نحن من جيل شاهد العجائب

نحن من جيل شاهد العجائب
        

          كانت ولادتي يوم الأحد 17 ديسمبر 1939 في حي قارلق, في مدينة حلب.

          حلب المحروسة, شهباء المدن, وعاصمة التراث الفكري والفني, المدينة التي تستلقي فوق آلاف السنين, ويعود عمرها الآثاري إلى الألف العاشر ق.م. مما يجعلها أقدم مدينة مأهولة في العالم. وقد عرفت حلب عددًا كبيرًا من الحضارات توالت عليها, وإقامة عدد من الشعوب عبر آلاف السنين. ولعل أبرز تلك الشعوب والحضارات: السومرية والأكادية والعمورية والبابلية والحثية والميتاتية والآشورية والآرامية والفارسية والهلنستية والرومانية والبيزنطية, وصولاً إلى الحضارة العربية الإسلامية, التي استوعبت كل تلك الحضارات في إطارها المتسامح المرن العبقري. وبذلك أخذت حلب وجهها النهائي كواحدة من أقدم المدن وأكثرها غنى حضاريًا وتنوعًا اثنيا ومذهبيًا, في نطاق عيش مشترك مثالي بين جميع أبنائها. وتنفرد حلب بين كل المدن بمزايا لا توجد في غيرها: قلعتها الأقدم والأكبر والأشهر في العالم, والتي تؤكد التنقيبات عمرها بتسعة آلاف سنة.

          أسواقها الـ 39 الممتدة على شكل نسق طولي 15كم. أبوابها, مساجدها, كنائسها, خاناتها, تجارتها العريقة, بلاطها الحمداني الباذخ الرفيع, عمرانها الأيوبي الواسع, تراثها الفني المتشعب بين الموشحات والقدود والقصائد والموال والأهازيج والأغاني الدينية. الكتابات التاريخية حولها. قصائد الشعراء فيها. مدينة قال فيها الرحالة الأندلسي ابن جبير: إنها تصلح دارًا للخلافة.

          حلب هذه...دار مولدي وأسرتي, وإقامتي, وفي حي قارلق كانت دارنا التي يعود تاريخ بنائها إلى عام 1110هـ كما تشير كتابة في إحدى الغرف, وهي دار كبيرة تزيد مساحتها على ألف متر مربع فيها القاعات المزخرفة بالخشب, والغرف الواسعة, والباحة المستطيلة الكبيرة تتوسطها شجرة برتقال. وفي أطرافها أحواض زهر مختلفة.

          وحي قارلق من أحياء حلب القديمة خارج الأسوار, والكلمة من أصل تركي (المثلجة) ويبدو أن بعض سكان الحي كانوا يخزّنون الثلج (كما يذكر الأسدي) في أخدود يفرشونه بالتبن ثم يضعون الثلج وفوقه طبقة أخرى من التبن ثم التراب, وفي الصيف يستخرجونه لتبريد الماء. كما يشير الأسدي إلى أن أكثر مطربي حلب كانوا من حيّ قارلق مثل أحمد الفقش ومحمد النصار ومحمد خيري وصباح فخري, وكثير من الأجيال التالية.

          وفي حي قارلق جامع يعود إلى العصر المملوكي (القرن 8هـ) وسبيل ماء أنشأه الملك الظاهر بيربس, وعدد كبير من الخانات لتجارة الحبوب والأغنام بشكل خاص.

          في هذا الحي نشأت أجيال متعاقبة من أسرتنا, وكانت الأسرة تملك كرمًا واسعًا شرقي حلب, وفيه سبيل لايزال حتى اليوم يحمل موقعه اسم (سبيل قجة).

          وقد تعرضت الأسرة لمحنة قاسية عام 1233هـ - 1820م أيام الوالي العثماني خورشيد باشا. ففي عهد هذا الوالي ثار أهالي المدينة ضد مظالم الوالي وفساد حاشيته, وتزعم الثورة (الشيخ محمد قجة) وهو جدي الخامس. وقد تم قمع الثورة وقتل جدي ولوحقت الأسرة بشكل قاس وعنيف أدى إلى تقليصها بشكل كبير. (يمكن العودة إلى تفصيل ذلك في كتاب (أعلام النبلاء) للشيخ محمد راغب الطباخ, جـ2 ص316 وما بعدها).

شهيد في بئر السبع

          في مطلع القرن العشرين, كان جدّ والدي يدعى (علي قجة), وقد خلف أربعة ذكور وثلاث بنات. وكان أحد الذكور جدّي المباشر ويحمل اسم (محمد قجة), وقد ساقه جمال باشا التركي إلى حملة قناة السويس عام 1917, حيث استشهد في مدينة بئر السبع برصاص القوات الإنجليزية, وتم دفنه هناك في أرض فلسطين.

          وكان له أخ يدعى (حسن قجة) توفي شابًا عام 1322هـ - 1903م, وكان أحد علماء حلب ومشايخها الأجلاء, شاعرًا وشّاحا فقيها. وله عدد من الموشحات المتداولة في الزوايا الصوفية منها الموشح المعروف:

من مكة والبيت الأمجد للقدس سرى ليلاً أحمد


          كان والدي في الخامسة من عمره حينما استشهد جدي في بئر السبع, وكان شقيقه (علي) في الثامنة. وقد نشآ في رعاية والدتهما وهيبة فتال وأسرتها من حي (الجبيلة) قرب باب الحديد. وتمكنا من شق طريقهما في الحياة, فأصبح والدي تاجر أخشاب ومواد بناء في حي دأب النصر, بينما أصبح شقيقه علي تاجرًا في سوق الهال.

كُتَّاب الحي

          في بيتنا الكبير, نشأنا أنا وإخوتي وأسرة عمي, نتوزع غرف الدار العديدة, وعرفت منذ الطفولة الذهاب إلى (كتّاب الحي), وكان الشيخ يدعى (الشيخ أحمد البيبي), ويبدو أن أصله من مدينة (الباب). وهناك حفظت أكثر من نصف القرآن الكريم وتدربت على قواعد الخط والإملاء والحساب, وتلقيت من عصاه الطويلة لسعات لا تُنسى.

          كان الشيخ يعطل (كتّابه) شهرًا, وحينها كانوا يرسلونني إلى (خوجة) في حارتنا ندفع لها كل أسبوع ربع ليرة سورية خميسية.

          كانت والدتي - رحمها الله - بالغة الحنوّ والعطف علينا, وهي من أسرة معروفة في حي قارلق وفي حلب. اسمها (مهيبة حربلي), وفي حي قارلق حارة تدعى (حارة الحربلي) وفيها جامع بهذا الاسم.

          ومن وجوه هذه الأسرة إبراهيم الحربلي أحد وجهاء حلب في القرن التاسع عشر, وقد قتله الوالي العثماني جبار زاده باشا عام  1227هـ  - 1814م وسلبه أمواله وممتلكاته.

          وجدي لأمي الشيخ محمد الحربلي, كان يقيم الأذكار الصوفية في منزله, وكان يحتفظ بشعرة النبي, ويبرزها في المناسبات والأذكار. ومن هذه الأسرة عدد من المشايخ ورجال العلم والفقه. ومن المعروفين منهم د.عبدالسميع الحربلي الخبير التربوي في اليونسكو,و د.عبدالمنعم الحربلي المهندس المعماري المشهور, وعدد من رجال الأعمال والصناعة في مجال النسيج.

          وقد ورث خالي الكبير (محمد ديب حربلي) عن والده الثقافة التراثية والاهتمامات التصوفية. واختص الآخر (حسن حربلي) بالموسيقى.

          نشأت في هذه البيئة الثقافية, وفي قاعة دارنا الكبرى, كانت هناك مكتبة فيها بعض الأعمال من السير الشعبية مثل (عنترة) و(بني هلال) و(الظاهر بيبرس) وطبعة قديمة لديوان المتنبي, وعدد كبير من كتب التفسير والحديث والأذكار والمدائح النبوية.

          التحقت بالمدرسة الابتدائية (مدرسة النجاح) قرب منزلنا. وكان معلمنا في الأول الابتدائي يدعى (سعد الدين) بالغ الأناقة, يرتدي طقما أبيض وربطة عنق حمراء, ويضع على عينيه نظارات رقيقة. وفي الصف الثاني نقلت المدرسة إلى مكان أبعد, فنقلني والدي إلى مدرسة (أبي بكر الصديق) التي أكملت فيها التعليم الابتدائي بتفوّق. وأذكر من المعلمين فيها: عز الدين الحريري, عبدالقادر داغستاني الذي حبّب إلي التاريخ, ومحمود هلال, ومحمد تلجبيني, وفائز إسماعيل الذي شجعني في ميدان الأدب والشعر. وكان مدير المدرسة إبراهيم العاقل بشخصيته المهيبة - رحمه الله -.

إضراب حلب

          من أبرز ذكريات الطفولة المبكرة, صورة الإضراب الذي نفذته مدينة حلب عام 1945 احتجاجًا على العدوان الفرنسي وضرب البرلمان في دمشق. وكنت مع والدي في محله التجاري في باب النصر حينما أغلق المحل واتجهنا إلى البيت مشيًا على الأقدام عبر شوارع جانبية في سوق النحاسين والعريان وصولاً إلى باتقوسا فالمشاطية ثم قارلق.

          ومن ذكريات تلك المرحلة, كيف كان الأقارب والجيران يجتمعون في بيتنا الكبير لاستماع الأخبار من الراديو, وقد دخل الراديو بيتنا عام 1946ومازلت أحتفظ بالجهاز الأول في منزلي.

          كما أذكر سنة الثلج الكبرى عام 1949حينما انقطعنا عن المدرسة أكثر من شهر بسبب ارتفاع الثلوج. وقد تضررت سقوف البيوت من الثلج المتواصل المتراكم لأنها سقوف ترابية بشكل عام.

          قبل أن أنهي المرحلة الابتدائية, كنت قد بدأت في اقتناء الكتب لإضافتها إلى موجودات المكتبة المنزلية, ومن مقتنيات تلك المرحلة سلسلة الكتاب الذهبي والكتاب الفضي, والفرسان الثلاثة, وروايات جرجي زيدان.

          وكان والدي يشجعني على حفظ الشعر, وكان هو يحفظ الكثير من شعر الحكم والأمثال, وشعر عنترة. وكان يدربني على حفظ الشعر من خلال المساجلات الشعرية التي كان يجريها معي.

          وقد تعرّفت إلى المتنبي وعنترة في وقت مبكر. وحاولت حفظ ألفية ابن مالك وأنا في الابتدائية, من غير أن أستوعب المعاني المعقدة فيها.

          كما تعرفت في وقت مبكر على الأذكار الصوفية, وقد كان يقام ذكر في جامع قارلق عصر كل أحد, وكان مؤذن الجامع الشيخ صبحي الحريري, وهو أحد أعلام الطرب الديني الأصيل, وأحد أركان الزاوية الهلالية في حلب, كان يرقى إلى أعلى المئذنة, ولم يكن فيها مكبرات صوت تزعق, ويأتي صوته نديا مع الفجر:

يا مجيبا دعاء ذي النون في قرار البحار
أستجب دعوة المحزون قد دعا باضطرار


          وقد عرفت فيما بعد أن هذا الموشح من تأليف الشيخ (أبو الوفا الرفاعي) وألحانه في القرن الثامن عشر.

          كنت بعد دوام المدرسة أتوجه إلى محل والدي, أقطع المسافة من بيتنا حتى باب الحديد مشيا على القدمين, ولم تكن منطقة باب الحديد ساحة واسعة بشكلها الحالي, وإنما كان يوصل إليها عبر حارات ضيقة تقوم على جانبيها الدكاكين, تتجه من قارلق غربا نحو (المشاطية) ثم (بانقوسا) متجاوزين حارات (حمزة بك) وسوق الدجاج وورشة الحدادين.

          وفي باب الحديد, كنت أركب (الترام) الذي أمضى به محطتين حتى باب النصر, فأنزل وأتجه إلى دكان والدي. كنا نشتري بطاقة ركوب الترام بمبلغ سبعة قروش ونصف للذهاب والإياب. أما للذهاب فقط فالمبلغ خمسة قروش.

          وأذكر أنني حاولت مرة تقليد الكبار بالنزول من الترام خلال مسيره السريع, وكنت في التاسعة من عمري, وقد تعثرت وسقطت على الأرض سقوطا مريعا, ومن يومها لم أكرر المحاولة.

          وحينما كنا نذهب في زيارة بعيدة, كنا نستأجر (الحنطور) وهو عربة مغلقة مريحة يجرها حصانان, وهو بمنزلة سيارة أجرة حاليا. وكان لوقع حوافر الجياد نغم رتيب ذو إيقاع يتسارع أو يتباطأ حسب إرادة سائق العربة (السائس).

موعد مع الآداب

          بعد الابتدائي كنت على موعد مع ثانوية المعري...

          وكان الصف السادس في المرحلة الإعدادية, لأن الابتدائية كانت خمس سنوات فقط.

          وفي الصف الأول الإعدادي أذكر - وأنا مدين بذلك - لأستاذنا فاتح غضنفر, الذي كان مذيعًا في إذاعة حلب. وكان مثالا للأناقة واللطف. وكان يتمتع بصوت جهوري وعذب في آن معًا. وقد شجعني على حفظ الشعر وكانت علامتي عنده 100/100 في أكثر الأحيان.

          كانت ثانوية المعري في مبنى ثكنة هنانو في حي العرقوب, ولكنها نزلت إلى حي الحميدية في مبنى جديد. وأذكر مديرنا عثمان الشقفي (وكان من مدينة حماه), بحزمه وهيبته وحبه للانضباط, ومن بعده مديرنا أحمد هلال زين الدين احتفظ ببعض الكتب هدية منه بسبب حصولي على الدرجة الأولى في مراحل الدراسة.

          خلال تلك المرحلة, تعرفت إلى أساتذة عمالقة ترك بعضهم بصمات في شخصيتي وتوجيها لا يُمحى.

          المربّي الوطني علي رضا الذي درّسنا عامين متتاليين اللغة العربية, وكان موسوعة متنقلة - رحمه الله - وقد تعلمت على يديه فنون كتابة مواضيع الإنشاء وإلقاء الشعر والخطابة, وتوجهت بدافع منه إلى المطالعة الحثيثة في دار الكتب الوطنية, التي أصبحت من روادها اليوميين, ألتهم بشراهة عجيبة كتب التاريخ والفلسفة والآداب عمومًا, والدراسات النحوية والبلاغية ودواوين الشعر.

          قرأت خلال تلك المرحلة كثيرا من الكتب الأمهات كـ(الأغاني) و(يتيمة الدهر) و(الأمالي) و(العقد الفريد) و(الحيوان) و(تاريخ الطبري), وأتيت على كل الأعمال الروائية العربية بحيث كنت أقرأ كل يوم رواية, وهكذا تعرفت إلى نجيب محفوظ وباكثير وعبدالحليم عبدالله وعبدالرحمن الشرقاوي وبنت الشاطئ ومحمود تيمور, وبدأت أقرأ الأعمال المترجمة لسارتر وكافكا وتولستوي وديستويفسكي وهوجو وويلسون وشكسبير وراسين وتشيخوف وجوركي.

          إن لدار الكتب الوطنية فضلاً كبيرًا عليّ, بما زوّدتني من معارف خصبة. ومن خلالها تعرفت إلى شعر (عمر أبو ريشة) بشكل واسع. بعدما كنت قد سمعت من والدي قصيدته (أمتي هل لك بين الأمم?) وما رافق إلقاءها من حوادث ومحاولة اعتقال الشاعر.

          أعجبت كثيرا بأبي ريشة, وأخذت أحفظ شعره بمتعة كبرى, ولن أبالغ إذا قلت إنني أحفظ حتى اليوم أكثر من ثلاثة أرباع ديوان عمر أبو ريشة. يضاف ذلك إلى محفوظات شعرية للعصور السابقة أبرزها من ديوان المتنبي الذي لا يفارقني والذي أقتني اليوم كل ما كتب عنه من شروح ودراسات.

          في تلك المرحلة, وجدت نفسي أقرض الشعر بعفوية لم أكن أتعمدها, ولم أتكلف ذلك عن تصور مسبق.

          وفي الصف الثاني الإعدادي كنت أقف خطيبًا بين زملائي في الصف, ثم في باحة المدرسة أقرأ عليهم ما كتبته من شعر.

          ومن طرائف الذكريات في هذا المجال أن أستاذنا المرحوم علي رضا طلب منا شرح أبيات من قصيدة ابن خفاجة في وصف النهر, ومطلعها:

لله نهر سال في بطحاء أشهر ورودا من لمى الحسناء


          وقد شرحتها بأبيات من الوزن نفسه والقافية نفسها. ومما كتبته في ذلك:

كم من عروس غادة هيفاء كالغصن مالت ميلة استحياء
لمياء تهزأ بالورود خدودها وتضج فيها قوة الإغراء
تلك العرائس: حسنها ودلالها ولى أمام اللجة الرعناء


          وقد تكررت تجربة كتابة الشروح, وحتى موضوعات الإنشاء شعرًا وأصبحت تقليدا يطالبني به الأساتذة.

ذكريات العمل الوطني

          ولكن أبرز الانطباعات عن تلك المرحلة هي ذكريات العمل الوطني وانخراط الطلبة في هذا العمل الوطني من خلال رصد نبض الشارع والقيام بالتظاهرات التي تعبر عن هذا النبض.

          وفي ثانوية المعري التي كانت تنافس ثانوية المأمون من حيث الحجم والوزن العلمي, كانت (الفرصة) تمور بالطلاب من شتى الاتجاهات القومية والدينية والماركسية, وكان واضحًا أن أكثر الطلبة يميلون إلى هذا الاتجاه أو ذاك, وإن لم يكونوا منظمين للعمل في اتجاه معين.

          وكان الواقع الطلابي انعكاسًا لواقع المجتمع بتياراته الفكرية والسياسية المتنافسة.

          وفي تلك الفترة, كان العدوان الثلاثي على مصر الشقيقة عام 1956 وما رافقه وسبقه من حشود عسكرية تركية بتوجيه غربي ضد سورية, وما صحبه من انبثاق نظام الفتوة وتدريب الشبان ليكونوا في طليعة المدافعين عن وطنهم, وأذكر كيف أقمنا حفلا خطابيا في دار الكتب الوطنية لإعلان الغضب على العدوان الثلاثي, وألقيت في الحفل قصيدة أذكر منها:

غضب البحر والسماء ولكن غضبا باطلا على بورسعيد


          وكانت مظاهراتنا تشق عنان السماء وهي تهتف ضد حلف بغداد. ويصعد أحدنا على الأكتاف, وينادي: ماذا تريدون, ونجيبه بصوت واحد: الفتوة...الفتوة...

          كانت تلك المرحلة تشهد التصاعد الكبير والسريع للتيار القومي بروح يسارية تقلص معه العمل السياسي التقليدي المتمثل بأحزاب مثل الشعب والوطني.

          وبرزت الأحزاب ذات التكوين الأيديولوجي مثل البعث العربي الاشتراكي الذي استقطب تيارات العمل القومي. والحزب الشيوعي بتوجهاته الأممية, والحركات ذات الطابع الديني.

          وأدّى تصاعد المدّ القومي إلى قيام الوحدة بين مصر وسورية في 22 فبراير 1958, ثم النكسة الانفصالية في 28 سبتمبر 1961 وإجهاض تجربة الوحدة.

          إن ذكريات العمل الوطني والقومي في تلك المرحلة غنية ومتلاحقة. وأذكر المرّات التي جاء فيها الرئيس جمال عبدالناصر إلى حلب عامي 1958و1959, والزحف الهائل لاستقباله, وهو يلقي خطابه, مرة أمام الحديقة العامة, وأخرى من شرفة نقابة الأطباء, ومرة في حي المحافظة من شرفة منزل الحاج سامي صائم الدهر.

          وما رافق تلك المرحلة من أغاني قومية, ومدّ عربي في مصر طغى على الفكر الإقليمي الضيق. كما طغى هذا المد على التيارات الإقليمية الضيقة في سورية وعلى تيار الماركسية والتيارات الدينية في تلك المرحلة.

          ولسنا الآن في مجال دراسة تجربة الوحدة المصرية السورية ونتائجها وانعكاساتها, فهذا موضوع يحتاج إلى كتاب كامل, ولكنها ذكريات لاتزال تهز الوجدان وتؤرق الفكر, من تلك المرحلة, احتفظ بذكريات شتى عن كثير من الزملاء في الدراسة أو زملاء الحيّ أو صداقات الأمسيات. كانت ثانوية المعري تضم أطيافا من الطلبة من أحياء مختلفة, ومن أطراف حلب, وكان منها نسبة واسعة من الزملاء المسيحيين مما يؤكد أهمية التعليم الوطني وعدم التفرقة بين أبناء الوطن, وأذكر من زملاء تلك المرحلة القاضي أنطوان دقي والقاضي جوزيف دقي والموسيقار إبراهيم جودت والفنان سمير حلمي (وكان اسمه أدمون دامرجي) ورجل الأعمال زهير شمسه, والسياسي ليون فرح, وفي تلك الفترة تعرفت إلى محمد زهير مشارقة نائب رئيس الجمهورية, وكان في مدرسة ثانوية سيف الدولة, ولكن قرب الأحياء جعلنا نلتقي في الذهاب والإياب, ولاتزال صداقتنا مستمرة إلى اليوم, ومن زملاء تلك المرحلة أعداد كبيرة من المحامين والأطباء والمهندسين ورجال الأعمال تزخر بهم حلب ومدن القطر. كما أذكر الشاعر محمد ظهير كنيفاتي.

          ومن زملاء الدراسة كذلك مَن تسلموا وزارات ومناصب فيما بعد مثل نديم عكاش ورياض الحاج خليل ورشيد أختريني.

          أعتقد أن جيلنا الذي شهد خمسينيات القرن العشرين جيل عجيب في مشاهداته. فلقد شهد خروج الاحتلال الأجنبي عام 1946.

          وشهدنا نكبة فلسطين, ومسلسل الانقلابات العسكرية في عدد من الدول العربية, والحكومات الملكية والعشائرية في دول عربية أخرى.

          كما شهدنا قيام الثورة الجزائرية العظيمة, والعدوان الثلاثي, وقيام الوحدة, وثورة العراق 1958, ونزول القوات البريطانية في الأردن لحمايته. والقوات الأمريكية في لبنان لحمايته, وشهدنا مشروع أيزنهاور الأمريكي لملء الفراغ السياسي في الشرق الأوسط. هذا الفراغ المزعوم الذي خلقه المستعمران الإنجليزي والفرنسي بعد تقلص نفوذهما على المنطقة.

 

محمد قجة   

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




الباحث السوري محمد قجة في رحاب مكتبته





مثلت دار الكتب الوطنية دائرة معارف خصبة لي





صورة عائلية لثلاثة أجيال من عائلة قجة





تبدو ذكريات قجة العطرة مثل عبور حارة حلبية عتيقة