدونها على حساب أمة بأسرها, ونماذج الغرب في دعم الأعداء والاستهانة بنا كثيرة. نذكر كيف استخدمت فرنسا سطوتها لإسقاط أول انتخابات ديمقراطية في الجزائر, لأن الحكم كان إسلاميا, وبقاء حالة إسرائيل سيصل بالحركات الإسلامية إلى الحكم. وبالأمس عانيتم في ألمانيا من الجدار الفاصل, هنا في برلين, وكان يجب أن يصيبكم التقزز من فكرة قيام جدار مماثل في القرن الحادي والعشرين, لكنكم اليوم لم تصوتوا ضد إقامة الجدار (الذي عرض في مجلس الأمن فجر ذلك اليوم) من أجل لعبة سياسية, أو ربما لقسوة الشعور التاريخي والنفسي) المفروض.

كتاب الأسئلة

كانت الجلسات الساخنة تتقاطع حينا مع لقاء بمسئول ألماني رفيع, أو الخروج قليلا لفضاء قاعات المستشارية الرحب. وشهدت أيام المؤتمر أكثر من إضاءة لمناخ الديمقراطية والحرية في ألمانيا, فرحلتنا البرية إلى هامبورغ كانت للتعرف على تجربة ديرشبيجل في الديمقراطية والإعلام عنها, حيث إنها المجلة الأولى في ألمانيا (يقول مدير تحرير قسم الشرق الأوسط ديتر بدنارتس إنها توزع أسبوعيا مليونا ومائة ألف نسخة, ويملك المحررون نصف أسهمها هدية من مؤسسها) ويتناوب على رئاستها كل أسبوعين رئيسان للتحرير, وتناقش الأخبار يوميا في اجتماعين, قبل إجازتها. وفي هامبورغ أيضا تعرفنا على تجربة تليفزيون الدولة الإخباري إن دي آر كما عرضها الدكتور برنهارد فابنتس وجوليانا أيزنفور. وفي برلين التقينا مع ممثلين للبرلمان والوزارة الاتحادية للاقتصاد والعمل. والتقينا مع وزيرة العدل الاتحادية بريغيتا تسيبريس حيث دار الحديث عن تطور نظام دولة القانون في ألمانيا, بين تشريع القوانين وتنفيذها.

كان المترجمون الثلاثة, الدكتورة شريفة مجدي والدكتور حسن حمدان وغيرت هملر قد جعلوا من اليسير أن تصبح لغة المؤتمر هي اللغتين الألمانية والعربية, ربما درءا لعولمة اللغة الإنجليزية! وإذا كان سعي وزارة الخارجية الألمانية لهذه اللقاءات ظاهرُهُ قراءة الأوراق العربية للتحول في الشرق, فإن بَاطنَه ظل البحث عن حلول سياسية واقتصادية مشتركة, خاصة أننا عرفنا في الوزارة الاتحادية للاقتصاد والعمل أن الألمان منزعجون من أن العالم العربي لا يستورد سوى 3% من حجم صادرات ألمانيا للعالم. ومن المعروف أن الاقتصاد الألماني يعاني صعوبات عدة أهمها البطالة, ففي ألمانيا 4 ملايين عاطل عن العمل, ونسبة البطالة فيما كان ألمانيا الشرقية تصل إلى 18 بالمائة لكنها توازي 10% في الغربية. ويعد نقص المؤهلات أهم المعوقات التي تواجه الحصول على عمل ثابت. ولم تعد مسألة رفع الأجور واردة اليوم. لكن الحلول الابتكارية تجد لها مكانا مثل شركات الفرد الواحد, التي وصلت العمالة بها اليوم إلى 60 ألفا. كان كل لقاء وجلسة يثيران عشرات الأسئلة, كأن الجميع متفق في البحث عن الإجابات بدلا من تقديمها.

وفي قالب أسئلة وإجابات, وباستفاضة تحدث عبد الله بشارة, السفير الكويتي السابق لدى الأمم المتحدة, ورئيس المركز الدبلوماسي للدراسات الاستراتيجية بالكويت, وعضو الهيئة الاستشارية لمجلس التعاون الخليجي, وأمينه العام السابق, عن أسئلة تتداولها الديوانيات الكويتية التي عدها منابر سياسية يومية للحرية, وذكر أن عددها سبعة آلاف: (لماذا توجد ظاهرة الضيق من الديمقراطية في الكويت? لأن الدستور لا يعطي الحكومة الأغلبية لكي تشرع وفق القانون أو المتفق عليه. كيف تتأخر دولة الديمقراطية في الكويت? لأن الحكومة الكويتية لا تستطيع اتخاذ قرارات حاسمة ومؤثرة لأنها لا تملك الصيغة الدستورية الكاملة. ما هي أدوات الديمقراطية? الأحزاب.. ولأنها لا توجد فقد تمت تزكية القبلية). وقال بشارة (إن التجربة الديمقراطية لا يمكن أن تقوم في الخليج استنادا إلى أنها تتطلب تعطيل دولة الرفاه, وهو ما يتعارض مع توطين المهن, وإلغاء الدعم, وإدخال المستثمر الأجنبي إلى حقول النفط, وهو ما يتعارض مع السيادة الوطنية. وأضاف أن الذهنية الاستهلاكية من ضمن المعوقات الرئيسية. وأن البديل لعدم استطاعة الدولة الخليجية أخذ اللباس الديمقراطي الغربي هو الصيغة القطرية أو البحرينية - التي استفادت من التجربة الكويتية - وهي قد تصلح لفترة محدودة فقط).

واختار عبد الله بشارة في كلمة ختامية ثانية أن يعدد نقاطا من كتاب ألف ليلة وليلة السياسي, تشير في مجملها إلى رياح التغيير, ومنها: (فشل الأنظمة الديكتاتورية, وضعف نظام الحزب الواحد, وانحسار الأيديولوجيات, ونهاية ثقافة التعتيم, والانفتاح الإعلامي بفضل ثورة الاتصالات, والتوجه لليبرالية السياسية والاقتصادية, ومراجعة التعليم لسيادة العقل, وحرية الشعائر والعبادات والأديان, وحقوق الأقليات, والدعوة إلى شفافية الممارسة والمحاسبة, والتركيز على البناء الاقتصادي والاجتماعي بديلا للشعارات, والتذمر من السلوك الأصولي الإسلامي, وترسيخ الشرعية الدستورية, وأن هذه النقاط - التي يتمتع ببعضها كل بلد - ستشكل أساسا لفصول تحول تاريخية قادمة).

إلى الرايخستاغ

سيرًا على الأقدام نتجه من مبنى المستشارية إلى مبنى (البرلمان الاتحادي) البوندستاغ, أو ما ظل يعرف باسم (الرايخستاغ). نجتاز عتبته بعد تفتيش يسير, ويضمنا مصعد يتسع لعشرين شخصا. سنراقب من عل - وتحت قبة فريدة - مقاعد النواب. هناك مدرجات أيضا معدة للجمهور الذي يستطيع حضور الجلسات الحية لمناقشات الأعضاء مع ممثلي الحكومة والمستشار. وقد أعاد المهندس المعماري البريطاني السير نورمان فوستر ترميم وتشكيل المبنى بعد أن أخرج أحشاء المبنى المخيف - والذي كان يوما مقرا للحكومة في القرن التاسع عشر ولحق به الدمار في الحرب العالمية الثانية -  قبل أن يحوله إلى نموذج للشفافية من خلال قبة زجاجية عملاقة منحته جائزة (صديق ألمانيا) التي تبلغ قيمتها 25 ألف يورو (28 ألف دولار), وأصبح المبنى المصمت نموذجا لإشعاع نور الحرية, ومقصد أبناء برلين وزائريها, بعد عملية ترميم استغرقت خمس سنوات. هناك سنرى جزءا تذكاريا من الجدار, ومكانا للعبادة يمكن أن يكون كنيسة أو مذبحا أو مسجدًا, هكذا عبر التصميم عن حرية الاعتقاد. سيدور بنا السلم الصاعد إلى أعلى نقطة في برلين. هناك سنرى الجهات الأربع للمدينة. وردة برلين البيضاء تفخر بانتمائها للعالم, وتسعد بأن تضم تحت قبة رمزها الديمقراطي - الذي يتوسط العاصمة الموحدة تمامًا - زوارًا من العالم كله. قلب المدينة يتحول إلى معرض كبير, معرض حي, مع اهتمام سياسيي ألمانيا, وفي مقدمتهم المستشار الاتحادي غيرهارد شرويدر بأن تكون هذه البقعة من العاصمة جوهرة ثقافية ضخمة في قلب عالم أوربي واحد.

أعود إلى عدة أوراق تتقاطع مع الأفكار التي أثارتها رحلة برلين, ومؤتمر التحولات. الدكتور نادر فرجاني اختار أن يعرض تقرير التنمية الإنسانية (الثاني) فيما أسماه بجلسة إخبار سبقت إصدار التقرير نفسه رسميا ولم تتم إلا في هذا المؤتمر, وكذلك في فرنسا. وكانت النواقص الثلاثة في التقرير الأول (الصادر العام الماضي) تشير إلى نقص في الحرية والحكم الصالح, ونقص في اكتساب المعرفة, ونقص في تمكين المرأة في البلدان العربية. ومن العجيب أن التقرير يرصد لتآكل الحريات السياسية في الغرب, وهو الحدث الذي أثر سلبا في التنمية الإنسانية في البلدان العربية, حيث أخذت منه مبررا لتضييق الخناق. كما يرصد الخسائر الإنسانية المترتبة على إعادة احتلال الأراضي الفلسطينية. ويسجل تداعيات احتلال العراق مما يؤثر ليس فقط عليه كبلد, بل يتخطاه إلى التأثير في المنطقة. ولخص فرجاني ما خلص إليه التقرير بهذه العبارات: (إطلاق الحريات المفتاحية كحرية الرأي والتعبير وقيام نظام حكم صالح لضمان قيام واطراد الحرية, إتاحة التعليم للجميع مع التركيز على طرفيه منذ مرحلة ما قبل المدرسة وحتى تحسين التعليم العالي, وتأسيس نمط إنتاج المعرفة, وتوطين العلم في جميع أرجاء المجتمع, والعمل على تأسيس نموذج معرفي أصيل ينتمي لجوهر الثقافة العربية, نموذج يعضد التأويل المستنير للثقافة والدين, ونموذج منفتح على الثقافات الأخرى, دون أن يكون صورة لعولمة الأمركة, مما يغني التفاعل الثقافي داخل الوطن العربي).

ولخص الدكتور محمد نعمان جلال, سفير مصر الأسبق في الصين والباكستان, ومستشار القضايا الاستراتيجية في مركز الدراسات والبحث العلمي, خطة العمل من أجل الديمقراطية في (أهمية تطوير القوانين وتعزيزها, وتطوير مناهج التعليم, ليس للتخلي عن المبادئ بل لبناء المعرفة, وتطوير اللامركزية, والمفاهيم الدستورية ومفهوم تداول السلطة (حتى الصين قدمت نموذج بناء الكادر التالي), والحكومات منوطة بنقل ذلك كله من حيز الفكر النظري إلى حدود التطبيق ووسائل الإعلام لها دور مؤسس في ذلك). أما الدكتور حسن كريم - المحاضر بالجامعة الأمريكية في بيروت - فلخص تجربة الفرص الضائعة لبلده لبنان في فترة ما بعد الحرب, وكيف أنه (ليس بلدًا ديمقراطيا قدر كونه كيانا به الكثير من الحريات, يقدم نموذجا للديمقراطية التي تتطلب تعاونا أكبر من محيطها, كما أنه نموذج لمقاومة الاحتلال).

وحاول البروفسور أودو شتاينباخ مدير المركز الألماني لدراسات الشرق الأوسط لفت الانتباه إلى إن (إسرائيل ليست وحدها سبب المشكلات, وإنما السبب يعود إلى أن الحكومات العربية لا تناقش أسباب هزائمها. فبعد 11 سبتمبر ناقش العالم كل القضايا بصراحة تامة, أما العرب الذين عاشوا كارثتين في عامي 1948 و1967 فقد فشلت حكوماتهم في تحديد سبب الفشل الرئيسي, ولا تدور مناقشات حقيقية في العالم العربي حول ذلك). واستطرد شتاينباخ: يجب وضع الإصبع على المشكلات, فليس الهروب إلى الإسلام هو الحل, وليست الثقة الزائدة بالذات. وأعتقد أن نظرة إلى إيران تدلنا على المشهد,  كبلد يحاول أن يخرج من مأزق دخل فيه بعد الثورة, فالدين ليس - ولا يمكن أن يكون - العامل الأول للخروج من هذه الأزمة. وإذا كان هناك من جديد فهو فقدان الغرب للاحتكار الإعلامي الذي ساد في 1990, واليوم شاهدنا على قناة الجزيرة وغيرها مظاهرات ومناقشات تناهض ما يحدث ضد رغباتها).

الكاتب رودولف كميللي مراسل جريدة سود دويتشه تسايتونغ الألمانية في باريس أوجز رأيه بقوة: (لقد حاول الغرب التدخل بالنصيحة للإصلاح في الدول العربية, ولا أعتقد أن ترياق الإصلاح يأتي من الخارج, بل لدي يقين بأنه يجب أن ينهض من  الداخل. وإذا كنا نتساءل عن تصدير الديمقراطية, فيجب أن نصوغ السؤال بشكل صحيح: هل نحن نريد أن نصدر الديمقراطية بالفعل? العراق هو أصدق مثال على الإجابة العكسية. لقد وعدت الولايات المتحدة بتصدير الديمقراطية, وإذا منحت حرية الانتخاب هناك فإن قوى الإسلام السياسي الراديكالي ستصعد إلى المنصة. والمشكلة الأبدية في الغرب هي الإعلان عن شيء والرغبة في نقيضه. فمنذ 40 سنة كانت هناك انتفاضة في ألمانيا الديمقراطية, تماما كما هو الوضع المحبط في الشرق الأوسط اليوم. وهجمت الدبابات السوفييتية, وقمعتها, وقررت اللجنة المركزية أن الشعب فقد ثقة الحكومة, وأن على الشعب أن يجتهد ليستعيد ثقة الحكومة. وهنا أتذكر قول بيرتولد بريخت: أليس من الأسهل أن تحل الحكومة الشعب وتنتخب شعبًا آخر)?!

ويستمر كميللي في قنبلته: (هذه أزمة يجب أن نحترس منها, فموقفنا يفتقد المصداقية بسبب إسرائيل, والواقع أننا لن نستطيع تغيير شيء تهيمن عليه الولايات المتحدة). وإسرائيل ترددت في المشهد بأكثر من صورة, حتى في الحديث عن الديمقراطيات العربية تحضر إسرائيل, يقول عبد العظيم حماد متهكمًا: (إنها استثناء في التسلح والحماية والأمن الممنوح لها ومادام هذا الوضع قائمًا, فيفترض علينا أن نقبل تلك الحقيقة (الاستثنائية))!

المؤتمر الذي جاء بنا إلى ألمانيا كانت أيامه تدور على خلفيات سياسية عديدة, وجاء تلخيصه كما عرضه الدكتور يوخن هيبلر الأستاذ بجامعة دوئيسبورغ والمستشار العلمي للمؤتمر والذي أداره بالتناوب مع الدكتورة نهى المكاوي (مركز دراسات البحث التنموي في بون الخاص بالحوارات السياسية والتعليمية), وراينهارد هيسه (المحرر الصحفي للمستشار شرويدر). يقول هيبلر: إن التعريفات والمفاهيم التي طرحتها الأوراق متفاوتة, وتخلق صعوبة في صياغتها. سواء التحول الذي سعى المؤتمر لمناقشته, أو الإرهاب الذي يمتلك 195 تعريفا, وهو الأمر نفسه في التعريف بالديمقراطية. وقد عزت معظم الأوراق فشل الديمقراطية في بلدان الشرق الأدنى والأوسط إلى نشوء ظروف تحول دون تغيير نظامها الاقتصادي. وإذا كانت الديمقراطية في البحرين نموذجا لمشروع ممنوح من الحاكم, فإنها في أقطار أخرى تأتي نتيجة ضغط قد يكون خفيفا بتأثير منح المعونات أو منعها, أو بضغط أكبر بالتدخل بالقوة كما في نموذج تدخل الولايات المتحدة. وأهم ما أبرزه هيبلر - من واقع الأوراق - أن الديمقراطية (التي لا تصلح للتصدير) لا تبدأ برفع الشعار, وإنما على القاعدة أن تبدأ الضغط. وألا تنشغل هذه القاعدة بفتات الحقوق (غير المؤثرة) التي تمنحها الأنظمة لكسب الوقت وإضعاف الضغط الشعبي ومقاومته, مثل حق الانتخاب في أمور معينة. 

في وداع الوردة البيضاء

في برلين, ظل ضيوف المؤتمر يقرأون أوراق الغضب, بينما فريدريك شيلر يقرأ قصائد الحب, لعله يلمس فؤاد العابرين من نهر شبريه إلى أنهار الفرات والعاصي والنيل. وحين أودعه ومدينته برلين العاصمة الموحدة, أتذكر كلمات صوفي شول التي أعدمها النازيون في 22 فبراير 1943 عن 22 عامًا, وكانت ضمن زعماء حركة (الوردة البيضاء) المناهضة للنازية. كانت صوفي تقول قبل إعدامها بأيام: (حرية الكلام, حرية الاعتقاد, حماية المواطن الفرد من قهر الدول الديكتاتورية الطاغية, تلك هي الأسس التي تبني أوربا الجديدة).. وأقول لك يا صوفي وأنا أودع برلين, وردتك البيضاء.. إن  تلك القيم هي الأسس التي تبني أي وطن جديد.. وربما اختصرت أيام المؤتمرات كلها.

 

أشرف أبواليزيد 







صورة الغلاف





عازف بيانولا يبتسم وهو يردد نشيد الحرية والوحدة مع الأغاني التقليدية, وخلفه الشاعر شيللر وعازفات ومنصتات





 





بوابة براندنبورغ رمز برلين والوحدة الألمانية, بعد أن أصبح السور الفاصل الذي كان آنذاك خلفها بأمتار على بعد سنوات ضوئية من الذكريات. وقد بنيت البوابة فيما بين 1788 و 1791 ميلادية وهي الوحيدة التي بقيت قائمة من بوابات المدينة القديمة





نهر شبريه الشريان العذب رسم تاريخ المدينة التي أنشئت في العام 1237م منذ كانت برلين مجرد قرية لصيادي أسماك وملتقى للتجارة القادمة من أو الذاهبة إلى مركز الدولة البروسية





اتسعت المدينة ليس فقط لتسع سكانها البالغين أكثر من ثلاثة ملايين و400 ألف نسمة, وإنما أيضا لتعج بزوارها





مع الكلب الصديق الحميم للكثيرات هنا يبدو نمط حياة الفتاة البرلينية موزعا بين الأسواق والمتاحف والأحاديث التي تتناقلها الهواتف وسماوات الحرية





مبنى (البرلمان الاتحادي) البوندستاغ أو ما ظل يعرف باسم (الرايخستاغ). أعاد المهندس المعماري البريطاني السير نورمان فوستر ترميم وتشكيل المبنى بعد أن أخرج أحشاء المبنى المخيف والذي كان يوما مقرا للحكومة في القرن التاسع عشر





 





ساحة (جاندارمن ماركت) بعد أن أعيد ترميمها بالكامل, وفي الصورة الأعلى بطاقة بريدية للساحة نفسها وهي تحترق خلال قصف المدينة أثناء الحرب العالمية الثانية





ضيوف مؤتمر استضافته برلين عن عمليات التحول في بلدان الشرقين الأوسط والأدنى والصورة للمشاركين في زيارة إعلامية لهامبورغ





ذهب جدار برلين للأبد وبقيت ظاهرة رسم الجدران





في أيام الآحاد يخرج الجميع, الأزواج والأبناء والأصدقاء على دراجاتهم يجوبون المدينة. وفي إحدى محطات مترو المدينة سيكون مشهدا مألوفا أن يأخذ الراكب دراجته معه!





على امتداد البصر من بوابة براندنبورغ يقف شامخا نصب النصر التذكاري الذهبي





ساحة بوابة براندنبورغ في بطاقة  بريدية تعود للعام 1930م





مشهد مألوف لعازف البيانولا بزيه التقليدي في ساحة بوابة براندنبورغ





سواء جئنا برلين للدراسة او للسياحة أو من أجل العمل ... لابد من صورة تذكارية





دببة العالم تودع زوار برلين قبل أن تبدأ رحلة طواف عالمية إلى عدة عواصم في مزاد لصالح اليونيسيف