الهلالية.. السِّيرَةُ والشِّعْرُ والفَنُ

الهلالية.. السِّيرَةُ والشِّعْرُ والفَنُ
        

          السِّيرَة شكلٌ أدبي من أشكال الآداب الشعبية, وهي جزءٌ من نسيج الحياةِ, نستعيد بواسطته رواية التاريخ الشعبي للأمة في موازاة متوترة للتاريخ الرسمي. ومع السيرة تتجدد معاني البطولة الملحمية, مثلما تتبدل الأحداث, كما تظل هذه السير الشعبية منبع إلهام للإبداع الفردي الشعري والفني, كما في النموذج المشترك الذي يقدُّمه المبدعان التونسيان الشاعر عبد الرحمان أيوب, والفنان عادل مقديش.

          وسيرة بني هلال, أو السيرة الهلالية, واحدة من الآداب الشعبية, ومثلها يعرفُ القارئ العربي بعضا من سير عنترة بن شداد, وسيف بن ذي يزن, والزير سالم, وعلي الزيبق, والظاهر بيبرس وغيرها. وفي كتابه  (الأدب المصري من قيام الدولة الأيوبية إلى مجيء الحملة الفرنسية), يتتبع د. عبد اللطيف حمزة فن السيرة منذ تسلمتها الديار (المصرية) بعد العصر الفاطمي, أو بعبارة أخرى بعد أن أصبح السلطان الفعلي في يد غير العرب, ليستنتج أن مصر وجدت بعد إسلامها واستعرابها أن إحياء هذه السير نضالٌ عروبي يجابه الحضور غير العربي للحكام, كما أنه أيضا انتصار للعروبة, واستمساك بها, وإخلاص لها وللإسلام, أي أن مصر بعد أن استقرت من الناحية السياسية ـ وكان ذلك بعد مضي أكثر من قرن على الفتح ـ أصبحت لا تُعنى بالعصبية القبلية ولا بالتفرقة بين عدنان وقحطان , وإنما قصرت عنايتها على العروبة من حيث هي.

سيرة جماعة

          والهلالية ـ كما يتبين من اسمها ـ ليست سيرة فرد بل جماعة, ومعظم أحداث هذه السيرة وقعت في غرب العالم الإسلامي لا في شرقه, أي أن مسرح هذه الحوادث هو شمال إفريقيا, والتاريخ يحدثنا عن اضطراب هذه البلاد عقب وفاة الفاتح العربي الأول (عقبة بن نافع), بل إن من قبائل البربر هناك ما ارتد عن الإسلام, حتى إن الوليد بن عبد الملك اضطر إلى فتحها من جديد على يد موسى بن نصير . ومنذ ذلك الحين والعروبة والإسلام في كفاح دائم, ولا شك أن سيرة بني هلال تقدم صورة من صور هذا الكفاح; وهي صورة رسمت بطريقة شعبية لا تاريخية; وإن كان البعض يعتقد أن السيرة المتخيلة قد تصبح مرجعًا تاريخيا إذا حسُنتْ قراءته.

          لكن المسافة بين التاريخي والشعبي تكاد تذوب حين يتم تناول الأبطال في السيرة الهلالية, ومع هذا وذاك فإنها تعتبر وثيقة تاريخية لا تقل في أهميتها مطلقا عن الروايات المدونة في أمهات الكتب, ثم إنها في الوقت نفسه تعبير واضح للشعب عن مشاعره الجماعية لا الفردية.

          وقد جمع الشاعر عبد الرحمن الأبنودي نصوصا من السيرة الهلالية عبر أجيال ثلاثة, من أبناء الهلالية, هي التي قرأتها, وفيها استمع إلى رواة عديدين, حتى تكتمل نصوص السيرة الهلالية, كما يراها. والجيل الأول للهلالية نشأ في نجدٍ منذ الجاهلية, وجاء الإسلام فاتصل جدُّهم الأعلى (هلال بني عامر) برسول الله صلى الله عليه وسلم, ورضي عنه الرسول, وأسكنه واديا يقال له وادي العباس. وقد وُلد لهذا الجدِّ ولدٌ سمَّاه (المنذر). يتزوج المنذر بامرأة يقال لها (هدباء) لم تنجب منه ولدا, فيحزن المنذر لذلك حزنا عظيما ويسافر إلى بلاد السرو ليتزوج بـ(عذباء) ابنة ملك السرو, ثم يشاء القدر أن تنجب الزوجتان في ليلة واحدة فترزق هدباء بـ(جابر), كما ترزق عذباء بـ(جبير).

          ثم تحكي السيرة كيف استقر جابر ـ وقد بلغ سن الزواج ـ وأعقب أولادا كثيرين منهم غلام اسمه (رزق), الذي تزوج بعشر نساء لم ينجب منهن إلا ولدا مشوه الخلقة, فيحزن لذلك, ويصمم على الزواج من الحادية عشرة, واسمها (خضراء), وهي ابنة شريف مكة. وتلد الخضراء الشريفة فتاة تسمى (شيحا), وفتى أسود اللون يسمى (بركات), الذي جاء بعد ابتهال أمه حين رأت طائرا أسود ينقض على جموع الطير كلها فيغلبها, ويقتل جانبا عظيما منها, فأعجبت له, ورفعت يدها إلى السماء, ودعت الله أن يرزقها غلاما على شاكلته. فاستجاب الله لها. لكن زوجها رزق يغضب, وينكر أبوة الغلام, فيشير عليه أصحابه في حفل (السبوع) ـ الاحتفال بمرور أسبوع على مجيء الوليد ـ أن يطلق خضراء ففعل ذلك, على كره منه.

          وإذ تخشى الأم العودة لأبيها بهذه التهمة, تمشي في الصحراء حتى يلقاها الأمير فضل الله بن بيسم فيعرفها, ويكرمها, وينشأ ولدها بركات مع ولديه نعيم ومنعم. يتعلم بركات الفروسية وعلوما كثيرة أخرى, حتى يعرف ذات يوم أن فضل الله بن بيسم ليس أباه, فتقول له أمه إن أباه قتل على يد أمير اسمه (رزق بن نايل). وكان هذا الأمير منذ فارق زوجته خضراء قد استبد به الأسى فاعتزل قومه في خيمة عاش بها.

          ويهاجم الهلاليون بلاد الزحلان, ويظهر بركات في هذه الحرب الأخيرة كل ضروب الشجاعة, ومن ثم يطلق عليه قومه اسم (سلامة), فأصبح من ذلك اليوم يعرف باسم (أبو زيد الهلالي سلامة). وتصر القصة بعد ذلك على أن يقع الأب في أسر الابن, وكل منهما لا يعرف الآخر, ويكاد الابن  يقتل أباه بسيفه, لولا أن أمه تبادر بتعريف الابن حقيقة الأمر, فيسترد الأب ولده وزوجته معا, ويعترف بنو هلال بمكانة بركات ويزوجونه بعد ذلك من ابنة أمير زحلان واسمها (غصن البان).

بداية التغريبة الهلالية

          وفي قصص الجيل الثاني يضطر الهلالية لترك بلاد نجد, والجزيرة العربية, بسبب الجدب, متجهين إلى الغرب, لينتهي بهم المطاف في تونس, تحت إمرة ثلاثة شبان من القبيلة تنكروا في زي شعراء متجولين, وحين يقع الجميع في قبضة صاحب المدينة لا ينجو إلا أبو زيد الهلالي سلامة, الذي عاد لبلاده ليأتي بالعدة والعتاد.

          والرحلة تمر ـ ككل الملاحم ـ ببلدان مختلفات, بين عرب وعجم, ومغول وتركمان, وحلب وحمص, مرورا بحماة وبعلبك, ودمشق والقدس, وغزة والعريش, فالدخول لمصر, وليأتوا صعيد مصر, فيتزوج الأمير  العربي (الماضي) الجازية ـ وهي امرأة كانت تسايرهم وتشد أزرهم, ويتركها تواصل الرحلة مع أهلها ـ رغم زواجه منها ـ حتى يصلوا تونس الخضراء, وكان الزناتي خليفة ملكا عليها, فيقتل, ويتم فك أسر الهلالية, ويأخذ الحسن بن سرحان بلاد القيروان, ويستولي دياب بن غانم على تونس, فيما تُمنح الأندلس لأبي زيد الهلالي سلامة. المهم أن رحلة التغريبة الهلالية ـ والتغريبة قد تكون مشتقة من الاتجاه غربًا, أو الغربة عن الوطن, أو العيش كأغراب ـ تصل بنا إلى تونس حيث تستكمل رحلة العرب النجديين, حين يحاصر نجم السفين وجنده, السلطان حسن, والهلالي, وغانم الزغبي وابنه دياب, لانتزاع الجازية الهلالية.

          وهنا نصل للجيل الثالث, وهو جيل الأيتام, إشارة لما فعله دياب بن غانم بآباء هؤلاء الأيتام, ويعيد التاريخ نفسه, فيجمع أبو زيد الهلالي سلامة العرب من الشام والحجاز ويلتقي بهم في صعيد مصر, ويعبر بهم حتى برقة وطرابلس ـ في ليبيا ـ وكذلك يفعل هلالية الأندلس; أي يغادرونها ليشددوا مع باقي العرب الخناق على تونس, وقتل أميرها دياب, وإعادة تقسيم البلاد من جديد, فيتنازل الهلالية عن تونس لابن خليفة الزناتي, ويبايعون ابن الحسن بن سرحان أميرا عليهم, وتستقر العشائر في بلاد المغارب, ويعود أبو زيد الهلالي لصعيد مصر. (وكأنك يا أبو زيد لا رحت ولا جئت)!

          ولنتعرف على لغة السيرة, المحكية, يمكن أن نقرأ مقطعًا يرويه أحد الإخباريين, وفيه يقول: (بَعْد ما فتح الإسلام بنوره, وربنا مهّد الطريق للعرب في الفتوحات, هاجرت 666 قبيلة منهم لمصر وإفريقيا. كانت منهم قبيلة سيدي علي أبو الحسن, بيقولوا إن القبيلة دي نسبها يوصل لستنا (لسيدتنا) فاطمة الزهراء, وأن رجالتها (رجالها) حاربت مع أبو زيد, ودا السبب اللي خلاهم يستوطنوا ليبيا. لاجل التقادير (بسبب قدري) سيدي علي أبو الحسن ساب (ترك) ليبيا ونزل مصر وأول ما نزل راح على البراري, في كفر الشيخ, وقعد هناك فترة, يحمِّي الدرب الطوالي. شوية وخد بعضه, جه على هنا. جه على هنا ليه? ومين اللي قاله ييجي? دي حاجة بتاعت ربنا. المهم أول ما وصل هنا, دق وتد في نفس الحتة (المكان) اللي فيها دلوقت مقامه, وعمل خيمة, والناس بقت تجيله أمم, عملوا حوالين الخيمة مخزن اللي شافوه قالوا إنه كان فيه كافة كل شيء من نعم الله, وجنب المخزن عملوا زاوية, ومن يومها اتسمت البلد الزاوية, وجت الجماعة بعد ما مات جاورت الزاوية).

          لكن السرد إذا استسلمنا له, قد يفضي بنا ـ عبر دروبه الجانبية ـ إلى قصص ثانوية تستغرق السطور في عرضها, وما كان ذلك همنا. وإنما كانت إشارتنا للجذور المتصارعة لنقرر أن الثمار لم تكن سلاما.

          ولعل ارتباط السيرة بالشعر قديم, قِدم كل الملاحم, فأصولها كما يشير ابن خلدون كانت محض قصائد غنائية, موزعة في المكان والزمان. ويشير ابن خلدون أيضا إلى تطور هذا اللون الغنائي إلى شكله القصصي السردي, حتى أنه يورد نصوصًا سردية عن خليفة الزناتي, واستغرقت هذه النقلة من الغنائية للسردية وقتا, وكتابة, ورحلة, وتغريبة, حتى وجدنا لدينا نصوص السيرة اليوم متعددات الوجوه, حسب التربة التي تنشأ بها.

السيرة بين الجغرافيا والتاريخ

          في (إبداعية الأداء في السيرة الشعبية, الجزء الأول) يقول  د. محمد حافظ دياب (إن التحولات الاجتماعية التي مرت بها الجماعة الشعبية العربية قد طبعت دلالاتها على السيرة حذفا وإضافة وتحويرا, حتى في اختيار البطل). فالرواية المصرية تؤثر أبو زيد لأنه شجاع ومحنك, ويحسن في كل الظروف استعمال السيف والحيلة, وهو ما يتفق مع إحدى الخصائص الأساسية للشخصية المصرية, على حين أن دياب في السيرة الليبية هو البطل, لما يتميز به من إقدام وشجاعة, وهي خصال تؤثرها الشخصية الليبية, أما في روايات السيرة المتناقلة في بلدان المغرب العربي, فتحتل الجازية أو (الزازية) موقع الصدارة, للدور الذي لعبته في الضمير الشعبي الجمعي, الذي أقام حالة من التماثل بينها وبين بطلته البربرية التاريخية (الكاهنة), وفي الجنوب التونسي, سجلت رواية لهذه السيرة الهلالية, اسمها رواية تشين, يستبدل فيها الراوي المؤدي لفصولها شخصية الجازية, بشخصية أخرى عاشت نهايات القرن السادس عشر بتونس هي عزيزة بنت عثمان باي, وهي البطلة أيضا لما سنعرض له لاحقا في الديوان المعاصر.

          وإذا كان للتاريخ هذا الدور, في انتقاء البطل, فإن للجغرافيا دورًا مماثلا لا يقل أهمية أو بروزًا. ويؤكد الشاعر والباحث التونسي عبد الرحمان أيوب والباحثة الفرنسية ميشلين غالي أن الاختلاف بين المناطق الزراعية والبدوية في المجتمع التونسي نفسه قد استتبعه تمايز بين الشخصيات المقدمة في السيرة الهلالية بكل من هذين المجتمعين. ومن أمثلة ذلك أن (أبو زيد) بطل الجماعة الهلالية ورمز وحدتها في المناطق الرعوية القبلية بالجنوب التونسي, يصبح في شمالها الغربي, حيث يسود الانتاج الزراعي العائلي, واحدًا من أبناء دياب المغمورين!

          وبغض النظر عن الاختلافات في روايات للسيرة, فإن ما يجمع بينها هو مجموعة من القوانين لخصتها د. نبيلة إبراهيم بقانون البداية والنهاية, حيث ينطلق الحدث من السكون للإثارة, حتى يعود للاستقرار مرة أخرى, وإذا طالت السيرة, تكررت الرحلة, وذلك حسب القانون الثاني, قانون التكرار, حيث يكرر البطل فعلا ما حتى ينجح, أو يتكرر حدث دون نجاح حتى يأتي البطل فينجزه على أكمل وجه. ثم هناك قانون الثلاثة, وهو ينطبق بشكل مثالي على السيرة الهلالية ـ  الشعراء الثلاثة المتجولون, القسمة على الأبناء الثلاثة ـ وكأن جسد السيرة الشعبية, والحكاية الشعبية بوجه عام لا يكتمل إلا بتلك القوانين.

          إذن لتونس نصيب في السيرة الهلالية مثلما للوطن العربي كله, فالرحلة شملت معظم الأقاليم العربية والإسلامية, حتى تلك التي عبرتها القبائل عبور الكرام, لابد أن حادثة هنا, أو منحى هناك, كان يستوقف الحدث, ويولد عنه, وكم من قاطع طريق أوقف السرد, في قصة جانبية, ليسرق الكاميرا في مشاهد السيرة, ويسرق المال معا. وكم من شخصية ثانوية, محلية, ولدت هنا أو هناك, ليناسب المقام المقال ببلاغة السيرة الهلالية.

هلاليات أيوب

          ولذلك كله لم يكن غريبا أن يستلهم المبدعان التونسيان الشاعر عبد الرحمان أيوب, والفنان عادل مقديش شخصيات هذا العمل الملحمي ليقدما رؤية أدبية وتشكيلية متميزة في الألبوم الديوان الذي أصدرته دار تبر الزمان في تونس, في قطع جديد على العين العربية, وفي لوحات باذخة ذات طبعة محدودة (300 نسخة) موقعة من الشاعر والفنان معا.

          وعبد الرحمان أيوب الذي ترعرع منذ 25 ديسمبر 1948 بمدينة صفاقس التونسية, بدأ رحلته في بلدان عربية وأوربية وأمريكية سنة 1971, حتى استقر يدرس الشفاهية والتراث الشعبي بالجامعة التونسية.

          في تقديمه للديوان الألبوم, وعنوانه (هلاليات), يوجز وحيد السعفي مقام الجازية البطلة بهذه المقدمة: (لا شيء في عالم أيوب الكاتب غير الحفر في ذاكرة الزمان. وذاكرة الزمان رحلة تخوضها الشخصيات فارَّة من الحجاز, من الشام, من مصر, قاصدة إفريقية حيث تحط الرحل. وتقود الرحلة امرأة ذات خصال لا تحصى. امرأة قوامة على الرجال تغير وجه التاريخ  وتَطمس معالم سُنة ثقافية شيدها الأهل على أنقاض ما عرفت الجزيرة من جاهلية كانت عندهم جهلاء صارخة. امرأة ذات جمال, أم ضفائر, تمسك الناس بشعر لها تدلى خمائل, فيصيب الذكور الخبلُ وتضيع منهم ملامح الطريق.

          ثم يقوم حول السيدة المصون رجال ذوو سيوف قاطعة: هذا الحسن بن سرحان, وهذا بوزيد الفارس الشجاع, وهذا مرعي, وهذا شيخة, وهذا ذياب (لاحظ الاختلاف في تهجي أسماء الأبطال), بينما يُهرع إليها رجال آخرون للفوز بالجمال الفتان, وحين يختلط الرجال بالرجال, وتختلط الخصال بالعيوب السبعة, التي ينشرها الحاكم الشرير, وتجوع الشاة وتعطش, وتكل الناقة الحمل الثقيل, ويصيب الرجال التعب, والنساء العقر, وينهك الجواد السير, وتتوقف الرحلة, وبحثا عن المرعى تصبح الجازية نفسها سلعة للبيع والشراء, سلعة للمقايضة,  لا يعرضها أهلها, بل تعرض نفسها دون جَبر, وتساق عروسا في هودج, إلى صاحب مجد أو صاحب عيب, والقبيلة ساكتة, فيما السيدة الجميلة تهب نفسها للغرباء)

          ولأن هواية تزييف التاريخ حية منذ الأزل, لا بد وأن يقال إن ما حدث للجازية هو من تدبيرها, لتفوز على القبائل المعادية, دون إدراك أن الجازية اضطرت, بعد خوار عزيمة الرجال في الذود عن الحمى, وانشغالهم فيما لا يجوز أن ينشغلوا به. بين (عيي, وخصي, ومن يخاف الجوع, ويخاف الإملاق) وهكذا يهرعون جميعا لوأد الجازية, وكأنها عودة للجاهلية من جديد.

          وهنا ينمو الحب الصامت الذي يكنه ذياب للجازية, وذياب في ديوان عبد الرحمان أيوب وجه ناصع باحث عن الجازية ذات الخصال التي لا تحصى. وفي النص الذي كتبه أيوب بلسان ذياب ستقرأ ثورة عارمة على الأهل والقبيلة والشيوخ الذين كانوا أصل الداء.

          يستهل أيوب ديوانه بالمطلع التالي: يا جازية, آيا جازية .. يا ابنة الأرخبيل يا ملهمة الشعراء (عيناك واحة نخيل ساعة السحر (في استلهام من أنشودة المطر لبدر شاكر السياب) عيناكِ راحة المتيم, زاده في السفر, عيناك منارة المرتحل, في البيداء, في البحار, كل ليل جفاه القمر, فأنت أنت يا جازية الجزر, أنتِ أنتِ القمر)!

          علينا هنا أن ننصت للصوت القادم من رحم الكون الشعري, حاملا مخاض سيدة هذا العالم, أو كما يأتي أيوب على وصفها: القمر, المُعلِّمة, سيدة الأنس, ملهمة الشعراء, جازية الأمل القديم والحديث, سيدة الملأ الحزين, سيدة السيدات. ولا تنتهي أوصاف الشاعر للبطلة حيث يهبها ذلك البعد الأسطوري, لأنه يريد لها أن تفعل المعجزات.

          ويضمن الشاعر, بين حين وآخر, مقطعا من السيرة, ليعلق عليه, أو يعيد سرد مقطع آخر ليناقضه, وكأنه هنا يعيد صياغة سيرته الخاصة, أو كأن نص (هلاليات) سيرة موازية للسيرة الهلالية, تعلق على الآني والمستقبلي, بما حدث في الماضي. وهو يستعيد وقع المؤدي الراوي للسيرة حين يقدم للجازية, ولنا, بطله:

          هو ذياب, يا سادتي, ابن غانم الزغبي
          ولبني هلال كان الجواد والعشير,
          اسمه في ألأوطان كان وما زال شهيرًا,
          من نجع كان مدار الزمان كبيرًا,
          زغبة وهلال أنجبا البطل النحريرَ ..

          ولعل في لقاء الجازية بذياب في الديوان المعاصر للسيرة الهلالية, وأقصد به نص الشاعر عبد الرحمان أيوب, ما يمكن أن نراه تنويرًا بدور البطل في السيرة: (أنا ذئب الذئاب, يا جاز, وهم يعلمون! لا الفقر أخشاه ولا لصهيل بحر الصحارى أرنو. لثامي على محياي طلعة بأس, دليل على كربة لم أنوها وإنما شاءت القبيلة .. وهل أنت شئت?! بل ذلك ما شاء القدر! أنا يا جازية على النوى مقتدر, وللقدر المحتوم أنا يا جازية معتبر, ولكن لوعة الفراق الهمم مهما علت تَهدِر. أنا يا جازية مهما قوض الشقاء أعمدة أمتي وتيجانها سأبقى سجين لسانك. فأنتِ, يا سيدة الملأ, أنت ذلك القنديل المضيء لهيروغليف التاريخ ولألفباء أزمنة النكسات. أنتِ يا بهية الطلعة, أبجدية الأمل التي تدوزن على أوتار المستقبل. أنت الشاطيء المحتفل بفجر غضبنا, أنت الشاطئ الحاضن ليم غضبنا الأسود. أنت زيتونة أرضنا الجرداء. أنت كبرياء الكلمة وعنفوانها الدائم. أنت يا جازية الكلمة).

          ومرة أخرى نعيد التأكيد, على أنه في مقابل الشجاعة بالسيف التي يمثلها ذياب (دياب), سنجد البطل النقيض, أبو زيد الهلالي, الذي لا يروق لأيوب, مثلما لا يروق لذياب, بل وقد لا يروق لمن فقدوا الأمل في حل بعيد عن السيف, يقول ذياب في ديوان أيوب, مخاطبا الجازية:

          أنا يا جاز الوقوفَ في منتصف الطريق لا أرتضي, أجل, الكلمة العبرة لسان, وإنما حدّ السيف أقطع الألسن, هو أبو زيد الهلالي (سلامة) حواهما ولكنه في دروب الحيلة فنان متفنن .. فاعلمي, يا من يجيز القوم اعلمي, أن البطل الهمام من بسيفه وحده تألق, وليس في سياسة الساسة يجيد التحذلق, هو ذا أبو زيد الهلالي (ابن خضرة) ـ قولي كذا ! يا جاز, قولي ولا تتخشي! ولي فيه, يا جازية, مزيدُ كلام, لذاكرة نارٌ في أحشائي لن تنطفي...

          إذن نحن في منطق ينتصر للفعل مقابل القول (فالسيف أصدق إنباء من الكتب), ونحن أمام إعلاء للمحارب الصريح, في مقابل السياسي المداهن, ونحن في مقام يعلي ذيابا على أبي زيد, وكأن السيرة تعشق التناسخ, ويتم استحضارها اليوم لتناسب المقام الذي يعانيه العربي المنكسر والمأزوم في العصر الحديث.

          لكن الأمل معقود بموافقة الجازية على الإخلاص للمواطن, أو مرتبط بعودة الوطن لأبنائه: أنا يا جازية, ليس لي في الأماني سوى واحدة لو نلتها لقيل عني ذياب أبو السعود, أن يرن خلخالك في خيمتي عند الكرى, وعندما يحف بالربى الصبح السعيد! لو صار ذلك يا جازية, يا طلعة الثريا, لوقفت بين الصولات والجولات في اليوم الموعود, وعددت لنفسي مناقب الإحسان وحماية خود الخود, فيشار إلي من قمم هوادجهن بالبنان والكلام السديد. هن يقلن أبو وطفة, أنت حامي حماها, أنت سورها العتيد.

          وإني مع هذا النص, الذي يخاطب به ذياب الجازية لفي حيرة من الأمر برمته, وأسأل: لمَ يتوجب ـ دائما ـ على الجازية أن تبادر هي بأن تهب نفسها? لم لا يبادر البطل القومي الذي يؤمن بفروسيته وقوته, المحب للنضال, الذي لا يداهن ويكره الساسة والسياسيين, بأن يصلح الأمر, ثم يكون الغانم بن الغانم? إنه سؤال حيَّر السيرة, والشعر, والقارئ, مثلما حيَّر التاريخ أيضا!

... وهلاليات مقديش

          أمام الرسام التونسي عادل مقديش (مواليد صفاقس 1949) إذن نص تبدأ سطوره في الجزيرة العربية ولا ينتهي مع التخوم الإفريقية, وعليه أن يؤسس فضاء بصريا يقدم هذه المعادلة المدونة البلاغية. وقد تعامل الناشر, وهو الشاعر نفسه, مع المادة كأنها مخطوط له علبته التي يجمع صفحاتها حافظ أنيق.

          والرسام الذي يدرس مادة التعبير الفني في معهد الفنون المسرحية بتونس, نجح في شدنا إلى مسرح الأحداث رغم أنه يقدم في معظمها وجوهًا, لا أماكن. لكنه استطاع أن يضمن ـ في ثنايا الوجه وملامحه, وفي أزيائه وخلفيات الصورة ـ كل ما يستطيع أن يدلنا على المكان التاريخي والشعبي معًا.

          وإذا عرفنا أن الرحلة تبدأ في قلب الصحراء, فليس أمامنا سوى بدوية جميلة, وخيول أصيلة, ورمال هائلة, وخطوط من المفردات والرموز التي تجمع ذلك كله في كيان واحد. وقد تغزل المرأة الثوب بالشعر, أو  تحيك الشعر فوق الثوب, أو تطبع الاثنين فوق الخيام, ولكن ذلك كله لا يغنينا عن الوجه شيئا, ولا يبعدنا عنه قيد أنملة, لأن به كل السحر.

          ويبدو الخط العربي, الذي ابتكره الرسام عادل مقديش مناسبا لذلك كله, للجرة فوق رأس الجارية, مثلما هو ملائم للتاج فوق رأس الجازية, لحاملة الحياة في آنية المياه, ولرسولة الموت عازفة قيثارة الحية الزرقاء ذات السم الأبيض! إن الرسام يؤكد أنه وريث المنمنمات التي بدأت رحلتها شرقا, واتجهت غربا, فكأن هناك تغريبة أخرى للفن, في موازاة تغريبة السيرة الهلالية.

          لكن الأصول العرقية للأبطال في الهلالية هي أكثر ما نراه واضحا في دماء لوحات الرسام عادل مقديش, بين العيون الآسيوية, والملامح الفارسية, والبشرة العربية, والجماليات الإفريقية, وكأن صهر باليتة الألوان كان ضروريا, ومعادلا موضوعيا لانصهار الأحداث والبطولات في جغرافيا السيرة الهلالية.

          ولأن مقام الحكي بالتشكيل يستدعي مشاهد محكمة متزنة, نجد الرسام مصرا على أن يضع شخوصه بين إطارين عموديين, هما جزء من نسق الرسم نفسه, وكأن أعمدة اللوحة قائمة راسخة تفصل الأشخاص عن بعض أو تربطها في معبد ممتد (أو خيمة!!) تلك الأعمدة المصنوعة من رخام اللون.ولعل العالم البهيج الذي يقدمه الرسام عادل مقديش يشي بالمتعة التي كان يبحث عنها الرجال في السيرة, والغنائم التي كانوا ينالونها, وبمجالس الأنس التي ظلت تحكي بالانتصارات, وقد أغفل المشاهد السلبية, ربما تفاؤلا, أو توطئة, أو مساهمة في التواطؤ مع الأبطال الرسميين في السيرة الشعبية!

          ولكن حضور المرأة في كل اللوحات لا يعني سوى أنها نموذج لكل شيء, للخير والشر, للانتصار والانكسار, للحكمة والخديعة, للنضال والمداهنة, سواء كانت مبتورة أعضاؤها, أو منتفخة بطنها, أو تستخفي خلف قناع, أو تتكشف, أو مجرد دمية في مسرح اللوحة والأحداث. وكأن للرسام عادل مقديش رأيا مغايرًا لدور المرأة الجازية, ففيما هي في السيرة قائدة للحملة, تستكين في اللوحة مجرد موتيفة أنيقة, فليست هي الجازية المناضلة, بل مجرد نعمى لونية في سماء اللوحة.

          أليست تلك هي النظرة إلى المرأة, رمز الجمال, أليست تقدم الجازية في السيرة الشعبية هدفا وغاية وكأنه بالحصول عليها يتم المراد من رب العباد. وكأن النعيم وحده هو رضى الجازية, فلها أن تهنأ في السيرة, وفي الشعر, وفي الفن, وأن يسبغ عليها الرواة والشعراء والرسامون الصفات المستحيلة, لا لشيء سوى أن تظل الهلالية حية, بالسيرة والشعر والفن.

 

أشرف أبو اليزيد