قراءة نقدية .. في الواقع والحلم عبدالرحمن أبوعوف

آفي ثلاثية الكاتب الليبي أحمد إبراهيم الفقيه

الثلاثية الروائية (سأهبك مدينة أخرى)، (هذه تخوم مملكتي)، (نفق تضيئه امرأة واحدة) للروائي الليبي العربي أحمد إبراهيم الفقيه تؤكد النضج والمدى الواسع الذي بلغته الرواية الليبية المعاصر رغم عمرها القصير.

إنها رواية مكثفة وحافلة بالأساليب والحيل التعبيرية الروائية الحديثة التي عرفتها الرواية الأوربية في تطوراتها، وهي أيضا تؤسس نهجا روائيا تراثيا له هويته العربية في البناء والأسلوب والسرد ورسم الشخصيات واستحضار فنون الحكي. إن كل شيء يتماسك ويترابط داخل عالم مغلق متلاحم، لا يشتمل على النبل الأسطوري للعالم المأساوي ولكن فيه وحدة ذلك العالم.

لعل المدخل الأولي لوحدة العالم الشاسع لهذه الرواية التي يختلط فيها العيني بالمتخيل، الوهمي بالحقيقي، والواقعي بالحلم هو (الثنائية) التي تسيطر على شمولية هذا العالم الروائي وتشكل جوهره وتقدم قطبي التناقض الذي عبر صراعاته وجدليته يتبلور التوتر الدرامي.

والمغامرة الروائية هنا تعاش في قسم منها (داخل) ضمير البطل المثقف الليبي (خليل الإمام)، ومع ذلك فإنها تفلت منه. فإذا كانت الشخصية الأساسية مكلفة بأن تشعر وتعيش، فإن المؤلف غير المرئي يراقبها باستمرار من أجل القارئ المشارك له، وهو يحتفظ لنفسه بحق (الانتقاد) ويبسط حالات الضمير أو اختصارها، وهذا اللعب المزدوج يعطي السرد مرونة كان يجهلها حتى الآن ويشجع انسيابه في الزمن: فالمشاعر الموصوفة هي فعلاً مشاعر البطل المنغمس في هذه المغامرة التي تقوم عليها الرواية، إلا أن الروائي هو الذي يقرر، وفق الفترات، متى يكثفها أو يعطيها مجراها الحر.

ولكي يحل الروائي ما بعد الواقعي هذه المشكلة الصعبة فإن لديه وسائل جديدة، فهو يجعل القارئ يعيش في ضمير بطله، يراعي مقدرته على الارتفاع ارتفاعا كافيا فوق هذا الضمير لكي يلخص الحوادث، ويجعل بضعة شهور تمر في بضع جمل مستعملا الزمن الماضي يعود فيدخلنا ببضع كلمات في فترة محددة ومكان معين يختلطان بالنسبة إلى القارئ مرة أخرى مع (الزمن المعيش) أي الزمن الحاضر.

وتتحرك الأحداث وتراكم الوقائع، عبر عدة أمكنة وأزمنة، بين شمال أوربا في إسكتلندا ومدينة الأسطورة والخيال الشعبي (عقد المرجان) وبين ليبيا، ويمزج الروائي بين الماضي والحاضر والمستقبل باستخدام العديد من الحيل الروائية في استخدام فن التواقت والتقطيع غير أنه يستبعد استخدام المونولوج الداخلي وتيار اللا شعور ويكتفي بالاستبطان والتأمل والحكي عن الماضي في نوع من التقريرية والخبرية الساذجة، كذلك يتنقل بحريات واسعة في المكان، ولعل دلالة البداية في كل جزء من الثلاثية تؤكد هذه الملاحظة الأولية عن التكنيك الذي نهجه الروائي في تجسيد وتوصيل رؤيته ودلالتها.

الزمن الهارب

فالجزء الأول (سأهبك مدينة أخرى) يبدأ بهذه العبارات "زمن مضى وزمن آخر لا يأتي، وبين الزمن الهارب والزمن الذي يرفض المجيء، زمن ثالث".

ويبدأ الجزء الثاني (هذه تخوم مملكتي) قائلاً "زمن مضى وزمن آخر لم يأت. وبين الزمن الهارب والزمن الذي يرفض المجيء منطقة صفراء، مفازة صحراوية يغطيها الحصى وتحرقها شمس الظهيرة ".

أما الجزء الثالث (نفق تضيئه امرأة واحدة) فيبدأ هكذا "مضى زمن وزمن آخر لا يأتي وبين الزمن الذي مضى والزمن الذي لا يأتي، زمن ثالث استعاد الآن مساره من جديد.

فالزمن وصيرورته ومعناه ودلالته وما يحمله من رمز متعدد الأبعاد يلعب دورًا، رئيسيًا في هذه الثلاثية، هو زمن العربي الذي ينتقل بلا تمهيد من مجتمع بدوي قبلي متخلف يعبر ويلات مرحلة الانتقال الحضاري بكل ما فيها من قلق واضطراب وطموح إلى مجتمع أوربي يعيش حضارة العصر.. هو يحمل في عقله وقلبه تراث وتاريخ وأساطير وميثولوجيا عشيرته وأهله وشعبه وهو يدرس ويكتب رسالة جامعية عن العنف والجنس في (ألف ليلة وليلة) كدراسة مقارنة عن أثر الأسطورة العربية في أدب اللغة الإنجليزية "كنت أعرف أن القرون الوسطى ما تزال تمارس قمعها الجنسي في تلك المجتمعات الشرقية التي جئت هاربا منها، ولكن الحديث عن الكبت والانغلاق لا يخدم قضية التواصل والحوار مع النساء اللاتي يطرحن هذا السؤال، ومستعينا بشهر زاد وذاكرتها السحرية بلصوص بغداد وشطارها، بدراويشها وعشاقها وتجارها وقهرماناتها بالأميرات الباحثات عن الحب، والمغامرين الحالمين بالمجد، بالجواري القابعات خلف الخدور، يملأن الأرض شجنا ودموعا، أو رقصا وغناء، بالأمراء الذين يرتدون ملابسهم التنكرية، والصعاليك الذين يتنكرون في ملابس الأمراء، مستعينا بالطلاسم والتمائم والأدعية والخواتم السحرية، بالجنيات القادرات على طمس الطبيعة البشرية والمردة الطالعين من قماقم الملك سليمان، ذهبت أبحث عن زمن أكثر بهجة من زمني القديم، مرتديا ملابسي التنكرية، متخذا مظهر رجل شرقي، خرج لتوه من كتاب الأسطورة ".

وسوف تشكل وتكون وتصوغ أساطير وحكايات وعوالم ليالي ألف ليلة وليلة السحرية القطب الأول من الثنائية المزدوجة التي يعيشها ويعانيها ويسلكها (خليل الإمام) المثقف الليبي العربي البطل والراوية الأول والقطب الثاني هو معايشته الواقع الحياتي سواء الليبي أو الأوربي، هذا الانشطار والتوزع بين الأسطورة والحلم والواقع العيني سيصوغ ويشكل توترات مزاج ووجدان وعقلية (خليل الإمام) الذي يكاد يقع صريع مرض نفسي، غير أنه النموذج والتجسيد الحي الذي عبره سيطرح الكاتب نوعية من المثقفين العرب والشرقيين في إطار حل مشكلة الأصالة والمعاصرة، الخصوصية والإنسانية العالمية على مستوى فكري وأخلاقي وبذلك يقدم الروائي (أحمد إبراهيم الفقيه) تمرينا روائيا آخر لقضية صدام الشرق بالغرب كما عرفناه في نماذج روائية أخرى سابقة عند طه حسين في (أديب) وتوفيق الحكيم في (عصفور من الشرق) ويحيى حقي في (قنديل أم هاشم) والطيب صالح في (موسم الهجرة إلى الشمال) وسهيل إدريس في (الحي اللاتيني) إلخ.

ومع ذلك فصياغة وبناء نموذج (خليل الإمام) في الثلاثية الليبية كنوع لهذا البطل النموذج تحمل أبعادًا أرحب حيث يجسد الكاتب رؤية العربي للزمن، والجنس والدين، والمرأة، والحب، والسياسة، والسلطة، وصراع وحوار الحضارات وهموم وقضايا تحولات شعبه ووطنه السياسية والاجتماعية والحضارية بلغة مكثفة شاعرية بللورية مقتصدة ومحددة الدلالة والقصد والمعنى في بناء تشكيلي سامق رشيق يؤكد نوعا من الإحساس الأصلي بالوجود، فليس الإنسان سوى علاقة بين الشعور والأشياء بين أزمنة متتالية مندفعة وأمكنة مختلفة وحيوات متنوعة، وفي هذه العلاقة الموجزة يلتمع تمني الحياة وفناؤها.

ثنائيات المعمار الروائي

إن الازدواجية والانتظار والانقسام العقلي والنفسي والحياتي الذي يعانيه البطل الراوية (خليل الإمام) تحكم المعمار البنائي والشكلي للرواية ولقد جسده وشيده الكاتب في ثنائية لها عدة أشكال ومستويات تخدم في النهاية المعنى والدلالة الرمزية الرحبة التي تحكيها الرواية.

أولا: ثنائية النص والمدينة

ثانيا: ثنائية المرأة

وعلى توترات وتناقضات وصراعات وتداخلات هذه الثنائية نرتكز على تحليل المبنى والمعنى الذي حشد له الروائي في اقتدار قدرًا، كبير مكثفا من الشعر والحوار الدرامي والتحليلات المسمعية والأوصاف للأمكنة والأجواء والأزمنة والمدن والثقافات في كل من إسكتلندا وطرابلس وعالم التخيل والسحر في مدينة الأسطورة والحلم مدينة (عقد المرجان).

أولا: عن ثنائية النص والمدينة

نواجه في هذه الثنائية بناء مركبا يشتمل على نص تدور أحداثه وتبنى شخصياته في كل من مدينة (أدنبرة) بإسكتلندا، وطرابلس بليبيا، وبن نص أسطوري متخيل حالم هو مدينة (عقد المرجان).

والأحداث والشخصيات والنماذج التي تصطخب في أدنبرة توجد في الجزء الأول (سأهبك مدينة أخرى) أما الوقائع والأبطال والحياة التي تحدث وتقع في طرابلس بليبيا فتجدها في القسم الثالث (نفق تضيئه امرأة واحدة)، وفي مواجهة الواقع المحدد العيني هذا تقع وتتم أحداث متحررة من المنطق والمعقول، وغير مقيدة بحدود الزمان والمكان. وتسبح وتعوم شخصيات أثيرية مستلهمة من الخيال والأسطورة وعالم الأحلام، وتنسج على منوال ليالي ألف ليلة فنجدها في الجزء الثاني (هذه تخوم مملكتي).

في مدينة (أدنبرة) يتذوق ويعيش وينغمس حتى النخاع (خليل الإمام) في ارتشاف ثمار حضارة الغرب وهو البدوي المحروم من حرية التحقق الإرادي الفردي في اختيار المرأة وممارسة الجنس والحب والشراب والرقص، والقراءة وزيارة المسارح والمتاحف والمعارض والاستماع إلى الموسيقى.. إنه ينطلق ويتجول في أبهاء ودهاليز المدينة وخباياها وعلبها الليلية يقتنص اللذة والمتعة والنشوة، ورغم ذلك تنتابه أحاسيس ومشاعر دفينة متناقضة تكشف عن غربته وأزمته في هذه المدينة يقول مخاطبا نفسه "إنك دائما تريد أن تكون ما هو ليس أنت.. تريد أن تكون فاسقا وأخلاقيا، متدينا ومتحررًا من الدين، تريد أن تعيش في العصور الوسطى والعصر الحديث، تنتمي إلى الشرق وتنتمي بلى الغرب، تضع قدما في الواقع، وقدما في الأسطورة وتكون النتيجة أنك لست فاسقا ولست أخلاقيا. لست متدينا ولست متحررًا، من الدين، لا تعيش في القرون الوسطى ولا في العصر الحديث لا في الواقع ولا في الأسطورة، ولا تنتمي إلى الشرق ولا إلى الغرب".

إن (خليل الإمام) يقضي كل وقته بعد الفراغ من كتابة رسالته الجامعية بل أحيانا يهملها ليسعى وراء المتعة واللهو والشراب والجنس، ويتعرف على امرأتين لا تعرف هل جذبه إليهما الحب أم الجنس طوال الجزء الأول. وهو نموذج للمثقف العربي اللامبالي اللامنتمي لا تشغله أحداث وطنه وثورته وعالمه وما يصطرع فيه من صراعات، على عكس زميله (عدنان) الذي يقول عنه في مرارة "بعيدة هي المسافة بيني وبين (عدنان) بعيدة هي المسافة بين روحي وروحه، من أين يأتي أمثاله من الرجال بهده الطاقة الهائلة التي تحيل الأقوال إلى أفعال وتجعلهم يقتحمون حقول النار ويسافرون باختيارهم إلى أرض المعارك والمواجهات الساخنة، يجاهرون بعدائهم لأكثر أنواع الحكام شراسة وعنفا ويحملون فوق صدورهم شاراتهم المتعددة الألوان، ويطوفون بها بين الناس، يؤسسون رأيا عاما للقضايا التي يؤمنون بها، ويجدون بعد ذلك وقتا للدراسة، ووقتا لالتقاط الرزق وآخر لعلاقات حب هادئة تنتهي بالزواج.. أراد عدنان أن يحشو قلبي بالوقود الذي ذهب يعبئ به فتيان الثورة في لبنان، لكن قلبي متيبس أفسده دخان الحانات ودخان الأساطير، رآني مستقيلا من القضايا العامة، زاهدًا في الدخول إلى ميادين الصراع، أرفع راياتي البيضاء وأعلن الحياد فأهملني كعرف شجرة مقطوع، تعبث به الرياح والأهواء، كانت كلماته حول أهمية أن يكون للإنسان هدف يمنح حياته معنى ويجعل من وجوده إضافة للوجود الإنساني، تسقط تحت قدمي كما تسقط أوراق الشجر الميتة، أتدبرها فلا أجدها تخاطب شيئا في نفسي، ولا أرى فيها إلا فراغا يكسو نفسه بالكلمات الكبيرة التي لا أعرف لها معنى، أتركه وأمضي إلى كأسي وامرأتي وجواري ألف ليلة وليلة وعشاقهن وقد أدرت وجهي عن عالم (عدنان) المليء باللافتات والشعارات معتذرًا له بأنني لم أخلق لهذه الأشياء".

الخوف من الجفاف

وسوف تنتهي فترة الدراسة والاستيعاب لحياة الغرب وتنتهي علاقته بكل من (ليندا) التي حملت منه وأنجبت ولدا اسمته (آدم) ورفضت الزواج منه رغم هجرتها وانفصالها عن زوجها ربما لأنه خانها وأنشأ علاقة مع امرأة أخرى نموذج للشهوة والفتنة والمجون والعبث هي الممثلة (ساندرا) وسيعود إلى الوطن (طرابلس) حيث يتقولب في إطار المألوف والعرف الذي يحكم الحياة الأخلاقية والاجتماعية في ليبيا، فيتزوج بلا حب من مدرسة عادية هي (فاطمة).. لن يلد منها.. فهي عاقر ترمز لجفاف حياته في الوطن ويؤسس شقة ويعمل أستاذًا للأدب الإنجليزي في الجامعة. وبعد أن فرغ من طقوس انتمائه لهذا المجتمع بدأت أمراض النفس اللعينة، الشعور بالاكتئاب والملل والرتابة واللاجدوى "المرض يعاودني أعتزل الناس وأعتصم بالبيت، يلفني الغمام الأبيض نهارًا وتزورني أثناء الليل الطيور السوداء، وأجدهم في الجامعة يأخذون مني جدول الحصص ويقطعون علاوة التدريس ويجعلون مني محاضرًا احتياطيا لا أهمية لحضوره أو غيابه".

ويصبح لا مفر من الهروب إلى مدينة الخيال والحلم حيث يبحث عن التعادل والاتزان والطمأنينة والنعيم والصفاء والحب، ويقوده الشيخ (صادق أبو الخيرات) الراقد في قبره منذ زمن إلى تخوم مدينة الأسطورة والوهم مدينة (عقد المرجان) يختفي وجوده الحقيقي ويصير جزءًا من العالم الوهمي وبفكر أعياه القيظ والعطش والسير الطويل في الصحراء يتأمل الرجال الذين يحيطون به ويستطيع أن يراهم بوضوح، فلا يذكره منظرهم إلا بالبشر الذين يسكنون عوالم ألف ليلة وليلة. ومن أعراف المدينة أنه إذا مات الأمير خرج الناس إلى البوابة المفضية إلى الصحراء ينتظرون أول رجل يأتي من هذا الطريق ليجعلوه أميرا لهم ويتزوج ابنة الأمير ويصبح حاكما عليهم، في مدينة (عقد المرجان) تركوا المواطن على سجيته خارج الأطر والنظم وقواعد الحكم والدولة، فاهتدى بفطرته ومداركه العقلية إلى مسئولياته، وأنجز مدينة حلمه، دون حاجة إلى وصاية المؤسسات التي تدير حياته بالنيابة عنه، أو سلطة التشريعات التي تأتي من خارج ذاته، وتفرض عليه أسلوبا في التعامل والسلوك، وبهدي من هذه التربية التي تؤكد انتماءه للكون الكبير وموطنه الأصلي بين النجوم، مضى الإنسان يحقق تواصله مع عناصر الطبيعة ويبني وشائج أكثر عمقا مع الآخرين، لتكون حياته فوق الأرض انعكاسا لهذا التوافق والتناغم مع حركة الكون حيث يصبح كل الناس شركاء في إنجاز الحلم الذي يتخذ شكل خيمة من الضياء والفرج يجلسون تحتها ويبدعون مع مطلع كل نهار حياة تليق بهم، حتى علاقات الحب والجنس بين نسائهم ورجالهم صارت تعبيرًا، عن هذا السلوك الذي تحرر من قمع الفضائل المفروضة.

ويعيش في هذا النعيم يشرب رحيق الهناء مع الأميرة (نرجس) ورغم ذلك يتطلع إلى المزيد فليتقي بالفتنة والغواية والشهوة مجسدة في (بدور) من بنات الشعب ويقع في غرامها ويغرق في وصالها وتحمل منه (نرجس) ومع ذلك يظل على علاقته (ببدور)، وتختفي فجأة كما ظهرت في حياته ويظل يبحث عنها عبثا ويتشوق إلى صوتها الموسيقي المترنم بأشجى وأعذب الألحان والأغاني، وفجأة يستمع إلى صوتها يأتي من الغرفة المغلقة على أسرارها والمثقلة بالأقفال وأسياخ الحديد، وشعر بشوق لرؤيتها، فيهرع إلى فأس يحطم بها الأقفال وتوقف لحظة يتأمل الطلاسم المنقوشة على الباب، وينصت بلى الغناء ويفكر في نتائج هذه المغامرة التي ظل أصحاب القصر جيلا وراء جيل يحترمون الحكمة التي أمرت بإبقاء هذا الباب مقفلاً. وأخيرًا، ينفتح الباب على كهف وتهب الرياح كبركان تعصف بالقصر ويخرج الناس في فرع ورعب ويدرك وهو يواجه هلاكه أنه لم يكن ضحية تلك الغرفة السرية المدفونة في الجبل، وإنما ضحية غرفة سرية أخرى مدفونة في كهوف الذات، تمتلئ بهواء أصفر ظل ملوثا منذ أن قتل قابيل أخاه هابيل "غرفة مهما وضعنا فوقها الأقفال وأسياخ الحديد وتظاهرنا بأنه لم يعد لها وجود، وسمحنا للحياة بأن تمضي في مسارها فلا بد أن تكشف ذات يوم عن لغتها، وتغمر الدنيا بهوائها الملعون".

ويستيقظ (خليل الإمام) من الحلم على واقع المدينة والبرود والارتباك الذي تقابله به زوجته (فاطمة).. التي تدهش لقول إنه كان في مدينة أخرى ومع ناس آخرين لأنه لم يتغيب عن البيت إلا ساعة، هو حلم إذن فهل عاد إليه المرض؟

الرمز والرواية

إن هذا الجزء من الثلاثية (هذه تخوم مملكتي) ينهل من الرواية الرمزية الأسطورية التي تستحضر الأمور، بدلا من أن ترويها، وتقدم الحوادث والانفعالات التي تحملها في داخلها، أكثر من منطق ترابطها غير أنها هنا مثقلة ومعبرة عن أزمة السيكولوجيا وانفصام الشخصية التي بعانيها البطل المثقف.

ثانيا: ثنائية المرأة

إن الازدواجية والانشطار والثنائية التي يعانيها البطل (خليل الإمام) تتأكد في ظاهرة واضحة تتكرر في كل جزء من الثلاثية، وهو إقامة علاقة مع امرأتين في وقت واحد علاقة جنس وحب.

في الجزء الأول (سأهبك مدينة أخرى) يقيم علاقة مع (مادلين) التي تحمل وتلد له طفلا هو (آدم) الذي سيتركه خليل الإمام لرفض مادلين الزواج منه فيصبح رمزا للإنسان الأول ابن الخطيئة والشهوة وفي الوقت نفسه كانت له علاقة مع (ساندرا) وهي ممثلة ونموذج للفتنة والتحرر وإدمان الجنس. وفي الجزء الثاني (هذه تخوم مملكتي) يتزوج من (نرجس) الأميرة وتحمل منه وتنشأ علاقة في الوقت نفسه مع (بدور) المغنية عذبة الصوت ومثال الفتنة والجمال، وأخيرًا، في الجزء الثالث (نفق تضيئه امرأة واحدة) يتزوج من فاطمة بلا حب، ودليل عقم العلاقة بينهما أنها عاقر. وينشئ علاقة مع (سناء) التي بعثت في الواقع حلم بدور، فهي تعيش الفتنة والسحر وهي أيضا تغوى وتهوى التمثيل.

ولقد كان من الممكن أن تطهره وتنقذه براءة وبكارة ونقاء (سناء) من مرضه ولا مبالاته وعدم انتمائه، غير أنه في لحظة جنون يحاول اغتصابها بعد أن وافقت على الزواج منه مما يجعلها تنفر منه وتهجره، ويظل هو يتمتم لنفسه قائلاً "لم تكن سناء إلا وهما، طيفا صنعته من أبخرة الحلم ورغبة ترقد تحت أهداب العين تهيأت لي في صوره امرأة، مجرد أمنية عذبة راودتني ذات ليلة صيف، على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، الذي يملك ذاكرة سحرية مليئة بالأساطير والحضارات الميتة وعرائس البحر الوهمية، وجزر الأحلام الكاذبة، امرأة رأيتها في مرايا النوم، وصنعت منها حبيبة تضيء بجمال عينيها ظلمة النفق الذي لا نهاية له" .

ثمن التحول

غير أن المأساة والملهاة التي يعانيها المثقف (خليل الإمام) تنبع في النهاية من الضريبة التي يدفعها المثقفون أو نوع منهم في مرحلة تحول بلادهم من التخلف والقبلية إلى التمدين والحضارة، من أدران الماضي إلى إشراقة المستقبل. إنه يتجول في شوارع طرابلس "بحثا عن لحظة اندماج معها ورغبة في تجديد الوشائج التي تربطنا بها، وكأننا نريد أن نختبر حكمة هذه الأقدار التي اختارتها لنا واختارتنا لها، ولكنها ظلت، وبرغم صلة الدم التي تربطنا- بها، تمنحنا وجها مقفلاً لا يعد بأيه مسرة، مغلقة بأزمتها، لم تعد قرية ولم تصبح مدينة بعد، لا هي شرقية ولا غربية، لا تنتمي إلى الماضي ولا تنتمي إلى العصر معلقة بين البحر والصحراء، وبين زمن مضى وزمن لا يأتي، نعيش مأزقها التاريخي، منذ أن تخلت عن طبيعتها القروية، وفشلت في اكتساب طبيعة جديدة، انتهى الزمن القديم بأفراحه البدوية، وحفلاته الشعبية التي تعقد في الأسواق والموالد، وحفلات ختانه وأعراسه وبيوته المتداخلة المندمجة في بعضها البعض، وقد اكتظت بسكانها الذين يصنعون لكل مناسبة عيدا، وباغتها زمن جديد لم تكن مهيأة له، أو راغبة في أساليب حياته العصرية فرفضت الانتماء إليه، وظلت معلقة بين ماضيها وحاضرها، لا تجد شيئا تنتمي له أو ينتمي إليها".

من هذه الأرضية الاجتماعية والحضارية تشكلت أزمة (خليل الإمام) وكانت ازدواجيته بين الواقع والحلم.. الماضي والحاضر.. الزمن الذي يمضي والزمن الآخر الذي لا يأتي.. صاغها (أحمد إبراهيم الفقيه) في بناء معماري مركب استخدم فيه كل حيل السرد والبناء التشكيلي الروائي بطريقة انتقائية أحيانا، وغير متناسقة غير أنها كانت تعبيرا عن الاختلاط والتشوش والهامشية التي يعيشها هذا النوع من المثقفين.

إنها في الخلاصة رواية مكثفة تمزج الحياة بالوهمي وتتقن لعبة الفتنة العنيفة، فتنة رواية الاغتراب والبحث عن التحقق والمعنى لذات المثقف المتعالية عن الواقع.