عندما قال نجيب محفوظ في الكلمة الافتتاحية التي ألقيت نيابة عنه في
افتتاح معرض فرانكفورت الدولي للكتاب إنه: (يشكر الشعب الألماني ويشعر بالامتنان له
لأنه اخترع حروف الطباعة), كان يعني ذلك حرفيا ومكانيا أيضا, ففي بلدة صغيرة بجوار
فرانكفورت توصل واحد من أكثر العقول البشرية عبقرية هو يوهانس جوتنبرج إلى اكتشاف
تقنية الطباعة بواسطة الحروف المتحركة عام 1455, الأمر الذي أحدث ثورة معرفية
هائلة, فقد أصبح الكتاب متوافرا للجميع, وانتقلت المعلومات النادرة عبره للأفراد
والأجيال, وقبل ذلك كانت الكتب التي ينسخها الوراقون شيئا نادرا لا يحلم أحد
بامتلاكه, ورغم أن أول ما طبعه جوتنبرج كان الكتاب المقدس, خوفا من ردة الفعل التي
سوف يثيرها هذا الاختراع, فإن الكنيسة الكاثوليكية بادرت برفض هذا العمل الشيطاني
لأنها وحدها صاحبة الحق في امتلاك أكداس من الكتب المخطوطة في أقبيتها, والتي
تعتبرها من أسرارها اللاهوتية. وكذلك بادرت الدولة العثمانية إلى رفض دخول المطبعة
إلى أي بقعة منها لمدة 500 عام تقريبا واكتفت بإنتاج المخطوطات المذهبة ولم تدخل
المطبعة عالمنا العربي إلا في نهاية القرن الثامن عشر مع الحملة الفرنسية على
مصر.
من الطبيعي إذن أن تكون فرانكفورت هي عاصمة الكتاب. وقد احتلت هذه
المكانة مع بزوغ أضواء النهضة الأوربية في القرن الخامس عشر. وبالرغم من أن قياصرة
ألمانيا فرضوا القيود على هذه المدينة وجعلوا من (لايبزج) مركزا رئيسيا للنشر فإن
فرانكفورت استردت مكانتها في أعقاب الحرب العالمية الثانية عندما أنشئ فيها (اتحاد
البورصة لتجارة الكتاب) ومنذ عام 1964 أقيم المعرض السنوي للكتاب الذي تحول ليصبح
أهم معرض من نوعه في العالم, فبالرغم من أن المانيا تحتل المكانة الثالثة في إنتاج
الكتاب تتقدمها الولايات المتحدة وبريطانيا فإن دور النشر الأمريكية والإنجليزية
التي تشارك في فرانكفورت تفوق عدد التي تشارك في معرضي شيكاغو ولندن للكتاب.
وأصبح معرض فرانكفورت المكان الوحيد في العالم الذي نتعرف فيه على
المدى الذي بلغته تلك الصناعة المحببة إلى النفس والتي كانت سببا رئيسيا في التقدم
البشري. فخلال أيام المعرض تقام عشرات الندوات واللقاءات وتبرم مئات الصفقات,
والأرقام هي خير دليل علي ضخامة هذا الحدث. فهو أكبر سوق للنشر يضم 6638من
الناشرين. ويزورهم 180ألف زائر من حوالي 100دولة. كما أنه أكبر سوق للمعلومات إذ
يقوم بتغطيته 12 ألف صحفي من 80 دولة. وتقام به حوالي 300 من الفعاليات الثقافية
ويعرض 80 ألف عنوان جديد. كل هذا في خمسة أيام فقط هي مدة إقامة المعرض.
ضيف فوق العادة
في هذا العام من أكتوبر 2004 كان العالم العربي حاضرا. ليس ذلك الحضور
الرمزي الذي تعود عليه في السنوات الماضية عندما لم تكن تتجاوز المساحة التي يحتلها
أقل من الثلاثمائة متر. وليس للمشاركة في تظاهرة الكتاب بعنوان واحد. ولكن من خلال
أجنحة عرض بلغت مساحتها ألفي متر, عرض فيها العرب حوالي 12 ألف عنوان, وكانوا أيضا
(ضيوف الشرف) في هذا المحفل الثقافي العالمي.
تعود فكرة (ضيف الشرف) إلى عام 1976 عندما رأت إدارة المعرض أنها
مناسبة رائعة لإلقاء الضوء على ثقافات جديدة خارج المنظومة الأوربية البارزة
وإعطائها الفرصة للظهور ليس على مدى أيام المعرض القصيرة ولكن لمدة عام كامل. يقام
خلاله العديد من الفعاليات الثقافية من محاضرات ومعارض تشكيلية وعروض موسيقية
ومسرحية وسينمائية في كل المدن الألمانية. وفي هذا الإطار استضاف المعرض ثقافات
أمريكا اللاتينية, والعديد من الدول الأوربية والآسيوية, وكانت روسيا هي ضيف شرف
العام الماضي 2003. فكيف أصبح العرب ضيوف الشرف لعام 2004?
ألقيت هذا السؤال على د.المنجي أبو سنينة المدير العام للمنظمة
العربية للتربية والثقافة والعلوم الذي تم اختياره منسقا عاما للمشاركة العربية,
فقال: (إنه ليس فقط معرضا للكتاب ولكنه واجهة ثقافية عالمية لعرض كل جوانب الثقافة
العربية, وهو حضور ضروري في مواجهة كل دعاوى الافتراءات والاتهامات بالإرهاب التي
توجه إلينا. لقد وجهت الدعوة إلى العالم العربي ليكون ضيف شرف في المعرض منذ عام
2001. تماما في أعقاب انفجارات نيويورك الشهيرة في سبتمبر. كان المد العدائي للعرب
في أعلى قمته. والاتهامات تتوالى علينا من كل جانب. ورأى الألمان في مبادرة نادرة
أن يتيحوا لنا الفرصة حتى نظهر لهم العالم العربي في صورة أخرى مختلفة, صورة
الثقافة والعمق الحضاري, ولكننا تأخرنا في الرد على هذه الدعوة, ثم تقدم وزير
الثقافة اللبناني السابق غسان سلامة باقتراح قدمه للأمين العام للجامعة العربية حتى
نقبل هذه الدعوة وتم عرض الأمر على اجتماع وزراء الإعلام الذين وافقوا عليه, وها
نحن قد جئنا)
ولكن الامر لم يكن بهذه البساطة, فقد نشبت الخلافات حول كل ترتيبات
المشاركة تقريبا. هل نذهب أم لا نذهب, وإذا ذهبنا فهل نكون كتلة واحد أم بلدانًا
متفرقة, وإذا تجمعنا فمن سيمثلنا? ومن الذي سيدفع التكاليف ? وكيف نقسم المبلغ?
وفقا للكتلة السكانية, أم لثراء الدولة? كم كتابًا لكل بلد, وكم مدعوًا? وكم..
وكم..
يبتسم الأمين العام عمرو موسى وهو يواجه أسئلتي, كان يقوم بجولة داخل
الجناح الذي يضم دور النشر العربية, وتوقف هنيهة يتصفح مطبوعات دولة الكويت بعد أن
جذبت أنظاره أغلفة مجلة (العربي) يقول معلقا: (العالم العربي كله موجود في هذه
المجلة, وهذا مهم, المهم أيضا أننا حضرنا هنا كعالم عربي واحد, أنا أعلم أن هذا
المكان ليس ساحة لمناقشة القضايا السياسية ولكنه مكان لإثبات وجودنا الحضاري ثقافيا
وفكريا. لقد عانينا كثيرا الفشل ونريد أن نجرب النجاح. وأنا فخور بهذه الحركة
الثقافية التي مكنتنا من المجيء تحت اسم واحد محافظين في الوقت نفسه على
تنوعنا).
وأيضا لم يكن الأمر مثاليا كما صورته كلمات الأمين العام, فاختيار
الوفد العربي الواحد تعرض لنوع من الشد والجذب والمساومات والتهديدات إلى حد هدد
بإلغاء هذه الرحلة إلى بلاد الشمال. وكما قال لي مسئول كبير من اللجنة التي عهد
إليها باختيار المثقفين الذين سيمثلون بلدانهم :(لقد كانت عملية منهكة تماما بينت
مدى التناقضات التي نعانيها في العالم العربي, إن حوالي 50% على الاقل من الذين
حضروا هذه المناسبة ليس لهم أي علاقة بالفكر أو الثقافة ولكن تم فرضهم علينا فرضا.
فعلى سبيل المثال حضر إلينا مندوب إحدى الدول واعترض على كل الأسماء التي رشحناها
وبدلا من ذلك أخرج قائمة أخرى لأشخاص لم نسمع عنهم من قبل. إنني أزعم أني قارئ جيد
وأعرف كل الأشخاص الذين يشاركون في مسيرة الثقافة العربية ولكن القائمة لم تكن
تحتوي أيًا منهم. وقد صحت في هذا المندوب أنه لا يجوز أن يبعد المثقفين الحقيقيين
ويفرض علينا هؤلاء الموظفين المجهولين. ولكنه قال لي في برود إن لديه أوامر, وإذا
لم يحضر هؤلاء فلن تشارك بلاده في الوفد, وقد تكرر هذا الأمر في أكثر من بلد.
استبعِد المثقفون وحل بدلاً منهم الموظفون الذين ترضى عنهم الأجهزة الحكومية.
وبالرغم من ذلك فلم تكن الخسارة كاملة لقد حضرنا ومعنا جعبة لا بأس بها من المثقفين
الحقيقيين وهم الذين سيكونون قادرين على القيام بحوار متوازن مع الآخر..).
ويمكن القول إن الخارجية الألمانية قد حاولت تلافي هذا القصور فدعت
بدورها نخبة مختارة من المثقفين والمفكرين. وكان من ضمن هؤلاء المدعوين رئيس تحرير
(العربي) د.سليمان العسكري الذي قبل الدعوة واستعد لها قبل أن يصاب بوعكة صحية
ألزمته الفراش طوال فترة المعرض وأعاقته عن المشاركة.
ويقدم الروائي جمال الغيطاني هو أيضا رؤية انتقادية لتشكيل الوفود.
فقد حضر إلى المعرض بعيدا عن وفد الجامعة معلنا احتجاجه لأن هذا الوفد قد تجاهل
العديد من الأسماء الأدبية المهمة. لذا قبل دعوة الخارجية الألمانية التي شملت صفوة
من المثقفين الذين لم يشملهم كرم الجامعة.
وقد أصر الغيطاني على أن يؤدي البرنامج الذي اتفق عليه بالرغم من
الوعكة المرضية التي ألمت به فور وصوله إلى ألمانيا, فقد تلقى علاجا طارئا وظل
واقفا على قدميه طوال أيام المعرض. وهو يقول: (من حسن الحظ أن الألمان يجيدون فرز
الجيد من الرديء, وهم على معرفة لا بأس بها بالأدب العربي وقد ترجموا منه العديد
من الأعمال, ولكنها قليلة, وعلينا أن ننتهز هذه الفرصة لنصحح هذا الأمر. إننا في
حاجة إلى مؤسسة عربية تابعة للجامعة العربية تكون مهمتها ترجمة الأدب العربي والفكر
العربي إلى اللغات الحية. سوف يظل الكاتب العربي معزولا إذا لم نقم بهذا الأمر,
والترجمة وحدها سوف تفرز الذين يكتبون من الذين يدعون. لا نريد أن نجعل من هذه
التظاهرة مجرد مناسبة عابرة لابد أن نحولها إلى عمل عربي دائم).
أما الروائية ميرال الطحاوي فتذهب بي في جولة واسعة للجناح الرابع
الذي يضم الناشرين الألمان. تريني رواياتها الثلاث المترجمة إلى الألمانية تقول:
(شاهد بنفسك الروايات والكتب التي ترجمت إلى الألمانية. في هذا الجناح تكشفت
ادعاءات الذين يقولون إن كتبهم قد ترجمت. الألمان ليسوا سذجا وهم يختارون كل شيء
بعناية وحرص..) ولكن كل الآراء تلتقي عند أمر واحد وهو أن هذه مناسبة نادرة للثقافة
العربية والإسلامية. فهي ستسلط الضوء على الدور الذي قامت به في الماضي. ومقدار
التسامح الذي تتمتع به في الحاضر, وأنها قادرة على حوار الحضارات وهي تملك الأدوات
القادرة على ذلك. ولكن علينا فقط أن نجيد استغلالها وأن نكف عن تلك الخلافات
الجانبية التي يمكن أن تفسد كل شيء.
ولكن لماذا جاءت دعوة الحوار من ألمانيا? لماذا لم تأت من بريطانيا
وفرنسا اللتين استعمرتا المنطقة وكانتا السبب في الكثير من مشاكلها وهما اللتان
تدعيان المعرفة بها أكثر من الآخرين?
عشق الشرق
لله المشرق
لله
المغرب
رحاب الشمال والجنوب مستقرة بين يديك يا
محمد
وإذا كان الإسلام هو الاستسلام
لله
فكلنا نحيا ونموت مسلمين
ليست هذه أشعار مسلم صوفي شفه الوجد, ولكنها أبيات مختارة من (الديوان
الشرقي) الذي كتبه شاعر ألمانيا العظيم يوهان ولفجانج جوته, وهو يشمل العديد من
القصائد إضافة إلى مسرحية حول حياة محمد نبي الشرق العظيم, وقد دفع هذا بعض النقاد
للقول إن جوتة قد اسلم, أو على الأقل وقف على الحافة المشرقة للإسلام قبل أن يموت,
ولكن من المؤكد أن الديوان هو نتيجة تأثر وإعجاب عميقين بالاكتشافات التي قامت بها
أجيال من المستشرقين الألمان لروائع من التراث العربي والإسلامي.
لا يوجد لألمانيا تاريخ استعماري في منطقتنا. بل إن تاريخها
الاستعماري ضئيل بشكل عام, فقد اقتصر على بعض المستعمرات الإفريقية لمدد بسيطة, وقد
دخلت في حربين مدمرتين في محاولة لاقتسام المستعمرات بينها وبين الإمبراطوريتين
البريطانية والفرنسية العتيدتين. ولكنها فشلت, وتحولت هي نفسها إلى دولة محتلة
ومقسمة, ولذلك فإن أغلب الاتهامات التي توجه عادة للمستشرقين بأنهم إنما يقومون
بذلك لا لوجه العلم والحقيقة وإنما لخدمة لأغراض استعمارية هدفها فهم الشرق
والإسلام تمهيدا للاستيلاء عليه, هذه الاتهامات لا تنطبق على الألمان. كما أننا لا
نستطيع أن ننتقد دقتهم العلمية, وإدخالهم المناهج الحديثة في البحث وهو الأمر الذي
أخذه عنهم الذين تكفلوا فيما بعد بتحقيق التراث من العرب والمسلمين. ولعل أشهر دليل
على ذلك هو رائد الاستشراق الألماني إدوارد زاخاو الذي حقق وترجم الكتاب الشهير
(الطبقات الكبرى) لابن سعد. فقد قام زاخاو بإرسال المسودات الأولى للكتاب بعد
تحقيقه إلى وزارة المعارف المصرية راجيا عرضه على علماء الأزهر لمراجعته وتصحيحه,
وقام الإمام محمد عبده بتصحيح المخطوط وإعادته إلى زاخاو مرة أخرى. وقد بلغت
التصحيحات 150 موضعا التزم بها المستشرق حين طبع الكتاب.
وقد جمع معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية بجامعة فرانكفورت كل ما
كتبه المستشرقون الألمان في عشرة مجلدات ضخمة شملت كل ما كتبه هؤلاء المستشرقون عن
العالمين العربي والإسلامي ومازال هذا المشروع ينتظر جهة تؤمن به وتموله حتى يمكن
ترجمته إلى اللغة العربية.
يذكر د. محمد عوني عبدالرءوف في كتابه أن بداية الاستشراق الألماني
كانت محاولة لفهم الدين الإسلامي والتصدي له. فقد كانت الجيوش التركية تتوغل في قلب
أوربا وتهدد بإسقاط كل مدنها الكبرى لولا أنها توقفت عند حدود فيينا. ووجدت أوربا
أن هذا الدين الذي لم تكد تتخلص منه في الغرب مع سقوط غرناطة حتى جاء إليها فتيا
ومتوثبا من الشرق مع العثمانيين. ولعل هذه واحدة من أهم خصائص المركزية الأوربية
وهي قدرتها على فهم الآخر - المختلف والتعامل معه. وقد فعل الألمان ذلك مع الإسلام
بالرغم من أنه كان في هذه الآونة خطرًا داهما عليهم.
اهتم أمراء العالم المسيحي بشراء المخطوطات الإسلامية وبدأوا في
دراستها, وكان من اللازم تعلم اللغة العربية, وقام جاكون كريستمان (1554 - 1615)
بالمحاولة الأولى لوضع كتاب مبسط لتعليم اللغة العربية. واستعان في ذلك بجمع آيات
الإنجيل المترجمة إلى العربية حتى تكون دليلا له, وعندما أصبح كريستمان أستاذا في
جامعة هايدبرج اقترح إنشاء أول كرسي للدراسات العربية واستورد من روما حروفا عربية
للطباعة ووضع أول معجم عربي - ألماني.
ولم يعد هذا الاهتمام حبيسا داخل الأروقة الجامعية, فقد أرسل أحد
دوقات ألمانيا وهو فريدريش الثالث بعثة من جنوده إلى بلاد فارس حتى يتحالف معها في
حربه ضد الأتراك. ودامت هذه الرحلة خمسة أعوام كاملة, وبالرغم من أنها لم تحقق
غرضها العسكري, فإنها أقامت جسرًا من التواصل الثقافي بين الحضارتين الشرقية
والغربية. لقد كان من نتائجها كتاب (وصف الرحلة الشرقية) الذي كتبه آدم أوليري عام
1671 وسرعان ما ترجم إلى كل اللغات الأوربية حاملا شيئا من عبق الشرق ومطعمًا إياها
بأشعار حافظ الشيرازي وسعدي التي ألهبت رومانسية هذا العصر.
ومع بزوغ النهضة الفكرية في أوربا, تحررت الدراسات العربية من قيود
التعصب التي كانت تحاصرها وبدأ جيل جديد من المستشرقين في الدرس والبحث بأسلوب عملي
جديد, وظهر علماء كبار أمثال فون هامر بورجشتال الذي كتب تاريخ آداب اللغة العربية
في سبعة مجلدات. وقد تابع هذا النهج واحد من أهم المستشرقين الألمان هو كارل
بروكلمان الذي كتب (تاريخ الأدب العربي) وهو يعد من أفضل المراجع في هذا الموضوع
حتى الآن إضافة إلى كتاب فؤاد سيزكين.
وبجانب جهود التحقيق والترجمة فقد قام المستشرقون الألمان بمجهود رائع
في جمع المخطوطات العربية ووضع الفهارس لها, وتوجد في مكتبة برلين أكبر مجموعة منها
في العالم بعد مكتبة الأسكوريال في مدريد. وقد ساهم في هذا الأمر جمعية المستشرقين
الألمانية التي تأسست عام 1845 في مدينة هاللي, وهي التي قامت بإصدار دائرة المعارف
الإسلامية التي فشلنا في ترجمتها كاملة حتى الآن.
وامتدت جهود المستشرقين أيضا إلى المجامع اللغوية التي كانت لاتزال
وليدة في عالمنا العربي, فقد التحق الأستاذ فيشر ويلتمان بمجمع اللغة العربية في
القاهرة والتحق زميلاه بروكلمان ومارتن هارتمان بمجمع دمشق.
العلاقة إذن بين الألمان والثقافة العربية قديمة, وربما كانوا من أكثر
المساهمين في إحياء شقها الكلاسيكي. ولكن ماذا عن الثقافة العربية المعاصرة, هل كان
من الممكن أن نبادر نحن بتقديمها لهم ووضعها أمام أنظارهم حت نثبت لهم أننا لسنا
فقط (أمة تراث) تعيش على أمجاد الماضي وأننا قادرون على المشاركة في عملية الحداثة?
لقد كان هذا هو هدف الذهاب إلى فرانكفورت.. فهل تحقق?
الجناح العربي
شاركت الوفود العربية بالكثير من الفعاليات. ذهب حوالي 300 مفكر وكاتب
وأديب بعضهم ضمن وفد الجامعة العربية, وبعضهم الآخر ضمن وفود بلادهم, وآخرون كانوا
يعيشون في المنفى منذ سنوات ووجدوا في هذه المناسبة فرصة للم الشمل ورؤية رفاق
قدامى من أوطان قديمة. ولم يقتصر الأمر على صناع الكلام, فقد ذهبت أيضا فرق للرقص
الشعبي من مصر ولبنان وتونس وحتى من فلسطين. ذهب أيضا أشهر العازفين على الموسيقى,
نصير شمة ومارسيل خليفة, وعشرات المغنين الشعبيين, ذهب أيضا العديد من المعارض
الفنية, معرض للفن الحديث يضم لوحات أشهر الفنانين العرب, ومعرض لرسوم الأطفال وآخر
للمصحف الشريف وللأيقونات القبطية. كما ذهب كثير من الصناعات اليدوية والحرف
الشعبية, بل إن مسئولا كبيرا في اللجنة المنظمة أصر على أن ينقل مقهى (ريش) الذي
كان يجلس عليه العديد من المثقفين وعلى رأسهم نجيب محفوظ, ينقله من وسط القاهرة إلى
إحدى ساحات فرانكفورت, وأخذ يتفاوض بشدة على نقل المناضد والكراسي والصور المعلقة
على الجدران وإزاء الهجوم الساخر من أفكاره تراجع المسئول في اللحظة الأخيرة.
باختصار ذهبت إلى فرانكفوت خلاصة الفنون والحرف التقليدية العربية, ما عدا شيئًا
واحدًا, وهو الذي يخص معرض فرانكفورت أعني (الكتاب).
وقد احتوى الجناح العربي على العديد من الإيجابيات. ولابد من الإشادة
بالجهود التي بذلت في إعداده. ففي المدخل الرئيسي للمعرض كانت هناك لوحات ضخمة
ملونة, بعضها ينشر صورا متخيلة لأهم المفكرين العرب القدامى مثل ابن رشد وابن خلدون
وابن الهيثم. يقابلها لوحات أخرى تحمل صور الأدباء المعاصرين أمثال طه حسين والحكيم
ومؤنس الرزاز والعروي وحنا مينه. وبجانب هذه اللوحات كانت هناك واجهات عرض زجاجية
تضم كتب نجيب محفوظ مترجمة للإنجليزية وهي الترجمة التي قامت بها الجامعة الأمريكية
وأصدرتها في طبعات أنيقة.
وضم الجناح قسما إعلاميا عن كل الدول العربية, قامت بإعداده مكتبة
الإسكندرية, خصصت فيه لكل دولة جهاز كمبيوتر يحمل كل المعلومات السياسية والجغرافية
والتاريخية باللغة الإنجليزية.وتكفي ضغطة زر واحدة لاستعراض عدد وافر من المعلومات
والصور الفوتوغرافية. وحتى الدول العربية التي لم تشارك في هذه التظاهرة - عددها
خمس - كان لها مكان أيضًا. ووقفت مجموعة من الشباب المدربين يقومون بإرشاد الجمهور
الألماني لكيفية استخدامه. وقد أشرف على إعداد هذا الفريق د.يوسف زيدان مدير قسم
المخطوطات بالمكتبة, وأقام مركز توثيق التراث بالمكتبة أيضا معرضا لمقنياته إضافة
إلى شاشة محدبة قطرها 180درجة, يتم عليها تقديم عرض عن الحضارة المصرية والتراث
العربي لمدة عشرين دقيقة تتكرر على مدى اليوم. وكان الزحام شديدًا على هذا القسم
المرئي. وعندما قام وزير الخارجية الألماني يوشكا فيشر بزيارة الجناح, قال للدكتور
فتحي صالح: إنه يملك فقط خمس دقائق يقضيها معه, وقام المركز بعرض صور متتابعة عدة
بشكل باهر للقاهرة من النيل وللإسكندرية من البحر ولبعض الآثار الفرعونية. ومرّت
الدقائق الخمس ولم ينهض الوزير الألماني, ولكنه قال: أمامك خمس دقائق أخرى.
واختاروا أن يعرضوا أمامه صورا لواحدة من أطول وأقدم البرديات الفرعونية طولها
حوالي 30 مترًا, وتحتوي على العديد من المسائل الرياضية التي تكشف عن مدى تقدم
المصريين القدماء في مجال الرياضيات.
وضم الجناح العربي ايضا قسما مهما أقامه معهد العلوم الإسلامية في
فرانكفورت والذي يشرف عليه العلاّمة المستشرق فؤاد سيزكين. وقد تضمّن هذا الجناح
الرائع نماذج صغيرة لكل المخترعات التي توصل إليها العرب والمسلمون في مجالات
الزراعة والري والطب والفلك والرياضيات. وعندما حاولت التحدث مع د.سيزكين
بالإنجليزية, قال لي: لماذا لا نتحدث بالعربية أفضل? وكانت عربيته جيدة بالفعل كما
يليق بمستشرق محترف, وأخذنا في جولة وسط النماذج المصنوعة بدقة, وهو يقول: لقد نفذت
كل هذه النماذج من الصور الموجودة في التراث. وهي تدل على مدى التقدم التكنولوجي
الذي وصل إليه العرب. وما يوجد هنا هو 10% فقط من الموجود داخل معهد العلوم
الإسلامية.
(جئنا هنا حتى نتحاور مع الاخر, ولكن في أحيان كثيرة لم يكن الامر إلا
حوارا مع الذات) هذا هو ما قاله لي أحد المفكرين العرب معترضا على قلة الجمهور وعلى
أن الغالبية العظمى منهم كانت من العرب الذين يقيمون في المنافي, لم يكن هذا الامر
ينطبق على كل الندوات, بل إن العديد منها شهد إقبالا وقيلت فيه آراء جريئة ومثيرة
للاهتمام, المشكلة أن الندوات كانت كثيرة ومتداخلة ومتباعدة الأماكن, بحيث كان من
المستحيل متابعة معظمها. كان الحوار بين العرب والألمان يحتل قاعة (الفورم) بينما
كانت هناك قراءات أدبية وشعرية في الخيمة الموجودة في وسط المعرض والتي أطلق عليها
(سوق عكاظ), إضافة إلى الندوات التي أقامها الجانب الألماني في المركز الدولي,
ويضاف إلى ذلك القراءات والندوات التي تبدأ منذ الساعة السادسة ولا تنتهي إلا بعد
منتصف الليل في مقر الكتاب الألمان خارج المعرض.
كان الكلام كثيرا, بعضه كان عالي المستوى وعلى درجة كبيرة من التكافؤ,
في النقاش وفي درجة المشاركة العربية/ الألمانية وبعضه لم يكن هادئًا ولا موضوعيا,
كان أشبه بلعبة كرة الطاولة, ضربة وضربة مضادة, اتهم العرب الغربيين بأن السبب في
التخلف العربي هو الاستعمار الأوربي. هو الذي قسم حدودهم رغما عنهم, وهو الذي زرع
بينهم إسرائيل ومازال يدعمها, وهو الذي يحجب عنهم الآن المعلومات اللازمة للتقدم
التكنولوجي. وبالرغم من أن الذين شاركوا في الحوار من الجانب الألماني, كانوا من
المتعاطفين من العرب والمتخصصين في دراسته, فإن هذه الاتهامات قد مست موضوعيتهم
العلمية على الأقل. وقد تبلور تشخيصهم لحال العرب هذه الأيام بأنهم عاجزون عن
المشاركة في صنع الحداثة, وذلك لعدم توافر الديمقراطية في أنظمة الحكم بدرجة كافية,
الأمر الذي قلل من مساحة الحرية وجعل الإبداع محدودا لدرجة خانقة. كما أن العرب لم
يحسنوا استخدام مواردهم الاقتصادية, بل إنهم يقومون بإهدار كل ما لديهم من إمكانات,
كما أنهم يصرّون على تهميش قطاع كبير من المجتمع, هي المرأة العربية. وقد رد مايكل
لودز منفعلا عندما كثر الحديث عن الاستعمار كسبب للتخلف قائلا: لقد ترككم الاستعمار
منذ 50 عاما, وهذا عمر رجل ناضج, لماذا لم تفعلوا شيئا على مدى هذه الأعوام? فعلى
سبيل المثال, هناك دولة عربية كبيرة لم تقم بأي استثمارات في قطاع السكة الحديد منذ
أن تسلمته من الاستعمار في الخمسينيات. والنتيجة أن مواطنيها يموتون كل يوم بسبب
الحال المتداعية لهذا الإهمال.
كان المتحدثون العرب أكثر مما ينبغي, في ندوة واحدة كان هناك سبعة من
المتحدثين في مقابل ألماني واحد. ولا أدري مَن الذي صاغ مثل هذا البرنامج المختل.
ولكن العديد من الندوات تحوّلت إلى تعبيرات إنشائية. ودفاع مستميت من بعض الرسميين
عن سياسات حكوماتهم الداخلية وتبرير لكل أخطائها. أنيس منصور كان غاضبا فوق العادة
في مواجهة أي انتقاد يوجه للسياسة المصرية, ولم ينس أن يتحدث بشكل - يبدو عفويا -
عن صداقته مع إسرائيل, وكيف أنه زارها حوالي 40 مرة في عصر السادات, وأنه اتصل
بالأمس فقط ليطمئن على أصدقائه الصحفيين بعد وقوع الهجوم على فندق في طابا. ولم يكن
يدري أنه يتحدث إلى جمهور يشاهد المذابح التي كانت إسرائيل ترتكبها على مدى أسبوعين
في غزة. وقد أثارت كلماته امتعاض كل الحاضرين من العرب وأعلموه بذلك, ولا أدري كيف
استقبل الألمان أسلوبه المتفاخر.
واستطاعت بعض الأمسيات أن تحقق نجاحًا كبيرًا, خاصة بعد أن ابتعد الفن
عن السياسة بشكلها الفج. في بيت الأدب الألماني, حضرنا أمسية بديعة للشاعر محمود
درويش. كانت القاعة مزدحمة بالألمان والعرب, وألقى الشاعر قصائده بالعربية, بينما
صاحبته ترجمة ألمانية من شاعر عربي آخر يكتب بالألمانية هو عادل قراشولي, وهو سوري
الأصل ومقيم في ألمانيا. وقد فرض (السيد الشعر) نفسه على المكان, وبدا محمود درويش
شاهدًا حيّا على حضارة قومه الذين يتعرضون للإبادة, وصوتًا معبرا عن آلامهم
وأشواقهم إلى أرض لا يهددهم فيها الموت صباحًا ومساء. أمسية أخرى أحياها الشاعر
العربي أدونيس (ويقول الخبثاء إنه ظل طوال الأيام داخل غرفته في الفندق, ولم يضطر
للخروج منها إلا بعد أن أعلنت جوائز نوبل للآداب, وفازت بها الشاعرة النمساوية
إييلا فريدا, ولكن هذه قصة أخرى كما يقولون) كان أدونيس يلقى أشعاره بمصاحبة نصير
شمة العازف العراقي البارع على العود, بينما قامت بغناء أشعار أدونيس الصعبة كل من
ريهام عبدالرحيم ومي مصطفى, واستولت رخامة صوتيهما على ألباب الحاضرين من الجمهور
الألماني الذين زاد عددهم على الألف.
ثورة اليهود
وربما كان علينا أن نقيس مدى أهمية وضرورة هذه المشاركة العربية, ومدى
نجاحها من منظور آخر, هو تأثيرها على إسرائيل وأنصارها من اليهود في أوربا.
لقد راهنوا منذ البداية على فشل العرب في جمع صفوفهم, والذهاب إلى
فرانكفورت, وتساءل أحد كتاب (يديعوت احرنوت) في سخرية: (لماذا ينفق العرب هذه
الأموال من أجل الذهاب إلى أوربا, كان من الأجدى بهم إنفاقها من أجل دعم حقوق
الإنسان العربي وصون حرياته) ولم تكن نبرة السخرية خافية في هذه الكلمات. ولكن
عندما بدا أن العرب عازمون على الذهاب, بدأت المنظمات اليهودية تحركها المضاد. قام
معهد سيمون فيزنتال اليهودي في باريس بإرسال خطاب إلى مدير معرض فرانكفورت (فولكر
نيومان) يطالبه بإزالة الكتب العربية المعادية من المعرض. وتضمنت قائمة الكتب التي
طلب المعهد سحبها سبعة منها (ذنوب اليهود واليهودية), وكتاب آخر عن الموساد. وحققت
السلطات الألمانية في مضامين الكتب. وأعلن (يورج كلاون) المدّعي العام لولاية هيسن
التي تقع فيها فرانكفورت أن هذه الكتب لاتتضمن شيئا يتعارض مع القوانين الألمانية
التي تحظر الترويج للعداء للسامية أو إنكار (الهولوكست) ومن ثم فإن وجودها في
المعرض قانوني.
ثم بدأت الجمعيات اليهودية في الاعتراض على شخصيات بعض المدعوين من
الوفود العربية وخاصة د.عبدالوهاب المسيري بحجة أنه ألّف موسوعة تهاجم اليهود
واليهودية وتفضح أساليبهم. وقد قيل إن المسيري سوف يذهب إلى المعرض بصفته كاتب
أطفال وأنه سعيد بذلك خاصة أنه بدأ في الآونة الأخيرة يمارس هذا النوع من الأدب.
ولا أدري نصيب هذا القول من الحقيقة, فقد رأيت المسيري وهو يحاضر ضمن ندوة عن
الاتجاهات المعاصرة في الفكر العربي. وضمن ندوة أخرى أقامتها دار الفكر العربي. بل
إن موسوعته عن اليهود كانت تتصدّر الكتب التي تعرضها دار الشروق في جناحها
بالمعرض.
وشهدت الصحف الألمانية حملة منظمة ضد فولكر نويمان مدير المعرض نفسه.
ونشرت إعلانات مدفوعة الأجر تحمل عنوان (لاحوار مع الإرهابيين) وطلبت من كل يهود
ألمانيا - وأوربا إذا كان ممكنا - التجمع أمام الباب الرئيسي للمعرض والقيام
بمظاهرة ضخمة ضد العرب., كان موعد المظاهرة هو اليوم قبل الأخير للمعرض, وهو يوم
عطلة وتفتح فيه أبواب المعرض للجمهور العادي. في هذا اليوم كنت حريصا على الذهاب
منذ وقت مبكر لأرى هذه التظاهرة. ولكني لم أجد سوى منضدة هزيلة مرفوع عليها علم
إسرائيل, وأمامها أشخاص عدة يعرضون بعضا من الكتيبات عن المحرقة اليهودية
(ثاني...وثالث), وشخص آخر يوزع على الداخلين بيانًا ملونًا عليه صورة الجندي
الأمريكي وهو يضع علم بلاده فوق رأس تمثال صدام. ولا أدري ما الرسالة التي أرادوا
إيصالها من وراء إعادة نشر هذه الصورة القديمة. عندما طلبت من الرجل نسخة من البيان
تفرّس قليلا في ملامحي وتردد للحظات. ولكن ربما لقلة الجمهور الذين كانوا حوله,
ولأنه لا أحد من الناس الشقر يبالون به, فقد أعطاني واحدًا وكان بالألمانية, ومعه
ترجمة بالإنجليزية يحمل أسماء الداعمين من حوالي 45 منظمة وأسماء لشخصيات يهودية,
تقول كلمات البيان: (إن الدول العربية الموجودة في هذا المعرض كلها بلا استثناء دول
ديكتاتورية. تصادر الحريات وتقمع الكلمة المكتوبة. ماذا يعني الحوار الثقافي إذن ?
إنه لاشيء. مجرد حوار من جانب واحد. فمعظم الكتب الموجودة غير مترجمة. لا يستطيع أن
يعرف ما فيها إلا الذين يقرأون العربية. وكل العرب الذين ترجمت كتبهم يعيشون في
المنفى. وغير ممثلين في هذه الوفود. إن معظم الدول المشاركة في هذا المعرض لا تعطي
مواطنيها أيّ حقوق ديمقراطية. ولا توجد لديها حرية دينية (?!). وهم يرفضون المساواة
في الحقوق بين الرجل والمرأة (?!) كما أنه لا توجد أي حماية للأقليات - مثل الشواذ
جنسيا - بل إنهم معرّضون للإهانة والضرب حتى الموت (???!) وكل وسائل الإعلام في هذه
الدول لا تحض إلا على العنف وعلى تدمير إسرائيل وقتل اليهود. وأشهر الكتب التي
يطبعونها هي بروتوكولات حكماء صهيون, وهي دعاية مزيفة ضد السامية. إن الحوار
الثقافي يحتاج إلى شريك. شريك يوافق - ليس فقط على قواعد الحرية في التفكير
والكتابة - ولكن على حرية المواطنين سواء كانوا رجالاً أو نساء, مسلمين أو يهودًا
أو مسيحيين, شواذ أو متعددين جنسيًا. كل هذه الأشياء هي جزء من احترام حقوق
الإنسان).
ويستمر البيان على هذه الوتيرة من المغالطات, وبالوقاحة المعهودة
للسفاحين ولكنه ـ على الأقل ـ يعطينا لمحة من اللغة التي تستخدمها إسرائيل في
مخاطبة أوربا. وهي لغة أعتقد أنها لم تعد ناجحة بدليل أن المظاهرة التي بحت أصوات
اليهود من أجل عقدها قد فشلت تمامًا.
الكتاب المظلوم
الكتاب العربي كان هو الغريب والمظلوم في معرض فرانكفورت.
أجل, ذهب الكثير من الناشرين يحملون آخر مطبوعاتهم, وأقامت الجامعة
العربية قسما كبيرا يضم 12 ألف عنوان, ولكنها جميعا لم تكن تحمل جديدا, طباعة رديئة
وتجهيز رديء. وبلغة لا تقرأ في هذا البلد الأوربي, لا يوجد إلا كتب قليلة منها
باللغة الإنجليزية, وهي التي تداولتها أيدي الألمان أما غير ذلك فقد مر به الجمهور
- والأهم من ذلك الناشرون - مرورا عابرا, بل إن بعض الأجنحة العربية اعتقدت أن هذه
فرصة للدعاية لأنظمتها فعلقت صور الرؤساء في مقدمتها بشكل بارز لعلها تظفر باعجاب
الجمهور الألماني. وبعضها لم يعرض إلا كتابًا واحدًا باللغة الإنجليزية عن حياة
رئيسها, وكان المسئولون عن الجناح يتوسلون للجميع حتى يأخذوه ولا يضطروا للعودة
به.
رئيس اتحاد الناشرين العرب إبراهيم المعلم, كان يتجول في المعرض في
حركة دائمة. يسير برفقة المسئولين العرب والألمان. وحين سألتهم عن تعاقدات الكتب
الجديدة التي أبرمها? قال لي إنه متفائل, وإن هذه هي مجرد بداية, ولكن بقية
الناشرين لم يكونوا بهذا التفاؤل. سماح إدريس قال إن كل التعاقدات تسير في اتجاه
واحد, نحن نطلب منهم حق الترجمة للعربية, ولا أحد يطلب منا شيئا. الأمر نفسه تردد
على لسان أكثر من ناشر, وأعني بهم هؤلاء الناشرين الذين حضروا بشكل محترف, وليس
بشكل دعائي للمشاركة في هذه التظاهرة.
في منتصف كل يوم كنت أتجول في القسم العربي لأجده خاليًا تمامًا من
المارّة, والموظفون جالسون يتثاءبون أمام الأرفف المتراصّة بالكتب. ولكن ما إن أخط
خطوات عدة إلى دور النشر الفرنسية التي تشارك العرب في الجناح نفسه حتى أرى الحركة
والنشاط في قمة اشتعالها. كل دار تفننت في إخراج مطبوعاتها ووضعت صور كتّابها بشكل
بارز, إضافة إلى لوحات فنية رائعة تمثل أغلفة أحدث الإصدارات, فإذا خطوت مرة أخرى
إلى حيث توجد دور النشر الأمريكية والإنجليزية, فوجئنا بعالم آخر. لقد تحولت الكتب
في بعض الأحيان إلى تحف باهرة. تتناول كل الموضوعات التي تخطر على البال. الأهم من
ذلك أن كل جناح قد تحول إلى ما يشبه المقهى. مناضد صغيرة يجلس عليها الناشرون وهم
يعرضون بضائعهم على الزبائن الذين هم أيضا ناشرون من لغات أخرى. وفي كل لحظة يباع
أحد حقوق النشر. وتوقع عقود بملايين اليوروهات. ويغلق القسم أبوابه للحظات قليلة
بواسطة شريط أصفر, ويحتفل الجميع, ثم يرفع الشريط وتبدأ عجلة العمل المحمومة من أجل
توقيع عقد آخر. فسحر الكتاب الورقي لم يخفت بعد, ومهما قيل عن الكتاب الإلكتروني,
فإن الكتاب الورقي مازال في ازدهار. ولكن الأهم من ذلك أن الكتاب صناعة ضخمة نحن
بعيدون عنها كل البعد, في ألمانيا وحدها ينفق مواطنوها 16مليار يورو على شراء الكتب
سنويا, وهو مبلغ يفوق الميزانية الكلية لدول عدة في إفريقيا. وتتنوع دور النشر
المختلفة, البعض يعرض بضاعته من الأدب الكلاسيكي, والبعض الآخر في كتب الفن
التشكيلي, وآخرون في الرحلات, أو في المصريات, بل إن هناك دورا للنشر جاءت من أجل
كتاب واحد فقط. والبعض أحضر أشهر المؤلفين عنده ليقوموا بإجراء الحوارات وشرح مصادر
إبداعهم وتوقيع الكتب الجديدة. صناعة ضخمة ومزدهرة, ليست راكدة ولا بطيئة الدوران
كما يحدث للكتاب العربي المسكين الذي يعيش بالفعل على هامش هذه الصناعة. أعود
حزينًا إلى ركننا الصامت, أسأل الناشرين الذين تجشموا عناء المجيء والإنفاق في
مدينة تلتهب فيها الأسعار أيام المعرض. والجواب: لا شيء بعد وفي الحقيقة أنهم لا
يوجد لديهم ما يبيعونه غير بعض الأعمال الأدبية, وهذه يختارها الغرب حسب مزاجه, ومع
ذلك, فالجميع مازال متفائلاً, إنها بداية كما يقولون, وعلينا أن نحاول أكثر في
المرة القادمة.
ولكن لابد من الاعتراف أن هذا المعرض. وتلك المشاركة قد كشفا لنا كم
أن ما نحمله من كتب وما نتشدق به من إنجازات هما بعيدان تماما عن الفكر المبتكر
والثقافة الأصيلة والبحث العلمي بمعانيها الدقيقة. كما أنها قد كشفت أيضا عن أننا
نعيش في الماضي. وهو ماض خاص ومؤلم ومنقطع عن الحياة المعاصرة. إن عدم إقبال العالم
على كل هذا الكم المعروض من كتبنا قد أصابنا بصدمة حقيقية. فهو أشبه بالكشف عن عورة
حاولنا إخفاءها طويلا وهو أن إنتاجنا المنشور لا يعبر إلا عن مدى التخلف الفكري
والحضاري الذي نعيش فيه.
وتنتهي أيام المعرض الخمس, ولكن هناك عاماً كاملاً من الأنشطة
والفعاليات العربية في مختلف المدن الألمانية, علينا خلال هذا العام أن نتعلم كيف
نتحاور, وكيف نكتشف اللغة التي تربط بيننا وبين الغرب. وعلينا قبل ذلك أن نبيّض
وجوهنا, وأن تحدث في عالمنا العربي بعض الإصلاحات السياسية والاقتصادية التي يمكن
أن نتحدث عنها.